نحاول استقصاء مثال الجمال كما تَشَكَّلَ في باريس مطلع القرن العشرين باتخاذ مقاربة يتداخل فيها العنصر المعماري الهندسي الحديث بالعنصر التشكيلي البصري وبالمكوِّن الثقافي الذي يمكن تحديده في صعود ثقافة الترفيه من موضة وإشهار وغير ذلك. ولا مناص من التساؤل عن نوع هذا الجمال الذي تشكَّلت ملامحه في باريس في مطلع القرن العشرين.
-الميسم الأول: إنه مثال للجمال مغاير لمثال الجمال الإغريقي والأفلاطوني منه خاصة والمتَّسم بميسم الخلود والبقاء وبخاصية البقاء والدوام. إذا رُمنا تحديد مثال الجمال كما تبلور في باريس في هذا الأوان يمكن تخصيصه بما يلي: إنه جمال مقاوم للدوام ومعاند للخلود والأبدية، جمال محكوم بالزوال والعبور والتلاشي وينطبق عليه قول بودلير مخاطبا إياه:» يُحلِّق العابر مبهورا نحوك(المقصود هنا نحو الجمال)». فالعابر منبهر بالجمال ومشدود إليه مثلما أن الجمال لا يقاوم جاذبية العابر والفاني والزائل. ويمكن مماثلة الجمال العابر بالشهب الاصطناعية التي ما أن تلمع في السماء حتى تزول وتتلاشى.
-الميسم الثاني: يتمثَّل في أن الجمال الباريسي في العصر الحديث جمال يشهد على انتصار الاصطناعي l’artificiel على الطبيعي le naturel. لم يعد الجمال محاكيا للطبيعة بقدر ما صارت الطبيعة محاكية للجمال، لا نعثر عليه بقدر ما نصنعه صنعا ونعمل فيه زخرفة وتزيينا، ونضيف إليه ما ليس فيه إلى حدِّ المخاطرة بتشويهه. فجمال المرأة يكمن في أصباغها ومساحيقها وجمال المعمار يكمن في الأشكال الهجينة التي لا نعثر في الطبيعة لها عن مثيل وجمال الموضة يكمن في تآلف العناصر غير المتآلفة. كل هذا يعني أن معايير الجمال الباريسي تنحو منحى الشاذ والهجين مثلما يتبيَّن في الفن عموما وفي الرسم على وجه التخصيص. لم يعد الجمال متعاليا transcendant وإنما صار متدانيا immanent أو محايثا وصار يجد ضالته في الأشياء التي اعتُبِرت في أزمنة خلت خسيسة.
الميسم الثالث: يكمن في أن الجمال الناشئ في العاصمة الباريسية هو جمال تربطه علاقة حميمة بالشر ويحذو حذو القبح ويقتفي أثر اللذة المحرَّمة والمحظورة ويعشق كل ممنوع. إنه جمال محطِّم للمحرَّمات interdits لا يعترف بالحدود المرسومة بين الخير والشر وبين الجمال والقبح. من الآن فصاعدا لم تعد الموديلات في الرسم والنحت نساء أرستقراطيات ولا من البلاط بل صرن من المومسات والغانيات ومن بنات الشعب. وفي هذا الإطار يمكن الاستشهاد بالفضيحة التي أثارتها لوحة (Olympia) للرسام الفرنسي إدوار ماني التي تصوّر غانية بدلا من أرستقراطية. كما يمكن الاستشهاد يلوحة بيكاسو الشهيرة بعنوان «فتيات أفينيون»(Les Demoiselles d’Avignon) التي من المرجح أنها تصور فتيات أقرب إلى أن يَكُنَّ غانيات ولا شك أن بيكاسو اقتبس موضوعها من ماخور في برشلونة. هذا يعني أن الفن ابتداء من ذلك الحين أنزل المُثُل من عليائها والموديلات من الأرستقراطية إلى عموم الشعب. أما الأمثلة عن اقتران الجمال بمعايير مضادة كالقبح فكثيرة: إن مظاهر القبح في لوحات بيكاسو ظاهرة للعيان واستحالت على يديه إلى مصدر إلهام وإبداع. يكفي ذكر ما حفلت به لوحته «كيرنيكا» (guernica) من مظاهر القبح والبشاعة والفظاعة: حصان مجروح، امرأة تصرخ من الألم حاملة طفلها الميت بين يديها، في الخلف ثور يرمز إلى العنف والقسوة، أجسام متناثرة، رؤوس مهشَّمة في كل مكان. ورغم مظاهر القبح هذه فالجمال الفني في مجمله إدانة لبشاعة الحرب وفظاعتها. يتحوَّل القبح في الفن المعاصر إلى ذريعة لإدانة قبح الحرب، وهو ما يدل على أن الفن يتوسَّل بالقبح في سبيل نفيه.
يمكن الحديث إذن عن تشكُّل جماليات جديدة في باريس مطلع القرن العشرين والتي من علاماتها البارزة التَّجريب والاختبار والبحث عن ثقافة بصرية أو عن أيقونغرافيا iconographie جديدة ترمي إلى القبض على اللامرئي فيما وراء المرئي.
باريس مختبر الحداثة
قبل أن تكون باريس عاصمة الفن هي أولا وقبل كل شيء مختبر الحداثة منذ مطلع القرن العشرين. ففيها جُرِّبت الأشكال المعمارية الأكثر حداثة، والطرائق الفنية الأكثر جرأة وثورية. باريس أولا وقبل كل شيء فضاء espace احتضن منذ النصف الثاني من القرن 19 أحدث التعبيرات في مجال المعمار وتهيئة المجال، وفي ميدان الرسم والتصوير، وفي مضمار الموضة واللباس، وفي ساحة النقد والأدب. شكلت باريس في تلك الآونة ولا تزال مركز ثقل ومحور جذب لما يعتمل في إطار الحداثة من موجات فنية وتيارات جمالية. شهدت تحوُّلات هندسية ومعمارية هائلة جعلتها تنتقل من مجرَّد كوم من الأبنية الوضيعة المتداخلة فيما بينها من جهة وقصور فاخرة من جهة أخرى إلى حاضرة كبرى تتخللُّها شوارع واسعة ومنازل رائعة وحدائق غنّاء.
بأي معنى اعتبرت باريس منذ النصف الثاني من القرن 20 مختبر الحداثة laboratoire de la modernité؟
يعود فضل هذا التوصيف إلى والتر بنيامين الذي خصص لباريس كتابا كاملا بعنوان «باريس عاصمة القرن 19» (Paris capitale du 19e siècle). أولا ينبغي استيضاح ما معنى الحداثة وما دلالة هذا الاصطلاح؟
يمكن في هذا الصدد تعريف الحداثة بكونها سيرورة شاملة للمجتمع والسياسة ونظام الحكم والاقتصاد والعلم والتقنية والفكر والمعمار والفنون وترتكز على أسس يمكن إيرادها كالآتي:
– دنيوة العالم ويُقصد بها استبدال الاستعارات الدينية بالتصورات الدنيوية وبالتالي الانتقال من التصورات الأخروية إلى التصورات العَلْمانية.
– تفكيك البُنى الفكرية الخرافية والأسطورية للكون والمادة والفضاء والاستعاضة عنها بالبنيات العقلانية والمادية.
– خصخصة الاعتقاد وعلِمنة الإيمان والفصل بين الفضاء العمومي والخاص، وتعميم فكر التسامح.
– الاستعاضة عن الزمن الدائري بالزمن الخطِّي، وعن الفضاء اللاهوتي بالفضاء الهندسي.
أدى تضافر وتشابك هذه السيرورات إلى إفراز ظواهر ومفعولات ونتائج قفزت بمدينة باريس من مجرد عاصمة للإمبراطورية الثالثة إلى حاضرة حديثة وإلى فضاء معماري هندسي في أوج الحداثة ويمكن إيجازها فيما يلي: تصنيع هائل لا قِبَلَ به، وتعمير وعمران بلغ قمة التجريب أطلق إبداع المهندسين والمعماريين، وتطوُّر تكنولوجي لوسائل الاتصال من هاتف وبرق وتصوير فوتوغرافي، اتساع وسائل الاتصال والنقل الحضري خاصة مع اختراع القطار.
انعكس تطوُّر واتساع الفضاء الحضري لمدينة باريس على كيفية إدراك الإنسان الحديث القاطن بها. فسرعة التنقُّل وسيولة الحركة في ميدان المدينة الكبرى أدى إلى تزايد إدراك العالم على نحو متشظِّ وبطريقة أقل ما يمكن أن يُقال عنها أنها تسلسلية وتعاقبية، مما زاد في زخم الزمن وكثافته وحركيته. ولا غرابة أن تتطوَّر بالتالي تكنولوجية التصوير والاتصال وأن تُخْتَرع من ثم الصورة الفوتوغرافية. وذلك هو المدخل الأساسي لثقافة الاتصال وللعصر البصري عصرُ إمبرياليةِ الصورة وهيمنتها. لعبت حاضرة باريس دورا أساسيا باعتبارها قطب الرحى في تبلور الحداثة وفي إفراز علاقات اجتماعية جديدة أميل إلى الفردانية التي أفضت إلى تذرِّي العلاقات الإنسانية وتفكُّكها مما عزَّز الشعور بالوحدة والتوحُّد، وزاد في وحشة وعزلة الإنسان المعاصر.
باريس تجسّد تجليات الحداثة المعمارية والثقافية والجمالية في مطلع القرن العشرين ومختبرا لتجريب جميع الأشكال الفنية الطليعية. ولم يكن أن يتأتّى لها ذلك لَوْلا إعادة بناء وتصميم وتصوُّر جديد لمفهوم المدينة بوصفها حاضرة عالمية كبرى قادرة على احتضان كل ما يَعْتَمِلُ في المجتمعات الرأسمالية المتطورة، وضمُِّ كل ما يتفاعل داخل المجتمعات الاستهلاكية الحديثة التشكُّل والتكوُّن.
باريس فضاءُ الحداثة
ما أهَّل باريس لتتبوأ الصدارة في مطلع القرن العشرين ولتصير بالتالي عاصمة الفن هو أنها خضعت لإعادة بناء وتصوُّر ملائم للعصر. أولا بحكم أنها مرتع تطوُّر الرأسمالية، وساحة للصراع الطبقي وميدان للثورات الحديثة من الثورة الفرنسية الظافرة إلى ثورة 1848 الخاسرة. ثانيا بفضل إرثها التاريخي والثقافي المتمثِّل في فكر الأنوار. ثالثا وهذا هو الأهم، لأن باريس عرفت انفجارا سكانيا وطفرة تكنولوجية وثورة صناعية جعلت ضرورة تغيير فضائها وهندستها ومعمارها كمدينة أمرا مقضيا.
يمكن استخلاص دروس شتى من مقاربة والتر بنيامين – وهو أحدُ رواد مدرسة فرانكفورت- الذي يسائل مدينة باريس محاولا، انطلاقا من فك رموزها ومعمارها وهندستها وبالأخص من الناحية الفنية والجمالية، توصيف ورصد معالم وأمارات signes,symptômes الحداثة. من علامات باريس المعمارية يمكن رصد مناخها الثقافي الفني والجمالي. اتسم مطلع القرن العشرين بظهور- ليس هذا نتيجة صدفة بقدر ما أنه وليد تطوُّر تاريخي واجتماعي- معالم وأشياء معمارية غير مسبوقة كالممرات الأرضية les passages والشوارع الكبرى والمعارض العالمية les expositions universelles. ما طرأ عليها من تحوُّلات معمارية هندسية هو الذي أهَّل باريس إلى الدور الذي ستلعبه كحاضرة كبرى وحديثة حاضنة لأكبر المدارس الفنية المعاصرة.
أوُّل ما طرأ على الهندسة والمعمار من تحوُّل هو دخول الحديد والزجاج كمادة في البناء الحديث مما نجم عنه ميلاد محطات قطار كبرى مثل محطة سان لازار gare saint- lazare التي حظيت بمنظر للوحة كلود موني الشهيرة، وكذلك أدت تقنية البناء هذه إلى خلق باحات العرض الكبرى les grands Hall d’exposition لأنها من الضخامة بحيث لا يمكن بناؤها بالطوب والحجر.
بُنِيَ المشروع المعماري الجديد الرامي إلى تهيئة المجال والفضاء الباريسي والذي بلوره البارون هوسمان Baron Haussmann – وكان آنئذ يشغل منصب حاكم منطقة نهر السين بباريس- على تصوُّر ومفهوم جديد للحاضرة الباريسية ولفضائها، وقد رُمي من ورائه إلى إنشاء شوارع طويلة ذات آفاق مفتوحة ورحبة رغم أن الهدف المُضمَر مختلف لأنه توخَّى من توسيع الشوارع قطع الطريق على المتاريس المنشأة أثناء كل ثورة أو تمرُّد شعبي أو بروليتاري. تندرج رِؤية هوسمان لفضاء باريس ضمن تطوُّر رأسمالية المال. ولا غرابة في أن يراوده طموح غير محدود لتغيير ملامح باريس المعمارية لكي تصير عاصمة المال، وبالتالي الانتقال بها من مدينة رثة من القرون الوسطى إلى مدينة حديثة. واتسم مشروع هوسمان الرامي إلى تهيئة الفضاء الباريسي بالولع بالمحاور الكبرى axes grands و بالخطوط المستقيمة حتى ولو كلَّف ذلك هدمَ كل الأبنية التي تعترض طريقها. لا عجب أن يسمِّي نفسه بالفنان المدمِّر artiste démolisseur. فضلا عن الشوارع الواسعة والعمارة ذات الخطوط المستقيمة والمحاور الكبرى المؤدية إلى الساحات الشاسعة، اتسمت باريس بظهور وبميلاد عشرات الممرات التي، بفضل وصْلها بين مناطق متباينة، تعكس سرعة تحوُّل المدينة، بل هي نفسها تحوَّلت إلى مدينة داخل المدينة تصطف بين جوانبها متاجر فاخرة وأروقة باذخة، باختصار استحالت ‘إلى مدينة مصغَّرة. إلى جانب الممرات تحوَّلت باريس إلى مدينة للمعارض العالمية التي تجد لها في القاعات الكبرى مستقرّا وتُعدُّ مناسبة للاحتفاء بالطبقات الشغيلة وبنظام السلع.
مساءلة هذا الفضاء الجديد تضيء إلى حدّ كبير ما نتوخاه ألا وهو إبراز معالم الحداثة المعمارية التي كان لها أكبر الفضل في تحويل باريس إلى عاصمة الفن والموضة في العالم.
ما الذي توحي به باريس كمدينة بأشيائها المعمارية وبفضائها الحضري؟
ما الذي بمكن لباريس كحاضرة عالمية أن تلهمه من الناحية الجمالية والفنية للمتأمِّل والمفكِّر والناقد الفني والجمالي؟
من شأن القراءة البصرية لباريس أن تجعلها تبوح بأسرارها أكثر من بوحها للسائح وللباحث عن الاستجمام، ذلك ما تم لوالتر بنيامين المفكِّر والناقد والمحلِّل الثقافي. يقول بنيامين: «كل عصر يحلم بالذي يليه» ومعناه أن الحلم ينطبع في صور الوعي الجمعي حيث يتداخل الحديث والقديم، وما هذه الصور سوى صور راغبة على مقام اٍلآلات الراغبة لدى جيل دولوز Gilles Deleuze فما هي باريس بِحُسْبَان هذه القراء البصرية؟
وماذا تمثل باريس في الصور الراغبة أو في صور الرغبة؟ images désirantes ou images du désir ولأجل ذلك لا بد من استلهام الشاعر الفرنسي الكبير بودلير
باريس قبل كل شيء صورة ورؤية، باريس مجاز واستيهامة fantasmagorie في أنظار وخيالات المتسكِّع flâneur. تُفْشي باريس بأسرارها لا لمن يقيم في مكان بل لمن لا يقيم في مكان. لماذا؟ لأن المتسكع هو من يستطيع النظر إليها طالما هو في وضع ترحال وترحُّل دائمين. المتسكِّع لا يكون متسكعا إلاَّ لأنه نكرة وسط الحشود، ولكونه كذلك لا ملاذ له ولا مستقَرّ، فهو غريب دوما ومتوحِّد أبدا، قدره العزلة والوحدة والوحشة. المتسكِّع كما جاء في أشعار بودلير هو بمثابة سلعة لا أصل لها ولا فصل، إنه مُنْتَج اجتماعي للرأسمالية مثلما السلعة مُنتَج اقتصادي، إنه لقيط مثلها. هو ذات متشئية في مقابل موضوع متشيئ (السلعة). تقترن صورة المدينة بصورة المومس وبصورة الموت. تدل باريس بصريا على اشتهاء ورغبة، لكنها متمنِّعة مستعصية على من يشتهيها ويرغب فيها. وتدل فضائيا على ما يستعصي القبض عليه. ثمة ما يشبه السلعة الصنم التي تحكمها قيمة التبادل لا قيمة الاستعمال، ما يماثل المومس المستعصية على التملك، ما يوازي الوهم والسراب.
1-باريس والحداثة الفنية:
أ-في الأسلوب الحديث
الأسلوب الحديث الذي تشكَّلت ملامحه في العاصمة الباريسية هو نظامُ إدراك ونمط وعي بالعالم، لا يستقيم سوى باجتماع وتضافر جملة من العناصر والشروط: أولها رغبة جامحة في التجديد في كل شيء: في المعمار والهندسة، في التشكيل والفنون البصرية وفي الأدب وفنون الفرجة. ثاني هذه العناصر والشروط تَبَلْوُر حساسية غير مسبوقة وتتمثَّل في الوعي الكثيف بالزمن والسرعة وفي الإدراك العميق بزوال الأشياء وعبورها وتلاشيها إلى حدِّ تبلور وتشكُّل حساسية جمالية تحتضن في أحشائها كل ما هو عابر وزائل ومتلاشٍ. مما عزَّز الشعور بالوحدة والعزلة. تميَّز الأسلوب الحديث بالميِل إلى الشكلانية وبالإعجاب بهندسة الفراغ أو بالهندسة التي تركِّز على فراغ الأحجام لا على امتلائها والتي تستند إلى الخطوط الهاربة والمنفلتة lignes de fuite.
ما معنى الحداثة الفنية؟
الحديث le moderne يدل على الجديد دوما، أو حسب تعبير والتر بنيامين: «تعريف الحداثة مثل تعريف الجديد يكون في سياق ما كان دوما حاضرا»(1). إن تعريف الحداثة يستدعي فكرة الحضور الدائم أو بمعنى آخر الحديث هو الجديد دوما والحاضر أبدا، هو المماثل لنفسه والمشابه لذاته. هنا تحضر فكرة التكرار ولكن ليس بمعنى العود الأبدي وإنما بمعنى المماثلة التي، وهي إذ تتكرَّر تخلق المختلف، إنه التكرار الخلاَّق الذي يخرج دوما من رحمه شيء جديد. ولا يتأتّى رصد الجدة سوى في المفصَّل والصغير والجزئي لأنه هو الذي يضعنا وجها لوجه أمام الملموس والمتعيِّن وينآى بنا ما أمكن عن المجرَّد.
كل عصر يعتبر نفسه حديثا وله الحق في ذلك الادعاء. العصر المسيحي اعتبر نفسه حديثا، وكذلك عصر الإصلاح أما القرن التاسع عشر فهو حديث ولكن بدون أساس اعتقادي أو ديني إنما يرجع العامل الحاسم إلى التصنيع. الحداثة تتجسَّد-حسب والتر بنيامين فيما يسميه بالأسلوب المعاصر في المعمار (الفضاء الخارجي) كما في فنون الفضاء الأخرى مثل الديكور(الفضاء الداخلي) والذي تعتبر سمته المميِّزة الهوس والهذيان بالأبنية الضخمة. يتميَّز الأسلوب المعاصر الغالب على مدينة حديثة كباريس بالسمات التالية: ما برز تشكيليا حتى في أصغر التفاصيل هو انتصار المُبهَم والملتبس بل والمركَّب والهجين. مال الأسلوب المعاصر modern style وجهة الزخرفة والتزيين. فالأمر يتعلُّق فيما عُرف بالأسلوب الحديث ليس بالانفلات وإنما بالمنفلت أو فيما يتجسَّد فيه الانفلات، فيما يترك صدى طنين المدن الكبرى، وفيما يحمل أثر القوة الجارفة للصناعة والاقتصاد الحديث. من خاصيات الأسلوب الحديث أنه يعزز وجود الفرد المنعزل، كما أنه أسلوب يهيمن فيه الخواء على الامتلاء. يقول والتر بنيامين: «أهم شيء في كل العناصر الأسلوبية في البناء بالحديد وفي تقنية المعمار التي تدخل في تكوين الأسلوب الحديث هي هيمنة الفراغ على الامتلاء»(2).
اتََّبع الأسلوب الحديث في الفن مثلما في المعمار والأدب والشعر-و الذي بدأ في التَّشكُّل ابتداء من نهاية القرن 19 ومطلع القرن 20 في باريس- خطَّين: أحيانا خط الانحراف وأحيانا خط الصرامة. الأول يروم انتهاك القواعد والآخر يدفع بالصرامة إلى حدودها القصوى. أما الظاهرة المميِّزة لهذا الأسلوب فتتمثَّل في هيمنة الشكل الفارغ على الشكل الممتلئ. استلهم الأسلوب الحديث الأشكال المنبثقة عن التقنية وعلى رأسها الفضاء الفارغ. ولا شك أن لتطوُّر وهيمنة التقنية دوراً في تميُّز الأسلوب الحديث بميل ظاهر إلى الشكل الخالص. فالجسد شكل خالص قبل كونه حاملا لعلامة الأنوثة أو الذكورة، إنه إعلان عن اندثار أي علامة من هذا القبيل. بل ظهرت بوادر تشكُّل كل ما هو هجين وملتبس، ومن ثم لم تعد توجد حدود فاصلة بين المذكَّر والمؤنَّث بل أكثر من ذلك ظهر ميل مثلي. وهو الشيء الذي دفع إلى تحرُّر الجسد من قيم الفحولة والخصوبة على حدّ سواء. فالفرد هو الخاصيّة المميِّزة للأسلوب الحديث، يقول والتر بنيامين: «إن عزلة الفرد هي خاصية الأسلوب الحديث»(3). يوازي تشكُّل الأسلوب الحديث على المستوى الفني تصاعد الفردانية التي ما هي سوى المقابل الندي لنشوء الحشود الهلامية على المستوى الاجتماعي. في الوقت الذي يعيش الفرد وحدة قاتلة لا يجد سوى الجموع les masses التي لا هوية لها ولا اسم. فرضت الحداثة منذ ذاك الحين أسلوبها من حيث تمجيدها للسرعة والعدد والمفاجأة والتكرار والجدَّة. للجديد قيمته من حيث سرعة زواله، وللجمال بهاؤه بقدر كونه عرضة للفناء. تكمن قيمة الأشياء في تلاشيها، ومن الغرابة والمفارقة أنها لا تكتسي جِدَّتها إلاَّ إذا كانت أكثر عُرْضة للفناء. يقول بول فاليري:» من الغريب التعلُّق على هذا النحو بالجزء الفاني من الأشياء الذي يمثل بالذات صفة الجدة فيها»(4).
ب-في الموضــــة
سبق أن ذكرت بأن الأسلوب الحديث الذي تبلِوَرَتْ ملامحه في باريس شمل الهندسة والمعمار والتشكيل والفنون البصرية مثلما ذاع في الشعر مع بودلير وملارميه وخاصِّيته الأساسية هي الولع بالهجين والمهجَّن hybride وبالمصنوع والمصطنع artificiel. وليس من الغرابة في شيء أن تجسِّد الموضة خاصيتيْ الهجين والمصطنع، ولا عجب في أن تبدو وكأنها في سباق مع الزمن ولا في أن تنصِّب نفسها كما لوْ كانت حاضرا دائما. لهذا لا يمكن أن تكون باريس عاصمة الفن والجمال لولا ارتباطها العضوي بالموضة.
باريس عاصمة الموضة تلك من أمارات الحداثة الباريسية التي لا تنفصل عنها. وعندما نتطرق إلى الموضة فلكي نكشف عن وجه من أوجه الحداثة الجمالية والفنية للحاضرة الباريسية. وأول ملاحظة يمكن إبداؤها هي كالآتي: لا شيء أكثر عرضة للفناء والتلاشي من الموضة. وما دامت الموضة من أبرز تجلِّيات الحداثة فهي تعكس خاصية الفناء والتلاشي الملازمة لها، ليس بالمعني السلبي وإنما بمعنى ما يتجدَّد، علما بأن لا جديد بدون أن يكون عرضة للزوال، إنما الزوال هنا ليس لقديم تقادم وتآكل وإنما للجديد الذي لا ينبثق حتَّى يكون في حكم الزائل. تلك هي ظاهرة الموضة بل وخاصيتها المكوِّنة.
وفي أهمية الموضة في زمن الحداثة يقول ألفونس كار Alphonse Karr: «لا شيء يكون محدد الموقع بل الموضة هي التي تحدد لكل شيء موقعه»(5). تحدِّد الموضة موقع الأشياء فتضفي عليها القيمة أو تسلبها منها، وتكمن أهمية الموضة في قدرتها على السبق والاستباق anticipation لأنها على صلة دائمة مع ما يروج في العالم ومع ما يعتمل في الواقع. بحكم التصاق الموضة باللحظة فإنها تنطوي على العلامات الدَّالة على ما يخبِّؤه المستقبل، وبفضلها يمكن استشفاف واستشراف الآتي. من يقرأ الموضة جيِّدا يعلم مسبقا ليس اتجاهات الذوق فحسب بل والنزعات الفنية أيضا. فاعل الموضة وحاملها هي المرأة التي، بفضل حسِّها وغريزتها، يمكنها استباق واستشراف الآتي. يمكن أن نعرف روسيا بحكاياتها الشعبية والسويد بأساطيرها وانجلترا بقصصها الإجرامية أما باريس بل وفرنسا عموما فلا سبيل إلى معرفتها سوى بالموضة كما قال Gutzkow. تتمثل سمة الموضة في أنها تشكِّل ظاهرة جديدة وسط كل الأشياء القديمة والعادية. بعبارة أخرى ليست الموضة شيئا فذا أو حدثا عبقريا بل يكمن سرها- إن كان في الأمر سرا- في أنها استحالت في سياق محدَّد إلى شيء جديد. تملي الموضة ذوقا عاما على الجمهور، وتفرض نظاما جديدا في السلوك والعيش واللباس. يقول والتر بنيامين: «إن هذا المشهد-أي ميلاد ما هو جديد، في عصر ما من بين الأشياء العادية- هو الذي يخلق هذا المشهد الجدلي للموضة»(6). الموضة ظاهرة جماعية أو هي أشبه بحلم جماعي يهاجر إلى منطقة أو إلى فضاء سديمي لا سبيل إلى سبر أغواره هو فضاء الموضة. فهي تمنح للمرأة مظهرا معاصرا. تسهم الموضة في إضفاء نوع من السرمدية على العابر والمنفلت والزائل، أو بعبارة أخرى تخلِّد الفاني. في الموضة يتجلَّى المؤقت والفاني والعابر ولكنها توهم بأنه دائم وخالد. الموضة لا تدوم إلاَّ وقت ظهورها وزوالها، تلك هي علاقتها بالزمن، علاقة عبور فحسب. لا تموت الموضة سوى لأنها مدينة للزمن، وهي تموت وتفنى بمجرَّد عجزها عن مجاراة إيقاعه. بالزمن تحيا وبسببه تموت. يقول رولان بارت في علاقة الموضة بالزمن: «بمجرد ما يلتقي مدلول الموضة signifié بالدال signifiant (اللباس) تصير العلامة signe موضة العام ولكن هذه الموضة ترفض بشكل صارم الموضة التي سبقتها، أي ترفض ماضيها الخاص. كل موضة جديدة هي رفض للاستمرارية وانقلاب على هيمنة الموضة القديمة. تُعاش الموضة كحق، حق طبيعي للحاضر على الماضي.»(7).
من خصائص الموضة أنها توتُّر بين الأضداد وهي مدفوعة بمجرد تخليها عن شكل إلى أن تلوذ بنقيضه. باريس عاشت على إيقاعات الموضة ولا تزال، ولا سبيل إلى فهم الحياة الباريسية بدون الموضة. تعج حاضرة باريس بعروض الموضة التي تعكس أساسا روح هذه المدينة. بقدر ما هي مختبر الحداثة المعمارية هي أيضا مختبر لتجريب الأشكال والأسلوب، ومختبر للموضة. حلت في باريس عاصمة الفن والجمال أنماط من الموضة، وفي قائمتها موضة الرياضة وسباق الخيل، ومن الآن فصاعدا لم تعد المرأة نموذجا للأناقة التقليدية وإنما صارت المرأة أساسا تعبيرا رياضيا وهي تمتطي الدراجة وترتدي اللباس الرياضي.
اقترنت الموضة دائما بالحاجة إلى الإثارة سواء في تسريحة الشعر وتصفيفه أو في كيفية اللباس أو في ارتداء خمار أو معطف. إنها كلها علامات دالة على طور تاريخي ووضع اجتماعي ميسمه الحداثة في نمط العيش وفي كيفية السلوك المتحرِّر تدريجيا من الماضي الذي ميَّز باريس في بداية القرن العشرين. يمكن انطلاقا من الموضة فك رموز المجتمع الباريسي: فالموضة سبيل إلى التميُّز الاجتماعي مثلما أنها تعكس روح العصر والذوق العام، إنها-أي الموضة- محاولة للِّحاق بركب الأحداث، وهي مجاراة للزمن والوقت في سرعته وحركته. كيف إذن يتسنَّى أن نستشف من الموضة ما يمكن اعتباره دافعا اجتماعيا للتمايز في الوسط الباريسي؟
يذهب شارل بلون Charles Blanc في النص الذي يورده والتر بنيامين وهو بعنوان «تأملات في لباس النساء»(considérations sur les vêtements des femmes) إلى أن انتصار البورجوازية غيَّر لباس المرأة الذي لم يعد يعكس أي قيد عائلي أو أسري، وبالتالي لم يعد لباسها ولا زينتها يشيران إلى أنها ربة بيت. واستحالت الموضة من جهة أخرى إلى وسيلة للتميُّز الطبقي، إنها حاملة لدافع هو رغبة الطبقات العليا في التميُّز عن الطبقات الدنيا أو الوسطى. فالطبقات الأولى تنخرط في سباق مرير يؤمِّن لها التميُّز ويضمن لها مسافة سبق زمني على الطبقات الدنيا. تسير الموضة من الأعلى إلى الأسفل لا من من الأسفل إلى الأعلى. ولهذا السبب تكتسي الموضة طابعا استبداديا لأنها تثبت جدارة ما لصاحبها الذي لا يملك عنها فكاكا، وهي التي تؤهله لكي لا تتجاوزه الأحداث ولا يتخلَّف عن الرَّكب. ولم يفت رولان بارت الإشارة إلى الطابع الاستبدادي للموضة. فهي تؤسس نظاما صارما من العلامات التي بمقتضاه تتخذ الأشياء الاعتباطية مظهر المعقولية وتصير وكأنها تمتثل إلى قانون عقلاني. يقول رولان بارت:» بعبارة أخرى وفي الوقت الذي تؤِسس فيه الموضة نظاما صارما من العلامات، فإنها تعمل على إضفاء طابع المعقولية على تلك العلامات»(8). وهذا يدل على أن الموضة دلالة أو علامة قبل أن تكون وظيفة. وفقا لهذا الاعتبار ينفصل اللباس عن وظيفته الأصلية ليكتسي دلالة تجعل وظيفته لا تكتسي سوى صبغة ثانوية من قبيل المصطنع والمستعار: فالقبَّعة الأمريكية ليست للوقاية من الشمس بل علامة عن الغرب الأمريكي والسترة الرياضية لا وظيفة رياضية لها. تنطوي الموضة-حسب رولان بارت- على بلاغة Rhétorique أي على قوة الإشارة أو القدرة على الدلالة التي تقترن في أغلب الأحيان بالتميُّز الاجتماعي أو بالحرص على التفرُّد الذهني والثقافي، وفي كل الأحوال الموضة بالمعنى الوارد هنا هي ظاهرة رأسمالية ومرتبطة بنظام رأس المال. للموضة عموما-حسب والتر بنيامين- علاقة بتطور الاقتصاد الرأسمالي أو اقتصاد السوق وسيادة قيم التبادل على حساب قيم الاستعمال، وهيمنة نظام السلعة ومنطقها. ويذهب جورج سيمل G.Simmel إلى أبعد من ذلك عندما يعتبر أن اختراع الموضة يندرج في إطار التقسيم الرأسمالي للشغل حيث يقول: «لا وجود لسلعة تصير موضة وإنما تُبتكر السلع لتصير موضة»(9) وهو ما يعني أن السلعة ليست موضة وإنما نحن الذين نجعل منها موضة وفق القانون المنظم للشغل في المجتمعات الرأسمالية. ولا غرابة في أن تصير باريس عاصمة الموضة لأن الرأسمالية بلغت فيها شأوا بعيدا.
ما يثبت أن الموضة منتوج رأسمالي هو كونها كلما تبدَّلت صارت أرخص، وكلما صارت زهيدة السعر كانت أكثر استهلاكا، وكلما صارت كثيرة الاستهلاك تبدلت نزعاتها سريعا. إنه بمثابة دورة إنتاج رأسمالية خاضعة في قاعدتها إلى التوزيع الرأسمالي للشغل. أضف إلى ذلك- وهو ما لا ينبغي أن يغرب عن الذهن- أن الموضة تنطوي على شحنة إيروتيكية تستدعي عرضها بطريقة مُغرية ومشتهاة وهو ما لا تستطيعه سوى المرأة وحدها.
اقترنت الحداثة الباريسية بظاهرة الموضة التي صارت من سماتها الأساسية. ويمكن اعتبار الموضة بمثابة الوجه الزائل والفاني للحداثة الجمالية، بينما وجهها الآخر هو الفن. لقد جعل كل من بودلير وبلزاك من الموضة قضية جمالية في الأزمنة الحديثة. يقول والتر بنيامين في تأملاته الفلسفية حول الموضة ما يلي: «كلما كان عصر ما آيلا للزوال والفناء صار أكثر تبعية للموضة»(10). وما لاشك فيه أن العصر الحديث والحياة الباريسية تخصيصا موسومة بالظواهر العابرة والزائلة، مما استدعى خلق جماليات مخصوصة هي جماليات الزوال والعبور التي تجد تعبيرها الأقصى في الموضة، لأنها والزوال شيء واحد. تخلق الموضة عالما اصطناعيا يسوده ميل زخرفي أو لنقل ميل إلى التنميق والزخرفة وهو ما يسميه فوسيون في كتابه (حياة الأشكال)(La Vie des formes) بشعرية الزخرفة التي يُطلَق فيها العنان للخيال الخلاَّق والمُبْدع.
2-باريس عاصمة الفن
ما أقصر الطريق بين الموضة والفن. يمكن القول أن الموضة هي الوجه الآخر للفن وأن الفن هو الوجه الآخر للموضة. ولكن بأي معنى؟ يلامس الفن الموضة في سرعتها وزوالها، وفي تعاقبها وفي إلغاء السابق منها اللاحق، أما الموضة فهي تتوق إلى أن تُماثل الفن وتحذو حذوه وتتعقَّب خطواته في إبداع أشكال جديدة. يمكن اعتبار الموضة بمثابة الوعي الشقي للفن، بمعنى أنها تعاني من إخفاقها في التَّشبُّه به فضلا عن كونها تجسِّد ما بلغته الرأسمالية من شأو بعيد في تكريس صنمية السلعة. ومهما يكن من أمر فباريس هي عاصمة الفن والموضة معا، ومثَّلت وما تزال فضاء لبلورة الأشكال الفنية ولابتكار صرعات الموضة.
استحالت باريس إلى عاصمة للفن منذ نهاية القرن 19 ومطلع القرن 20 يؤمها الرسامون، إن لم يكن للإقامة بها فعلى الأقل لارتياد فضائها، وبالتالي صارت معبرا ضروريا لكل فنان ولكل رسام، إما لاكتشاف تقنيات جديدة أو لإبداع أشكال غير مسبوقة، إنها تحولت إلى مرتع لاختبار طرائق ثورية في الإبداع وتجريب أساليب راديكالية في الخلق والابتكار وهو ما أسهم في تحقيق طفرات فنية هائلة. يعود الفضل في تحوُّل باريس إلى عاصمة عالمية للفنون إلى صالونات العرض لأنها تشكِّل صلة الفنان الحديث بالجمهور فيما كان في مراحل خالية رَهْنَ الفضاء الديني للكنيسة.
أ-الفن وصالونات العرض في باريس
حفلت باريس بالمعارض والصالونات المخصًّصة لعرض لوحات الرسامين الرومانسيين في البدء أمثال أوجين دولاكروا وتلاهم فيما بعد الرسامون الانطباعيون أمثال إدوار ماني وكلود موني وكوروبي Courbet، وأعقبهم الرسامون ذوو المنزع الوحشي أمثال ماتيس ودوران Matisse, Derain وآخرون. كانت صالات العرض تمثل مؤشِّرا حاسما ودليلا بارزا على تطوُّر الفن عموما والرسم خصوصا حيث قُيِّد للفن أن ينتقل من مرحلة رعاية الفن mécénat إلى مرحلة سوق الفن marché وهو ما أسهم في استقلالية الفنان وفي إرساء ذاتيته، ودعَّم عدم تبعيته لرعاة الفن وعدم خضوعه سوى لمنطقه الداخلي ولمتطلَّبات الإبداع. كانت المعارض هي المحك الحقيقي لمدى أصالة الفنان، وهي المختبر الواقعي للتجارب الفنية فضلا عن كونها معبر الأعمال الفنية إلى الجمهور. لكن من الخطأ الاعتقاد بأن للمعارض هذا الوجه الإيجابي فحسب، بل كانت أيضا حلبة للصراع بين سدنة وحماة الفن الرسمي وفرسان الفن المتمرِّد. عكست صالونات العرض صراعا مريرا بين المنافحين عن القواعد الكلاسيكية ودعاة التجديد والتجريب، بين الرسم الأكاديمي والرسم المتمرِّد. وكثيرا ما رُفضت اللوحات الجريئة والصادمة للذوق العام وأُقصيت من الصالونات الرسمية. ساد صالونات العرض شدٌّ وجذْبٌ بين إيديولوجية الفن المحافظ وجمالية الفن الثوري. فاشتهرت صالونات بعينها بعرض الأعمال واللوحات الفنية الصادمة للذوق العام لكونها تؤسس لجماليات مضادة مثل صالون «الفنانين المرفوضين» Salon des réfusés الذي اكتسحته لوحات الرسامين الانطباعيين، وبرزت صالونات أخرى مثل «صالون المستقلِّين» Salon des indépendants الذي احتضن لوحات الاتجاه الوحشي fauvisme، فضلا عن «صالون الخريف» Salon d’automne الذي عُرِضت فيه لوحات التكعيبيين وعلى رأسهم بيكاسو.
من العلامات الدّالة على الصراع المحتدم بين روَّاد الحداثة في الرسم وسدنة التقليد والذي يرجع الفضل في تأجيجه إلى صالونات العرض، يمكن الاستشهاد ببعض اللوحات التي أثارت جدلا فنيا وسجالا جماليا واسعا، بل أكثر من ذلك كان لها مفعول الصدمة من مثل لوحة (غذاء في العشب) (Déjeuner sur l’herbe) للرسام الانطباعي الشهير إدوارد ماني. لا يبدو للوهلة الأولى أن اللوحة تمثٍّل موضوعا شاذا، فهي لا تعدو أن تصوِّر امرأة عارية بين رجلين ليست المشكلة تكمن في عري المرأة بل كل تاريخ الرسم الغربي حافل بهذا الموضوع. مصدر الصدمة هو الوقاحة التي عُرِضت بها خصوصا في سياق خاص يتمثَّل في وجودها بين رجلين يرتديان لباس الطبقة البورجوازية الصاعدة. وعُدََّ هذا العمل الفني رديئا من الناحية التقنية بسبب عدم احترامه لقواعد المنظور والتخطيط والرسم.
و ما اعتبر عيبا هو في الحقيقة تجديد لأنه إرهاص لجماليات جديدة لا تعير انتباها ولا تلقي بالا إلى قواعد الرسم الأكاديمي. كما أثارت لوحته (أولمبيا) (Olympia) جدلا كبيرا في الأوساط الفنية واعتُبرت صادمة إلى أنها لم تلق ترحيبا حتى من أحد الانطباعيين الكبار أمثال كوروبي Courbet الذي قال عنها: « إنها سطحية وتفتقر إلي نموذج مجسَّم»(11). ولكن يمكننا أن نتساءل عن السبب الذي جعلها تبدو في أعين النقاد صادمة؟ وإذا التمسنا الجواب يمكن أن نجده في التفسير الآتي: لأن لوحة «أولمبيا» لا تصوِّر مثال المرأة ولا تتضمَّن أمْثَلَة idéalisation لها بل تقدِّمها في دنسها إلى حدِّ أن البعض قال عنها أنها مومس. لقي الرسامون الانطباعيون معارضة قوية من طرف هيأة تحكيم صالونات العرض التي رفضت كثير من لوحاتهم.
احتضنت أرجاء باريس وفضاءاتها معارض مضادَّة مثل معرض الفنانين المرفوضين Salon des Refusés الذي أُحدِث بمبادرة من نابليون الثالث نفسه من أجل احتضان اللوحات المرفوضة من طرف لجان التحكيم لأكاديمية الفنون. وقد مثَّل «صالون المرفوضين» لحظة أساسية في انبثاق الفن الحديث»(12). وأعقبه إنشاء صالون آخر يُدعى صالون المستقليِّن Salon des Indépendants الذي عرض فيه بيكاسو وماتيس. شكلت صالونات العرض إذن مختبرا للنزعات الفنية ومرتعا للموضات الثقافية، فكل نزعة فنية جديدة وكل مذهب فني لا يجد طريقه إلى الملأ وإلى الجمهور سوى إذا مرَّ من المعارض والصَّالونات. إنها بمثابة مختبر لذوق الجمهور مثلما هي مناسبة لترويج الفن وتسويقه إن جاز القول. بل أكثر من ذلك إنها تساهم في خلق الحدث الفني الذي لا يكون في الغالب متوائما مع الذوق العام أو الذوق الساري المفعول، وكثيرا ما كرَّست المعارض مدرسة أو اتجاها في الرسم كان ممجوجا من وجهة نظر الذوق العام. وكثيرا ما أثارت معارض لفنانين ورسَّامين في البداية فضائح جمالية ولكنها كُرِّست كأعمال عظيمة مع مرور الوقت.
ج- متاحف باريس
ليست صالونات العرض وحدها ما خلق ديناميكية لا مثيل لها في مجال الفنون بل كان أيضا لإنشاء المتاحف musées دور أساسي إذ افتتح متحف اللوفر أبوابه أمام الجمهور. واستطاع لويس فيليب جلب أبرع اللوحات إليه مثل لوحات فيلاسكيز Vélasquez وريبيرا Ribera. يرجع الفضل في إحداث اللوفر كمتحف إلى نابليون بعدما كان قصرا لملوك فرنسا مباشرة بعد اندلاع الثورة الفرنسية وانهيار الملكية.و بمجرَّد تتويجه سارع نابليون الثالث إلى البدء في أشغال كبرى من أجل توسعته.
نتطرَّق إلى الدور الذي لعبه المتحف وخصوصا متحف اللوفر مسترشدين بالسؤال التالي: بأي معنى يمكن اعتبار المتاحف حافزا للفن على تجديد نفسه وسلخ جلده وهي التي يُناط بها مهمة حفظه. ألا يوجد تعارض بين حفظ الفن وحفزه، ألا يُحيل لفظ حفظ على السكون ولفظ حَفْز على الحركة؟ مهما يكن من أمر هذه التدقيقات اللفظية فإن مفهوم المتحف يُحيل ضرورة إلى لزوم توفُّر ثقافة متحفية أي ثقافة حافظة للذاكرة الفنية. وبالفعل أُنشئ متحف اللوفر لهذه الغاية. لما تقرر أن تتخلَّى الأسرة الملكية عن منتخباتها الفنية وخاصة الملك فرانسوا الأول، وأُنشئ لغاية أخرى وهي تقديم أمثلة ونماذج عن الجمال في جميع العصور للأجيال الصاعدة. فالمُرام هو ضمان قدر من التربية الجمالية ومن تربية الذوق العام الذي مثَّل هاجسا منذ فلسفة الأنوار. إن الغاية من المتاحف هي تربية النوع البشري فنيا وجماليا.
من أجل هذا الغرض ضمَّ اللوفر بين أروقته ليس أعمالا فنية فحسب وإنما تحفا وروائع فنية ويلخِّص تاريخ الفن في ذروته. أنشئ متحف اللوفر سنة 1793 ويغطِّي مراحل تاريخ الفن من العصور الوسطى إلى سنة 1848 أما ما بعدها –ابتداء من المرحلة الانطباعية- فنُقل إلى متحف دورسي الذي فتح أبوابه سنة 1986. يضم متحف اللوفر أعمالا كُرِّست من قٌبَلِ النقاد ومؤرِّخي الفن كروائع عالمية. يكفي ذكر الجوكاندا La Joconde للرسام الإيطالي الشهير ليونار دي فانسي Léonard de vinci و«الحرية تقود الشعب» La Liberté guidant le peuple للرسام الفرنسي دولاكروا Eugène Delacroix لتقدير مدى ندرة وأهمية الكنوز الفنية التي يضمها متحف اللوفر في أروقته. تغطي تحف اللوفر وروائعه أهم محطات تاريخ الفن من نحوت بابلية وآشورية وسومرية وأهمها رأس حمورابي مكتشف القوانين. ويشمل معرض اللوفر تمثال «الكاتب» (le Scribe) من مصر الفرعونية. أما العصر الكلاسيكي اليوناني فنجده ممثَّلا في نحت «فينوس ميلو» (Vénus de Milo) الذي يُنظر إليه على أنه يمثِّل قمة الفن الكلاسيكي. ويمكن إبداء ملاحظة أساسية وهي أن النحت عند اليونان بلغ شأوا بعيدا في تشريح الجسم الإنساني واتجه نحو اكتشاف الحركة بينما لا وجود للحركة في النحت المصري الفرعوني مثل نحت «الكاتب» فهو أقرب إلى السكون منه إلى الحركة. يشمل اللوفر أعمال ولوحات ونحوت عصر النهضة الإيطالي مثل لوحة ليونارد دي فانسي «موناليزا» ومجموعة لوحات لرفائيل والنحت المثالي الرائع لميخائيل أنجلو المسمَّى «داود»(David) الذي هو بمثابة مديح لجمال الجسم الإنساني. ويضم اللوفر في رحابه روائع الرسم الهولندي من مثل أعمال روبنس Rubens ورامبرانت Rembrandt هذا الأخير الذي اشتهر بإبداعه اللون الداخلي الذي يشع من شخوصه وليس له مصدر خارجي.
يمكن استعارة مصطلح «المتحف الخيالي» Le Musée imaginaire من أندريه مالرو لفهم شيء أساسي وهو أن كل متحف، إن لم يكن يمنح الخلود والأبدية للأعمال الفنية، فإنه على الأقل يخلِّصها من نوائب الدهر وعاديات الزمن. يطمح كل متحف – واللوفر على رأس متاحف العالم- إلى منح الحضور والحياة لكل ما يمكن أن يكون في حكم الموت والزوال، به تصير الأعمال الفنية معاصرة للناظر وكأن المتحف يُوِقفُ الزمن لحظة في انتظار أن تبوح بتلك الأعمال بأسرار الكينونة وألغاز الوجود. في رحاب المتحف نسبر أغوار الخلود والأبدية ونستكشف فيما وراء المرئي ما يَنِدُّ عن الرؤية وفيما وراء الزمن ما لا يجري عليه زمن. المتحف- وهذا ينطبق على اللوفر كما على كل متاحف العالم- أوسع من مجرد فضاء للعرض، إنه مقاومة للزوال والموت ورغبة في الدوام.
ب- فضاء وأحياء باريس والفن الجديد
و حتى نستطيع الإلمام ببعض من أوجه الحداثة الفنية نقوم باستقصاء ما لباريس من أفضال على ثلة من الرسامين، ونرصد بالأخص كيف انعكس الفضاء الباريسي على لوحات أشهر المجدِّدين في الفن عموما والرسم تخصيصا. يوجهنا في هذا الصدد سؤال أساسي وهو الآتي: كيف انعكس الفضاء الحضري الباريسي في أعمال ولوحات أكبر رسَّامي القرن 20، علما أن باريس لم يكن ليُقَيَّد لها أن تكون عاصمة الفن لولا أنها شهدت تحولا معماريا كبيرا بإيعاز وتصوُّر من البارون هوسمان الذي أعاد هندستها على أساس أن تكون عاصمة عالمية فسيحة الشوارع والساحات، مستقيمة الخطوط. سيبدأ سريان هذه التحوُّلات المعمارية والفضائية علي إيقاع ميترو باريس الذي تم تدشينه سنة 1900 وسيكون له أكبر الأثر في تغيير نمط الحياة الباريسية من جهة انتظامها على إيقاع السرعة التي تتيح التنقل في أرجاء المدينة بدون عناء. ومنذ ذلك الحين سيزحف التطور العمراني والطرقي على الضواحي.
نسلِّط الضوء على تفاعل الرسامين الكبار مع أرجاء باريس وأحيائها وفضاءاتها الحديثة ونستوضح كيف كان لتصوريها في أغلب لوحاتهم أعمق الأثر في تطوُّر الرسم في مبتدأ القرن20 وبخاصة مع الانطباعية. يمكن إيجاز الأماكن التي خلَّدها الرسامون في لوحاتهم في الأمكنة ذات البعد الحضري dimension urbaine. ويمكن تصنيفها إلى ما يلي:
-أمكنة المرح وأوقات الفراغ كالمقاهي والحانات والمراقص التي تدلُّ على صعود ثقافة الترفيه في المجتمعات الرأسمالية.
– وأمكنة عمرانية جديدة مثل الشوارع ومحطات القطار الكبرى(سان لازار) والأحياء الثقافية ذات الصيت الفني الذائع مثل حيّ مونتمارتر Montmartre. وبصدد أحياء باريس ذات الصيت الفني والصدى الجمالي لا يمكن ألاَّ نذكر حيَّين ذاع صيتهما في العالم: حي مونتمارتر وحي مونتبارناس Montparnasse. يمكن اعتبار هذين الحيَّين يمثِّلان ذاكرة باريس الثقافية والفنية بما يحملانه من ثقل تاريخي ومن زخم فني وإبداعي.
-حي مونتمارتر:
اشتهر هذا الحي باحتضان الحركات الطليعية في الفن والتيارات الفوضوية في السياسة. لنستوضح أولا مصطلح «طليعة»: لا يخفى ما لمصطلح الطليعة Avant-garde من دلالة حربية وعسكرية -إذْ كان يشير إلى الفِرَقِ المتقدِّمة في ساحة المعركة- لكنه تعرَّض لانزياح دلالي فصار يدل على النخبة الثقافية والفنية والسياسية الثورية التي قطعت مع المؤسسة الرسمية وخاضت تجارب راديكالية تنتهك وتخترق معايير وقواعد الفن الرسمي والأكاديمي. تلك إذن هي «الطليعة» التي وجدت في حي مونتمارتر مستقرا لها. عاش حي مونتمارتر عصره الذهبي وشهرته العالمية من سنة 1880 إلى ما قبل الحرب العالمية الأولى باعتباره مستقرا ومسكنا ومرتعا للفنانين المتمرِّدين والفوضويين، وحاضنا في المُجْمَل لكل الراديكاليين. من بين الفنانين الذي اشتهروا بقلب معايير الرؤية الغربية بيكاسو الذي استقر به المقام في نفس الحي. هذا يدل على ما يحمله هذا الحي من ثقل تاريخي ومن شحنة رمزية في تطوّر الفن الحديث. وهذا كاميل بيسارو C Pissaro الذي خلَّد في لوحاته أمكنة باريس وفضاءاتها الحضرية من أزقة وشوارع وعلى رأسها شارع مونتمارتر Montmartre الذي استحال إلى فضاء للمسارح والمقاهي. وهذا الرسام إدوارد ماني E Manet خلَّد في لوحته الشهيرة (Chez le Père Lathuile) التي رسمها سنة 1879 حانة كانت بمثابة ملتقى للفنانين في شارع كليشي Clichy وعرضت هذه اللوحة في صالون 1880. وفي نفس السياق رسم أوجست رونوار A Renoir في لوحته الشهيرة (Bal du Moulin la Galette) مكانا من الأمكنة التي بدأت تغزو باريس وهي أمكنة الترفيه والتسلية وفضاء أوقات الفراغ والتي تحتضن الاحتفالات الشعبية التي تضم أسر العمال والفلاَّحين وغيرهم من الطبقات الدنيا. وها هو كلود موني C Monet يخلِّد مكانا من طبيعة عمرانية أخرى أفرزه ظهور السكة الحديدية، ويتمثل في محطة قطار سان لازار (Saint-lazare) التي تعدُّ من معالم الحداثة الباريسية بما فيها من أدخنة وأبخرة.
-حي مونتبارناس:
هو حي شهير من أحياء الفن في باريس ضمَّ بين جنباته تكتُّلا وتجمُّعا من الفنَّانين الطليعيين أمثال شاغال Chagall موغدلياني Mogdiliani وميرو Mir وبيكاسو Picasso وكاندنسكي Kadinsky.
كل هذا يؤكِّد واقعا مؤدَّاه أن التيارات الفنية الحديثة، وفي مقدمتها الانطباعية ازدهرت في بيئة معمارية جديدة، ويثبت أن للأمكنة دوراً أساسياً في تبلور الاتجاهات الفنية. وأية أمكنة؟ إنها خصِّيصا تلك التي تشكَّلت مع مطلع الحداثة في الفن، والتي أُسندت لها أدوار فنية وثقافية كالمقاهي والحانات الصالونات والمعارض الفنية وهي ذات طبيعة عمرانية حديثة وذات خصوصية شعبية ترتادها الطبقات الوسطى الصاعدة.
3-باريس وثورة الأشكال الفنية.
شكَّلت باريس مرتعا هاما لما اشتهر في تاريخ الفن باسم «ثورة الأشكال» révolution des formes. نشأت في فضاء باريس مدارس وحركات واتجاهات فنية سمتُها الغالبة ومُشْتـرَكُها السائد هو التمرُّد على قواعد الفن الرسمي المكرَّسة من طرف المؤسسة –إذا ما اقتصرنا على الرسم-من مثل قلْب قواعد المنظور واكتشاف الفضاء الثنائي الأبعاد espace bidimensionnel وما نجم عن ذلك من إلغاء العمق ومن اهتمام أكثر بالسطح surface والخطوط lignes. يمكن الحديث إذن عن تحوُّل باريس إلى مختبر فني وجمالي تُبْتَدَع فيه أحدث الموجات وآخر التيارات التي تندرج تحت مُسَمَّى الاتجاهات الطليعية avant-gardistes. نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر الاتجاه الانطباعي والاتجاه الوحشي واالتكعيبي والسوريالي. ومن الجدير بالذكر أن الفن الحديث اتسم بأنه يتقدَّم بأشكاله لا بمضامينه، والثورة فيه مسَّت الأشكال قبل كل شيء. نخصص القول في مدارس أو في اتجاهات بعينها نظرا لما تقدمه من نماذج عن الطفرات الفنية مع التنصيص على نوعية الثورات التي أحدثتها تلك الاتجاهات. فبعضها أبدع في اكتشاف أهمية النور ونقصد الانطباعية، وبعضها أبدع في اكتشاف أهمية الشكل وهندسة الفضاء مثل التكعيبية وبعضها الآخر أبدع في تتويج أُحادية اللون monochromatisme مثل الاتجاه الوحشي فيما أبدع اتجاه آخر في اكتشاف واقع فوق الواقع هو واقع الحلم والهذيان مثل السوريالية.
أ-المدرسة الانطباعية
يمكن رصد هذه الثورة في الأشكال قبل المضامين. يعود الفضل في ذلك إلى نشوء وتكوُّن مدارس واتجاهات فنية نبتدئ الحديث عن الحركة الموسومة منها بسمة باريس واللصيقة بعاصمة الحداثة الفنية ألا وهي الانطباعية. وسنخصص الحديث عما أعقبها من تيارات ومدراس فنية كلها تسير في اتجاه التمرد على القواعد الراسخة في الرسم والمكرَّسة من طرف الكلاسيكية والرومانسية، ونذكر من جملتها الاتجاه الوحشي والاتجاه التكعيبي.
فِيمَ تتمثُّل ثورة الرسم الانطباعي الناشئ في أحضان باريس وبالضبط في أشهر أحيائها ألا وهو جي مونتمارت Montmartre ؟ ما الانقلاب الذي أحدثته الانطباعية في الرسم؟
وُلدت حركة فنية في باريس في منتصف القرن 19 رافضة مواضيع الفن التقليدي ثائرة على قواعده ومسجِّلة من ثم انطلاقة راديكالية في عالم الفن. كانت للانطباعيين أفكار جديدة حول الفن وطرحوا أسئلة من قبيل كيف نرسم وماذا نرسم؟. وبموازاة تلك الأفكار الجديدة طوَّروا تقنيات جديدة. ويمكن إجمالهم في الأسماء المشهورة التالية: إدوارد ماني وكلود موني وأوجست رونوار وألفريد سيزلي وبيرت موريسو وفريدريك بازيل وكامل بيسارو وإدجار ديجا. لقد وضعوا معايير جديدة للفن.كانت باريس آنئذ مركزا ومحورا لعالم الفن. تحدوا القيود والأعراف الأكاديمية التي كانت تكرِّسها المؤسسة الفنية الرسمية المتمثلة في أكاديمية الفنون الجميلة التي قابلت أعمالهم بالرفض مما دعاهم إلى عرضها في صالونات خاصة بهم. ولشدة رفض التيار في بدايته سمِّي بالانطباعي نكاية بأصحابه وتنقيصا منهم. كانوا ضد الفن الذي تروِّج له المؤسسة Establishment. اعتبروا أن الفن ينبغي أن يعكس الحياة الحديثة وأن ينصب علي العالم الواقعي. كانوا مغرمين بمواضيع الحياة الحديثة وركزوا في أعمالهم على العالم الحضري الحافل بمظاهر الحداثة وبثقافة الترفيه، ونجد في لوحاتهم صور للحياة الباريسية من أحياء وشوارع كبرى وحفلات الرقص والمقاهي والمسارح.
يمكن القول بدءا بأن الانطباعية جاءت كرد فعل على الجماليات الكلاسيكية التي حاولت أثناء عصر النهضة استعادة الجمال الإغريقي وكان شعارها السمو. ومثّلت الانطباعية في نفس الآن تمردا على الرومانسية في الرسم. أما الإشكالية التي أرَّقت الانطباعية فيمكن صياغتها في السؤال التالي: كيف يتأتَّى للرسم أن يخرج من فضاء المرسم إلى فضاء الطبيعة، لا من أجل تضمينها مشاعر الكدر والسوداء mélancolie التي برع الرسامون الرومانسيون في التعبير عنها قبلهم أمثال دولاكروا وغيره، وإنما محاولة لالتقاط العابر l’éphémère واللحظي والمؤقَّت. قال كلود موني:» أُرْسُمْ الطبيعة كما تراها بنفسك» (13)، ومن ثم كان هاجسهم هو القبض على النور غير مبالين كثيرا باللون على النقيض من الرومانسيين، بل يمكن القول أن اللون عندهم في خدمة النور la lumière. لماذا هذا الاهتمام المبالغ فيه بالنور؟ لأننا مع الانطباعية نحن على أعتاب خلق جماليات جديدة كان النور أو الضوء مطيتها. سبق أن قلنا بأن الحداثة الفنية التي كانت تعتمل في العاصمة الباريسية سمتها الأساسية هي التحوُّل والتبدُّل تأثُّرا بالحركة والسرعة التكنولوجية وتأسِّيا بالقطار والمحرّك. فالآني واللحظي منذ الآن فصاعدا هو الهدف الذي ينبغي ملاحقته في زواله وفنائه، وليس هناك أكثر من النور لتجسيد هذا الفناء والزوال. قال ديجا:»ما يبهر ليس هو إظهار مصدر النور بل تأثيره(14). كانت وجهة الرسامين الانطباعيين النور من أجل التقاط تبدُّل الأشياء وتحوُّلها ورصد الانطباعات impressions التي تخلِّفها. لا يهم في لوحاتهم وأعمالهم الواقع الموضوعي بقدر ما يهم الواقع الذاتي. الأهم ليس ما نراه بل كيفية رؤيته، الأهم ليس الأشياء المرسومة وإنما كيفية رسمها. أسست الانطباعية في الرسم لذاتية تصويرية تستجيب إلى ما تريد العين رؤيته أو ما تراه حريّا بالرؤية، ذاتية تحوِّل الصورة المرئية إلى انطباع بصري ومن ثم إلى ديمومة داخلية.
وتُرجم هذا تقنيا باعتماد الرسامين الانطباعيين على الألوان التكميلية couleurs complémentaires تفاديا للألوان الداكنة بما فيها السوداء والرمادية لا لشيء إلاَّ لأنهم يُقْصُونَ من لوحاتهم الظل والعتمة، حتَّى الظل يُرسم عندهم بلون غير السواد. كما اعتمدوا على تقسيم اللمسات اللونية. اتسمت تقنيتهم باستعمال خاص للألوان: الألوان المُنْسَابَة والمتذبذبة، الألوان اللامعة وذلك بفضل مجاراتهم لما استطاعت التكنولوجيا اختراعه من مواد جديدة في الصباغة. سخَّروا الألوان للقبض على اللحظات الهاربة قبل تبخُّرها. لا وجود للعتمة عند الانطباعيين لأنها ما تلبث تتحول إلى ضياء ومن ثم لا وجود للسواد في طريقتهم في الرسم.
ب-ما بعد الانطباعية: تولوز لوطريك
هو فنان عصي عن التصنيف، ودرءا للصعوبة والتعقيد يُصنف ضمن الرسامين ما بعد الانطباعيين post impressionnistes. ويهمنا هذا الرسام من حيث أنه جعل من الحياة الباريسية وخصوصا جانبها الحضري الحديث الموضوع الرئيسي لأعماله ومن حيث أنه من رواد الحداثة في الرسم. رغم حياته القصيرة التي لم تتعدَّ سبعة وثلاثين سنة فإنه خلَّد باريس في معظم أعماله، وخصَّ حياتها الليلية بلوحات شهيرة، خاصة حاناتها وخمّاراتها ومسارحها بمكانة متميِّزة. بل هو نفسه كان منغمسا في حياة باريس اللاهية ومن ثم أغلب شخوصه مستمدَّة من رواد الملاهي الليلية والحانات والمقاهي التي تتخلل منطقة مونتمارتر. ولم تخل لوحة من لوحاته من مومسات وراقصات الحانات لسبب بسيط هو أن يجد أنهن أكثر تلقائية من غيرهن. كان تولوز لوطريك رسام الحياة الحديثة في باريس، ومن مظاهرها أمكنة التسلية مثل السيرك (سيرك فرناندو). أما الفضاء المحوري لفنه فهو الحانة التي كان لا يبرحها قط حانة (الطاحونة الحمراء) moulin rouge الشهيرة بباريس. أعجب لوتريك بعالم مدينة باريس الصاخب ومنه استلهم أهم موضوعاته مما يدل على أن باريس فضاء وحركة ثقافية وفنية ومعمار ومؤسسات وصالونات العرض في تلك الفترة توفر للفنانين الشرط الضروري للإبداع. باريس إذن هي مهد الحركات الطليعية في مطلع القرن 20 والتي وضع لوتربك إحدى لبناتها الأساسية. ولا نعدم دليلا على أثرها فيمن جاءوا من بعده مثل الاتجاه الوحشي والتيار البدائي: نفس النزوع نحو اقتصاد الوسائل وذات الميل إلى التمرد على القواعد ونفس التطلع إلى حرية التجريب.
لم يتبوَّأ هذه المكانة لهذا السبب فحسب وإنما أخال أنه نال هذه المرتبة المرموقة لكونه مجدِّد، ويمكن القول بأنه فتح الباب أمام الحركة الطليعية في الرسم في مطلع القرن 20. وكان له السبق في اقتصاد الوسائل من أجل استشفاف ماهية الأشياء دون الاهتمام بالتفاصيل والأجزاء. مثلما أنه يعتبر من السبَّاقين إلى استعمال اللون الموحَّد aplat التي سنجد آثاره عند ماتيس مثلما أنه حطَّم قواعد الرسم الكلاسيكي من منظور وغيره.
ج-المدرسة الوحشية
تزعم هذه المدرسة أو هذا الاتجاه التي يتزعمه هنري ماتيس Matisse وصديقه أندري دوران Derain أنها جاءت على أنقاض المدرسة الانطباعية واتسمت برد الاعتبار إلى اللون بعدما كان عند الانطباعيين في خدمة النور. لم يعد اللون مع الوحشيين مطية أو ذريعة لانعكاس النور. عمل ماتيس منذ البداية- وذلك ضدا على الانطباعيين- على تمييز اللون عن النور. افتتح الوحشيون عصرا جديدا في الفن يتسم بثورة الألوان وعنفها. استعملوا الألوان بكيفية تجعلها صارخة وعنيفة. اعتبرت لوحات ماتيس علامات فارقة في تاريخ الفن الحديث وهو ما يفسٍّر لماذا كانت صادمة للذوق أثناء عرضها في صالون الخريفSalon d’automne سنة 1906 خصوصا لوحته الشهيرة (المرأة ذات القبَّعة) (la femme au chapeau) التي انشق فيها عن قواعد الرسم الأكاديمي للوجه الإنساني بحيث عالج وجه المرأة لا باعتباره موديلا modèle بل مناسبة لتلوينه كمساحة سالكا البناء ثنائي البعد وواضعا بذلك حدا للفضاء ثلاثي الأبعاد.
ما فلسفة اللون عند ماتيس؟ اللون عنده – وخلافا لما جرت به قواعد الفن الأكاديمي- لا يعبِّر عن شيء بقدر ما يعبر عن نفسه. وما خلى عمل من أعماله من هذا المفهوم الفلسفي والجمالي للَّون. أما الألوان المفضَّلة عنده مثلما عند دوران فهي الألوان الأولية couleurs primaires. ويقتضي التلوين عناية خاصة بالسطح والمساحة والفضاء وهو الأمر الذي يتوارى بمقتضاه الموضوع المرسوم. لا يهم ما نرسم إنما الأهم هو كيف نرسم، والغاية من ذلك تحطيم قواعد المنظور ومواضعات التمثُّلre-présentation. كل شيء يستحيل على يد الوحشيين إلى مساحات ملوَّنة ومن ثم ميلهم إلى استخدام اللون الموحَّد.
د-التكعيبية
أول سؤال يتبادر إلى الذهن هو: ماذا تعني التكعيبيةcubisme ؟ إنها اتجاه أو تيار في الفن الحديث نشأ في فرنسا وفي باريس خصِّيصا بل وفي حي مونتمارتر بشكل أكثر تخصيصا حوالي سنوات 1906-1907 وهي نفس الفترة التي شهدت زخما فنيا منقطع النظير في باريس. إذا كانت ثورة الأشكال عرفت مع الانطباعية انجذابا إلى النور ومع الوحشية ميلا إلى اللون فإنها عرفت مع التكعيبية انجذابا إلى الشكل forme. ثورة الشكل التي أحدثتها التكعيبية تتلخَّص في أن الرسم منذ سيزان اتخذ وجهة أخرى وتتمثل في النظر إلى الأشياء والأشخاص من حيث ما يختفي وراءها لا من حيث ما يظهر عليها. وما يختفي أو ما يتوارى خلفها هو البنيات التي في الغالب ما لا تُرى سوى من طرف عين الفنان. شعار التكعيبية هو النظر بعين أخرى- وبالتالي نحن بحاجة إلى عين ثالثة- إلى الأشياء فنراها كمكعَّبات ومجسَّمات وأحجام أو لنقل ككتل masses. هذه الكتل تتبدَّى على هيآت شتى: منها الدائري sphériqueو المخروطي polyèdre والأسطواني cylindrique. ويمكن أن يُطرَح السؤال لماذا؟ وما الداعي إلى ذلك؟ ما هي الضرورة الجمالية التي تستدعي تحويل الأشياء إلى أشكال أو إلى بنيات؟
ثمة مكمن الثورة التي قام بها الرسامون التكعيبيون وعلى رأسهم بيكاسو وبراك وآخرون. إن المخاض الذي عرفه الفن الحديث في مطلع القرن العشرين يعود سببه إلى الأزمة التي عرفها الواقع crise du réel ou de la réalité بحيث أنه لم يكن من الممكن من الآن فصاعدا تمثل الواقع كما هو. لقد أشبع الفن الكلاسيكي الواقع تمثُّلا وأفرط في تصوير الواقع والآن حان وقت بناء الواقع وتخيُّله، وهو ما فعله التكعيبيون ومن قبلهم الانطباعيون، بمعنى آخر تشكيل الواقع لا كما هو وإنما كما نراه. ينبغي تطويع الواقع بحيث يبدو لنا كما نريد. لا يترجم هذا رغبة في الترف وإنما يجيب عن أسئلة مُحرقة يطرحها الواقع الحديث، وعلى رأسها لماذا لا زال الفن يحاكي الواقع بينما التاريخ الأوروبي الحديث يعرف طفرات متعاقبة تكنولوجية وعلمية وتحوُّلات اقتصادية واجتماعية وثورات فكرية؟ هل يوجد بعد هذا مبرر ليظل الفن يحاكي الواقع؟
ظهرت الحاجة إلى تثوير الرؤية وإبداع ثقافة بصرية جديدة. بطبيعة الحال لا ينبغي أن نتخيل وكأن الأمر يتعلَّق بوضع تخطيط مسبق. في غالب الأحيان ما يتم ذلك عفويا وبكيفية حدسية. توصَّل الاتجاه التكعيبي إلى أنه لم يعد هناك ما يمكن تمثيله وينبغي أن يخضع الواقع ّإلى التفكيك وإعادة التركيب حسب إشكاليات وهموم العصر. هذا التشكيل الجديد يحمل فلسفة جمالية جديدة ترتكز على زهد في الألوان إلى حد استعمال لون واحد بل في بعض الأحيان تُفضَّل الألوان الرمادية(كما هو في لوحة كرنيكا لبيكاسو) والبنِّيَّة وذلك خلافا للاتجاه الوحشي، وفي المقابل تقوم على درجة عالية من هندسة الواقع والإفراط في تحويل كل شيء إلى شكل وحجم وكتلة. هذا كله في أفق قلب قواعد المنظور، ومنذ الآن يمكن رؤية الأشياء من جميع الزوايا لا من زاوية واحدة. لا توجد من الآن بؤرة واحدة-كما تنص على ذلك قواعد المنظور- بل بؤر متعدِّدة حتى قال أبولينير G Appolinaire عن الرسم التكعيبي بأنه «سيكون رسما خالصا ومطلقا». ونظرا للنظر الهندسي الذي يختزل الواقع في أحجام وأشكال لهو حري بأن يمنح للفن قوة كبيرة على التعبير أساسها الثورة الراديكالية على كل ما هو تمثُّل. كان البيان الرسمي عن ميلاد الفن التكعيبي معاصرا لإبداع بيكاسو لوحة (فتيات أفينيون) (les Demoiselles d’Avignon)التي تعتبر علامة فارقة في تاريخ الفن الحديث: تجتمع فيها كل مواصفات هذا التيار الفني من أحادية اللون ومن هندسة الأجسام والوجوه ومن تحويل وجهين اثنين أحدهما إلى قناع إفريقي والآخر إلى تمثال مأخوذ من جدارية مصرية قديمة، فضلا عن ما تحتمله اللوحة من تأويل عام وهو أنها تخلق في آن واحد ما يشبه مزيجا من اللذة والشهوة التي تسبق الألم.
ه-بدائية بول كوغان
بول غوغان الذي يعتبر زعيم التيار البدائي في الرسم، ويُعتبر في أحايين أخرى زعيم المدرسة الرمزية هو من الفنانين الذين أنجبتهم باريس العاصمة العالمية للفن. كان على مقربة من الانطباعيين وخاصة منهم سورا Seurat وسينياك Signacبل وساهم في صالونات العرض إلى جانبهم واستلهم منهم وهج الألوان والانجذاب نحو النور، كما كان متمردا على المواضعات مثلهم. التقى فان كوغ في باريس سنة 1886 مما سيكون له أثر على مصيره في الفن. نفس القبس من الإبداع استلهمه من باريس عاصمة الفن التي شكَّلت مختبرا للحداثة الفنية. ومن علامات الإبداع تلك أنه نحا في فنه منحى التبسيط الذي عايناه عند لوتريك، واهتم أكثر بالأشكال واستعمل بشكل واضح اللون الموحَّد الذي لاحظناه عند لوتريك. استطاع غوغان أن يخلص الفن من التبعية للواقع بواسطة الاستعاضة عن الإحالة إلى الأشياء بالإشارة إلى الرموز, ووجد في أسفاره ورحلاته مغامرة جمالية تحمله إلى أمكنة غير مألوفة. وما الشخوص التي تعج بها لوحاته سوى محاولة للخروج من معايير النظر الغربي ومن المواضعات البصرية الغربية. إنها محاولة لاكتشاف جماليات بصرية جديدة مستلهمة من شعوب «الماوري». إذا كانت باريس ملهمة الموجات الفنية الجديدة فإنها في جانب آخر تمثِّل ما يحاول الفنان التخلُّص منه أي محاولة التخلُّص من استبدادية النظر الغربي الذي أفضى إليه الإفراط في الحضارة. ألَمْ يغادر غوغان فرنسا إلى جزر المحيط الهادئ لكي يتحرر على حد قوله من فرنسا المتحضرة إلى حد الإفراط؟
خ-تعبيرية فان كوخ
كانت باريس ملهمة الفنان الهولندي فان كوخ ليس كمقر للإقامة وإنما كمعبر أو ممر فني ثقافي ضروري. هبت عليه رياح الانطباعية بفضل أخيه تيو فان كوخ الذي كان مختصا في سوق الفن في العاصمة الفرنسية باريس فتأثر بكلود موني وبإدجار ديجا وكاميل بيسارو وجان رونوار وآخرين. وَسَمَتْهُ المرحلة الباريسية بنوع من التوازن النفسي الذي افتقده في لاهاي وفي لندن، وساهمت في تطوير فنه. اقتبس من الانطباعيين وضوح الألوان وحرارتها كما استلهم ميلهم إلى النور رغم اختلافه معهم لاحقا بسبب طاقته المتدفقة في بعض الأنحاء وعلى سبيل المثال لا الحصر لم يتبنَّ طريقتهم وتقنياتهم في الرسم وناذرا ما كان يستعمل لمساتهم المجزَّأة وكان أكثر ميلا إلى ضربات الفرشاة القوية. ومن دواعي الاستغراب أنه اتخذ في المرحلة الباريسية مواضيع أغلب لوحاته الزهور والأشجار فرسم في لوحة مشهورة عبَّاد الشمس وفي لوحة أخرى شجرة السرو. كما رسم أزواج الأجذية المشهورة والتي يبلغ عدد اللوحات المخصّصة لها ثمانية. يقول فخري خليل عن هذه المحطّة الباريسية التي خلت لوحات فان كوخ أثناءها من الشخوص وانحصرت في مناظر الطبيعة:»لم يرسم فان كوخ في باريس الفلاَّحين والعمال والموضوعات الوضيعة والمشاهد المألوفة بل عكف بدلا منها على رسم الموضوعات اللاشخصانية»(15)، وكانت المحطَّة الباريسية غنية وثرََّة حيث تأثر بالفن الياباني -و خاصة فن المطبوعات -Estampes الذي كان مشهورا في باريس. بعدما بدأ فانسن فان كوخ يتبرم بالفن الانطباعي سيغادر باريس بحثا عن الشمس للتخلُّص من كدر العاصمة الباريسية وبحثا عن الألوان الصارخة والحارة فكانت وجهته بلدة آرل Arles جنوب فرنسا.
تجدر الإشارة إلى أن الهاجس الميتافزيقي لدى فان كوخ وجد ضالته تشكيليا وجماليا في اللون الأصفر إذ يعبِّر أكثر من غيره عن عذاب نفس الفنان واضطرابها وعن حيرتها الوجودية كما يبدو في لوحته الشهيرة (غربان فوق حقول القمح 1890 Champs de blé aux corbeaux). فيما خص فان كوخ اللون الأزرق لوحة الليل ووحشته مثل ما يظهر للعيان في لوحته( ليلة مقمِرة Nuit étoilée 1889).
4-في النحت
النحت من الفنون الجميلة الأساسية والتي لا يمكن استكمال صورة باريس عاصمة للفن والجمال من دونها. أكثر من ذلك إن النحت هو من أقدم الفنون، ولا غرابة في ذلك لأنه الفن الذي، بعد العمارة يحفظ أثر الإنسان ويكون وسيلته في التعبير عن أحاسيسه ومجالا لإبراز هواجسه الداخلية. ألم يعتبر هيجل النحت ثاني الفنون ترتيبا بعد العمارة؟ النحت فن أحجام وفضاء مثله في ذلك مثل العمارة architectureغير أن في العمارة يكون الفضاء حاويا وفي النحت يكون مُحْتَوى. يقوم على إبراز الأشياء والكائنات من الخلفية التي تقوم عليها، هو بمثابة نقش وحفر على مختلف أنواع المادة. لم يكن النحت إلى حدود القرون الوسطى منفصلا عن الرسم، وكان يُعتبر كل من الرسام والنحات صانعا للصور.
أنجبت الحاضرة الباريسية نحاتا بل وأحد أهم النحاتين في منتصف القرة 19 ومبتدأ القرن 20 ألا وهو أوجست رودان August Rodin المزداد سنة 1840 والمتوفَّى سنة 1917. ومن غرائب الأمور أنه بالرغم من كونه صار نحاتا كبيرا غير أنه رسب في مباراة ولوج أكاديمية الفنون الجميلة بباريس في مادة النحت بعينها. عرض أعماله ومنحوتاته في صالون باريس الذي كان بمثابة المعرض الرسمي لأكاديمية الفنون الجميلة حيث تُعرَض آخر أعمال الفائزين بجوائزها. صار صالون باريس الممر الرئيسي لكل فنان يريد أن يصنع لنفسه اسما. كان للصالون صدى ثقافي كبير في عموم باريس ولكنه ارتبط بالاتجاه الأكاديمي في الفن ولم تتسع رحابه للفنانين المتمردين وعلى رأسهم الانطباعيين.
يمكن أن نتساءل عن مدى راهنية رودان
كتب الشاعر الألماني الذائع الصيت راينر ماريا ريلكه عنه كتابا أسماه( أوجست رودان) قدَّم له بالعبارات التالية: «الكتاب يعملون بالكلمات والنحات بالحركات» وهي عبارة لبومبونيوس كوريكوس Pompinius Cauricus وعبارة أخرى لإميرسون يقول فيها: «البطل هو الذي يكون في حركته متمركزا»، وبالفعل فإن حركة رودان النحات لها مرتكز في نهاية المطاف وذلك مصدر قوته الفنية. ولما كانت الوحدة أو العزلة هي شيطان الإبداع فإن رودان- على حد قول ريلكه- كان قبل شهرته وحيدا، وازداد وحدة بعد شهرته. يمكن أن نتساءل في البداية ما مدى راهنية رودان في عصر التنصيبات installations وفي عصر تحوَّل فيه الفن إلى إنجاز performance ولو يتبقًّ من العمل الفني سوى التشظي. ربما كان أول ضحية لفن رودان هو رودان نفسه. فقد استحال تمثال (المفكِّر) إلى جسد إشهاري support publicitaire للترويج للحواسيب. ينبغي إذن التخلُّص من كثير من الأحكام المسبَّقة إذا أردنا اكتشاف رودان.
يمكن القول أن سر فن رودان هو الجسم الإنساني حيث يقول عنه ريلكه:» العنصر الأساسي في أعمال رودان هو فهم الجسم الإنساني»(16). إنه استكشف سطح الجسم الإنساني بشكل مكَّنه من إبراز القوى المعبِّرة عنه بحيث لا يكون شيء في الجسم لا معنى له مهما قلَّ شأنه، بل حتى أصغر جزء يكون نابضا بالحيوية.
من أهم أعمال رودان في النحت منحوتة بعنوان ( العصر البرونزي) (l’Age d’Airain) الذي انتُهِيَ من إنجازها سنة 1877 وبفضلها صار مشهورا في فرنسا والعالم. بعد نيله لهذه الشهرة طُلِبَت منه طلبات لمنحوتات أخرى نذكر منها منحوتة ( القبلة) (Le Baiser) التي تم عرضها في المعرض العالمي لمدينة باريس سنة 1889. كما نحت تمثال (بلزاك) بطلب من جمعية «أناس الأدب» وطُلب منه قصر ونسمنستر ( بورجوازيون من مدينة كالي)(Les Bourgeois de Calais). ولكن أشهر أعماله طُرّا هو تمثال (المفكر) (Le Penseur) الذي استغرق في إنجازه سنتين ما بين 1880 و1882 وصُنِع في البداية من الجبس ثم أعيد صنعه من البرونز من أجل عرضه في مقر (البانتيون) Panthéon في باريس سنة 1886. كل هذه الأعمال جعلته يتوِّج حقبة هي حقبة الفن الجديد إلى جانب الرسامين الكبار أمثال فان كوخ وكوغان وسيزان.
يتجسد في تمثال ( المفكر) أسلوب رودان الذي انفصل فيه عن الطابع الزخرفي المميِّز لاتجاه الكلاسيكية الجديدة، ويعود الفضل في تحرُّره من النزعة الأكاديمية إلى الرسام ونحات عصر النهضة الإيطالية ميخائيل إنجلو. ويكفي النظر إلى تمثال هذا الأخير بعنوان (دافيد) لمعرفة مدى تأثُّره به. ففي تمثاله (المفكِّر) يظهر تناسب ما بين الكتلة العضلية والاستغراق في التأمل العميق. ثمة تناسب بين قوة الفكر وقوة العضل، بين النفس وبين الجسم. إن القوة العضلية ما هي سوى مظهر خارجي للقوة الحقة والفعلية النابعة من الفكر ومن الذات ومن الحياة الداخلية. لا تقل منحوتة (بورجوازيون من كالي) إتقانا وتعبيرا عن تمثال (المفكر) لأنها تجسِّد مأساة ستة من بورجوازيي كالي قدموا أنفسهم فدية حتَّى لا يمس أهل مدينة كالي المحاصَرة من طرف الإنجليز أثناء حرب المائة عام بسوء. عبَّر في نحته هذا عن الألم والقلق وعن قوة القدر كما يغلب على العمل طابع الكآبة. كل واحد من هؤلاء البورجوازيين الستة يسير نحو مصيره بإيقاعه الخاص. تحكي هذه المنحوتة عن حرب المائة عام حيث تخلى الملك فيليب السادس عن مدينة كالي المحاصرة لمدة سنة. هؤلاء الستة يسيرون حفاة عراة متجهين إلى ملك الإنجليز من أجل تسليمه مفاتيح المدينة. أما فيما يهم الأسلوب فقد استطاع رودان أن يُجاوز الكلاسيكية الجديدة وأن ينحو منحى واقعيا بفضل تجسيده للجسم كما هو دون مواربة ولكن دون أن يغفل أن الجسم ما هو سوى المظهر الخارجي لقوة النفس.
إن الفضاء كما يتطلَّبه رودان يمنح للنحت ثلاث وسائل لاستقبال الحداثة: فهو يُقحم على المستوى السيكولوجي ما يهدد بانهيار التوازن الهش الذي يؤدِّي إلى القلق، ثم يقترح على المستوى الفيزيائي كَوْنا تتداخل فيه وتتبادل التأثير الأحجام الفارغة والصلبة على نحو أو على نمط تنفجر منه القوة والطاقة. ما فعله رودان كما يقول ليو شتانبرج Léo Steinberg هو أنه حطّم في مجال النحت كل البداهات.
خاتمة
اعتُبِرَت باريس بحق مختبرا للحداثة وهو ما بوَّأها مكانتها المرموقة كعاصمة للفن والجمال في العصر الحديث بكل ما تعنيه عبارة «مختبر الحداثة» من اختبار الأشكال وتجريب الألوان، ومن إبداع الأساليب الفنية والجمالية. من عمق باريس انطلقت شرارة التجديد في أشكال البناء والمعمار والهندسة، وفي فضائها صيغت أكثر الطرائق تمرُّدا في الفن والرسم والنحت وفي كل الفنون البصرية، وبين أحضانها تبلورت أحدث الأساليب وأكثرها جرأة وجسارة في الموضة واللباس والديكور، وفي أحيائها الشهيرة –التي منها على سبيل الذكر لا الحصر حي مونتمارتر ومونبارناس- نشأت وترعرعت أكبر التيارات الطليعية في الفن في القرن العشرين من انطباعية ووحشية وتكعيبية وما فوق واقعية Surréalisme. وفي أروقة صالوناتها ومعارضها دارت رحى معارك فنية وجمالية ونشبت مواجهات مصيرية بين الفن الأكاديمي المحافظ والفن المتمرِّد. وفي رحابها صيغت أشهر البيانات الفنية Manifestes Artistiques مثل البيان السوريالي الذي هو بمثابة محاولة من أندري بروتون André Bretonمن أجل تنظير وتأسيس جماليات جديدة في الأدب وفي الفنون البصرية على وجه التحديد عن طريق الإعلاء من اللاشعور ومن الأحلام ومن كل ما من شأنه التمرُّد على إمبريالية العقل واستبداده ودكتاتوريته. أليس أندري بروتون هو القائل: «إن العجيب دائما جميل، لا شيء جميل سوى العجيب»، والعجيب بالذات هو من نسْج الخيال ومن إبداع الحلم. شكَّلت باريس قبلة الفنَّانين وممرّا ضروريا في سبيل تطوير تقنياتهم وإنضاج أساليبهم، وهي مكان إقامة بالنسبة لبعضهم (بيكاسو) ومعبر بالنسبة لبعضهم الآخر (فان كوخ) وهي في كل الأحوال الفضاء الذي يصنع فيه كل فنان لنفسه اسما. كما لا ينبغي إغفال مسألة هامة وهي أن باريس كانت ولا تزال سوقا للفن، حيث يتواجد تجار الفن ومنظمو ومفوَّضو المعارض الشيء الذي حدَّد مصير الفن بالانتقال من طور الرعاية إلى طور متقدِّم وهو طور السوق.
معزوز عبد العلي
أستاذ جامعي في الفلسفة وعلم الجمال
جامعة الحسن الثاني المغرب
الإحالات
1-Walter Benjamin : Paris Capitale du 19e siècle. Page 560.
2-Ibid page 567.
3-Ibid page 576.
4- Ibid page 577.
5- Ibid page 89.
6- Ibid page 90.
7- Roland Barthes : Système de la Mode. Ed Seuil 1967, page
8- Ibid page 265.
9- Walter Benjamin :Paris Capitale du 19e siècle. Op cité, page 102.
10- Ibid page 105.
11- L’univers des impressionnistes. Ouvrage collectif. Ed Vilo. Bruxelles 1999, page 39.
12- Art in theory. Ed blackell publishing, 1998 page.
13- Lindsay Snider: A lasting impression: French Painters revolutionize the Art world, page 2.
14- Ibid page 2-3-
15- أعلام الفن الحديث. ترجمة وإعداد فخري خليل. المؤسسة العربية للدراسات والنشر.2005، بيروت ص
16- Rainer Maria Rilke : August Rodin. Page 36.
معزوز عبد العلي
كاتب وأكاديمي من المغرب