حنان درقاوي
كاتبة ومترجمة مغربية مقيمة في فرنسا
يقترح علي المقري في روايته”بخور عدني” الصادرة في 336 صفحة عن دار الساقي جولة في عدن أيام الحرب العالمية الثانية وما بعدها، جولة تتم عبر شخصيات متعددة تتشابك مصائرها وتترابط سيرة حياتها في مدينة كانت مدينة التعدد والتعايش بين الديانات قبل أن يأتي وعد بلفور على هذا التعايش. ترصد الرواية مصائر ميشيل وماما وعم شمعون وشمعة وآخرين كثيرين عبر تطورات الحياة الشخصية ومسارات السياسة والشأن العام العدني والدولي. تنتهي الرواية إلى انفجار كل المصائر جملة واحدة بفعل انفجار العداوة ضد اليهود والأغراب بصفة عامة وتكمل ثورة عجيبة رسم المشهد الكابوسي بقضائها على أعدائها وأصدقائها على حد سواء تنفيذا لبرنامج ثوري لا يصنع التوافق بين الجميع. تنضح الرواية بالكثير من الشعر والغناء المحلي مما يضفي على أجوائها نوستالجيا دفينة إلى عهد عدن الذهبي، عدن الثقافات المتعددة، عدن التي يلجأ إليها الفارون من قدر الحرب وأهوال العالم.
تنفتح الرواية على سيرة شخص فرنسي هارب من جبهة المقاومة، هارب بعاهته الجسدية “عرج” إلى مكان يأمل أن يصير وطنه البديل هو الذي لا يملك مفهوما ثابتا للوطن. تتساءل الرواية عن الهوية، هوية ميشيل الذي لا يعرف إن كان هو نفسه أو آخر يتلبسه وينتحل هويته ويجعله يغادر وطنه في حالة حرب دون إحساس بالذنب. يتحرر من عقدة الذنب تجاه الوطن ويتساءل عما إذا كان دائما مطلوب أن نضحي من أجل الوطن، أن نحبه وندافع عنه بحياتنا، ثم ما هو مفهوم الوطن؟
يرسل الهارب رسالة إلى امرأة ما يقول فيها” فالشخص الذي تعرفينه لم أعد أنا هو، وأنت لست أنت، أو لا تعودي كذلك” ص 4.
يلجأ الهارب إلى إخفاء اسمه والأوراق التي حملها مسحا للهوية وتبنيا لهويات أخرى، تتساءل الشخصية عن ذاتها هل هي فرانسوا أم ميشيل دون أن تحدد جوابا إمعانا في خلط الحدود بين الأنا والآخر في تصريح يشبه إعلان آرثر رامبو “أنا هو الآخر”. يعمد الشخص الهارب إلى تسمية المرسل إليها شانتال أما هو فيتخفى تحت اسم لا أحد أو “لا شيء”. تصر الشخصية على رفض أية هوية علما أنها صارت لا شيء، هل هو اختيار أم أن العالم القاسي “الحرب” هو الذي يجبر الشخصية على أن تصير لا شيء في ميناء بعيد؟ هل انعدام الهوية هو رمز آخر لانسحاق الفرد في زمن الحرب ؟
رغم عدم توفرها على هوية تجد الشخصية التي لم نعرف بعد من هي شخصا يساعدها ويتقبل وجودها اللاشيء بل ترحب بها “بلغة غريبة” تستقبلها في بيتها مع كيك وشاي. هناك مكان للصداقة حتى في أقصى حالات الغربة والتيه. الصداقة تيمة تنضح بها الرواية حيث تجعل منها مكانا للألفة والتشارك في عالم مجنون تتصارع فيه قوى الشر والخير بنفس الوسائل: القتل . الصداقة هي ملجأ الجميع في الرواية بل إن هناك شخصية “ماما” التي تقود “لا شيء” في عدن تصف أصدقاءها بالعم والعمة والأخ والأخت وتعوض بالصداقة علاقات الدم التي حرمت منها منذ كانت طفلة.
الشخصية التي “لم نعرف بعد هويتها” تستكين إلى شخصية ماما التي تتحول إلى دليل لها في مدينة غريبة. تدخل ماما الشخصية إلى عوالم عدن وتعرفها على الآخرين، أصدقاء كثيرون، هنود، يهود بريطانيون، صوماليون وآخرون. تخبر ماما “لا شيء” بأنه حلمها الذي رأته قبل ستة أيام وأنها الآن تسير مع حلمها الذي تحقق في شوارع عدن. تدخله إلى عدن من باب عجيب، باب الشم والروائح حيث تبخر ماما الشخصية “لا شيء” قبل أن تدخله إلى عدن من أشهى أبوابها: البخور..
هكذا تتشمم الشخصية رائحتها لأول مرة. تكتشف أنه لم يكن لها رائحة من قبل. أليس غياب الرائحة هو تعبير آخر عن انسحاق الفرد وشخصيته المتفردة في عالم كلياني يسحق الهوية “الرائحة” الشخصية؟
تلج الشخصية برفقة ماما ركنا من أركان عدن: كازينو البندر ولهذا الأمر دلالة فالكازينو هو دلالة الحياة والفرح والصداقة والمشاركة. أليست أماكن السهر هي أهم مداخل المدن في العالم؟ هناك حيث الغناء والرقص ولحظات مشتركة بين أناس من كل الآفاق. ليس هناك ما يفرق الناس في كازينو لأن هذا المكان مكان للاحتفال بالمشترك بين الناس: الرغبة في الفرح. لا شيء يقصر المسافات بين الناس غير الغناء والرقص اللذان يشكلان لغات كونية.
تفاجئنا شخصية ماما بقدرتها العجيبة وهي الأحلام التنبؤية فهي تقول “تراءى لي شاب في المنام قبل ست ليال من مجيئك. كان يركض وسط طلقات من الرصاص فمددت إليه يدي واحتضنته وبخرته ثم مشيت معه هنا في هذا الشارع”، مرحبا بالصديق الفرنسي في عوالم الشرق: بخور وأحلام تنبؤية، هذا يضفي على الرواية مسحة عجائبية تتناسب مع فتنة الشرق وفتنة عدن. فتنة عدن تتجلى أيضا في تعددها حيث تلقي ماما بالتحية بكل اللغات إلى من هم في الكازينو “هلو، نمسي، شالوم، سالو”.
تواصل ماما قيادة الشخصية إلى عوالم الكازينو وتعرفها على رواده على أنهم أقرباء لها. حين تقدمه للفنانة شمعة نتعرف أخيرا على اسم “اللا شيء”: ميشيل هل هو ميشيل أم فرانسوا؟ هل هناك أهمية للهوية؟
نتعرف على أصول الغناء في الكازينو “كل ليلة تخصصها إدارة الكازينو لأتباع قومية أو ديانة من الديانات” قبل أن تغني للجميع كل ليلة خميس.
هكذا منذ اللحظات الأولى للرواية تتأسس الصورة المبتغاة عن عدن: عدن كل الديانات والانفتاح عليها، وبؤرة هذا الانفتاح هو شمعة اليهودية التي تزوجت من ثلاثة رجال، لكل واحد منهم ديانته، وفيما يبدو أنها تتأهب للزواج من ولد تقي وهو مسلم رغم أن اليهود سيعارضون ذلك الزواج حتما.
يفعل الغناء تأثيره فرغم أن ميشيل لا يفهم الكلمات إلا أن الأغنية ترج كيانه كله ويتمنى لو تبقى تلك اللحظة إلى الأبد. هكذا تحتفي الرواية بتجربة إنسانية كونية تتسامى عن التعابير واللغات: تجربة الاستماع إلى الغناء الذي يوحد الناس ويشكل تجربة إنسانية مشتركة تدخل في سحرها كل إنسان وتجعله يتجاوز لغته وحتى إعاقته، فميشيل تجاوز ثقل العرج ليمضي للسلام على شمعة ويقبل صوتها الذي هو كل جسدها وروحها.
لحظة يتحول فيها الغناء تجربة توحد مع كل من هم في الكازينو. أغنية تندلع من كل مكان وتخرج من كل شخص موجود لحظتها. يعيش ميشيل تجربة انفصال عن ذاته ويتساءل، هل هو الحلم أم الحقيقة؟ يكتفي بالاعتقاد أنه هو نفسه حلم ماما الذي يتحقق خاصة أن ماما قدمته إلى أصدقائها/ أقربائها بأنه هو الحلم الذي رأته في منامها قبل أسبوع. هكذا يلتحم الغناء والحلم والبخور في عدن، عجائبية سيكتشفها ميشيل برفقة ماما وأصدقائها الذين يرحبون بالقادم كأنه فرد من أفراد الأسرة كان في غربة وعاد. هكذا تستقبل عدن لاجئا فرنسيا وتشعره بأنه منذ البداية وجد سكنا وملاذا.
تعود الرواية بعدها إلى حكاية فرانسوا الذي يكره الحرب ويقف ضد الجميع في مسألة التحاقه بجبهة المقاومة. الجميع متفقون على قتال العدو لكنه وحده يرى أن هذا الأمر مجرد قتل، وهو ضد قتل أي كان ويكره حمل السلاح على كل حال وإن كان من أجل الوطن. لكن ما هو الوطن؟ هل يجب علينا أن نلبي نداء الوطن بقتل الآخرين؟
يتنصل فرانسوا من نداء الوطن فيما يحاول ميشيل الأعرج تلبية ندائه بتركيب ساق خشبية لتبدو رجلاه سليمتين وليتمكن من الانخراط في المقاومة من أجل تطهير الوطن من دنس الغزاة. تستخرج أمه وثائق طبية لتمنعه من التطوع، لكنه يضع تلك الأوراق في درج ويصر على رغبته في التطوع. في نفس الآن يقف فرانسوا على النقيض ويتمنى لو صار ميشيل ولو كانت معه تلك الأوراق التي تعفيه من التطوع في مهمة لا يفهم مغزاها. هكذا يتسلق فرانسوا سور منزل ميشيل للحصول على تلك الأوراق. تختلط الهويات حين ينفصم فرانسوا ويتمنى أن يتحول إلى ميشيل. من قال أن الهويات يجب أن تبقى ثابتة؟. يقترح فرانسوا تبادل بطاقات الهوية، هكذا يبدو ميشيل بأوراق تثبت صحته وتجعله ينخرط في الحرب. كان فرانسوا يريد التخلص من زجر أبيه المتواصل وحثه على الذهاب إلى الحرب. الحرب التي يعتبرها البعض مهمة شاقة، بينما يعتبرها والد فرانسوا هواية مثل الغناء والرقص، ويعتبرها ميشيل الأعرج فرصة للتخلص من فكرة الإعاقة. أيهما ميشيل أم فرانسوا لجأ إلى عدن؟ أيهما اختار الهرب من قدر الحرب؟
إنه ميشيل الأعرج فيما يبدو ظاهريا الذي نجده يبحث عن عمل ويسعى لتعلم اللغة العربية فور وصوله إلى عدن رغبة منه في الاندماج في هاته المدينة العجيبة التي لا يعرف إن كان سيسكن إليها أم سيظل هاربا. هكذا يقول للعارف “معلم العربية” إنه لا يعرف إلى أين سيظل هاربا. يجيبه العارف بحكمة وبصيرة “أليس الهرب أحسن وسيلة للتخلص من ثقل الهويات المطلقة؟
تتوالى رحلات ميشيل في عدن برفقة ماما التي تختزن الكثير من تاريخ المدينة ومعرفة عميقة بشخوصها الذين يواصلون الاحتفاء بميشيل ميسرين له أمر الإقامة في عدن والانتماء إليها. يسير ميشيل في ليل عدن ويتلقى العالم وكأنه في حلم ويتساءل عن روائح زمنه الماضي ورائحة الناس الذين عرفهم. كلهم بدوا بدون رائحة وهو بدون ذاكرة شمّية، لكن عدن تفتح روحه على الروائح كلها، ألسنا في حضرة البخور العدني؟
تنزاح ذاكرة ميشيل إلى ذكرياته في فرنسا مع صديقه فرانسوا وتتناول جزءا من حياتهما المشتركة خاصة شانتال التي تبدو الرابط بينهما، وهي نفسها شانتال التي يوجه ميشيل إليها رسائله من عدن. تبدو شانتال بعيدة وميشال يستحضرها ليحكي لها عن حياته العجيبة في عدن ويذكرها بحبه لها ذات يوم، حب تنافس فيه مع فرانسوا وفرانك.
يواصل ميشال حياته بعدن ويقدمه العارف إلى معلمة لغة الفُل، وفي عدن وحدها يتكلم المرء لغة جديدة هي لغة الروائح، لغة الفل والكاذي والريحان، هكذا يصير للروائح ثقلها وتاريخها. كما الروائح التي تعبر الرواية، يعبر الغناء أجساد الشخوص، حتى إن ميشيل يستغني عن شراب الزعفران الذي يحبه وهو ينصت لشمعة. لا يريد لذة تزاحم لذة الإنصات إليها وحدها، هكذا يصير الشم والسمع أسمى الحواس وأكثرها قربا إلى التوحد الوجداني.
تنفتح الرواية مرة أخرى في فصل “هو الآخر” على سؤال الهوية فالسارد لا يعرف مَنْ مِنْ فرانسوا أو ميشيل أقنع الآخر، ومن منهما أخذ هوية الآخر، ولا نعرف من منهما يعرج في عدن؟ لا يجيب السارد عن هذا السؤال ملقيا بذلك بسؤال الهوية إلى منطقة الظل حيث الأنا هي الآخر.
“أنا” منفصمة تجد في “الآخر” تجسيدا لها ولا تهتم بمسألة الحدود معه في عالم تسود فيه الحرب وتحول الفرد إلى رقم. أية أهمية لمسألة الهوية الفردية في عالم كهذا؟ وأية جدوى لمفهوم الوطن والأخلاق؟ إذا كان ميشيل من يعرج في عدن فهذا يعني أنه قد تخلى عن مبادئه واقتنع بمبادئ فرانسوا وربما عليه أن يخجل من تغيير مبادئه بهذا الشكل؟
لقد كان الوطن بالنسبة لميشيل هو كل شيء فيما هو لدى فرانسوا لا شيء، والوطن كان بؤرة الاختلاف بين ميشيل وفرانسوا. من الذي يعرج في عدن إذن؟ يقول السارد: “كان يمكن أن نسمع من أصبح في عدن يقول:” لست فرانسوا المتخاذل اللا وطني أو يقول لست ميشيل المغفل، لكن هذا التبسيط لم يعد ممكنا فقد صارت الهوية على ما تبدو فيه غير طيعة التحقق لأي أحد منهما” ص 58.
لقد صار يحمل عبء هويتين أو شخصين في هوية واحدة، غير محققة لكن ما الهوية؟
تعلمنا الفلسفة المعاصرة أن الهوية وهم باعتبارها هوية شخصية، إذ إن المجتمع والانتماء ونزعة المحاكاة هي التي تشكل الشخصية الإنسانية، ومن ثم فإن القول بهوية ثابتة يصير خطيرا، بل إن هناك هويات قاتلة إذا ما انغلق حولها الفرد وجعلها نهائية. الوجود البشري وجود مفتوح يحتفي بالمتغيرات. لا شيء ثابت في الوجود حتى أننا لا نستحم في النهر مرتين كما يقول الفيلسوف هيراقليطس.
يفجر ميشيل سؤال الهوية ويدفع بالفصام إلى أقصاه ومن ثم يصير آخر. أليس في هذا تجسيد لرؤيا رامبو “انا هو الآخر”؟ ميشيل الوطني هو نفسه فرانسوا الذي لا يؤمن بمفهوم الوطن. إن الهوية من وجهة النظر الفلسفية تتطلب الوعي بثلاثة أبعاد:
– الوعي بالوحدة، يعني أن يعي الشخص أنه كل واحد.
– الوعي بالتفرد، يعني أن يعي الشخص أنه فريد من نوعه، شخص لا يتكرر.
– الوعي بالاستمرارية على امتداد الزمن، أي أن نظل نفس الشخص بالرغم من التحولات النوعية التي تطرأ علينا.
يلعب علي المقري على الحدود الهشة التي تفصل بين الأنا والآخر في منطقة الظل في كل شخصية ومن ثم يفجر الحكي على أسئلة الهوية والاختلاف كما هو متعارف عليها في الحس المشترك، مانحا بذلك روايته زاوية نظر فلسفية معاصرة كما بناها التحليل الفينومينولوجي لمفهوم الهوية متجاوزا بذلك وجهة النظر الديكارتية المؤسسة للوعي. سؤال الهوية سؤال يخترق الدرس الفلسفي منذ قولة سقراط “اعرف نفسك بنفسك” حتى النظريات الفينومينولوجية عن الهوية الشخصية. رغم ذلك يبقى أن الإنسان العادي لا يشك أنه هو هو إلا في حالات اختلال الشخصية واضطرابها. تطرح الهوية في التحليل النفسي من وجهة نظر مخالفة أن هدف التحليل النفسي حسب جاك لاكان هو الخروج بالإنسان من هوية الاستلاب إلى هوية الانفصال والتحرر. هذا ما يبحث عنه ميشيل في عدن. يريد أن يخرج من هوية المحاكاة إلى هوية الاختيار، هوية بديلة يختارها بدل أن يختارها له الآخرون. ينخرط في جو عدن التعددية ليعيد إنتاج ذاته، وإن كان الثمن هو أن ينفصم ويشك في أنه هو الآخر، مرددا بذلك درس لاجئ أسطوري إلى عدن: الشاعر آرثر رامبو.
الاشتغال على الهوية في الرواية لا يتم على مستوى الشخصية الفردية فحسب، ولكن أيضا على مستوى الهوية الجمعية. ألا تقذف عدن بأبنائها في الشتات والموت حين تصير لها هوية منغلقة، هوية العروبة؟ عدن ليست عربية إنها عدن فقط وحين تحاصرها الهوية المنغلقة تصير مدينة مؤذية لأبنائها. تفقد قدرتها على احتواء الجميع.
انفجار المصائر في آخر الرواية “هجرة معظم الشخصيات ومقتل الكثيرين منهم” هو تنديد بالهويات القاتلة مهما كانت ثورية وتدعي تحرير الإنسان. ربما على الإنسان أن يتحرر من الإيديولوجيات لكي يخرج من الاستلاب وأشكال الاختلال التي يحفل بها العالم.
“فرانسوا أم ميشيل؟ من منهما أقنع الآخر؟ هل كل واحد ذهب إلى قناعته ولو بهوية أخرى؟ هل فرانسوا صار هو ميشيل ولم يستطع مفارقة شخصيته الجديدة حتى في عرجها” ص56.
تغوص الرواية في أسئلة الهوية وتساؤلات زمن الحرب المقلقة عبر أحداث متشعبة وقصص جانبية تزيد من أصالة الحكي المنساب المنسوج بلغة تتراوح بين التقريرية والشعرية: لغة تخدم الحكي، لغة وظيفية لا تعرقل انسياب الأحداث. تتميز تقنية الحكي بتعدد الأصوات فكل شخصية تعبر عن وضعيتها من خلال لغة طبيعية ملتصقة بعوالم الشخصيات ومعالمها”، وهاته صفة تبرز التصاق علي المقري نفسه بمختلف الطبقات الاجتماعية بقدرة مكنته في رواية أخرى من التغول في عالم الأخدام المهمشين. هكذا نقابل العارف “معلم العربية” ونقابل الخطيب المتنقل الذي ينضح بمرجعته الدينية المتطرفة. نلتقي ماري الكبرى وماري الصغرى التي يدرسها ميشيل اللغة الفرنسية ويجعلها السارد تتصرف وتتكلم كما يلزم فتاة في السادسة عشرة من عمرها. حرية الأصوات والتعبيرات هي إحدى سمات قوة السرد والبناء الروائي في رواية “بخور عدني”. السارد لا يمارس سلطته على الشخصيات ولا يصادر حقها في التعبير عن ذاتها مما يجعلها تتطور أمام القارئ وتنسج قدرها الخاص تماما كما يحدث في الواقع، وفي الواقع قصص حب وحرب وغيرة وفراق وطلاق وموت أيضا.
إنها عدن في أجمل مراحلها تنكتب على يد علي المقري الذي يدخلنا إلى أحشائها، حاراتها، منازلها وأماكن السهر فيها. تزخر الرواية وتحتفي بتفاصيل الحياة العدنية من أنواع النباتات وأسماء البخور والأقمشة والأغاني المحلية وهاته التفاصيل تطرز الحكي وتمنحه سمة واقعية قوية في عالم علي المقري الروائي، عالم يواصل نسجه عبر أعماله الروائية المتتالية.
تقترح الرواية تصورا آخر عن الحواس حيث يمكن سماع الفل وليس فقط شمه ألا يذكر هذا بأثر لوحة كاندينسكي “الساحة الحمراء” التي تستدعي في تذوقها الحواس جميعها بحيث يمكن الإمساك بحركيتها. في الرواية يمكن سماع الفل والأزهار الأخرى في تصور جديد للحواس في علاقتها بالعالم. العارف هو الذي يقدم هذا التصور الجديد، شخص بسيط يصل بفهمه الخاص إلى مايشكل ثورة في تلقي الفن التشكيلي المعاصر. هكذا يقود علي المقري شخوصه إلى تخوم المعرفة والحكمة والفلسفة بلغة شفافة تستكشف الأرواح وتعبر عن المكنون النفسي. السارد ينحني أمام فتوحات شخصياته. يقول للعارف “مثلي في تصديقك كمثل المؤمن الذي يؤمن بشيء ولا يلمسه وإن ظن أنه يلمسه” ص 69.
ونحن كقراء لا نملك إلا أن نصدق علي المقري في الصورة التي رسمها عن عدن. هل نصدقه حين يصف عدن في تعددها وقدرتها على جعل الأديان والثقافات تتعايش؟ هل نصدق ذلك دون أن نلمسه؟ ألا ينتج علي المقري يوتوبيا عن عهد ذهبي لعدن، مدينة من العالم الإسلامي يحكم العلاقة فيه بين المسلمين واليهود فقه أهل الذمة المقيت؟ هل نصدق علي المقري في هذا الوصف المثالي لعدن؟ هل خلق علي المقري هاته الصورة المثالية عن عدن لإغراء القارئ الأجنبي عائدا بذلك إلى تيمة اليهود الحالية؟ هل يرغب في إرضاء هذا القارئ خاصة وأن رواياته لاقت نجاحا من جهة الترجمة والتلقي الغربي؟
تساؤلات لا تنقص من قيمة اليوتوبيا التي نحتاجها لترميم ذواتنا العربية وترتيق جراحنا. ربما يحتاج القارئ العربي في زمن التطاحن الأهلي الذي يعيشه العديد من بلداننا إلى جرعة من يوتوبيا لكي يأنس إلى جراح الحاضر بتخيل عصر ذهبي يجعله يحلم بأن التعايش والسلام ممكنان. أليست هاته دغدغة للحواس؟ تذكير القارئ بعصر ذهبي قبل أن يأتي التطرف والهويات الهوجاء التي جعلت من الجميع أعداءَ يقول هاي هتلر، أحد الشخوص متحدثا عن العرب “كل يوم لهم عدو. سيكتشفون ذات يوم أن لا عدو لهم سوى أنفسهم كما سيكتشف هتلر أنه عدو نفسه. عدو ألمانيا قبل أن يكون عدوًا للآخرين” ص 89. تطرح الرواية بذلك جزءا من الواقع العربي ألا وهو الإحساس السعيد بالاضطهاد، أقول -سعيد- لأن هذا الإحساس قليل التكلفة نفسيا ويجنب الفرد جهد مساءلة الذات وعناء إيجاد الأسباب الحقيقية لفشله. يُسقط فشله على الآخر وعلى نظرية المؤامرة وينتهي الأمر.
وماذا لو كان البخور حراما؟
يصرح الشيخ عبد الجبار بأن البخور حرام لأنه يثير الشهوات، تاركا الجميع في حيرة هل تبقى عدن بدون بخور؟ إن تصريح الشيخ يشرخ هوية عدن ويجعلها تقيم في حدود الفصام عن ذاتها بدون بخور أي بدون رائحة. الخطر مع التطرف هو أنه يلحق الضرر بما يشكل الهوية الأساسية للناس والأشياء ويعرضها للقطيعة “الخطيب الجوال المعروف بعناده لم يتراجع عن الزلة وقام بخلق التبريرات البلاغية ومنها قول أن البخور المنبعث من المباخر المحمولة ومن بين أفخاذ النساء المبخرات يهيج الرجال وهم يشمونه مخلوطا بعرَق النساء فيوسوس لهم الشيطان بالفجور، الشيطان الذي يظهر على هيئة بخور كافر” ص 154.
تتواجه هاته الشخصية مع شخصية العارف المثقف التقليدي الذي يظل منفتحا على الآخر متقبلا إياه. هكذا تنحو الرواية إلى خلق توازن بين الشخصيات، فكما هناك هتلر السادي النازي هناك ديغول المقاوم. هناك الخطيب المتطرف ولكن هناك أيضا نموذج آخر هو العارف الذي يصل بحدسه وثقافته إلى أكثر النظريات النفسية تقدما، يقول: “العرج ليس في الجسد، هناك عرج لا تحس بعرجهم رغم أنهم يعرجون أثناء مشيهم، بينما آخرون عليهم باستمرار التخلص من عرجهم لكي لا يورثوه لأحد، لأبنائهم وحتى للناس الذين يرونهم” إنها نظرية التكرار في علم النفس الحديث، فالمريض بالسلطة مثلا يورث مرضه لأبنائه ويمارس عليهم عاهته وربما في التكرار تكمن مأساة الإنسان غير الواعي بذاته.
يصل الانفصال عن الهوية الأولى مداه حين يطلب ميشيل أوراقا ثبوتية لهويته العدنية. لقد صار آخر باسم جديد، اسم عدني يصرح: “صرت أرى عدن من خلال السنة التي أمضيتها فيها مأوى كل ماهو آخر. إن عدن هي وطن لهم، إنها البديل حتى عن الوطن، عن أي وطن بل البديل عن فكرة الوطن عن الوطن كفكرة”.
هاته الصورة ستنفجر حين تبدأ الصراعات قبيل انتهاء الحرب وتبدأ على صفحات الرواية عند حرق دكان عم شمعون اليهودي ويتعارك البعض مختلفين في أحقية اليهود في أرض فلسطين.
تنفجر عدن وتنفجر مصائر الشخصيات ويصل الاشتعال ذروته حين يحرق الكازينو الذي يديره ميشيل وماما ولا يعرف إن كانت بالداخل أم لا. ربما احترقت ماما، الوجه المشرق لعدن، المرأة/ الطفلة التي تختزل لوحدها كل حياة عدن.. تنتهي الرواية بتساؤل عن مصير ماما: زهرة عدن كما يقول عنها العم شمعون. لقد دمرت الأحلام الكبرى عدن وحياة العدنيين. يقول العارف قبل ذبحه بتهمة الزنا هو وقبة: “أحب الأحلام البسيطة سواء في النوم أو اليقظة، الأحلام الكبرى أو العظيمة مدمرة، فالحالمون يشعلون بسببها المعارك والحروب سواء باسم الله أو الوطن أو العدالة”.
يطرح سؤال الهوية بشكل أكثر إلحاحا بعد الانفجار الكابوسي لمصائر الشخصيات ويعود ميشيل/ فرانسوا إلى تاكيده “أنت آخر” مؤكدا بذلك رفضه للهوية القاتلة. تلك الهوية التي قتلت عدن. حين تم سجن عدن في هويتها العروبية الأحادية تحولت الى مدينة مؤذية لأبنائها. لقد تغير كل شيء بفعل ثورة جديدة جعلت من الجميع عدوا. ثورة غريبة الأطوار حيث حزب واحد وشركة واحدة وصحيفة واحدة هي صحيفة الوطن ذي الهوية الواحدة. والوطن يتردى في انغلاقه يتساءل ميشيل /فرانسوا عن عدن التي رسمها في خياله والتي عاش فيها حقيقة. يقول: «ألم تبالغ في نظرتك إليها حين رأيتها الأخرى لكل شيء وأن كل عدني هو آخر الآخر؟ ألست أنت من قال هذا؟ لترجع إلى ماكنت دونته في مفكرتك قبل سنوات طويلة أو قل أنك لست أنت هو” ص329.
تنتهي الرواية بسؤال فاجع عن الهوية الشخصية عائدة بذلك إلى نقطة البدء بطريقة الحكي الدائري .. “لم أعد أعرف من أكون أنا فيها، لم أعد أعرف من أكون، من تكون أنت؟ أو قل إنك لم تكن هو أو لم تكن أنت” 335.
تبقى رواية “بخور عدني” رواية الراهن العربي بامتياز ولو تلبست ثوب التاريخ وإعادة البناء التخيلي لعدن أيام الحرب. إن ما ينكتب فيها هو محاولة جواب على الحاضر العربي الآهل بسؤال الهوية والتعصب والقتل باسم الوطن والله.
الهوامش
رواية بخور عدني دار الساقي 2014
Encyclopedia universalis, 1968 éd Encyclopédia Britanica
Identité, dictionnaire de philosophie, Noella Baraque(dir) Paris Armand Colin 2007
Ecrits , Jacque lacan, éd du seuil Paris 1968