وهي تودع عقدها الخامس، وتستعد للدخول الى العقد السادس من العمر وبعد مجموعة من الأعمال الابداعية المثيرة للجدل، بما طرحته من آراء، بدءا من (صباح الخير أيها الحزن )، مرورا بـ (ابتسامة ما)، و(هل تحبين برامز)، و(في شهر في سنة )، و(دقات قلب )، و(كلب الصيد)، و(الشمس فوق مياه باردة )، و(الزهور الزرقاء)، و(امرأة موسومة)، و(عاصفة ساكنة)، و(الهاربون المزيفون)، وانتهاء بذكرياتها التي تعد أهم الاعترافات الأدبية في هذا القرن، تقوم دار النسر(Harvy) بالاعداد لاصدار كتاب يشتمل على أهم اعترافات وأفكار هذه الكاتبة المبدعة، وهي اعترافات وأفكار مستقاة من العديد من المقابلات التي أجريت معها على مدى العقدين الماضيين، وهذه ترجمة لمقتطفات من هذا الكتاب نشرتها مجلة ((Canadian French, في عدد ديسمبر (كانون الأول) الماضي.
* حين أشرع بالكتابة، أمر بحالة من التشتت والضياع، وهي مرحلة شاقة بالنسبة لي، ذلك أنني أقضي عدة أسابيع قبل أن أتوصل الى الايقاع المناسب لانجاز العمل، والمدة الزمنية التي يتوجب علي أن التزم بها يوميا من أجل انجازه، وأنا أحب العمل ليلا، خاصة حين أكون في باريس، وأنا أفضل العمل في الليل، من أجل تجنب ضوضاء النهار، وازعاجات رنين الهاتف، أي أنني أحاول أن أعزل نفسي عن كل ما يربطني بالحياة الخارجية، وأنا أكتب في دفاتر مدرسية متشابهة، ثم أقوم بتسجيل ما كتبت على جهاز التسجيل، لأن خطي سيىء للغاية، بعد ذلك أقوم بطبع ذلك على الآلة الكاتبة بمعاونة أحدى السيدات التي دأبت على مساعدتي في العمل منذ فترة ليست بالقصيرة، ولأنني في الكثير من الأحيان لا أستطيع قراءة خطي، فإنني أحلم باختراع جهاز جديد يستطيع الكتابة حال سماعه الصوت، أي يحول الصوتيات الى حروف مكتوبة، أو جهاز آخر يمكنه أن يفك طلاسم الخطوط التي أكتبها، وأنا أتمنى أن يتحقق مثل هذا الحلم في يوم من الأيام، وبعد ساعات طويلة من العمل الكتابي المتواصل، أخلد الى الراحة، والراحة عندي ليست سوى الاندماج في القراءة، لأنني من خلالها أحاول العثور على شخص آخر يفكر بالنيابة عني، خاصة اذا كان الكتاب الذي أقرأه من النوع الجيد، وأنا أعشق مثل هذا النوع من الراحة، لأنها راحة تزرع في روح التفاؤل والأمل.
* نهاري العادي بعيدا عن الكتابة، نهار يتميز بالهدوء، فأنا أقضي الوقت كله في المطالعة، أحب البقاء في البيت، وقليلا ما أتناول طعامي خارج البيت، أقرأ، وأنظر من النافذة واذا عملت فلا أعمل إلا في المساء، فالنهار لي، لذاتي لمتعتي الخاصة، فأنا من تلك النوعية من البشر التي تحب البطالة والكسل، واتمتع بالوقت الذي أقضيه دون عمل، أجل فأنا أجد في البطالة نوعا من الغبطة النفسية، أحب أن أمتع عيني بمنظر الأشجار، أو بالحديث مع كلبي الذي أحبه حبا جما، وربما خرجت من البيت، واجتزت حديقته لتبادل الحديث مع سيدة عجوز تجلس على مقعد في أحد الأماكن العامة، ثم أعود ادراجي ثانية الى البيت.
* اللقب الذي يليق بي هو لقب ساحرة، أو كاهنة بوذية، تأتي النار على بشرتها الخارجية، كي تجعل قلبها معلقا في مهب الريح، فالريح تغسل أدراني، ومن هذا المنطلق تجدني أدير ظهري للمدينة واتجه صوب الريف، لأنني أدركت أن كل الأشياء التي تقيم علاقة أصيلة معي موجودة في الريف، لقد أدرك بعد هذه السنوات الطويلة أن التوتر لم يعد ناري المقدسة التي يمكن أن تنضج فوقها تجليات ابداعي، بل انني أصبحت على يقين كامل أن هذا التوتر نقيض للطبيعة وللانسانية وللحياة، ولم أعد قادرة على المضي مع هذا الموت الغبي الى نهاية المطاف، فأنا أريد أن أحلق في فضاء تلك السهول، وأن أعيش حالة انعدام الوزن، فهذه الحالة هي الحالة المثالية التي نبحث عنها كلنا.
* بالرغم من هذه الحالة النفسية إلا أنني أحب باريس حبا شديدا، فأنا أحب التجول على ضفاف نهر السين، وأنا لا أعتقد أن هناك مدينة أجمل من باريس في الليل، فهي تبدو لي في لحظة من اللحظات أنها قطعة من الجنة، فباريس لها لونها الخاص في كل فصل من الفصول، فهي زرقاء في ليالي الربيع، وصفراء في ليالي الصيف، وهي تعطي لكل فصل من الفصول الأربعة طعمه الخاص، وهذا هو الذي جعل لكل فصل من هذه الفصول مكانة خاصة في نفسي، وأصبح لكل فصل امتيازه الخاص أيضا، ولكن الشيء الوحيد الذي تغير هو قدرتي على احتمال الشمس، فقد أصبحت أشعة الشمس تتعبني كثيرا، وتشعرني أن رأسي على وشك أن ينفجر.
* ذات مرة شاهدت صورة ضخمة لجثة سوداء من جوهانسبيرج. كانت الجثة ملقاة على الأرض، وكان رجل أسود يطلق ساقيه للريح، الآن أحس أن الصورة قد اختلفت تماما، فها أنا أرى الجثة الضخمة تطلق ساقيها للريح، والرجل الأسود ملقى على الأرض، قد يقول قائل، إن شيئا ما لم يتغير في الصورة، هذا صحيح، لكن الصورة هي التي تتغير. ترى يمكن أن أقول لأي رجل أسود يمكن أن يمر بي في الشارع، هل أسأله سؤالي الساذج البريء: ألم تكن أنت ذلك الرجل الذي رأيته ملقى على الأرض ؟ هل يتوقع أحد منكم بماذا سيجيبني؟ بالتأكيد سيشيح بوجهه علي ويقول: يا لها من امرأة حمقاء. لكن ما رأيكم بحل وسط، أن أكون أنا تلك الجثة الملقاة على الأرض، ترى هل يمكنني تحقيق مثل هذا الامتياز البعيد المنال ؟
* أخشى ما أخشاه هو الألم، فأنا لا أستطيع أن أرى الآخرين يتألمون، فأنا أضعف من احتمال ألمي الخاص، فكيف إذا رأيت ذلك الألم ينعكس على وجوه الآخرين، ان أكثر ما يقلقني هو التفكير في المرض، وكثيرا ما أشعر بالقلق من الأتي، فأنا لا أحتمل مثلا أن يقال لي ذات يوم انني مصابة بداء السرطان. كما إنني أشعر بالرهبة حين أفكر في الحرب، فأنا على يقين من أن الحرب قادمة الينا لا محالة، وأن أخطارها الرهيبة لابد أن تداهمنا، ولذلك تجدني في حالة قلق دائم، وأتمنى أن ننعم بالسلام أطول مدة ممكنة، وأتمنى في حالة نشوب تلك الحرب المتوقعة أن يكون مكاني بين صفوف الممرضات كي أخدم الجرحى وأخفف من ألم الآخرين.
* أتمنى أن أضحك بقدر ما أستطيع، فالضحك أصبح عملة نادرة هذه الأيام، في الماضي كان هناك الكثير من الحكاية التي تدعو الى الضحك، أما الآن فقد بدأت تلك الحكايات تتلاشى وتندثر، لكن من حسن حظي أنه ما يزال لدي عدد من الأصدقاء الذين يمتلكون روح الدعابة والمرح، كما أنني ما أزال على صلة ببعض الروايات التي تدخل السرور الى قلبي مثل (مغامرات مستر بكويك) لديكنز، وبعض روايات الكاتب الانجليزي الساخر (ايفيلين فارخ) الذي توفي عام 1966، هذه الروايات تعج بالمواقف الساخرة التي تجعلني أموت من الضحك.
* رواية (الهاربون المزيفون) رواية مضحكة، وحكاية كتابتها مضحكة أيضا، انها رواية تحكي قصة أربعة من الباريسيين العصريين المترفين، الذين يتمتعون بشيء من المكر والدهاء، وقد استوحيتها من المجتمع الريفي المعاصر الذي أعرفه تمام المعرفة، أما ظروف كتابتها فلا تدعو أبدا للسخرية، فقد كسرت ساقي في حادث مفاجيء، غير متوقع وسخيف. لقد كنت أرقص وحدي على لحن لاحدى أغاني تينا تيرنر. فتعثر كعبي بثنية البنطال، ووقعت على الأرض، هذه العثرة جعلتني أخضع لثلاث عمليات جراحية، وللتوقف عن الحركة لمدة تسعة أشهر، فبدأت أشعر أن الزمن قد توقف أيضا. كان ذلك في مدينة (كان )، وكنت معددة على سطح أحدى البواخر، وكان الملل يتسلل الي وفجأة بدأت أحداث الرواية تتسلل الي، وبدأت الأفكار والتخيلات تطوف برأسي، وبدأت أكتب بطريقة آلية، الهدف منها اضحاك الناس، وكل ما كنت أفكر فيه هو أن أجعل القراء يموتون من الضحك، من هذه الأفكار الساذجة التي أقدمها لهم، ولكن الأمور ارتقت فيما بعد وتطورت الى ما هو أبعد من الاضحاك، فبعد ذلك قال النقاد انني أحاول تحليل الطبيعة البشرية من خلال هذه الرواية، ولكنني أقول إنه لم يخطر ببالي مثل هذه الأفكار وأنا أكتبها، ولكن هذا هو حال النقاد، إذا كتبت رواية هزلية يقولون انني أهدف من وراء ذلك الى البحث عن القضايا الجادة، واذا كتبت رواية جادة يقولون انني كنت أريد الاضحاك فقط، وأنا أقول أنه بالرغم من روح المرح والسخرية الموجودة في هذه الرواية، إلا أنني لم أكن أرمي الى ذلك، والدليل على ذلك انني ترددت كثيرا في نشرها، واعتقدت أن الناشرين سوف ينصحونني بالابتعاد عن مثل هذه الترهات الصبيانية، ولم انشرها الا بعد الحاح صديقة لي أقنعتني بنشرها.
* يقولون إن الانسان يقترب أكثر من الواقعية، عندما يصبح على يقين تام بلا واقعية الحياة، وأنا واقعية للدرجة التي أجرؤ فيها على القول ان الخيول يمكن أن تسير على الماء، وتعدو فوق الغيوم، وتصهل في أعماق القلب، اذا بحثت في قلبك عن أيام سوف تجد الخيل هناك تتسابق مع نبضات قلبك، ومع نبضات الولادة والانبعاث. هذه الخيول النفاثة هي آخر ما توصلنا اليه من مخترعات، لذلك تجد كل شيء حولك يركض، الحجارة، الغابات، وناطحات السحاب، كلها تركض، ما عدا الانسان، الانسان هو الوحيد الذي يقف في بؤرة السكون، لقد علمتني الأيام التي مرت بي أن أحب الخيول، فالخيول هي الأيام، والساعة التي ترسل دقاتها من خلال قصص ادجار الن بو، هي ذاتها الساعة التي تدق في أقبية الموتى.
* الحب يأتي كما يأتي اللص، يأتي على حين غفلة، دون أن يكون له أي أثر في حياتنا اليومية التي لا يجري عليها أي تعديل، حين نحب تتجاذبنا الكثير من المشاعر والأحاسيس المختلفة والمتناقضة، هذه المشاعر التي تتفلفل الى أعماقنا، فنصبح معها في حيرة، لا ندري إن كنا مرضى أم أصحاء، أما بالنسبة ل فأنا لا أظن أن الحب شرط أساسي من شروط السعادة، لأنني من ذلك النوع من البشر الذي أوتي القوة والارادة التي تجعلانه يعبر بالحب دون أن يتوقف عنده، لأن لدي الكثير من الأشياء التي تشغلني عنه، لدي علاقاتي الاجتماعية ومشاغلي وارتباطاتي الخاصة، اضافة الى صداقاتي، وما تتطلبه ظروف مهنتي مني، فأنا لي سعادتي الخاصة، سعادة من نوع خاص، تختلف عن سعادة الآخرين.
* أنا أدرك أن الوصول الى السعادة المطلقة شيء مستحيل، فالسعادة المطلقة لا مكان لها في هذه الحياة، وكلمة الكمال كلمة دون معنى، خالية من أي مضمون، لأننا حين ندخل عالم الحب سوف يتجاذبنا عاملان رهيبان هما البعد والشك، ولذلك نكون عاجزين عن الاحتفاظ بمن نحب، وفي الوقت ذاته تنقصنا الثقة بأنفسنا، وبعن نتبادل معه عواطفنا وفي هذا الصدد تحضرني جملة معبرة لمارسيل بروست، يقول فيها: "أحس وهو بالقرب من البرتين بنوع من الضيق بحاجة الى شيء ما ينزع من نفسه ذلك الاحساس بالحب حين يكون قريبا من ذلك الحبيب". وأنا أعتقد أن هذه الجملة التي أوردها بروست تنطبق على الواقع الى أبعد حد، فنحن حين نعيش حالة الحب، نبدأ بالتساؤل: "ماذا حدث لنا؟ ولماذا؟ وحين نقترب ممن نحب نتساءل: أين هو ؟ ومن يكون ؟
* نحن الآن نفتقر لشيء حقيقي في حياتنا، اننا نفتقر للادب، في الماضي كان التحلي بالأدب ضروريا، وكان نوعا من الكرامة والشهامة والشجاعة، أما اليوم فقد اختفت مثل هذه الصفة، لقد اختفت تماما، في الماضي كانت هذه الكلمة من الكلمات التي تتردد كثيرا في حياتنا العامة، حتى ونحن نتشاجر، وكثيرا ما كنت أسمع بعض التعابير المتعلقة بهذه الصفة، كنت أسمعهم يقولون: "أيها الأحمق بإمكانك أن تبدو أكثر أدبا" أو "سوف ألقنك قواعد الأدب أيها الصديق الصغير"، لقد اختفت هذه التعابير، ولم يعد لها وجود في أيامنا هذه، ولذلك تجدني أنظر بدهشة كبيرة اذا كتب لي أن ألتقي انسانا مهذبا هذه الأيام، أجل لقد تغير كل شيء، وانحدرت قيمنا الى الحضيض، فقد أصبحت الأنانية هي المهيمنة، وأعتقد أن المادة هي السبب المباشر في مثل هذه التحولات، لقد أصبح أصحاب الثروة والجاه يعتقدون أن ما لهم من حقوق أكثر هما عليهم من واجبات، وأصبحوا لا يأبهون لحقوق الفقراء ذوي الجيوب الخاوية، وهذا هو الذي يجعلني أهرب من المدينة الى الريف، فما يزال الريف أكثر نقاء من المدينة، وهو الذي يجعلني أيضا أخفف من تشددي وتزمتي تجاه هذه القضايا، فأنا مثلا لم أعد أنظر الى الكذب على أنه أمر في منتهى الخطورة، ولم تعد السرقات تثيرني، ولكن ما يخيفني بالفعل هو ذلك الجانب الشرير الذي يتصف به رجال المال والأعمال، لأنه مزيج من القسوة والاحتقار.
كثيرة هي الأشياء التي تجعلني أشعر بالانزعاج فأنا مثلا لا أستطيع احتمال الخبث وسوء النية، كما أنني أشعر بالقرف تجاه الادعاء الكاذب، وتجاه العنف والجهل، وأشعر بالنفور من الكلام البذيء والخشونة الزائدة، وأمقت العنصرية والطائفية القائمة على التفرقة الدينية، مع ذلك لست من ذلك النوع من البشر الذين يواجهون تلك الأشياء، ويقاومونها، ولست من الذين يخضعون لها، بل ممن يحاولون الافلات من هذه الأحداث التي تنهال عليهم وترجمهم بحجارتها دون سابق انذار، انني من ذلك النوع من البشر الذين يدفعون الأحداث دفعا الى الأمام، وتحاشي كل ما من شأنه أن يسيء الي أو يؤذيها بأي بشكل من الأشكال، باختصار، أنا أحاول أن أمر بالأحداث كما تمر السمكة الصغيرة من بين يدي الانسان اللتين تعجزان عن الاطباق عليها، كي أبلغ ما أصبو اليه، لأنصرف بعدها الى الكتابة.
* لقد أصبت بالعديد من النكسات، بعضها كان شديد القسوة، ولكن أقسى تجربتين مررت بهما اتهامي بسرقة أحدى قصص من كاتب أخر، ورفع دعوى ضدي في المحكمة، والثانية هي اتهامي بتعاطي المخدرات، لقد كنت ضمن قائمة كبيرة من المدانين بتعاطي المخدرات، ولكن الانظار تركت تلك القائمة الطويلة من المدانين وتركزت علي وحدي، ولعل أكثر ما أثار امتعاضي هو انتهاك روح التحقيق لقد وعد القاضي الذي يحقق في القضية بعدم اثارتها، لكنني فوجئت به في نفس الليلة يخرج على التليفزيون للحديث عنها، وعني بشكل خاص، أنا لم أنكر أنني تعاطيت المخدرات، فأنا أتعاطى القليل منها عندما أجد رغبة في تعاطيها، وهذا أمر يتعلق بي شخصيا، فأنا لم أنصح أحدا بتعاطيها، ولكن أكثر ما كان يثيرني في هذه القضية هو أن تتوهم الأجيال الشابة انني أكتب تحت تأثير المخدرات، فهذا اتهام قاس لا أستطيع احتماله.
* الوحدة هي المصير المحتوم لنا، الوحدة قدرنا، فنحن نشعر دائما بالوحدة، ونعاني كثيرا من نتائجها، فنحن نولد وحيدين، ونصوت وحيدين، وطوال تلك الفترة الفاصلة بين الولادة والموت، نعيش أيضا حالات متعددة من الوحدة، وكثيرا ما تجدنا نلجأ الى الأخر من أجل التخفيف من آثار هذه الوحدة، متناسين أن العلاج الناجع لهذه الوحدة هو الاعتراف بوجودها في حياتنا والقبول بها كقدر محتوم، أي الا نهرب من وحدتنا، ولا نرفض التعامل معها، لأننا كلما حاولنا الهرب منها، أحسسنا بأشباحها تملأ علينا حياتنا.
أنا لا أحب الحياد، وهناك أشياء كثيرة لا تعجبني في الحيادية، مثل العدالة، وأنا هنا لا أتحدث عن أشياء بعينها، بل أقصد تلك القوانين التي وجدت لحماية الانسان، ولا يوجد فيها أي نوع من الحماية للانسان، فأنا مثلا، حين أقول سيارتي، أجد نفسي مجبرة على الالتزام وبربط حزام الأمان، مع أن هذا الحزام يقيدني، وحين أقود سيارتي أجد نفسي ملزمة بالتوقف، فالضوء الأحمر في كل مكان، وأجد نفسي ملزمة أيضا بالقيادة بسرعة بطيئة لا تتعدى الخمسين كيلومترا في الساعة امتثالا لقوانين السير والاشارات المرورية، وأجد نفسي مطالبة بتسديد مبالغ طائلة من أجل التأمين على حياتي، واذا حدث لي أي مكروه أكون أنا المسؤولة مسؤولية مباشرة عن كل ما حدث، واذا اقرضت شخصا ما مبلغا من المال، لا يمكنني استرداد هذا المبلغ، لكن اذا حدث العكس واستدنت مبلغا من المال من أحدهم أفاجأ برجال الشرطة يقرعون بابي، ولذلك أجد نفسي، وبشكل دائم، ومثل الكثيرين غيري، في حالة امتثال دائم للقوانين، وفي حالة تسديد دائم للمال، وفي حالة اتهام دائم أيضا.
* كلما ازداد التطور التكنولوجي، شعرنا بالغرفة تزداد ضيقا، وان لم أكتب الا القليل القليل على جدران الغرف، لأنني على يقين من أن المسافة يجب أن تنتهي، وأنا آسفة أن خدشت حياءكم وقلت أنني أشعر أن ملابسي ما هي الا نوع من الاقامة الجبرية، بالطبع أنا لا أحب الأجساد العارية، لكنني أشعر بالقرف والاشمئزاز تجاه الملابس الثقيلة، التي تثقل كاهل الناس في السهرات المخملية، هل تعرفون لماذا، لأنني أدرك أن الملابس هي التي تتبادل النظرات فيما بينها، بينما يتلاشى الناس في خضم هذه الأزياء، هذه هي حقيقتنا منذ بدء الخليقة ونحن نحاول أن نزين هذا الجسد، من أجل بث الحياة فيه، وأنا أشعر أننا ما خلقنا الا لنكون نوعا من الرسوم الكاريكاتورية.
* التليفزيون مصدر اثارة بالنسبة لي، فأنا من المدمنين على مشاهدة المسلسلات البوليسية، مثل شارلوك هولمز أو هيركول بوارو، التي أعتقد أنها مسلسلات تتمتع بمستوى فني راق، أما ماعدا ذلك فلا يثيرني أبدا، وبلا معنى، ولذلك فإنني انظر الى هذه التقنية على أنها تقنية هدم للعلاقات الانسانية بشكل عام، والعلاقات الأسرية بشكل خاص، وحين أتذكر الماضي أدرك مدى التخريب الذي مارسته هذه الوسيلة التكنولوجية، لقد كان الحوار والتواصل والتفاعل بين جميع أفراد الأسرة، لا ينقطع أبدا عندما تجتمع على العشاء، أما اليوم فقد تلاشت هذه الصورة الجميلة، لقد أصبح الجميع يتناولون طعامهم وعيونهم مسمرة على الشاشة الصغيرة، ولم يتوقف هذا الأمر على المدن الكبيرة بل امتد الى الريف، ففي قريتي التي لم يكن فيها جهاز واحد في مقهاها الرئيسي، ولم يكن ما يبثه من برامج يثير اهتمام أحد من أهل القرية، كان أهالي القرية يتجمعون في حدود الثامنة ويتسامرون ويتحدثون عن المحاصيل والمواسم، ويروون القصص والحكايات الجميلة، أما اليوم فقد تبدلت الأحوال، وأصبحت البيوت عبارة عن زنازين مغلقة، فمع الثامنة مساء تغلق البيوت أبوابها، ويتجمع سكانها أمام تلك الشاشة التليفزيونية وتتعلق عيونهم بها، وينسون كل قضاياهم ومشاكلهم، حتى الشباب الذي يتمتع بالحيوية، ينسى تلك الحيوية ويتسمر أمام هذه الشاشة، التي أعتبرها آفة من آفات العصر.
* بيكاسو، أنا أعتقد أن الألوان هي ألوان الألوان، فأنا صاحبة القميص الصيفي والكتف العاري، وأنا ابنة نشيد الموت والحياة، الوردة هي لغة الثلج، والمطر خرير الأنهار، ولا يغير من الأمر شيئا سواء كنت جميلا أم قبيحا أدر طائرا كسرت جناحيه الريح. بيكاسو ها أنا أرسم أحدى لوحاك بالكلمات، وأنا مدركة أنك لو كنت على قيد الحياة لأقمت علي قضية قذف وتحقير. هذا الأمر يذكرني بأول لقاء لي مع صامويل بيكيت، لقد بقي صاحب فلسفة العبث واللامعقول ساكنا حوالي ثلث الساعة، لم ينبس ببنت شفة، ومن خلال هذا الموقف الغريب أدركت ماذا يعني باللامعقول، لكنه بعد ذلك نطق وقال الي: المرأة هي اللامعقول. ترى هل يعرف مثل هذا الرجل كيف تغازل المرأة، أنالا أؤمن بالفلسفات الخرساء، أنا أؤمن بانهمار الكلمات علي كالبرق الصاعق.
* أزمتنا نحن معشر النساء أننا غير قادرات على التعبير عن قضايانا بدقة، ميزة المرأة الغموض، وحين يتوصل الرجل الى فهم ما للمرأة تتحول الى آلة حاسبة، ولهذا السبب كانت اديث بياف تغني بالكثير من الدهشة للمرأة التي تمشي على الريح، أحيانا أشعر وأنا أعاني من أزمة ما إنني أسير فوق الغبار، لكنني سرعان ما أعود الى السير على الريح، وأنا حين أتحدث بكل وضوح، أكون أمارس النقيض، أي أنني أمارس غموضي كله، فأنا مؤمنة أن على المرأة ان تكون كالغابة، مكانا رحبا للضياع، لكن لابد من وجود نقطة التقاءه، ومن هذا المنطلق، تجدني لا أحب ارتداء المعاطف الثقيلة، ولا أقوم بإسدال الستائر على نوافذي، صحيح أنني أحتفظ بالكثير من الاسرار، ولكنني أعترف أنني حزينة جدا، وكلما سرت في الشارع، أشعر بأن الحياة تسير في الاتجاه المعاكس، وهو تصور مخيف، خاصة حين يصل الاعتقاد الى درجة اليقين، بأن العالم ليس الا نسخة باردة عن الجحيم.
* الحملات النقدية التي تشن علي، تجعلني أشعر بالحزن لفترة، ثم أعود فانظر اليها بسخرية كبيرة، انها نفس الحملات، منذ ثلاثين سنة لم تتغير أبدا، نفس الملاحظات التي تعتقد أنني مازلت طالبة على مقاعد الدراسة: "كان يمكنها أن تقدم عملا أفضل، لا تعرف معنى الجدية، مواضيعها سيئة ومعالجاتها للموا ضيع أسوأ، يخيل الي وأنا أقرأها أنني أقرأ نشرة مدرسية" ونفس الملاحظات تتكرر فيما يتعلق بسلوكياتي، "تكثر من شرب الخمر، تدخن كثيرا، وربما وصلت الى درجة الادمان"، في الولايات المتحدة الأمريكية يكتبون علي الابحاث والدراسات الجامعية. وفي اليابان يفتحون النوادي لمحبي فرانسواز ساجان، تماما كتلك النوادي الخاصة بميراي ماتيور وفي روسيا يدرسون اللغة الفرنسية من خلال رواياتي، أما في فرنسا فليس لهم سوى الانتقاد، انتقاد طريقتي في العيش داخل هذا المجتمع الصغير، بل يصل انتقادهم الى درجة اتهامي انني فضولية اتدخل فيما لا يعنيني، خاصة اذا كتبت عن عمال المناجم في رواية من رواياتي، هل تعرفون لماذا ؟ لأنني من وجهة نظرهم لست سوى (مس كوكايين) الا تبدو مثل هذه الانتقادات مضحكة، صحيح أنها تثير المرارة في النفس أحيانا، ولكنها في النهاية لا تثير سوى الضحك.
* أشعر بالغيرة عندما أقرا كتابا أعجبني، إنها غير مغلفة بالسعادة والاعجاب، فأنا أحسد الكاتب على كتابه، ولكنني في الوقت ذاته أشعر بسعادة غامرة، كما يتملكني نفس الاحساس حين أعيد قراءة بعض الروايات الكلاسيكية الرائعة، في محاولة مني لاعادة اكتشافها، فأنا الآن أشعر بالسعادة واذ أقرأ (النزهة للفنار لفرجينيا وولف، في حين كانت قراءة مثل هذه الرواية دعوة الى الملل والضجر بالنسبة لي في الأيام الخوالي، ولذلك فأنا أحاول من حين لآخر القيام بعمليات اكتشاف لتلك الأعمال. مثل (الأحمر والأسود) أو مؤلفات (بروست)، فأنا الأن أشعر بمتعة حقيقية لكل اكتشاف جديد. كما أشعر بمزيج من الغيرة والاعجاب تجاه هذه الأعمال.
أنا لست من النساء اللواتي تأخذهن العزة بالاثم، ولست من النساء اللواتي ينقلبن رأسا على عقب عند زوال حالة الحب، فأنا لا أحب الفأر أو التخريب. مهما كانت نتيجة حالة الحب التي عشتها، فأنا لا أشعر تجاه من أحب أو من سبق لي أن أحببته سوى بالصداقة المخلصة، فأنا أدرك أن الحب الترابي، لا يعادل لحظة واحدة من لحظات المحبة والحنان، وأنا مؤمنة أن ذهاب الحب أو زواله لا يعني زوال حسناته، فالحسنات لا يمكن أن تتلاشى بتلاشي الحب، كما أن سيئات ذلك الحب لا يعود لها ذلك الفعل، أي أنها تصبح غير قادرة على الأذى، أو تفجير الشعور بالالم، وبهذا يصبح المستقبل أكثر اشراقا، ويصبح الماضي أكثر جمالا وروعة.
أنا لا أعتبر مارسيل بروست كاتبا عبقريا، ولا أعتبره شخصية خارجة عن المألوف. فأنا على يقين من أن أية شخصية سواء كانت ضئيلة الشأن، أو عظيمة المكانة، تظل شخصية قائمة بذاتها، ولكن بالرغم من هذه الحقيقة التي لا أشك في صدقها مطلقا، الا أنني أجد في كتاباته تلك اللفتة الانسانية الرائعة، لأنه يؤكد لنا أن الحب في نهاية المطاف، وبالرغم من كل الاعتبارات يحمل لنا الى جانب الشعور بالضيق والقلق، ذلك الاحساس العميق بالطمأنينة والهدوء والرضا عن الذات.
أنا لا أهتم بما يمكن أن يحدث لي بعد الموت، ولا أهتم كثيرا بالامجاد التي يمكن أن تبقى لي بعد مماتي، ولا أحفل بما يمكن أن يكتبه الأخر ون عني، ولكنني أكذب اذا قلت أنني لا أخشي الموت، فأنا أخشي الموت كثيرا، وخشيتي له لا تأتي من فكرة الموت ذاته. فأنا لا أشعر بالرعب تجاه فكرة الموت. وانما أكثر ما يرعبني فكرة الغياب عن هذا العالم، وكثيرا ما استيقظ على ضربات قلبي التي تدق بعنف وأنا أفكر في هذا السؤال الأزلي الذي يشغلني: ماذا يمكن أن يحدث لي ؟ وما هي الأحداث التي تنتظرني في هذه الحياة، ولعل أشد ما يقلقني هو انني سأرحل عن هذه الدنيا، فلا أعود أرى هذه الأشجار.
ترجمة: م. ظ.