ميشيل تورنييه Michel Tournier: كاتب فرنسي عاشق للغة، ولد في فرنسا عام 1924م وتوفي عام 2016م. كان يحب إثراء لغته بكلمات مستحدثة وتعبيرات جديدة، ويعدّ أسطورة الأدب الفرنسي والأوروبي خلال النصف الثاني من القرن العشرين. هو الأديب الفيلسوف والصحفي الفرنسي الذي حققت عناوينه الثلاثة الرائعة مبيعات مليونية، وهي: “الجمعة أو تخوم الباسفيك” الحائزة على جائزة الأكاديمية الفرنسية، و”ملك الرياح” الحائزة على جائزة غونكور، و”النيازك”.
يبتكر تورنيه أساطير جذابة ذات خلفية فلسفية وأخلاقية يدّعي أنه يكتبها للمراهقين، ملوحًا بمغازيها إلى الراشدين. وقد أمضى سنوات طويلة من حياته مسافرا عبر العالم، مفضلا دائما العودة إلى بلدان شمال أفريقيا التي كتب عنها الكثير.
اسمه في الحقيقة خير الدين ولكن الرومان كانوا يدعونه تهكماً بارباروسّا (صاحب اللحية الصهباء)، هذا القرصان القديم الذي جاب البحر المتوسط مع أخيه الأكبر، ثم أصبحا معاً سيدَي مدينة الجزائر التي حصّنا مرفأها لحماية سفنهما الأربعين. بعد أن قُتل الأخ الأكبر في تلمسان، أكمل الأخ الأصغر مهنته الباهرة وحده. في عام 912 هجرية اجتاح مدينة بِنزَرت وطرد من قصر “باردو” سلطان تونس مولاي حسن.
عندما اندفع خير الدين وصحبه إلى داخل القصر كانوا قد خرجوا للتو من المعركة يرغون ويزبدون. بوغتوا بالصمت الذي كان يلفّ المكان من حولهم، وراودهم شعور غريب كأنهم يدخلون إلى مكان مسحور. لم يكن هناك أي مؤشر على الحياة لا في باحات القصر، ولا فوق شرفاته الطابقية، أو في تلك القاعات الواسعة أو تحت الأروقة ذات القناطر التي تحيط بحدائق الأحلام كالزخارف. بدا المسكن الملكيّ الفخم كأنه قد أخلي للتوّ من حاشيته وجنوده وخدمه وحرسه، وسُلّم إلى البربر القادمين من البحر سليماً، بما فيه من مظلات للأسرّة وسواتر ووسائد وأوان، حتى مواقده المشتعلة كانت ما تزال تدور فوقها أسياخ الشواء. الكل قد هرب وأخذ معه الخيول والجِمال والقرود وكلاب السلوقي، تلك السلالة من كلاب الصيد التي تضع رؤوسها المغزلية فوق رُكب أسياد أفريقيا البيضاء. بُرك الماء نفسها لم تعد تدور حولها الحمائم.
كان خير الدين ورفاقه يشعرون بالضيق من سحر تلك الأماكن المظلمة. ولأنهم ارتابوا بخيانة ما، راحوا يتقدمون وهم يلقون نظرات نحو اليمين ونحو الشمال، حتى إن البعض نصح القرصان بإضرام النار في هذا القصر المنحوس وتهديمه حتى لا يبقى حجر على حجر.
من قاعة إلى قاعة، ومن سلّم إلى سلّم، توصّلوا أخيراً إلى جناح منعزل قاومت أبوابه في البداية الدفعات. وكان عليهم أن يقرروا خلع أحدها، وهذا ما شرع الجنود عمله عندما فُتح من تلقاء ذاته. ظهر رجل طويل القامة هيئته صارمة يلبس رداء أبيض ملطخاً بالعديد من الألوان، بدا مدهوشاً ومغتاظاً.
– ما معنى كل هذه الضوضاء؟ قال، مع أنني أعطيت أوامر بعدم إزعاجي أثناء عملي!
اقترب حارس عثماني يحمل ساطوراً ينوي حتماً إطاحة رأس ذاك الذي تجرأ على أن يتفوّه بتلك الوقاحة في وجه سيّده. أزاحه خير الدين بحركة من يده.
– هذه الضوضاء تعني أن السلطان هرب وأنا أخذت مكانه، قال. من أنت إذاً، والغريب جداً على ما يبدو أمام الأحداث التي تهزّ البلاد؟
– أحمد بن سليم، مصوّر رسميّ، ورسّام القصر.
وبينما كان خير الدين يتقدّم ماشياً، ابتعد الرسّام كي يتيح له الدخول.
كان خير الدين قد التقى عدة مرات خصمه الذي هزمه للتوّ. لم يكن يكنّ في نفسه لمولاي حسن سوى الاحتقار، ذاك الوريث غير الجدير لمملكة الحفصيين المهيبة. رجل ضعيف البنية، تافه المظهر، يمكن القول إنه ينوء تحت ثقل تاج ومعطف أسلافه الملوك. كان منذوراً للهزيمة والإذلال أمام القرصان الرهيب، سيد البحر الأبيض المتوسط!
غير أنه كان هناك فوق الجدران الأربعة للغرفة الواسعة، ولكن ليس محني الظهر، مطأطأ الرأس ورجلاه تسارعان في الهرب. على العكس، فقد كان يمتطي جواداً جامحاً يحيط به وجهاؤه الذين يفرشون له الأرض بمعاطفهم، يجثم فوق برج يطل على المدينة، لا بل داخل الحرملك ومن حوله المحظيات الهائمات حباً.
جال خير الدين في الغرفة وغضبه يزداد استعاراً في داخله مع كل لوحة أكثر من التي قبلها. كان قد سحق مولاي حسن وطرده بصورة مخزية من قصره، وأجبره على الفرار مطلقاً ساقيه للريح تاركاً وراءه كل شيء، حتى أسياخ الشواء تدور فوق النار. وها هو المهزوم بفضل هذا الرسام اللعين ما يزال فوق جدرانه ظافراً، ملكياً، مشرقاً بكل مجده.
– خذوه إلى السجن! اربدّ أخيراً. وكل هذه اللوحات الملطخة إلى النار!
ثم خرج مسرعاً بينما كان جنوده يحيقون بأحمد بن سليم ويكبلونه بالأغلال.
خلال الأسابيع اللاحقة، انشغل خير الدين في توطيد وترتيب نصره الساحق الذي جعل منه الرجل الأقوى في كل المغرب. لكن نصره الجديد أحدث فيه تحوّلاً كان أول المتعجبين به. كان وضع يده على الجزائر المدينة والجزائر البلد قد حوّل قرصان البحار الذي كانه إلى حاكم القلعة. وها قد أصبح بمصاف الملوك في هذا القصر الباذخ مما جعله يشعر بالتزامات جديدة تثقل على كاهله. أدرك بداية أنه لم يعد من اللائق أن يفعل شيئاً بنفسه. بينه وبين الأشياء، صار من الواجب دوماً أن يقف من الآن فصاعداً وزير، أو قائم بالأعمال، أو مرؤوس، وأقلّه خادم. بدءاً من سيفه الذي كان رفيقه القديم في المعارك، وهو سلاح ثقيل غليظ، لشاربه فوق المقبض شكل قوقعة ضخمة تغطي كل يده، وتشرّم نصله العريض أثلام صغيرة على الرغم من ثخانته. لقد أطاح به رؤوساً عديدة بكل مباهاة! كانت تغرورق عيناه بالدموع حنواً بمجرد أن يداعبه براحة يده! ذلك من الواضح أنه لن يقطع الرؤوس بعد الآن ولن يتأرجح سيفه القديم ذو الحدين بين ساقيه. استبدله بخنجر رفيع ذي مقبض منقوش، كان يبدو له نصله الصغير صالحاً لنكش أظافره.
فيما بعد، تغيّرت ملابسه أيضاً: حلّت القطيفة محل درع الزرد، والحرير عوضاً عن القنّب.
لكن هذا لم يكن إلا شيئاً تافهاً أيضاً، ذلك لأن هذا الجندي المحتدّ المفطور على العمل والحركة ولم يسبق له أن خاف من شيء، وكان يردّ على كل الأسئلة بشجاعة وقوة، ها هو قد صار فجأة ملكاً حديث العهد ارتقى العرش بكرامته، ينظر إلى نفسه في مرآة الملوكية، ويقف حائراً لا يتعرّف على ذاته.
حينئذ تذكّر أحمد بن سالم قاعة اللوحات حيث يبدو ذاك التعيس مولاي حسن في غاية النبل. فبعد أن اتّخذ لنفسه الخنجر الصغير، وياقة العنق الحريرية المزركشة التي تزيّن صدره، والصدرة المخملية، ألا يجدر بخير الدين أن يطلب رسم صورة رسمية له؟ غير أن هذه الفكرة الطبيعية جداً بالنسبة لأي شخص غيره، كانت كافية لكي تثير لديه الخوف والرهبة…
وكان لهذا سبب قوي جداً: لم يكن خير الدين يُظهر البتة لا رأسه الذي يغطيه بعمامة، ولا لحيته التي يُلبسها غطاء حريرياً أخضر تشدّه عقدتان إلى أذنيه. ما سبب تلك الاحتياطات؟ كان ذلك سرّه، سرّ يعرفه كل من حوله، لكن أياً منهم لم يكن يجرؤ على التلميح إليه.
في صغره حين كان يرتاد المدرسة القرآنية، كان خير الدين عرضة لأقبح المضايقات من قبل زملائه ومعلميه بسبب لون شعره. تلك القنزعة ذات اللون الأصهب الناريّ التي تنتصب فوق رأسه جلبت له التهكّم واللطمات لسنوات، وأسوأ من ذلك أيضاً، فقد أوحت بنوع من النفور الفظيع. ذلك لأن الأولاد الصُهب ملعونون حسب تقليد التراث الصحراوي. هم ملعونون لأنهم ليسوا صهباً إلا بسبب أمهاتهم اللواتي حملت بهم خفية، وهكذا يحملون علامة واضحة لا تُطمس لهذا العار، وهي ليست سوى دلالة على هذا الدم الفاسد الذي لوّن شعورهم. ويمتد هذا العار حتى يشمل كل الجسد الحليبيّ المبقع بالنمش، ولكل شعرة من شعرهم، وحتى تطال رائحتهم، فلقد كان رفاق خير الدين يبتعدون عنه وهم يسدّون أنوفهم.
تعذّب الولد عذاب الشهداء، ثم كبر وجعلته قوته مخيفاً. ووصل إلى سنّ وضع فيها العمامة كي يخفي ما كان سبب الفضيحة. لكن كل شيء عاد من جديد بعد بضع سنوات عندما بدأت تظهر له لحية، التي لم تكن صهباء مثل شعره، إنما حمراء بشكل واضح، وكأنها حيكت من خيوط النحاس. لذلك فرض حينها صرعة غطاء اللحية، زينة لا يتخلّى عنها البتة، واتّخذها أفراد كتيبته المحيطين به بكل طواعية.
غير أنه لم يكفّ عن التربص لنظرات الآخرين، وإن حدث وتلكأت تلك النظرات فوق ذقنه سارعت يده إلى مقبض سيفه. الروم ألبسوه لقب “بارباروسا” المحتقر، وكان من حظهم أنهم يقطنون في الضفة الأخرى من البحر المتوسط فقد كان خير الدين سريع الغضب حيال هذا الأمر الخاص، بحيث ان المقربين منه كانوا يتفادون لفظ بعض الكلمات في حضوره مثل: ثعلب، سنجاب، أشقر، تبغ. ولا أحد يجهل أن مزاجه يصبح لا يطاق في الليالي التي يطفو فيها قمر أحمر في سماء ملبّدة.
وها هو بعد أن وصل إلى أوج سلطته يكتشف قوة الصورة، وأن الملك لا يمكنه أن يتجنب النظر إلى نفسه في المرآة. لذلك أخرج أحمد بن سالم من سجنه في صباح أحد الأيام وجعله يمثل أمامه.
– عرّفت عن نفسك كمصوّر ورسام رسمي للقصر، قال له.
– بالتأكيد يا مولاي، إنها مهمتي ولقبي.
– لنفرض أن هذه مهمتك ولقبك، ولكن ما هي وظيفتك؟
– ينبغي بي أولاً رسم وجوه علية وجهاء الحاشية. ويجدر بي أيضاً رسم الجماليات المعمارية وأبهة القصر، كي لا يجهلها أحد عبر الزمان والمكان.
أومأ خير الدين برأسه. كان جميلاً ما توقعه من الفنان.
– ولكن قل لي، لنفترض أن الوجيه الكبير الذي سترسم وجهه يعاني من عيب في شكله، ثؤلول، أنف مكسور، عين حولاء أو مقلوعة، لا أدري ماذا أيضاً. هل كنت لترسم هذا التشوّه كما هو أم أنك تحاول جاهداً إخفاءه؟
– مولاي، أنا رسام صور ولست متملّقاً. أرسم الحقيقة. شرفي يدعي الأمانة.
– هكذا إذاً، حرصاً منك على الأمانة لا تتردّد في أن تعرّف العالم كله أن لدى ملكك ثؤلول على أنفه؟
_ لن أتردّد البتة، لا.
حين شعر خير الدين على نحو خفيّ أن كبرياء الرسام الجسور قد تحدّاه، احمرّ من الغضب.
_ ألا تخشى أن يتأرجح رأسك فوق كتفيك؟
_ كلا، ذلك لأن نظرة واحدة من الملك إلى صورته سوف يشعر بالتكريم وليس بالاستهزاء من قبلي.
– كيف ذلك؟
– لأن رسمي سيكون صورة الملوكية نفسها.
– والثؤلول؟
– سوف يكون ثؤلولاً ملكياً أيضاً. لن يكون هناك أحد إلا ويتمنى أن يحمل واحداً مثله فوق أنفه.
اضطرب خير الدين أيما اضطراب من تلك الكلمات التي كانت تصدق بقوة انشغال باله. أدار ظهره للرسام وانسحب إلى جناحه، لكن أحمد استطاع العودة إلى مشغله. وفي اليوم التالي ذهب خير الدين ليراه ويسأله من جديد.
– أنا لا أفهم تماماً، قال له، كيف تستطيع أن ترسم بأمانة وجهاً غدا قبيحاً ومضحكاً بسبب تشويه دون أن تفشي وتذيع سرّاً في الوقت نفسه بشعاً ويدعو للسخرية. أنت تدّعي حقاً أنك لم تخفّف قط من تشوهات من يمثلون أمامك لترسمهم؟
– لم أخفّف منها قط، أكّد أحمد.
– ألا تجمّل أبداً؟
– أجمّل بالتأكيد، ولكن دون أن أخفي شيئاً. على العكس، أبرز، أشدّد على كل ملامح الوجه.
– أخشى أنني أفهمك أقلّ فأقلّ.
– ذلك لأنه يجدر إدخال الزمن في لعبة الصورة.
– أي زمن؟
– أنت تنظر إلى وجه فتراه لدقيقة أو لدقيقتين على الأكثر. وخلال هذا الزمن القصير، يكون الوجه مستغرقاً في انشغالات تافهة وتتنازعه مضايقات طارئة. بعد ذلك، سوف تحتفظ في ذاكرتك صورة رجل أو امرأة حطّ من شأنهما بسبب مضايقات سوقية. غير أننا لنفترض أن هذا الشخص عينه جاء يقف أمامي في مشغلي، ليس لدقيقة أو لدقيقتين، ولكن اثنتي عشرة مرة لمدة ساعة موزعة على مدة شهر على سبيل المثال. الصورة التي سأرسمها له سوف تُغسل من أردان اللحظة ومن آلاف التعديات اليومية الصغيرة، أشياء لا قيمة لها تثقل على كل شخص بابتذالها اليومي السخيف.
– لكن الشخص الذي يقف أمامك لترسمه سوف يسأم في فراغ وصمت مشغلك، ولن يعكس وجهه سوى خواء روحه.
– بالتأكيد، هذا إذا كان رجلاً أو امرأة عاديين، حينئذ نعم، أعيد فوق لوحتي تلك الهيئة الشاردة، والتي هي في الواقع قناع البعض حين ينسلخون عن الخارج ولا يعود يرهقهم. ولكن هل سبق وادّعيت أنني رسمت صورة أيّ كان؟ أنا رسام السريرة، وسريرة الكائن تشفُّ على وجهه ما إن تتوقف حركة الحياة السوقية، مثل أعماق البحر الصخرية بأعشابها الخضراء وأسماكها الذهبية التي تظهر أمام عيني المسافر حين تتوقف طبطبة المياه على السطح بسبب المجاديف أو النسمة العارضة.
صمت خير الدين لحظة، أما أحمد الذي لم يتوقف عن النظر إليه فقد راوده شكّ لأول مرة بأن ثمة جرح خفيّ كان يغطّي انتصارات المغامر الجسور.
– تلك الروح التي ترسمها فوق لوحتك، هل تختلف من إنسان لآخر، أم أنها سمة يشترك بها كل البشر؟
– إنها مختلفة جداً، وفي الوقت نفسه، ثمّة سمة مشتركة تتعلّق بالظرف الإنساني نفسه. البعض مثلاً يسكنهم حب كبير ـ سعيداً كان أو تعيسا ًـ البعض الآخر غارق في حلم الجمال، جمال يبحثون عنه في كل مكان ويجدون انعكاسه هنا وهناك. وآخرون أيضاً يتحاورون مع الله ولا يطلبون شيئاً من أجل صفوهم وهنائهم سوى حضوره الرائع والحنون. وآخرون…
– والملوك، ما هي سمة الروح الملكية؟
– الملك يسود والملك يحكم. وهما وظيفتان مختلفتان، لا بل متناقضتان. لأن الملك الذي يحكم يصارع يوماً بعد يوم، وساعة بعد ساعة البؤس والعنف والكذب والخيانة والجشع. وفي القانون هو الأقوى، ولكنه في الواقع يواجه خصوم مرعبين، وللقضاء عليهم هو مرغم على ردّ أسلحتهم الظالمة عليهم، أي بالعنف والكذب والخيانة. ويصيبه منها النصيب حتى تطال تاجه. بينما الملك السائد يلمع كالشمس، ومثل الشمس ينشر من حوله النور والدفء. الملك الحاكم تتبعه زمرة من الجلادين الفظيعين يُدعَون “القوة”. بينما الملك السائد محاط بالفتيات الحسناوات البيضاوات والمعطّرات يدعَين “العيش الرغد”. يقال أحياناً أن تلك الحسناوات يبرّرن أولئك الجلادين، لكن هذه كذبة إضافية عن الجلادين. هل يلزم أن أضيف أنني أرسم الملك الذي يسود وليس الملك الذي يحكم؟
– ولكن أسألك، ما قيمة العيش الرغد دون قوة؟
– شيء لا قيمة له، أوافقك الرأي، ولكن ما قيمة الأقوياء حين يتعمدون نسيان حياتهم الرغيدة، وحتى بعد أن يدمروها بضراوتهم؟ في الحقيقة، إن حياة الملك هي مراوحة دائمة ما بين هذين الحدَّين. مولاي حسن كان يبدو ملكاً ضعيفاً ومتردّداً. فلقد كان لا يحتمل أن يرى انعكاس صورته في عين الجلاد أو المجرم المحكوم بالإعدام أو الجندي البسيط. حينذاك كان يطلب رؤيتي، أو بالأحرى هو نفسه من كان يأتي لرؤيتي هنا. كان يدخل شاحباً، فاقد العزيمة، قرفاً من أعمال مهنته المنحطّة. كان ينظر إلى صوره، تلك الصور التي حطّمتها. كان يغتسل بنورها من كل أرجاس السلطة. يعود بنظرة واحدة وينتفخ اعتزازاً كملك ويستعيد ثقته بنفسه. لم أكن أتفوه بأية كلمة لكي أقوّيه. كان يبتسم لي ويرحل مطمئناً هادئاً.
ظاهرياً، كان ذكر العدو أمام خير الدين لا يروق له. هل يمكن مقارنته بهذا الأبله دون وقاحة؟ مع ذلك، هو ينام في سريره، ومع صوره يقيم الآن حديثاً!
– وماذا عن ذاك الكنز المشترك بين كل أبناء البشر؟
– عندما تُصمتُ كل صخب الحياة اليومية بحيث لا تعود تسمع سوى صوت الروح، هذا الصوت وعلى الرغم من أنه فرديّ، شخصيّ، لا يشبه أي كان، إلا أن ثمة ميزة داخل كل إنسان وتثبت لك أن هذا الصوت_ حين يوجد أقلّه_ هو نشيده العميق.
– أي ميزة؟
– النبل.
صمت خير الدين لبرهة أيضاً، وراح يفكّر ملياً بكل ما قاله له أحمد لتوّه. توجّه أخيراً نحو باب المشغل، وحين أوشك على الخروج التفت وقال:
– اعتباراً من صباح الغد، بعد شروق الشمس بساعة، ستبدأ رسم صورتي الرسمية.
ولج الباب لكنه استدرك وقال:
– بالأبيض والأسود. قال مؤكداً.
في اليوم التالي كان أحمد يقف مستعداً بالرداء الأبيض الناصع أمام لوحة كبيرة مصنوعة من شرائط البُردى الموصولة والمتراصّة فوق بعضها البعض بعد أن فُركت بزيت الصنوبر. فوق منضدة منخفضة كانت تنتصب في متناول يده حزم من ريش الرسم وأقلام الفحم وقوارير الحبر الصيني. كان هناك أيضاً كريات خبز طريّ لامتصاص الحبر، وصمغ اللكّ الأحمر اللون المذاب في الكحول كي يرش منه على الرسم لتثبيته. لم يعد ينقص سوى نموذج الرسم ليمثل أمامه، لكنه لم يحضر.
انتظره أحمد طوال النهار. وعندما هبط الليل، كانت لوحته مغطاة برسوم أولية تسلّى بها الرسام كي يغالب الضجر. كانت عبارة عن شكل أوليّ لصورة خير الدين من صنع ذاكرته، أي من بعد الفكرة التي تشكّلت في ذهنه. هل بدت له هكذا بسبب أصلها التجريدي والرمزي، أم لأنها اقتصرت على تظليل أسود فوق صفحة بيضاء؟ لم يكن ينبعث من هذا الوجه سوى انطباع القوة، لا بل العنف. كانت تثير الاضطراب في نفس أحمد وكان يتساءل لماذا لم يأتِ سيده الجديد يقف أمامه، ولماذا الصورة _ التي كان مرغماً على أن يصنعها من غير نموذج _ كانت تخلو إلى هذا الحد من السموّ المهيب الذي يتحلى به الملوك وحدهم. غير أنه أدرك أن هذين السؤالين يستدعيان جواباً واحداً لا غير. وحين ظهر خير الدين في اليوم الثالث في المشغل وتوقف مباعداً ساقيه ويداه على خصره أمام الرسم الأوليّ لصورته، انفجر بضحكة مجلجلة.
– أرى أنك لا تحتاج إلى وجودي إطلاقاً كي ترسم صورتي! وهذا أفضل صدّقني. أولاً لأن التفكير في أنني سأعرض نفسي لساعات لنظراتك الجريئة أمر يثير اشمئزازي كلياً. ثانياً: إن هذه الصورة تعجبني للغاية بسبب فرط القوة والبطش فيها.
– مولاي، ردّ أحمد. أحتاج إلى حضورك كي أرسم صورة حقيقية لك، صورة ملكية، ترمز إلى سيادتك على رعاياك وعلى أراضيك. وليس هذا كل شيء: يجب أن تكون الصورة بالألوان. وعندي شرط آخر أيضاً عليّ العمل عليه.
– ما هو هذا الشرط؟ زأر القرصان القديم.
– يجب أن توافق على خلع عمامتك وكذلك…
– وماذا أيضاً؟ صرخ خير الدين.
– وكذلك غطاء لحيتك، قال أحمد بشجاعة.
اندفع خير الدين نحوه شاهراً خنجره، لكنه تذكّر في الوقت المناسب أن هذا السلاح السخيف كان عبارة عن زينة فحسب، فاستدار وتوارى يتبعه أفراد حاشيته الذين كانت نظراتهم إلى الرسام تدلّ ما يكفي كم كان مستخفّاً بحياته.
بقي أحمد مضطرباً من هذا الموقف لوقت طويل، وراح ينتظر أن يُساق إلى السجن، ولكن لم يأتِ أي جندي في الأيام اللاحقة. في الحقيقة، كان الفراغ والصمت اللذان تُركا فيه أشدّ مدعاة للقلق من تهديد واضح. حاول العودة إلى العمل، لكن كل لمسة كان يضيفها إلى صورة خير الدين كانت تزيد من هيئته الوحشية، وهذا لم يكن مستغرباً بعد زيارته الأخيرة.
أخيراً قرر أحمد الذهاب لاستشارة امرأة كان يوليها ثقة كبرى، فيما لو سمحوا له بالذهاب، ذلك لأنها كانت تسكن في واحة بعيدة في قلب الصحراء. غير أن لا أحد انتبه إليه عندما غامر بالخروج من مشغله، وبعدها عندما خرج من القصر واستطاع بسهولة مربكة أن يضيّع الأثر مع خادم وجَمَلين.
كانت كريستين فنانة مثل أحمد، زميلة له خلاصة القول، ما عدا ذلك، كانت تختلف عنه اختلاف النهار عن الليل، فهي شقراء زرقاء العينين من أصول اسكندنافية، وقد أحضرت معها فنّها الذي وُلد من البرد. داخل الفيلّا التي تقطنها ذات البناء المنخفض والأبيض الغارق تحت أشجار النخيل، كان يُلمح خيال معقّد لأنوال حياكة كبيرة صُنعت من خشب غريب عن أفريقيا، من أشجار قيقب الشمال. من تلك الآلات المصنوعة بشكل رائع كانت تُخرج ساعة بعد ساعة، وبصبر لا حدود له، مناظر من الثلج، مشاهد صيد في الزلاجات، قلاع حبيسة في الصقيع، أشخاص يلبسون الفرو، مثل تلك التي لم يرها أو يتخيّلها أي أفريقي قط. أحياناً كان أحمد يُحضر لها إحدى لوحاته المرسومة على ورق مقوّى، وكانت تستوحي منها بمهارة وبراعة فائقة بساطاً، بأمانة كبيرة بالتأكيد، لكنه بساط يتمتّع بالثخانة والنعومة بحيث كان يجد صعوبة في التعرف على رسمه الذي تحوّل هكذا. ذلك لأن المادة التي كانت تستخدمها هي الصوف، أنعم وأدفأ ما تنتجه الحيوانات في حياتها. صناعة السجاد هي احتفال بواحدة من أكبر لقاءات الإنسان العاري بالحيوانية المبدّدة، بحريرها وزغبها وصوفها.
استقبلت كريستين أحمد كما كانت بالعادة تفعل بالألفة الخاصة بين الفنانين، يخفّفها التحفظ الخاص بأصولها الشمالية. كان أحمد قد جلب معه صورة خير الدين التي رسمها بالفحم. حكى لصديقته كل ما كان يعرفه وما قاساه مع القرصان القديم الذي أصبح سيد تونس. بدت كريستين مهتمة جداً بالحساسية المفرطة التي يبديها السلطان حيال لحيته وشعره. تواعدا على اللقاء الأكيد على أن تزوره في أقرب وقت، وسلك أحمد طريق العودة بعد أن بادل رسمه بسجادة مربعة تتألق فيها زهرة عباد شمس باهرة من تلك التي يزرعها سكان الشمال المحرومون من الشمس.
غاب خير الدين عن تونس لعدة أشهر كي يُخضع جنوب البلاد تحت سيطرته. حين عاد كان في أوج مجده، وكل المعطيات تدعو إلى الظن أنه أسس سلالة حاكمة ستدوم آلاف السنين. غير أن إلحاح إنهاء مسألة صورته الرسمية المثيرة للحنق لم تكن إلا لتزيده عذاباً. ذات صباح ظهر فجأة في مشغل أحمد. وفي الحال راحت عيناه تبحثان عن الصورة المرسومة بالفحم التي أعجبته أثناء زيارته الأخيرة، والتي على ما يبدو جلبت له حسن الطالع.
– لم تكن سوى صورة أولية، أجاب أحمد. لم تعد عندي.
– هل تجرأت على تخريبها، انفجر خير الدين وكأن شخصه بالذات هو الذي اعتدي عليه.
– على العكس، لقد أعطيتها لامرأة عبقرية. أنا واثق من أنها استخرجت منها أفضل نتيجة.
– أية نتيجة؟
كي يجيبه، اتّجه أحمد إلى أحد جدران المشغل الذي كانت تخفيه ستارة، وكشفه بحركة سريعة. أطلق خير الدين صيحة تعجب. ظهرت وراء الستارة للتوّ سجادة من الصوف الثخين. كانت بلونها الأصهب الموحد تصوّر منظراً خريفياً أوروبياً. تحت أشجار غابة مخفية داخل الأوراق الصفراء الميتة، تتسلّق الثعالب، تتقافز السناجب، يفرّ جمع من الأيائل. ولكن لم يكن هذا كل شيء، إذ إن المشاهد الواقف بعيداً ما يكفي وأكثر انتباهاً لمجمل التفاصيل، كان يرى أن كل هذه السيمفونية من اللون الأصهب الغالب لم تكن في الواقع سوى صورة، وجه يقدّم شعره ولحيته بغزارتهما مادة لعالم الغابة كله_ صوف حيوانات، أغصان وجذوع وأوراق أشجار، ريش طيور غدران برّية. نعم، كانت تلك اللوحة هي صورة خير الدين مختزلة إلى لونه الأساسي بكل تدرجاته، من أكثرها بهتاناً إلى أشدّها كثافة، تداعب العين بلطف ممتع. صورة جذّابة بديعة.
– يا له من تناغم! همس خير الدين بعد صمت طويل متأملاً بإعجاب.
– من صنعتها قادمة من شمال أوروبا، ظن أحمد أن عليه أن يشرح له. تستحضر هنا منظراً من وطنها في شهر تشرين الثاني، حين يعودون إلى موسم الصيد. إنه أكثر الفصول الشمالية ملوكية.
– هذه صورتي، قال خير الدين واثقاً.
– دون شك يا مولاي. هكذا هو فن كريستين. انطلقت من الرسم الأولي الذي أخذته مني، وفي ذهنها منظر خريفيّ اسكندينافي بسيط، لقد فهمت على الفور التشابه العميق بين وجهك وبين هذا المنظر، فأدخلت صورتك إلى تحت الغابة بحيث لا أحد يمكنه أن يحدّد ما هو ورق وما هو شعر، ما هو ثعلب وما هو لحية.
دنا خير الدين من الجدار ووضع يديه الاثنتين على السجادة الصغيرة.
– شعري، تمتم، لحيتي…
– هذا أنت بالذات في الواقع، وقد أرجِعتَ إلى مجدك كملك للأشجار، ملك للحيوانات بفضل شعرك وصوفك ولبدتك، قال أحمد.
وتذكّر في سرّه عبارة غامضة قالتها كريستين بعد أن ذكر لها صهبة خير الدين وأصله الشائن: “ما فعلته امرأة، وحدهما يدا امرأة يمكن أن تصلحه”، قالت.
كي يستمتع بنعومتها الخاصة، ألصق خير الدين خدّه بالسجّادة. ثم أدار رأسه وغاص وجهه فيها.
– يا لها من رائحة عميقة وزكية! قال بإعجاب.
_ إنها رائحة الطبيعة، رائحة ذوي اللون الأصهب، قال أحمد. إنها من صوف الخرفان البرّية، غُسلت بمياه شلال الجبل وجُففت فوق شجيرات الفربيون. نعم هكذا تفوّق صنع السجاد على الرسم: السجادة قدرها أن ينظر إليها بالتأكيد، ولكنها تُجسّ وتُشمّ أيضاً.
حينئذ، قام خير الدين بحركة غير مسبوقة، كانت لفداحتها قد ملأت قلوب أفراد الحاشية الذين يرافقونه بالخوف. بحركة مباغتة، خلع الغطاء الحريري الأخضر الذي كان يقمّط ذقنه، ورمى على الأرض عمامته الكبيرة. ثم هزّ رأسه مثل وحش يريد أن ينفش لبدته.
– بارباروسا، زمجر. اسمي السلطان بارباروسا! ليُقال هذا! أريد أن توضع هذه السجادة في مكان ظاهر وراء عرشي في صالة الشرف.
في اليوم التالي، مولاي حسن الذي كان قد حرّض لصالحه أمراء إيطاليا والبابا والإمبراطور شارل كانت، استعاد تونس بجيش مؤلف من ثلاثة آلاف رجل يحملهم أسطول في أربعمائة سفينة شراعية.
التجأ خير الدين إلى أوروبا بلد فصول الخريف الصهباء، حيث أصبح صديق الملك فرانسوا الأول. كان له العديد من المغامرات أيضاً، لكنه لم يعد إلى إخفاء شعره ولحيته البتة.
ميشيل تورنيه
ترجمة لينا بدر *