منير الإدريسي
لطالما اختبر الشعراء حياة مضطربة عثر فيها صناع السينما على ما يُلهم السّرد الدرامي ويُصعّده نحو الذروة. فقد وجد بعض المخرجين السينمائيين في حياة الشعراء قصصًا مثيرة لتوظيفها وإشباع الشّاشة بعاطفةٍ سهلة، مفرطة. قد تنحو أحيانًا إلى الإسراف والابتذال. أو بإثارة ما يمكن اعتباره ثوريا وجريئا أخلاقيا أو مرفوضا اجتماعيا. مثل فيلم “كسوف كلي” “Total Eclipse للمخرجة آجينيسكا هولاند والذي يحكي عن علاقة آرثر رامبو مع بول فيرلين. أو فيلم “شاعر في نيويورك” A Poet in New York لمخرجته آشلينغ وولش والذي يحكي عن مزاجية الشاعر ديلان توماس الحادة، طيشه، غرابة أطواره، وإدمانه على الكحول. إضافة إلى فيلم “باندايمونيوم” Pandaimonium لمخرجه جوليان تومبل الذي يتناول لمحة عن الصداقة الكبيرة والمتقلبة التي جمعت بين أهم شاعرين من الحقبة الرومانسية وهما وليام وردزورث وصامويل تايلور كوليردج. والتي تدور أحداثه خلال الفترة التي كتب فيها كولريدج قصيدته الملحمية “قوبلاي خان” بينما كان يصارع إدمانه على الأفيون. مثلما تناول قصتهما أيضا المخرج كين راسل في فيلم من جزأين تحت عنوان “غيوم المجد” Clouds of Glory. وأفلام أخرى وفق هذه الأمثلة تناولت سيرة وشخصية شعراء بارزين مثل فيلم Bright Star عن جون كيتس، وفيلم “عواء” Howl عن آلن جينسبيرج، وفيلم “ساعي البريد” Il Postino عن بابلو نيرودا… وغيرها. إلاّ أن هذا العرض المشهدي للسير والمواقف غالبا ما كان أقل شغفا بالشّعر منه بقصة مُلهمة لسيناريو يتعقب توالي الأحداث ورسم الشخصيات والفضاء الخاص حولها.
بالمقابل، ثمة مخرجون أفعم شغفهم بالشّعر مخيلتهم السينمائية، وقد أظهرت أعمالهم فهما عميقا ومقاربة جديرة بالاهتمام لمساحته الفنية. ذاهبين أبعد من ذلك نحو استثارة شرارة الحدس المظلمة. إن جسدية السينما الشبيهة بالحلم جعلتهم يدركون لغتها الشّعرية. فأرادوا لنبضاتها البصرية أن تكون بمستوى الشّعر. تجربة أحد أهم صانعي السينما في الاتحاد السوفييتي أندريه تاركوفسكي مثال يجسّد هذا الشغف؛ حيث اعتبر: أن الشّعر هو الوعي بالعالم، بل طريقة خاصة للاتصال به. وأن “الهدف الأمثل للسينما هو أن توضع في مستوى الموسيقى والشّعر”1.،لا تحتكر أعمال تاركوفسكي هذه الفلسفة الجمالية لوحدها فحسب، بل نجدها عند كل من كبار المخرجين أمثال آلان رينيه، وأكيرا كوروساوا ، ومايكل رادفورد ، وبيتر وير أو إليسيو سوبييلا، إنغمار بيرغمان، وأليخاندرو جونجاليس إيناريتو، وعباس كيارستمي الذي قال عنه المفكر الإيراني حميد دباشي أنه “أوّل شاعر بصري في الأمة”؛ إضافة إلى ترينس مالي، وبيير باولو باسوليني الذي قال مرة في مقابلة معه: “كاد صانع الأفلام أن يجبر بسبب الظروف على أن يكون روائيًا. من الآن فصاعدًا يمكنه أيضًا أن يكون شاعرًا”2. لقد أدرك هؤلاء وغيرهم طبيعة كل من السينما والشّعر. وقد كان لهم طموح مدفوع بموهبة خلاّقة يتجاوز السّرد الأفقي للأحداث إلى المغامرة الشعرية العمودية التي ينطوي عليها الشّعر نفسه. فالشِّعر لا يهتم بما يحدثُ بل بما يشعر به وما يعنيه. وهو المفهوم الذي قدّمته “مايا درين”3 في إدراك وتحديد اللحظة الشعرية في السّرد الدرامي.
إنّ الاقتراحات الخيالية للعديد من المخرجين المبدعين تتغذَّى على الشّعر. لذلك ثمة اهتمام بالقصيدة على هذا المستوى. وقد خاض البعض في مغامرة كتابتها سينمائيا. وحين نتحدث عن القصيدة السينمائية فإن زوبعة من التجارب بلا عد ستلفنا في حقل التجريب والتركيب بحثا عن تجسدات أخرى للشّعر في توليفة تنشأ عن ارتباطات واستعارات جديدة لا ينتجها النص اللفظيُّ أو المرئيُّ لوحده.
لكن موضوعنا هنا ليس عن مقاربة هذا النوع من الأفلام الذي أطلق عليه مصطلح “فيلم الشّعر”، أو الاستغراق في شعرية أفلام تبنتها فلسفة جمالية كما نجدها عند تاركوفسكي؛ إنما قراءة عاشقة تقترب من عوالم فيلم بعنوان باترسون Paterson لمخرجه الأمريكي جيم جارموش. فيلم يشدُّ العصا من الوسط. مازجا النوعين معا، فمفهوم القصيدة السينمائية حاضرة في طريقة عرض قصائد الفيلم من خلال دمج الكلمات الشعرية المنطوقة والمكتوبة على الشاشة مع إيقاعات بصرية هادئة. كما أن شعرية الفيلم حاضرة بالمثل أيضا في نبضات بصرية تحتفي بشعرية الأشياء، وتخدِّر الإحساس بالزمن. مزجٌ خفيف، غير فاقع. يشحب أمام الخطوط العريضة لأسلوب جارموش الذي يمتاز ببصمته الخاصة وفلسفته اللتين انطبعتا بوضوح شديد في هذا الفيلم المتميّز والذي موضوعه الشاعر، المدينة، والقصيدة.
يُعدُّ جين جارموش (1953) اسما مضيئا في تاريخ السينما الأمريكية. تندرج أعماله ضمن نوعية الأفلام المستقلة، وقد حظيت تلك الأعمال بإعجاب كبير من طرف النقاد والمخرجين حول العالم منذ ثمانينيات القرن الماضي. كما أن تأثيره بدا واضحا على مخرجين سينمائيين تألقوا بشكل كبير. تتميز أعماله بعمق فلسفي وطرح معقد يدعو إلى التفكير والتأمل مع ميلٍ إلى السخرية والتلاعب بالحبكة التقليدية واستخلاص أسلوب بصري يبتعد عن الشرح والتدخل في المواقف والشخصيات. من أفلامه: “أغرب من الجنة” 1984، “يسقط بالقانون” 1986، “الرجل الميت” 1995، “شبح الكلب” 1999، “زهور ممزقة” 2005، “حدود السيطرة 2009، “الموتى لا يموتون 2019، وغيرها.. يعدُّ “باترسون” 2016 أحدها؛ فيلم يقوم على مقاربة تصويرية لفضاء مدينة باترسون، إحدى مدن ولاية نيوجيرسي الأمريكية؛ ولمناخ قصيدة شاعرها ويليام كارلوس ويليامز (1883-1963) الذي كتب عنها قصيدته الملحمية في خمس مجلدات بين عامي 1946 و1958 وسمّاها بذات الاسم.
الخطوط العريضة للفيلم
1 – مقعد السائق
يحكي موضوع الفيلم عن يوميات شاعر يعمل كسائق حافلة يُدعى -بشكل مثير للاستغراب- بنفس اسم مدينته “باترسون”، أدَّى دوره الممثل “آدم درايفر”. لا تقول القصة حدثا أو تستعرض أحداثا مهمة. ودون أن تتمسك بالبناء الدرامي الذي توظفه الأفلام عادة لشدِّ انتباه المشاهد من ضوء البداية إلى ظلمة الجينيريك، تكتفي بمتابعة تفاصيل حياة تسير في خط هادئ مستقيم تبدأ من صباح يوم الاثنين إلى آخر يوم في الأسبوع.
إن مهنة باترسون كعامل تستهلك يومه كاملا. لكننا لا نشعر بأي استياء يصدر عنه جراء هذه المهنة المتواضعة التي تأكل من ساعات يومه، إنّه يتقبلها برضى تام. وهو ما يشعرنا بأهمية التوازن الذي يمكن أن يُحقِّقَهُ المبدع بين مهنته وفنّه؛ بل إن في ذلك التوازن نوعًا من التكامل والشاعرية. تلك قيمة جمالية ورمزية ذات دلالة، يشير إليها الفيلم أكثر من مرة ويعقد المقارنات: فالرسّام الفرنسي “جان دوبوفيه” كان عالم أرصاد جويّة على قمة برج إيفل في باريس عام 1922 كما أن شاعره المفضل “ويليام كارلوس ويليامز” كان طبيب أطفال وتلك مهنة لا تترك للشاعر سوى حيز بسيط من الزمن لكتابة قصائده. يريد جارموش أن يومئ إلى شيء مهم هنا، قالبًا الصورة التي انطبعت في أذهاننا عن التجاذب القاسي والصراع بين المهن الرتيبة والأعمال الفنية الإبداعية التي تحتاج اعتكافا ووقتا وتفرغا لإنجازها. فرغم الهزائم الصغيرة التي تأتي من المهن تظل الحياة الإبداعية في إمكان التحقق على نحو أنسب وأكمل. إن مهنة باترسون بحد ذاتها تضفي على صاحبها بعض الشاعرية كما عبّر عنها الفيلم على لسان إحدى شخصياته.
يتكرّر مشهد الاستيقاظ من النوم عند الساعة السادسة والربع صباحا على مدى سبعة أيام. يحضن باترسون زوجته لورا التي تنام إلى جانبه؛ مثلت دورها الممثلة الإيرانية “غولشيفته فرحاني”. يقضي بضع دقائق إلى جوارها على السرير، تخبره أنها رأت في منامها وقد أنجبت توائم !. سندرك لاحقا أن الفيلم مليء بالحالات التي يظهر فيها التوائم. ينهض باترسون، يلبس ملابسه، يلتقط بصره علبة ثقاب في المطبخ. يقلّبها بين أصابعه، يتأملها، فتنشأ عن ذلك الكلمات كشرارة ذهنية. وحتى حين يسلك ممرات المدينة بخطواته الكبيرة ماسكا علبة طعامه المصنوعة من الصفيح قاصدا كاراج الحافلات، نتابع الكلمات4 وهي تندفع بحروفها وتتداعى على الشاشة مشكلة شيئا فشيئا نص القصيدة كما تجري في ذهن باترسون. يجلس على كرسي السائق، وفي محاولة لاستغلال بعض الوقت قبل التحرّك، يخط على دفتره السرّي تلك السطور الشعرية غير المكتملة؛ إلى أن يعيده حضور مراقب العمل (دوني) إلى الواقع؛ مثل دوره الممثل “ريزوان مانجي” وهو رجل كثير الشكوى والتذمر من حياته التي يقوم بجرد متاعبها اليومية. يُقدِّم المخرج هذه الشخصية بنغمة كوميدية جامدة ومميزة. لا يبدو على باترسون أنه يتأثر بمشاكل زميله؛ إن الحياد والاكتفاء بالحضور الصامت هو ما يَسِمُ شخصية باترسون.
يتحرّك الشّاعر بآلته الكبيرة في شوارع المدينة. تبدو باترسون ككل المدن، لكنها ليست كذلك؛ إنها مدينة القصيدة. منبسطة للتأمّل الشّعري عبر ما تتشرّبهُ الكاميرا من ضوئها ومعالمها في أسلوبٍ شفيفٍ شديد التقشف. يسوق باترسون حافلته بهدوء. يصعد ركابٌ وينزل آخرون. وفي كل مرة هناك حديث بين اثنين منهم عن مواقف وأشياء يومية حدثت أو انطباعات عامة. يسترق السَّمع إلى جيرانه الركاب؛ إلى يومياتهم الصغيرة. ترتسم على وجهه أحيانا ابتسامة دعابة، تكاد تنفرط كضحكة من سمع نكتة؛ لكنها شديدة الكتمان. مخفية وتحت السيطرة. تدور عقارب الساعة، والحافلة تدور. يأتي وقت الاستراحة ووقت الغذاء، مقابل الشلاّل يستريح الشاعر، يفتح حقيبته المعدنية الصغيرة، يتناول شيئا أعدته له شريكته لورا -نرى صورتها الجميلة محتفظ بها في العلبة-. تشغل القصيدة ذهن باترسون في كل مكان يكون فيه، وهو يمشي أو يسوق الحافلة أو يستريح. تتداعى الجمل ببطء، تتدفق قطرة.. قطرة. نشعر بوزنها، بزخمها وحجمها. وبأحقية الأشياء في أن تنطق من خلالها.
2 – البيت
يعود مساء من العمل. ترصد الكاميرا طريق العودة. بدل الذهاب الذي نتابع فيه تحرك باترسون من يسار الشاشة إلى اليمين، تكون العودة معكوسة من اليمين إلى اليسار. تتكرر هذه الصورة من يوم لآخر. قبل أن يلج البيت، يُقوّمُ صندوق الرسائل الذي يجده مائلا في كلّ مرة. نعرف لاحقا من كان وراء إزعاجه بهذه الطريقة؛ يعتمد جيم جارموش على تلك الفراغات التي يتركها في عقل المشاهد إلى أن يملأها في مشاهد تالية بطريقة ذكية. يلج باترسون البيت. هنا تفاجئه لورا كل مرة بشيء جديد من حيويتها المعهودة، من هوس بالتصاميم والدوائر التي ترسمها وطلاء الجدران إلى حلمها بالعزف على الجيتار وعجن الكعك الذي لا يختلف عن لمستها المميزة في كل شيء والذي تعدّه لمسابقة محلية. ستجني من وراء ذلك مبلغا بسيطا، لكنه يحدث فارقا في يومياتهما الرتيبة، يمكنهما به مثلا أن يتناولا العشاء في الخارج ويحصلا على تذكرة لمشاهدة فيلم.
تُعجبنا حيوية لورا خصوصا اهتمامها بما يكتبه باترسون، وتشجيعاتها له بطبع أشعاره ليتعرّف الناس على شاعر عظيم في نظرها. نستطيع أن نشعر بدفء البيت الصغير في وجود الحب. تخفت الإضاءة هنا ويتسع الحلم. إنّه بيت باشلاري بامتياز -نسبة إلى تأملات بشلار في المكان “شاعرية أحلام اليقظة”-. بيت يضمُّ ويدعم راحة باترسون. هنا نشعر بأننا في قوقعة محمية حيث الحب والشّعر. إلاّ أن كائنا على وجه الدعابة يقاسمهما البيت؛ كائن يقظٌ وغيور بما لا يدع مجالا للشك، يتابعُ بِبُغض وبنظرات غير راضية اهتمام لورا بحبيبها. وعند تلك القبلة أو اللمسة يحتجُّ بنباح، أو يصدر صوتا معترضا ممزوجا بالأسى. إنّه “مارفن” كلب البيتبول الناقم. لا يبدو أن باترسون يستلطفه هو الآخر. يضطرُّ إلى تحمله دون إبداء ملاحظات، إلا عندما يتمكن هذا الوحش الذي تستلطفه لورا وتعامله كطفلها الصغير المدلّل من تمزيق الدفتر السرِّي للشاعر. إذ ذاك تنفلت من بين شفتي باترسون بهدوء عبارة: “أكرهك مارفن!”.
بعد العشاء، يكون على باترسون أن يُخرج مارفن يوميًّا للتنزُّه. إن عليه تحمّل هذا العبء على مضض وتقبُّله. يحمل الفيلم رموزه وإيحاءاته بهذا الخصوص، فالحياة ليست نغمة متوازنة حين نتشاركها مع آخرين. لذلك علينا أن نتحمّل ميول وهوس وأحلام من نحبهم حتى لو كانت تخالف اعتقاداتنا وميولنا.
لا يبدو على الكلب مارفن أنه ينقاد بسهولة لمرافقه؛ يجهد باترسون ويجد صعوبة في قيادته. يبدو ذلك من الحركة المشدودة المتوترة في كل مرة يسيران فيها في الشارع. أحيانا يبدو أن مارفن هو من يقود إلى الوجهة. حيث تثبُ بعض الكوميديا الخفيفة من رغبة كليهما في السيطرة. لكن مارفن كلب ماكرٌ أيضا، يعرف متى يستجيب، حين يقيّده صاحبه إلى جانب الحانة، يأمره بالجلوس، فيستكين. مصدرا ذلك الصوت المتبرِّم.
3 – حانة الحيّ الصغيرة
في حانة الحيِّ الصغيرة، ضوء خفيف ناعم. موسيقى هادئة تؤثت اللحظة المخمليّة حيث ينعم باترسون بكأس بيرة كبير وببعض المحادثات اللطيفة. في هذا الفضاء تلتقي الأمور وتتباعد. تتكثّفُ رمزية المدينة في صور أعلامها على الحائط جنب المشرب، الذي أثثه “دوك” صاحب الحانة وأطلق عليه: “جدار المشاهير” من هوسه بالشخصيات الفنية والأدبية والرياضية التي عاشت في المدينة، مثل الملاكم الشهير روبن كارتر، والممثل الكوميدي لوكوستيلو، والشاعر إروين ألن غينسبرغ وبالطبع وليام كارلوس ويليامز وآخرين.
تحدث في البار بعض الكوميديا السوداء والسلوكات الخرقاء. إنها خطوط الحياة التي تقرّبنا من استشعار المفارقات التي تنبني عليها المواقف. نستشعر الخوف من الوحدة والتمزق النفسي حيث الحياة لا معنى لها بدون الحب في حالة شخصية “ايفيريت”. أحد مرتادي الحانة، الشاب الذي يعيش صدمة انهيار علاقته بحبيبته “ماري” التي تصدّه عنها. وفي ذروة يأسه يرفع سلاحه في وجه من في المشرب، ثم مهدّدا بالانتحار. قبل أن يفاجئه باترسون ويطرحه أرضا مقيّدًا حركته. عندها يتبين وفي شيء من السخرية أن المسدّس محشو بقطع اسفنج.
يقع موقف محرج آخر أمام باترسون. حين تأتي زوجة “دوك” في حالة من فورة غضب وتفضح هذا الأخير كونه اللص الذي سرق من مالها الخاص. وهو المال الذي كانت تدخره وتحتفظ به في علبة البسكويت من أجل إصلاح شعرها حتى تتمكن من الذهاب إلى حفلة زفاف ابنة أخته !. ينكّسُ “دوك” رأسهُ شاعرا بالعار أمام الجميع دون أن تستطيع تبريراته الواهية الدفاع عنه. لكل موقف من هذه المواقف المؤلمة وجهها الآخر الفكاهي الساخر. فالحياة تحمل نقائضها. حيث إن المضحك والمحزن وجهان لعملة واحدة.
4 – الصُّدف
يلتقي “باترسون” صدفة بشخصيتين غريبتين تتصلان بالشّعر، بالأحرى تكتبان الشّعر. الأولى هي شخصية فتاة صغيرة يلتقيها في طريقه. والثانية شخصية شاعر ياباني جاء سائحا من أجل التعرف على مدينة الشاعر وليام كارلوس ويليامز.
في طريق عودته من العمل يقترب “باترسون” بدافع الفضول من فتاة تجلس وحيدة في انتظار والدتها وتفكّر بقصيدة في دفترها السرّي. ثمة أشياء كثيرة تتطابقُ في حياة باترسون كطيات عديدة، بما في ذلك اسم دفتر أشعاره. يتجاذبان أطراف الحديث حول الشّعر. عن مهنته، يخبرها أنه سائق حافلة. تسأله إن كانت من ذلك النوع من حافلات الأوكورديون؟ !!. ثمة شعرية بالغة في هذا الوصف. ينتبه باترسون إلى هذه الاستعارة العفوية. عندها تستأذنه الفتاة في أن تسمعه قصيدة لها بعنوان:”الشلالات”. تنهي قراءة السطر الأخير من القصيدة بابتسامة مشرقة مدركة التأثير المتوقع لكلماتها عليه:
وتتساقط المياه سيولا في الهواء النقيّ،
تتساقط بالتوالي مثل الشَّعر
على كتفي فتاة صغيرة.
تتساقط على شكل سيول
مخلّفة بركًا في الأسفلت
ومرايا قذرة
سحبا وبيوتا بداخلها.
إنها تتساقط على سطح منزلي.
تبلّلُ والدتي
وشعري.
إنّها ما يسميه الناس: المطر!
يندهش باترسون من حيوية وخفّة هذه القصيدة التي كتبتها فتاة صغيرة. نشعر بدهشته بأقلّ التعابير والكلمات. تقطع والدة الفتاة هذا اللقاء العفوي الذي نشأ عن صدفة، جاد بها ملاك الشّعر، ويكون على الشاعرة الصغيرة أن تغادر مستجيبة لنداء والدتها، لا يخفيها باترسون وهو يودّعها سعادته بلقاء شاعرة حقيقية. تبتعد الفتاة بضع خطوات ثم فجأة، تستدير وتسأله إن كان قد سمع عن هذا الاسم: إيميلي ديكنسون؟. يردُّ باترسون بالإيجاب، وأنه معجب بها أيضا. وقبل أن تنصرف عنه تماما تنبس الصغيرة بهذه الكلمات كما لو كانت تحدث نفسها في مزيج من السُّخرية والتعجّب: سائق حافلة ويحبُّ الشّعر!
يعود باترسون إلى البيت، وقد انشغل بقصيدة الفتاة. لقد سحرته بساطة وعمق تعابيرها وصورها. يبدو أنها أيقظت داخله سؤال الشّعر وفنّ الكتابة!!. يردّد ما علق في ذاكرته من تلك الجمل. هناك طفلة على الطرف الآخر من حاضرة باترسون تقوم بنحت الجمل بنفس الهاجس والأسلوب والتوق والاندفاع والعشق لانعكاس الأشياء على الورق، بيسر منساب يدعو إلى الإعجاب.
في أحد المشاهد الأخيرة من الفيلم، ثمة شخصية أخرى قادها ملاك الشِّعر إليه. بالصدفة في المنتزه يقترب منه سائح ياباني. حينها يبدو باترسون شاردا بسبب ما أصاب دفتره السرِّي الذي حوله الكلب “مارفن” أمس إلى نتف ممزقة. يستأذنه الرّجل بأدب في الجلوس إلى جانبه على مقعد أمام الشلال. ثم ينشأ بين الرجلين حوار عفوي أراده “باترسون” متحفظا، عكس السائح الذي كان فيه مُقبلا ومنفتحا. نفهم من خلاله أن ما قاد الرجل الياباني إلى هذه المدينة هو إعجابه بالشاعر “وليام كارلوس ويليامز”. كما يتضح أن الزائر فوق ذلك، شاعرٌ أيضا، بل يتنفّسُ الشّعر حسب تعبيره. ويكتب قصائد باللغة اليابانية. يعلّق مازحا على لغة أجنبية عن باترسون: “إن ترجمة الشّعر إلى لغة أخرى أشبه بالاستحمام وأنت ترتدي معطفا شتويا”!. هناك ما يوحي للغريب على أن لباترسون اهتماما بالشّعر رغم محاولة هذا الأخير إخفاء ذلك وهو يقدم نفسه على أنه مجرد سائق حافلة. لكن معرفته بالشّعر والشعراء مثل الشاعر “فرانك أوهارا” ومدرسة نيويورك ووليام كارلوس ويليامز تفضحه.
ثمة أخوّة شعرية نشأت أخيرا عن هذا الحوار الصغير العابر. ستدفع الرجل الياباني قبل أن ينصرف إلى أن يخرج دفترا من حقيبته ويهديه له كتذكار، أو على الأرجح، كدعوة للكتابة. يقلّبُ “باترسون” بيديه الكبيرتين صفحات دفتره الجديد. ربما يبدو ذلك تعويضا من القدر عن كتابه السري الذي أتلفه الوحش الصغير. يستغرق ذهنه في بياض الصفحات المفتوحة على احتمالات لا تُعَدُّ. ثم تأتي أولى الكلمات صوتا وكتابة على الشاشة من قصيدة عنوانها الخط. تتدفقُ، تنساب وتستغرقه. فيما تتوالى المشاهد، من جلوسه بسكون التمثال في الحديقة، إلى العودة مشيا عبر شوارع الحيّ الغارق في كسل يوم الأحد، والذي لا نسمع فيه سوى صوت تحرّك الأشجار في خلفية الكلمات، ثم في النهاية، وهو على السرير يحضن لورا كعادته في نومه؛ قبل أن يستيقظ ويتناول ساعته، حتى يبدأ الدورة ذاتها من الاثنين، أوّل أيام الأسبوع.
احتضان اليوميّ
والقصيدة التصويرية
يمزج جارموش حسب الناقد الأمريكي شون بي مينز “أنماط الأفلام وأنواعها مع الذكاء الحاد والفكاهة السوداء”5 لذلك نعثر في كل فيلم من أفلامه على تشكيل فريد من نوعه؛ يتضمن عادة أحجية فنية لا يتكشّف حلّها من تعاقب السّرد الذي يتلاعب المخرج أصلا ببنيته التقليدية، بل من خلال لقطة ما أو مشهد خاطف. إن أفلامه تشبه تركيبة البازل. نفهم، في لحظة لا نتوقعها شيئا بسيطا مما فاتنا لتركيب الفكرة على نحو يبهرنا. إن كل لقطة هي عالم بحد ذاته.
يعمّق جارموش حالة التشبّع باللحظة، على حساب السَّردِ الأفقي. هذا ما يجعلنا نعيشُ قبل أن ننتبه، ونشعر قبل أن نهتم بما يحدث. يبدو العمل حينها كما لو كان سلسلة من المشاهد المتفرقة التي تعكس نوعا من سوء التوزيع الظاهري، لكن لها على نحو لا يخلو من الذكاء منطقها الداخلي الخاص الصامت. يؤثت المخرج في خلفية البنية الرئيسة مفاصل أشبه بومضات عقلية –لتجلية الغموض وترتيب فهمنا لما نشاهد- داخل اللقطة أو المشهد. نوع من تفكيك للإدراك وتجميعه.
إن سينما جارموش مع كلّ هذا الاشتغال الذي ينمُّ عن مهارة وتجربة، والذي قد يجوز بنا إلى رقعة شطرنج كبيرة -كما في فيلم “حدود السيطرة” The Limits of Control- تنهض الصورة أوّلا وأخيرا مستحوذة بالتفاصيل على أذهاننا. إن جارموش هو شاعر التفاصيل بالمعنى التام للكلمة.
وفي هذا الفيلم أيضا يتبع المُخرج التفاصيل ذاتها، كصائد فراشات في حقل. ومعنى التفاصيل في العمل الفنّي هو منح الأشياء القدرة على أن تكون في مساحة التعبير البصرية الحرّة. لا تتاح هذه المقدرة غالبا إلا من خلال التصوير الذي يعتني بطياتها وخطوطها. كما لو كنّا أمام لوحة. وعوض أن تتحرّك العين في فضاء وزوايا اللوحة تلجأ الكاميرا إلى طريقة خاصة بها للسرد. ولعل هذه الخاصية السردية المرئية للسينما هي ما نجده أيضا في قصائد الفيلم. ولو شئنا الدقة، إنها أيضا أساس فكرة حركة الشّعر التصويري ممثلة في تجربة أحد رموزها الشاعر وليام كارلوس ويليامز. تتقاطع فلسفة المخرج ونظرته الجمالية مع قصيدة من هذا النوع في استلهام جماليات اليومي العادي والملموس. إن شعرية الأشياء هي البؤرة التي تلتقي فيها القصيدة مع الفيلم. يقع الفلم على القصيدة والعكس أيضا.
لذلك نشعر بهذا التوليف الهارموني العجيب مع الشّعر التصويري من حيث الحساسية الجمالية المشتركة، والانطلاق من المقاربة الفلسفية الظاهراتية ذاتها التي تنبثق من تجربة الشعور والوعي بالعالم عبر الأشياء الملاحظة.
دون أن نلغي من إدراكنا العقبة التي تعترض أيّ سينما تتناول موضوع الشّعر بهذه الجسارة، حيث إن المقولات التي يستخدمها جيل دولوز لتعريف سينما الشّعر هي في الأساس ذات ترتيب سردي. “الشّعر، ضمنيا، يُقدّم كمبدأ يزعج أو يشوّه تقدّم السرد”. من هنا، يُسكرنا ذكاء التركيب الجارموشي هذا. إنّنا نتحدث عن فيلم سينمائي سردي بالأساس كما نتوقع من أيّ فيلم مثله، إنّما هو هنا سردي بطريقة تغيب فيها العقبات، وتنبثق الصورة السينمائية كشعلة عمودية، داعمة الشّعر الذي توظفه كطريقة للوعي بأشياء العالم.
عن الدائرة
يتقدم السّرد في بنية تتوقف فيها الساعة، ما يتعاقب لا يجري كنهر، وإنما يتكرّر في عود أبدي حتى يصل نفس النقطة التي بدأ منها، إن كان ثمة من زمن، فهو دائري. كل صباح يستيقظ باترسون على الساعة السادسة والربع، يُشبع المخرج هذا الإحساس بتقريب الكاميرا من وجه السّاعة. ثمّ إن كل يوم يشبه الآخر مع اختلاف طفيف، هكذا نعيش اليوميّ في واقعنا ونختبره. لكنّ تأمله بعمق يتيحُ الملاحظة القويّة لظاهر الأشياء، ويسمح لأحلام اليقظة أن تُسكرنا. ومن ثمة تُحقِّق تموضعاً للمشاهد مع الشخصية في قلب الوجود. “فالشِّعر ليس مجرّد قصيدة تُكتب، بل هو طريقة حياة ننظر من خلالها إلى العالم” كما تقول الشاعرة لويز غليك.
يبني الفيلم من خلال كل العناصر المساعدة بما فيها فضاء المدينة، وأداء ممثل شخصية باترسون -ردود أفعاله القريبة من الحياد وإيماءات تعابير وجهه الهادئة، واستغراقه التأملي- طريقة نظر شعرية إلى العالم مترعة بالامتنان. كما أن الوضع المرتفع لسائق الحافلة (الشاعر)، هو شكل من أشكال التموضع في هذا العالم. وضع يَدعمُ المُلاحظ الصامت الذي يترك للشوارع، الساحات، وفضاءات المدينة كما الأشياء الصغيرة والأحاديث التي يصغي إليها وحتى حركات ماسحة الزجاج الأمامية أن تنطق في أشعاره وتأملاته. إنه يسمح لها أن تكون من خلال وعيه، وفي درجة الحلول هذه يصبح باترسون الشاعر هو باترسون المدينة. انعكاس بالغ الشفافية، يحوي باترسون المدينة داخل عقله وقلبه، ومثل الشاعر وليام كارلوس ويليامز الذي حاول في قصيدته “باترسون” استكشاف أوجه التشابه بين عقل الإنسان الحديث والمدينة، نجد عند جارموش هذا التماهي المطلق أو الحلول بالمفهوم الصُّوفي بين باترسون المدينة، وباترسون الشاعر.
صوفية لا ينكرها المخرج في مواقع أخرى من أحاديثه حول أعمال سابقة. لكننا نصل إلى رمزيتها في هذا الفيلم أيضا من خلال تطابق كلا الاسمين. والتكرار الذي يظهر في التوائم وتشابه الأيام، إضافة إلى الدوائر التي تعبّرُ عن العودة إلى نقطة البداية والتي نجدها في رسومات لورا زوجته على الشراشف وعلى الثياب وفي كل مكان في البيت. يعترف المخرج بنفسه في كتاب: “جيم جارموش نظرة أخرى” jim jarmusch , une autre allure بهذا الهوس: “أحب دورات الحياة، الأشياء الدائرية، إن رؤية الصوفيين إلى الدائرة أمر يسحرني”6.
العيش في اللحظة كما أسلفنا، هو أيضا دائرة، بوصف اللحظة حالة ينعدم فيها الماضي والمستقبل، “بوابة الأبدية” كما يصفها جبران خليل جبران، يعمّقُ المخرج جيم جارموش هذا الشعور الذي من خلاله نكتشفُ العالم حولنا، فارغا من ثقله وعدميته التي تنشأ عن طاحونة الأفكار.
يشحذ المُخرج كل إمكاناته وتقنياته السينمائية ليسمّي الأبدية، ويعمّقُ حضورها أكثر مع القصيدة التي نشعر أن باترسون يشرع في كتابتها. تأخذنا موسيقى تنمُّ عن حالة سكون تُخرج ذهن باترسون من دائرة العالم إلى دائرة التأمل. تدخله ونحن معه في موت صغير. إنها حالة سُكر وإلهام، تفجّر ينبوع، من حياة داخلية مستثارة، وفي غبطة شديدة للجمل الشعرية التي تتوالى بحجم يأخذ جزءا مهما من مساحة الشاشة العريضة.
نشعر بهذه البوابة تتزحزح أيضا في لقطات الكاميرا المقرّبة جدا Extreme Close-up حين تركز على الوجه مانحة بُعدا شفافا لأعماق مشاعر الشخصية. لقطة مثل ممسحة للزمن. تعرف هذه اللقطة سبر أغوار أشياء أخرى غير إيماءات باترسون، إنها الأشياء مضاعفة بشاعرية أحلام اليقظة مثل التركيز على الرغوة في كأس البيرة؛ تخبرنا هذه اللقطة مثلا أنّ الشّعر هنا أيضا، خميرة الكلمات، تنشأ في مساحة الصمت. الإرهاصات الأولى أو المادّة الخام من التأملات التي تنتظرُ شرارة لتتوقد جُملة فجملة، سطرا فسطرا، إلى أن تنضج القصيدة.
الفيلم/ القصيدة
في فيلم باترسون لا توجد حكاية عن حياة الشعراء، بل تتحقّق قصيدة سينمائية بصرية. ثمة رؤية كاملة لشِعر يُغذِّي فينا الوجود الذي يحجبه العالم. فكل مشكلات الإنسان الحديث تأتي من هنا، أي من إشكالية النظر هذه، الضعيفة أو المنحرفة، الناتجة عن فقدان الإيمان بالواقع جرّاء القيم الاستهلاكية التي سرّعتهُ، حوّلتهُ، وشوّهته. لا يبدو على باترسون الشاعر رغم مهنته كعامل أنه ينساق بسهولة إلى إيقاع العالم الذي حوّل كل شيء إلى سلعة، فليست مصادفة ألا يملك كمبيوترا أو حتى هاتفا ذكيّا مثل لورا أو الآخرين!.
يعيدنا الفيلم من خلال شعر باترسون إلى أرض الواقع البكر، حيث الأشياء أفكار. في أحد مشاهد الفيلم، نرى الشاعر مارّا في طريقه صحبة الكلب مارفن، ثم يتوقف فجأة ليصغي إلى مغني راب “ميثود مان” وهو يتدرّبُ لحظة فراغه على أغنيةٍ في انتظار غسل ملابسه أمام مغسلة دوّارة مردّدا هذه الكلمات: “لا توجد أفكار إلاّ في الأشياء.. لا توجد أفكار إلاّ في الأشياء”، ألم تكن تلك، مقولة هورسل أيضا “العودة إلى الأشياء نفسها”؟!. إن ملاحظة المشاعر التي تثيره فينا الأشياء حسب علماء الظواهر تجعلنا ندرك بشكل كامل طبيعة وجودنا وخلق واقعنا بطريقة نكتسب فيها الأسباب للعيش بشكل أفضل. لعلّ هذا ما يخلق الامتنان في عينيّ باترسون وقلبه.
لا يعيش الشاعر قلقا وجوديا على الإطلاق. إنّه يعيش الشِّعر كدفاع عن النّفس في مواجهة أيّ قلق. لا يقلق بشأن وجوده، بل يتموضع فيه وفق رؤية يراها هي الأنقى والأصلح. لا يحارب من أجل كسب شيء، ولا يخاف من أن يخسر شيئا. لذلك يكتفي بكونه عاملا بسيطا. يفهم الحياة على أنها كما تمنح تأخذ. يعي قسوتها جيّدا. هذا ما يتركنا الفيلم لنتدبر فيه دون تدخل بالشرح والتفصيل. تحاذي باترسون وهو في الحانة، معاناة الشاب “ايفيريت”، تلمسه، وتهزّه. لكنّهُ يظل حياديا ما أمكنه. دع الحياة كما هي، إنها على طبيعتها. يتدخل فقط حين تصبح الحياة مهدّدة. نرى ذلك في حركة باترسون الموفقة عند تلويح الشاب بالانتحار، قفز من مكانه وطرحه على الأرض ليبقي على حياته. هذا ما ندركه من حيادية باترسون. الشاعر الذي تنطق من خلاله أشياء بمشاعر يريدها أن تكون واضحة. على الشّعر أن يغترف من الوجود لينتصر على العالم. فقدان السيطرة على الحياة لا ينتجُ شعرا جيّدا، بل احتجاجا مفعما بالسخط والكراهية. كلمات تنتج عن معاناة العقل، وليس عن تأملات الروح.
يتيح فيلم “باترسون” قراءة ثرية لما يولّده من أفكار وتأويلات. إنّه عمل متسق يتسم بعمق فلسفيّ ومنحى جمالي خاص وببصمة مميزة. فبلمسة فنية ساحرة استطاع أن يجعل من الحياة اليومية العادية على درجة كبيرة من العمق وفي كثير من الصدق والشاعرية، ولا أدل على ذلك الإشادة الكبيرة التي حظي بها من طرف النقاد السينمائيين حول العالم، والتي موقعت الفيلم ضمن الأعمال التي رشحت للسعفة الذهبية في مهرجان كان السينمائي كما لجوائز أخرى مهمة، دون أن ننسى الأداء المذهل الذي قدمه “آدم درايفر” والذي ساعد كثيرا بشخصيته الهادئة والمتحفظة على تجسيد العديد من الانفعالات الداخلية من خلال التعبير الصامت والقوّة الداخلية. كما القدرة على إضفاء مسحة من الجمال في حياة لا تقول الشيء الكثير، وفي عمل متواضع كسائق حافلة.
يمكن للفن والإبداع أن يجدا المأوى في أماكن غير متوقعة، حتى في أصغر تفاصيل حياتنا اليومية. فبأداء “آدم درايفر” المميز، نستشعرُ فكرة واضحة وصريحة وهي أن الجمال لا يحتاج دائما إلى عناء البحث في أشياء وأماكن بعيدة. بل إنه يتجلى فينا وحولنا إذا أتحنا لأنفسنا بعض التأمل للنظر بعمق. إنها دعوة إلى الإصغاء إلى همس الحياة واكتشاف غبطة الشّعر في أبسط الأمور.
لا يشترط وجود الشّعر اللغة مثلما هي القصيدة؛ بل إنه موجود قبل اللغة والقصيدة. قبل أدوات التعبير والفنون جميعها. إنه موجود حتى في الفراغ وما قبل الانفجار العظيم. يقول فان غوغ في إحدى رسائله: “الشِّعر يحيط بنا في كلّ مكان، ولكن للأسف وضعه على الورق ليس بسهولة النظر إليه”. إن باترسون يضعنا تحديدا في جوهر هذا الكلام؛ وهو يُغذِّي فينا تلك الفكرة بجرعاته البصرية وكلماته، ثم اشتغال الشاعر باترسون على جملته الشعرية في الظاهر كما يبرزها الفيلم يشعرنا بالرهافة والجهد اللذين تتطلبهما الكتابة الشعرية من حيث الإصغاء إلى أشياء تبدو صامتة مع أنها تنطوي على شعر أكبر وكلام أكثر؛ كأعواد الثقاب بعلامتها التجارية “أوهايو بلو تيب”، أو كرغوة البيرة في كأس كبير، أو الطقس اللطيف في الخارج.
مثل معطف يمكن قلب باطنه ليصير وجها لمعطف آخر، هكذا يمكن أن نعيش الفيلم كقصيدة شعرية أيضا. ومع كل تلك التراكيب والرموز والأفكار الفلسفية التي تشرّبها هذا العمل الاستثنائي بحق، لا يمكن أن نقول عن “باترسون” إنه فيلم نخبويّ؛ وإن حمل في ذات الوقت أبعادا متعدّدة لمستويات تلقيه، إلى أن نصل ذلك المستوى الذي نرى فيه الشّعر كوجه للحقيقة!.
لكن، ما الحقيقة؟. في آخر مشهد من الفيلم يصدمنا هذا التعبير على لسان السائح الياباني: “الشّعر هو الحقيقة”. ربّما هي المنسيُّ في هذا العالم، الضائع: طاقة الكون الروحية، وشعريته الخلاّقة. عودتنا إلى الأشياء بما هي مفرداتنا، مشاعرنا، ذواتنا، وبما هي نحنُ كأصل يعود إلى مصدر كلِّ شيء؛ نقطة الوصول حيث النهاية والبدء.