فتحت الباب بهدوء ولكنها سمعته, جرت إلي فطوقتها وهي فاتحة ذراعيها إلى الوراء خوف أن تصيبني رغوة الصابون في يديها, واندفعت تتكلم بسرعة كعادتها: »لم أنته من غسل الصحون بعد ولكن الغداء في لحظاته الأخيرة, جئت مبكرا يا زيتوني, لا تنس النظر في القائمة المعلقة على المرآة قبل أن تبدل ثيابك.. آه نسيت الصنبور مفتوحا.. «, وجرت كأي مطر ناعم, فسرت نحو الغرفة وقرأت في القائمة: »يمنع رمي الملابس على السرير, اغسل وجهك ويديك وقدميك, يمنع وضع الأوراق على منضدة الزينة«, رميت الملابس على السرير ولكن جسدي كان بداخلها, كان السقف أبيض ممتلئا بالحبيبات, وكان واطئا, وتبدو حبيباته غير مألوفة, كأنها دمعات كبيرة تجمدت فجأة والتصقت هناك بلا داع.
جاء صوتها: ؛لم تغير ثيابك بعد?.. الغداء يناديك ..أرجو ألا تنسى أن تغير لي ورق الألمنيوم على الطباخة لأنه اتسخ كثيرا, آه زيتوني.. هل سمعت ?..جارتنا ندى وضعت في السيارة لأن حركة المرور كانت متوقفة لمرور بعض الشخصيات الهامة .. آه المسكينة..«, كانت لثتها العليا بادية وهي تتكلم, والغمازة في ذقنها تظهر وتختفي بسرعة, وحين استدارت متجهة للمطبخ كانت آثار جرح قديم غائر في ساقها اليمنى, هناك حياة ما قد عاشتها من قبل, حياة لم أعرفها, حياة حقيقية ملأى بالفرح والجروح.
في الحلم الذي لم يتوقف عن الهبوط في نومي المتقطع كنت أدلك قدميها بالورد, ورد كثير, وحين أستيقظ كنت أتيقن – من جديد- بأن الورد كان يابسا, وأني لم أصل لآثار الجرح.
على المائدة الصغيرة المفروشة بجريدة الأمس طبق الأرز والسمك, وكوب واحد ضخم من العصير, وطبق صغير من الحلوى بملعقة واحدة.. رشفت بسرعة من الكوب المزين بحروف انجليزية ملونة ثم وضعته أمامي, لمحت يدها الطويلة الأصابع وكانت مختلفة كأنما نقعتها في الماء طويلا…قالت – والغمازة كنقرة عصفور حط بغتة وطار: »ما بك يا زيتوني ?.. مازال رئيسك في المكتب سخيفا ومتسلطا?!.. اطمئن كلهم كذلك : مديرة المدرسة مطلقة هوايتها السخرية من المتزوجات, لا تتكلم إلا وأتخيل أنها تختبر طبقات صوتها إلى أي مدى ستصل .. وضحكت, وكانت ضحكتها موجة مشاكسة لم ترجع للبحر.
كان الورد لا يلون قدميها ولا يعطرهما وكان يتساقط منهما متكسرا, وكنت أدلك بدأب, حتى أستيقظ متعبا وخائفا, فأرى أجفانها المغلقة بسلام, وأسأل نفسي: سأحبها?! «
كان بياض الصحن يظهر شيئا فشيئا, ثم ظهرت براعم الوردة في وسطه وعليها بعض حبيبات الأرز المتبقية, فتذكرت سباقي وإخوتي على من تظهر الوردة في صحنه أولا, ولكن صحوننا كان بها أيضا طيور ملونة وأشجار ملتفة وكان الفائز من يظهر له رأس الطائر الذهبي .
حين وضعت ملعقة الحلوى في فمي ذاب سكرها بتمهل, ثم انحدر إلى حلقي وكنت قادرا على الشعور بلذته بعمق, وكانت تقول: »تحب الحلوى كثيرا يا زيتوني«.. كنت دائما زيتونها, كان زيتون منتفخ ينزلق بين حروفها, وكانت الحروف تريد أن تطوقه, وكان الزيتون مراوغا, ويعصر زيته بلا سبب.
على قميصها البيتي الخمري ورود صغيرة بارزة قليلا حول العنق والخصر, مشغولة بعناية بخيوط حمراء وخضراء, وكانت سلسلتها الذهبية تلمس حافة القميص في إيقاع متناسق مع كلامها, وكنت على يقين بأني أحبها كالحياة.
»اسمع يا زيتوني لابد أن أذهب لزيارة ندى, ولكن ماذا أحمل لها ..فراش للمولود?.. ملابس?.. ألعاب?.. ما رأيك?.. المهم لا بد أن تكون الهدية قيمة فقد أهدتني يوم عرسي عطرا ثمينا..أتذكره?..لقد أحببت رائحته كثيرا.. «, حين حملت الأطباق رفعت كعب قدمها برشاقة محاذرة الانزلاق في أرض المطبخ الرطبة كأي بشر يحب الحياة وسيعيشها مليئة وعامرة, مهما اختبأ وردها في سلال الزيتون الكبيرة, سينمو وسيصبح شجرة, وحين غسلت الأطباق غسلت أسنانها وتعطرت..كان وجهها قريبا من وجهي مائلا قليلا إلى اليمين كما كان حين قلت لها للمرة الأولى بأني أحبها… كالحياة. كانت تنظر إلي وكنت أرى رموشها الناعمة وقد انفرجت اطباقتها الخفيفة فجأة وهي تقول: »وجهك شاحب«.. تفحصت أظافري: »تحتاج إلى مزيد من الكالسيوم.. لا بد أن تشرب كوب الحليب كاملا كل صباح« ثم ضحكت: »قالت أمي- رحمها الله ما كان أصدقها-: اعتني بالرجل مثل الطفل.. « وابتسمت ولم تظهر لثتها العليا, كنت أعد الصباحات التي ستستطيع صنع الحليب لي فيها, وتذكرت بأني لم أفكر من قبل بعد الأيام وأني لم أعد زيتونا يفيض بالزيت المبارك, وكان نصل عطرها موجعا, ولما لم أبتسم ولم تلمس أصابعي الوجه القريب, قامت كأي فراش كسير, ولملمت دفاتر التحضير وكتاب الجغرافيا للصف الثالث الثانوي من على الأريكة, وحملتها إلى غرفة المكتبة غير منتبهة إلى ظرف ملون سقط من أحدها, أصبح الظرف بمواجهتي الآن وأستطيع قراءة حروفه الملونة: »من طالبات الصف الثالث الثانوي (أ) إلى المعلمة الغالية والأخت الحنون حياة«, كانت أشكال قلوب حمراء وزهور قد ألصقت في كل مكان فيه, وفي إحداها كتب: »كل سنة وأنت طيبة«, كل سنة?!.. مهما كثرت السنوات وتراكمت الهموم?!
كل سنة وأنت طيبة يا حياة, ستحيين وإن تبدي خلف قناع شحوبي سببه الذي عرفت أخيرا, وإن لم يدعني المرض الذي لا تسمحين لاسمه أن يلامس لسانك, فإذا ما ذكرتيه لأن أحدا بعيدا بعيدا غادر هذه التافهة لأجله كنيت ثم أوغلت في الكناية كأنما سيؤذيك الاسم أو سيحط طائر أحرفه شؤما على شفتيك الجميلتين.
»هيه يا زيتوني .. مفاجأة! »التفت, كانت تلهث انفعالا, قلت بسكون: »ماذا? « .. »اغمض عينيك أولا.. « وأغمضت عيني على صورتها واقفة, منفعلة, مليئة بالحياة.
»لا..لا.. أنت صنعتيها?.. « كنت أقلب الكمة متقنة الصنع دقيقة النقوش بين يدي, معينات بيضاء محشوة بالأخضر حولها دوائر تتفرع منها أشكال هندسية أخرى ثم دوائر منقطة بالأخضر ثم الأشكال عينيها ,كانت مبتسمة وبريق فخر يلوح خطفا من عينيها… همست: »أي إتقان ودقة?! «, ضحكت: ؛في الحصص الفاضية أكون قد انتهيت من التحضير ومللت من سماع ثرثرة المعلمات حول من تزوج وخطب وطلق فأعمل فيها .. تحتاج لدقة طبعا ولكنها ليست بتلك الصعوبة.. تصور المديرة ضبطتني يوما وأنا أطرز فيها في حصة احتياطي ..نفذت من الموقف بصعوبة«.. وضحكت مرة أخرى, تلك الضحكة التي لم ترجع أبدا إلى البحر, كانت ساداكو اليابانية في العاشرة حين سقطت متأثرة بمرض بدأ ينتشر من آثار هيروشيما, كانت تحلم أن تمثل مدرستها في فريق العدو السريع, ولكن المرض ألزمها الفراش, ولأن طائر الكركي يعيش طويلا جدا فقد قالت الأسطورة بأن على المريض أن يصنع ألف طائر كركي حتى يشفى, ولكن ساداكو لم تستطع في شهور مرضها الطويلة أن تصنع أكثر من ستمائة وأربعة وأربعين طائرا ورقيا فلم تمثل مدرستها في فريق العدو السريع قط.
»قصة مؤثرة ولكن ما علاقتها بالكمة يا زيتوني?! «, تأملتها, كان وجهها مائلا أيضا إلى اليمين, قلت ببطء: »لا علاقة..لو اختفى زيتون الآن من ستعطي الكمة? «, ضحكت, قالت ببساطة: »زيتونا آخر أيضا«… أهذه أظافري أدمت يدي?.. أهذا ما كنت أحوص كوحش جريح لأجل سماعه?… هنا خيط طافر من طرف الكمة لم تحكم عقدته..اقتربت بنعومة: »لأنك لست زيتونا واحدا ..أنت بستان زيتون.. كلما هرب زيتون نبت آخر ..قل لي بصراحة: أأعجبتك الكمة? «.. ارتميت على الأريكة يومض في صدري ذلك النصل المفاجئ من الألم الذي يجعلنا نحلم بالبكاء: »نعم يا حياة ..كثيرا.. « كنت أحاول العد في عينيها, كم زيتونا ستجد في بستانها?
جوخة الحارثي قاصة من سلطنة عمان