«بابل مصاصة الدماء/ تمتص دم الأطفال كل يوم/ أقول لكم/ نظام الامبراطورية المنهارة/ يمتص دماء المعذبين/ انها بابل».
مقطع من اغنية مشهورة للمغني الجامايكي بوب مارلي ، ينال بها من النظام الرأسمالي الذي طالما كتب وغنى مبرزا مساوئه.
يصور مارلي بابل في هذا المثال رمزا للطغيان والاستغلال ، وهو لا يبتعد كثيرا عن صورة بابل المعروفة في الادب والفن والمثل السائد والتي لا تخلو منها لغة وثقافة في كل مكان في العالم .
ورغم أن غالبية الناس تنسب لبابل اولى خطوات الانسان في العلوم والفنون والاداب وبواكير محاولاته اكتشاف العالم من حوله وضمان مكانه في الارض ، الا انهم يستعيدون اسمها كناية لما يعيب ذلك الانسان ويحط من انسانيته ، ففي الامثال والقصص القديم يفترق الناس وتتمزق وحدتهم من برج بابل ويذل بعضهم بعضا فيها ويرتكبون رذائلهم بين جدرانها ، ويوصف البابلي بالمتغطرس والطماع والفاسد .
تغلبت صورة بابل الخرافة والاسطورة على بابل مركز حضارة العراق القديم الذي قدم للبشرية اول التجارب الزراعية واول المدن واول اشكال الكتابة والمعمار وعلم الفلك والفيزياء والقانون الى جانب اولى الات الموسيقى وملاحم الشعر والفن الذي لا يزال دافقا بالحياة الى اليوم ، بابل اذن ليست اسما على مسمى بل اسم يدل على عكس حقيقة حامله ، ولعل في ذلك بعض من مفارقات العراق ! .
من هنا تأتي اهمية معرض ( بابل الاسطورة والواقع ) الذي اقامه المتحف البريطاني مؤخرا والذي ستكون برلين محطته القادمة بعد كل من باريس ولندن ، والمعرض هو اكبر فعالية حديثة تشهدها اوروبا عن حضارة العراق القديم واستدعت جهود ثلاث مؤسسات كبرى اشتركت في إعدادها في ثلاث عواصم اوروبية تحتفظ بأهم المجموعات الاثارية العراقية.
فما عدا المتحف البريطاني في لندن اشترك متحف اللوفر في باريس ومتحف (بركامون) في برلين والذي يحتفظ بمجموعة بابلية مهمة من بينها شارع المواكب باكمله وبوابة عشتار.
يضع المعرض بابل الحقيقية في مواجهة بابل الاسطورة التي استمرت زمنا طويلا جدا منذ رواية العهد القديم التي كرست صورة مجحفة للمدينة وللحضارة معا ، ولم يثبت بطلانها الا منذ فترة قصيرة نسبيا مع الاكتشافات الاثرية وفك رموز الكتابة المسمارية وسلسلة البحوث الحديثة ، فقد رسم (سفر دانيال ) من الكتاب المقدس صورة مجحفة للمدينة التي عرفت بها حيثما وصل الكتاب المقدس وذلك انتقاما للسبي البابلي لليهود( 59 و 587 ق م) واختلق لملكها المنتصر مصيرا اسود هو كناية عن عقاب الله الذي اصابه بالجنون واسلم دولته الى خليفته الضعيف ، ابنه « بلشزار » الذي سقطت معه الدولة ، فهل كسب العهد القديم الصراع حول بابل ؟.
تكرست صورة بابل التوراتية والانجيلية هذه عبر التاريخ وساعد في انتشارها عاملان ؛ الاول هو ان ذكر بابل خبى تدريجيا بعد احتلالها من قبل الفرس عام 539 ق م حتى غابت غيابا شبه تام عن المصادر التاريخية ولم يبق منها سوى سيرتها في الكتب الدينية وفيما تحفظه عنها الذاكرة الشعبية ، تلك السيرة التي كانت تكبر مع الوقت بينما كانت بابل الحقيقية تتضاءل ازاءها حتى لم يبق منها سوى الاسم ، ولم تبدأ باستعادة حقيقتها بالتدريج الا مع بداية التنقيبات الاثرية في القرن التاسع عشر .
والسبب الثاني هو استجابة الفن والادب الواسعة لتلك القصص التي هي مزيج من الحقيقة والخيال وتجسيدها في نتاجات كبارالرسامين والموسيقيين والشعراء والكتاب الاوربيين ، قصص عن برج بابل وجنون الملك نبوخذ نصر والجنائن المعلقة . وقد خصص المتحف البريطاني جناحا في المعرض للوحات بعض من اولئك الرسامين من امثال وليم بليك ’ جون مارتن ، البرخت دورر وبيتر بروغل الاكبر وكل لوحات هؤلاء مستقاة من رواية الكتاب المقدس ، المصدر الاساس للقصة كما ذكرنا ، لذلك يبدو غريبا ان يجد البعض (احدهم كتب في جريدة الحياة) في هذا المعرض إساءة الى بابل اكثر منه اشادة بحضارتها وان يرى فيه انعكاسا لموقف ديني وحتى (سياسي) من قبل منظمي المعرض ازاء بابل .
فمعظم هؤلاء الرسامين رسموا لوحاتهم اعتمادا على الكتاب المقدس كما اشرت وحتى قبل ظهور وترسخ معلومات الاكتشافات الاثرية وان الغاية من عرض هذه الاعمال كانت في صلب موضوع المعرض وهو مقارنة الاسطورة وتجلياتها عن المدينة وعبر العصور بحقيقة المدينة ومكانها في تاريخ البشرية ، الامر الذي يتصدر كل المطبوعات والاعلانات التي اصدرها المتحف بالمناسبة ، اذ كيف يمكن مقارنة الاسطورة بالحقيقة دون عرض الاسطورة او باغفال الحقيقة. ورغم ان الكاتب يذكر معروضات كثيرة هي من جانب ( الحقيقة) كالالواح المسمارية عن الحياة اليومية للمدينة والملفات الرسمية والرسائل والعقود وقوائم البضائع ورسائل موجهة الى الآلهة والنصوص الطبية والوثائق على انواعها والارصاد الفلكية والنصوص الطبية والاحتفالية وحتى خرائط معمارية وغيرها الا انه يعود الى وصف المعرض بانه توراتي وانجيلي اكثر منه معرضا اثاريا.
يشكك الكاتب في الغاية خلف عرض مثل هذه الاعمال ويتساءل عن سبب اختزال تاريخ بابل الى فترة حكم نبوخذ نصر فقط بينما اهمل تاريخها المجيد منذ ايام حمورابي وما قبل ذلك، وقد توجهت بذلك السؤال ضمن اسئلة اخرى الى الدكتور جوناثان تايلور من قسم الشرق الاوسط في المتحف البريطاني واحد منظمي المعرض الذي ابدى اسفه في ان تفهم هذة الفعالية الكبيرة والمهمة على هذه الصورة واوضح ان الغاية الاساسية من المعرض كانت رفع الحيف عن بابل وإثبات بطلان الاسطورة وتأكيد حقيقتها كمكان حضاري بالغ الاهمية ، يقول الدكتور تايلور :
«ما ازعج الكاتب هو عدم معرفته ان الرسامين استعملوا بابل كرمز ومجاز ، ونحن لا نضيف شيئا فهذا هو ما انجزه الفنانون وكوننا نعرض لوحات مستمدة من الكتب المقدسة لا يعني اننا نتبنى مضامين تلك اللوحات او مواقف تلك الكتب ، نحن عرضنا ما هو موجود ووضعنا في مقابله الحقيقة المستمدة من التنقيب والبحث والتوصلات العلمية . اما لماذا هذه الفترة بالذات فلانها جعلت بابل خالدة في الميثولوجيا ففيها بنيت الجنائن المعلقة وبرج بابل ولأن الاسطورة بدأت بالتشكل عن هذه السنوات، سنوات السبي البابلي لليهود». واضاف تايلور « اننا نعي اهمية الفترات الأخرى من التاريخ البابلي لكننا لم نشأ ان نغرق المشاهد بكمية كبيرة من المعلومات والمعروضات وحاولنا التركيز والاختصار قدر الامكان خصوصا وان الحيز المتاح للمعرض صغير جدا قياسا بمعرض باريس وبرلين . لقد حاولنا جهد الإمكان ان لا نجعل المعرض توراتيا وذلك ينسجم مع جهدنا الحثيث في الدعوة الى صيانة المدينة وكشف آثارها وايقاف العبث والتخريب الذي تتعرض له وصولا الى تسجيلها في اليونسكو ضمن المواقع الاثرية العالمية» .
ان روعة وجمال المنحوتات البابلية في المعرض وطاقتها الايحائية ودفقها تلقي ظلا كتيما على لوحات جناح الفنانين الاحد عشر الذي اضافه المتحف البريطاني لمادة المعرض الاصلي (عشرة عراقيين وسوري واحد) ، ولا يحتاج المرء لكبير عناء كي يلاحظ ان تلك الاضافة تبدو غير منصفة بحق المعرض عموما والفنانين انفسهم، خصوصا اذا عرفنا ان لبعض هؤلاء الفنانين اعمالا اهم بكثير مما عرض لهم وافضل في تقديم جهدهم الحقيقي ، اضف الى ذلك ان هذه اللوحات التي كان الهدف من عرضها تقديم فكرة للمشاهد عن كيفية تناول فنانين معاصرين من وادي الرافدين وينتمون الى حضارته القديمة الارث البابلي وموضوعة بابل الاسطورة والواقع في مواجهة لوحات الفنانين الاوروبيين، اقول ان هذه اللوحات اقل من ان تقدم صورة منصفة لمنجز فنانين عراقيين وسوريين كثيرين عملوا في ذات الموضوع ان لم تكن لتعطي انطباعا خطأ عن المستوى الذي بلغه فنهم.
عن المعرض الملحق واستجابة الجمهور للفعالية ودور المتحف البريطاني تحدثت الى فانيسا بورتر من قسم الشرق الاوسط واحد المشرفين على الفعالية حيث قالت ان المتحف يريد استقبال الجميع ومنهم الفنانين ولكن على هؤلاء ان يبادروا بالاتصال حيث انه يتصل بمن يعرفهم واضافت « اننا نتصل بافراد وهم الذين نعرفهم ، والناس يعتقدون اننا مؤسسة كبيرة ولدينا امكانات ضخمة ولكن الحقيقة عكس ذلك تماما فعددنا محدود جدا ونحن نعمل بأقصى طاقاتنا ،ونحاول ان نصل الى خيارات ترضي الجميع ، نحن ، على سبيل المثال، ندعو الصحفيين والإعلاميين العرب ولكننا لا نحظى باستجابة طيبة دائما لكننا ندرك دورنا وواجبنا ونعمل الآن على تطوير ما تحقق من علاقة طيبة مع الجمهور العراقي في بريطانيا اذ حضر عدد كبير منهم وبينهم من لم يتعود على زيارة المتحف ولدينا افكار في العمل مع الاطفال وتلاميذ المدارس»وتضيف بورتر ان المتحف البريطاني يحاول المساعدة في احتواء الخسارة الكبيرة التي نجمت عن نهب المتحف العراقي وتقول « نحاول المساعدة بشتى الوسائل عبر الاعلام اوالحضور المباشر في المواقع الاثرية او من خلال مساعدة زملائنا العراقيين ، ولدينا ضيوف الان من متاحف البصرة وبغداد والموصل ندربهم على الادارة والخزن واعداد المعارض وغيرها كما اننا نعمل من خلال المؤسسة البريطانية للدراسات العراقية».
لعل في معرض (بابل الاسطورة والواقع) فرصة جديدة لإعادة اسم العراق الى الواجهة ولكن بصورة مختلفة هذه المرة، فبعد ان تراجع الصخب الاعلامي عن عراق الدكتاتورية والحرب والاحتلال والفوضى وبعد ان خفتت كمية الاثارة التي وفرها العراق لسنوات طويلة لوسائل الاعلام ، فوجدت هذه ما تنشغل به من مآس وكوارث جديدة، يأتي المعرض ليقدم عنوانا مختلفا سمته الحضارة والتاريخ والفن التي تليق ببلد عريق كالعراق.
يوســف الناصــــر