محمد الراشدي
“باشي فلورا” للكاتبة العُمانية جميلة الهنائي عنوان رواية له مدلولات يمكن التكهن بها في المضمون، فمنذ أن خرج “عبدالله” من بُهلا للبحث عن والده “حمود”، والأحداث التي جرت خلال رحلته إلى وصوله زنجبار واستقراره في (مووانزا) وتحرّكاته فيها، ثم الرجوع منها بعد سنتين إلى بهلا، كل ذلك دلالةٌ على بطولته. إذًا فهي رواية (عبدالله بن حمود).
ولكنّ.. الاستمرار في القراءة يكشف لنا بطلًا آخر وهو “جون” الذي تحدثت عنه الكاتبة منذ أن وجِد لقيطا، وتبنّاه جون الأكبر؛ رئيس (عصابة رأس الأسد). ليأخذ بعده لقب الرئيس. وتكون له إنجازاته الإجرامية، ثم التجارية، بعد انشقاقه عن العصابة، وتعلقه بالمجتمع.
هناك شخص آخر لا يمكن تجاهله وهو (ليلي) وهي ليست راقصة ولكنّها اكتسبت اللقب من أمها التي كانت كذلك. وجاء ذكرها في الرواية منذ ولادتها والتحاقها بالمدرسة واشتغالها في إدارة حانة “سماء المساء” بعد وفاة أمها، ومرورا بمراحل حياتها التي قضتها في السجن بعد أن قتلت ميندو الحكيم دفاعا عن النفس، ثم تبرئتها وخروجها منه بعد عام. إذًا فهي رواية (الراقصة ليلي).
كل هذه الأحداث وغيرها، وجميع هؤلاء الأشخاص وآخرين، تحتويهم بلدة “مووانزا” وهي إحدى مدن البر الأفريقي على بحيرة فكتوريا. حيث وَجَد عبدالله بيت أبيه ومزرعته ودكّانه وقبره. ووجد كذلك المرآة التي لم يستخدمها أحدٌ سواه. ووجد “جون هولو” مستقره فيها لإدارة مشاريعه ومشاركته في الحياة الاجتماعية والتجارية مع التجار العمانيين وغيرهم ممن لهم الآثار الراسخة فيها ولا سيما تشغيل الحانة مع “ليلي”. وقد أسهبت الكاتبة في وصفها الأحداث في مووانزا وكائناتها من الناس، والأماكن، والأشجار، والطقس، والهواء، والأمطار. إذًا يمكن أن نسمّي الرواية “كائنات مووانزا”.
ولكن الكاتبة ببراعة متقنة تظاهرت بهذا العنوان ليبدأ القارئ برحلة البحث عبر مسارات السرد وأحداثه. ووحده البحث الذي سوف يكون لاحقًا هو الثيمة الأساسية للرواية.
ومن خلال تميزها عن كل ما كُتب عن زنجبار فإن لهذه الرواية طعما ورائحة غير التي اعتدنا عليها، فمن واقع تجربتي الشخصية ومنذ “جهينة الأخبار في تاريخ زنجبار” حتى الآن. ومرورًا بـ”الصراعات والوئام في زنجبار”، و”زنجبار شخصيات وأحداث”، و”السيد مر من هنا”، و”تيبوتيب،” ومن “الفرضاني”، و”مذكرات أميرة عربية” التي لم تتجاوز القصور والمزارع الكبيرة؛ وحتى الكتابات البعيدة أيضا كمثل “صراع الحُب والسلطة” وما كُتب عن حقبة الوجود العُماني في زنجبار مثل “تاريخ عُمان” لويندل فيلبس.. كل ذلك لم يدخل في الحياة العامة والخاصة للعرب العمانيين في زنجبار، وما يدور في مجالسهم، والمؤامرات التي يحيكها بعضهم لبعض، والمهن التي امتهنوها غير التجارة وإدارة المزارع. وهذا هو ما تتميز به هذه الرواية. حيث وجدنا صانع الحلوى العمانية، وبائع الأعشاب، والحجّام، وطبّاخ المرق والثريد؛ الذي يفخر بحرفته التي تعلمها من أبيه الذي عمل وقتًا طبّاخا في بيت العجائب. وغير أصحاب الحرف يوجد من يكتسب المال بدون مهنة بل بتعامله بالربا كـ (علوان المر).
وتبدأ أحداث الرواية عندما سافر عبدالله بن حمود من بلدته بُهلا. وهو لا يملك أدنى تفاصيل رحلته التي سوف يقضيها بحثًا عن والده الذي سافر إلى زنجبار منذ عشرة أعوام. وبعد أربعة أعوام انقطعت أخباره. وما لاقاه في سبيل ذلك من مشقة السفر عبر الوسائل المختلفة. بدءًا بانضمامه للقافلة، ثم ركوب البحر، وتجربة السفر بالحافلة والقطار. ومشاهداته العجيبة للأشياء والأماكن والأشخاص. ثم استقراره في بلدة مووانزا لمدة سنتين قبل رجوعه إلى بلدته في عُمان على أمل العودة مرة أخرى.
وتتميز الرواية كذلك بما تحمله من المتضادات والاختلافات الكثيرة، بين الأحوال والأمكنة والأشخاص. وقد اشتغلت الكاتبة في سرد أحداث البر والبحر تماما مثل ما تسرده عن الخير والشر. والأشخاص الذين اختارتهم ليكونوا أبطالا؛ وكذلك الشخصيات الثانوية كانوا يتمتعون بأوصافهم الخاصة، ولديهم من المتناقضات ما لا يُحصى. وفي هذا يتضح للقارئ الكثير من حقائق ما وراء المحيط. فالقارة الأفريقية التي يلجأ إليها المعسرون طلبًا للرزق هربًا من شغف العيش وصعوبة الحياة في غيرها، هي أيضا تخبئ لهم الكثير من المفاجآت التي لم تكن سارّة أحيانا. وبدأنا في التعرف على ذلك منذ أن حط والد عبدالله رحاله في (زنجبار)، وتسميها الكاتبة -“درة الممالك” – عندما تصادم مع أقربائه وأبناء جلدته مثل (التاجر خليل، وأبو مريم العطار، وحسن فضة) وما أضمروه له من الحقد والكراهية، ما اضطر بسببه إلى مغادرتها إلى البر الأفريقي وتحديدا بلدة (مووانزا) التي لم يهنأ بها تماما، فهناك كان يتربص به المرابي “علوان المر” وهو من المهاجرين أيضًا. واشترك الجميع في مكايدته بإتلاف رسائله التي يبعثها لأهله والاستحواذ على الأموال التي يرسلها لهم، وهو لا يدري بذلك. ولكن في المقابل وجد حمود عوضا عن ذلك “الشايب زهران” وولده التاجر سعود وأولاده بالإضافة إلى التاجر “لوكاس” وخففوا عنه ما لاقاه من العداوات. وهنا تكمن المفارقات.
وغير ذلك تتوزع المتضادات في الرواية بشكل متفرق في أحداثها. ومن الأماكن ما هو هنا وما هو هناك. وما اعتاد الناس على ارتياده من المساجد والجوامع. نجد في المقابل من يرتاد الكنائس ودير الراهبات. كما توجد المطاعم والمراقص والحانات. ومن المتضادات أيضًا ما ينتج من الطبيعة من المطر والجفاف، وخصوبة الأرض وتنوع الثمار والقحط وقلة النتاج الزراعي. وصوّرت الكاتبة الكثير من المعتقدات المختلفة، فعلى عكس المسلمين الذين يؤمنون بالقضاء والقدر وأنه من الله تعالى، فهناك من يؤمن بتدخل الأشجار والأحجار والرياح. وكذلك كثيرا ما تُستخدم الشعوذات والتعاويذ والتمائم والفأل الحسن والسيئ. وحسبنا هنا “الخرزة الملكية أو جوهرة الثعبان المضيئة”. تقول الكاتبة: “وجميع من في الحانة يتذكر أنه إنما سقط جون الأكبر وعصابته وحلت نهايتهم بعدما اختفت عنهم الجوهرة.” ثم أردفت: “تنتشر المعتقدات بأن أصحاب الأموال يحرصون على اقتناء الخرزة الملكية أو الجوهرة المضيئة كتعويذة الحظ السعيد، والخرزة الملكية تتكون داخل أحشاء ثعبان يقتات على ثعابين أخرى، ويتم اصطياد الجوهرة من قبل صيادين ذوي دراية كاملة بأماكن تواجد الأفاعي حاملة الجوهرة، تكون غالبا في قلب الغابات أو الأحراش، وهذه العملية خطيرة ولا تخلو من حوادث لدغات الأفاعي السامة، لذلك تعد هذه الخرزة من الجواهر غالية الثمن، ويتم الظفر بها غالبًا بدءًا من غروب الشمس، إذ يتحين الصيادون خروج الأفعى حاملة الجوهرة التي تخرج من جحرها إلى مواقع كثيفة الأغصان وتلقي بالجوهرة محدثة إضاءة ساطعة في وسط الظلام، ثم تبدأ بالرقص حولها على هيئة دوران مع عقارب الساعة وهي رافعة رأسها عاليًا، هذه الرقصة هي بمثابة استدعاء للذكر لتشكيل ثنائي يدور حول الجوهرة، ووقتها يقوم الصيادون بقذف الطين اللازب على الجوهرة أو إذا كانوا بمقربة منها يلقون عليها إناء معدنيًا معتمًا يحجب الجوهرة تماما، هذا الإعتام يُصيب الأفعى حاملة الجوهرة بالجنون فتنتحر من تلقاء نفسها بضرب رأسها على الإناء ويفترق الذَكَر عنها، بعدها يعمد الصيادون لجمع الجوهرة المضيئة”.
وإن كان ثمّة ثيمة تميّزت بها هذه الرواية فإن القارئ لن يجد أكثر مما ركّزت عليه الكاتبة من “البحث”، ويمكن جعله السبب الرئيس لوجودها، إذ بدافع البحث عن الرزق خرج حمود إلى زنجبار لتبدأ رحلة ولده عبدالله للبحث عنه هو. وعندما لم يجده في زنجبار خرج ليبحث عنه في مووانزا. وهناك بحث عن الآثار التي تركها والده. والبحث هنا لم يكن عن الأمور الماديّة فقط، وإنما تجاوزه للبحث عن أصدقائه وأعدائه، والأسباب التي أدت إلى وفاته. وبالبحث كذلك تعرّف المنافسون على أخبار هذا الزائر الغريب والأشخاص الذين أوصلوه إلى هدفه. وكانت “عصابة رأس الأسد” تبحث عن مصادر الاستيلاء، وتبحث كذلك عن المحتاجين للمساعدات، قبل أن تبحث الشرطة عنهم وتقضي على رئيسهم. وبحث الحكيم ميندو عن الوسائل التي تقربه من ليلي وتبعدها عن جون هولو، ولكنه أخفق في ذلك ووقع في شر أعماله. ووحده البحث عن الحقيقة أنقذ ليلي من حبل المشنقة، بل وأخرجها من السجن بريئة. وبغض النظر عن نتائج البحث إلا أنه هو الأداة المستخدمة دائما. إذ كان جون هولو يبحث عن أسباب تدهور تجارته والأشخاص الذين يريدون الإيقاع به، وبعد ذلك بحث عن شريك لتجارته فيما كان أحدهم يبحث عنه للسبب نفسه. لم تكن هذه الأمثلة سوى نماذج. بينما استمرار البحث لم يتوقف حتى بعد اكتمال الرواية. فقد أودعت الكاتبة للقارئ ما يواصل بحثه عنه. فعلى الرغم من الاندفاع المحموم لعشق ليلي، وتنافس الرجال لكسب ودها، وحسد النساء من جهة أخرى؛ إلّا أن الكاتبة لم تصفها سوى بالشيء القليل، وتركت الباقي ليبحث عنه القارئ. كما أنه سوف يبحث عن تفاصيل زيارة عبدالله لمزرعة والده، وأصول بعض الشخصيات، التي يتبيّن من الأسماء بأنهم ليسوا عمانيين ولا عربًا. ولن يتوقف البحث عند هذا الحد، بل في ثقافة الغذاء، فقد ذكرت الكاتبة بعضها وتركت تفاصيل المائدة الأفريقية للقارئ. وبالتمعن في القراءة سوف يبحث القارئ كذلك عن زمن أحداث الرواية. ومعلومات أخرى سيبحث عنها كل من لديه اهتمام بالوجود العماني في شرق أفريقيا.