لعلكم لا تعلمون شيئا عن "خاش باش".. إنها تلك القرية ذات البابين المنتصبين كماردين يرابطان عند مدخليها الوحيدين: الأمامي والخلفي.. أبراجها العشرة ترتفع الى عنان السماء تسيج "خاش باش" من جميع الجهات.. شكلها الخارجي دائري يوحي بقربه للحلقة منه لأي شكل آخر.. تعيش طقسا متمردا على ما حولها من قرى، فعزلتها سر لا يدركه سوى أهلها المنكفئين على أنفسهم كمرابطين.. بعض المتفيقهين لا تحلو له التسمية إذ يرى فيها شبها "بأسماء البنيان" كما يقولون فيطلقون عليها فيما بينهم "اللوح" إذ يرون أنها كاللوح الطافي وسط اليم فهو يسبح وينجو من الغرق.. بيوتات "خاش باش" تكاد تكون حجارة "دومينو" منضبطة الايقاع متراصة كأن دهرا من الفزع شكل على هذا النحو.
كان الظلام حالكا والوقت قيظا وغرف البيوتات المتراصة هجرتها الأجساد فالجميع يستجلب شم نسيم الليل من على الأسطح.. كان همس الليل في القرية متبادلا فنسمات الهواء كفيلة ببثه على موجة واحدة لجميع الأسطح لهذا ولأسباب أخرى يضطر الأزواج الى تحمل عرق جهد الليل في الغرف الطينية التي نادرا ما يتاح لها استراق ضوء قمر أو نسمة هواء.. كانت ليال آخر الشهر ذات حسابات خاصة لأولئك الذين لا يتحرجون من الارتفاع والنزول فوق الأسطح، فالظلام الحالك ينسج أردية تتكفل بتغطية عري الأجساد ساعة اللزوم أو يوهم بذلك على الأقل.. كما أن الأسطح تعمل على تحرر الأجساد المتلاصقة من رائحة العرق المتطاير تلك الرائحة التي تزكم الأنوف.
في أحد المساءات الأشد قتامة حين كانت القرية تغط في سبات عميق.. والنخيل بهاماتها تلعلع أغصانها ذات يمنة ويسرة،كأنها تعزف لحنا خالدا وليس ثمة ما يوحي بفأل سيىء سوى نعيق بوم في أطراف البساتين يصل صوته خافتا للأسطح التي توزعت عليها الأجساد كخشب مسند.. خدش صوت طلق ناري السكون الجاثم.. تبعته صيحات استغاثة طوقت الفضاء وسرت كالهشيم مخلخلة المعتاد من طمأنينة.. كان هدير الصوت فاضحا أقرب الى استغاثات عجل.. في حينها اختلطت أصوات كثيرة وعمت الفوضى في المكان: مزاليج أبواب، وقع أقدام كثيرة ترضع الطرقات ولولة نساء، نباح بعض الكلاب نهيق حمير جائعة: كركوة دجاج أيقظها الصخب المتعالي.. كان مشهد الجموع النازفة كهدير أمواج تتلاطم ولم تخل الأزقة من سقوط وتعثرات، فالأجساد منهكة بعد نهار عامر بالحركة بحثا عن قوت يملأ الأفواه.. كان النهار في القرية يعني شيئا واحدا فقط، فالجميع لا يعرف سوى الحقول التي ينبغي زيارتها كأولياء صالحين.
كانت الاسطح هي الأخرى تدب بأجساد أثقلتها الأيام عن الوثب مع المهرولين، ويفزع صبية بدأوا ترك منامهم هرعا الى داخل الغرف المملوءة بلوازم القيظ تدثرا من الكارثة التي حلت.
المشهد الثاني:
كان "فيروز" رجلا من نوع آخر فهو حمار حرث بامتياز شديد.. يموت في اليوم مئة مرة من أجل كسب ابتسامة يفاخر بها نفسه عند النوم. يلثم يده بعدها مرددا "الحمد لله رضا" كان جميلا.. طويلا كنخلة..عيبه يرتكز على أنفه الأفطس وكعبه الذي يشبه الكف كما يحلو لسيده مناداته عند الغضب "انت يا صاحب الكعب.. يا صاحب الكف " ميزة أخرى تميز فيروز عن أقرانه الخدم الآخرين أنه غير مخصي وعندما كان يقف كالعمود ينتظر فراغ ضيوف سيده من الأكل حاملا "سحلة الماء" كان يسمعهم يفاخرون بليلهم حيث فلانة وعلانة كان هو يفاخر – بينه ونفسه- بأنه غير مخصي.. كان هناك بون بين ليله ونهارا لقد كان النهار بكل الحقارات التي ينالها فيه أخف وطأة من الليل.. الليل كان الفضاء الذي لا يطيقه ولا يعرف التعايش معه.
وما كان المطبخ الذي يفترش فيه حصيرة كفيلا بإخماد جذوة لهيبه الذي يزداد اتساعا يوما بعد آخر.. كان يؤرقه أصله الضائع.. وجسده المكتوب عليه خدمة السيد واهله وهو الذي لم يدفع فلسا واحدا ليكون عبدا.. ذنبه أن عائلته كانت كذلك..! ذات الوجوه تكرر أمامه كل صباح ليس فيها ما يوحي بالفرحة أو حتى الضحك… إلا أن الأمر مع السيدة الكبيرة زوجة السيد الأولى مختلف الى حد ما، فهي وحدها التي تنفتح اساريرها بعض الأحيان عندما تراه.. وهي التي تقربه الى غرفتها في أوقات الخدمة التي لا تود من أحد معرفتها الامر الذي أقلق السيد وجعله ينظر "لفيروز" بعين أخرى.
المشهد الثالث:
بدا الأمر غير مفهوم هذه المرة بالنسبة لـ"فيروز" فهي المرة الاولى التي لا يستطيع أن يرد سريعا بـ "حاضر" او "نعم " أو "ان شاء الله" كما تعود كل مرة.. لكن الامر كان قد قضى بين ليلة وضحاها فليس للعبد إلا الطاعة رغم أنه يجادل نفسه كثيرا في أن يكون عبدا كما أنه غير قادر على هضم التسمية بسهولة.. هذه المرة عرف كيف يختلي بنفسه.. كان محتاجا لليل طويل لا يشاركه فيه أحد لكن الآمر عجل وليس ثمة وقت سوى.اربع وعشرين ساعة ثم أنه يفكر في ماذا لقد قضي الأمر.. هكذا أراح نفسه من هم التفكير… " التفكير من شأن الكبار اما أنا فمن شأني التدبير.! آه من هذا الشأن ".
***
عهدا بالفطام سينتهي.. أمامه الآن مسؤوليات جسام.. "آه لقد أصبحت مكلفا لأول مرة.. سأروي عطشي". كان الأمر من قبل بمثابة انتظار مسافر أبدي لقطار عائد لا يجيء. لكن
رهبة بدأت تغزو جوانحه يحاول دعكها كما يدعك الصحون كل يوم.. وكما يهز سجاد المجلس كل صباح الا أنها تداهمه.. لا فائدة لقد كانت علامات الاستفهام كبيره.. ترسم أمامه وتدوي
كطلقات مدفع تمخر رأسه الهش – ذلك الرأس الذي اعتاد على برمجة بعينها – "نعم سيدي.. حاضر سيدي.. ان شاء الله سيدي.." مطلوب منه أن يتبدل الآن أن يصرخ في الليل أن يدخل الى منامه ليجد جثة تشاركه المنام تتدحرج مع جسده.. يقول لها: "تعالي.. اخلعي.. البسي.. ثم ماذا؟! أولاد بنين.. بنات يصرخون في وجهه ماذا سيقولون ؟! كيف يرد عليهم ؟! نظرات شزرى ترمقه أبونا الخادم.. اه اللعنة علي الا يكفي عبد واحد ذو أنف أفطس وكف كالكعب أو كعب كالكف.. " اللعنة علي ".
المشهد الاخير
كانت الدماء ما تزال رطبة لحظة وصول الجموع الى حيث المقر الجديد لفيروز وعروسه وجثتان هامدتان. فزع شديد انتاب الحاضرين صمت مطبق خيم على الوجوه.. نظرات مبهمة تناثرت بين الحضور.. والأرجل جامدة تكاد تسقط من طولها.. كان السيد يتوسطها وثمة أصوات خافتة تنوح.
***
قبيل شروق الشمس كان وقع أقدام تهرول صوب المقبرة حاملة رأسين حقهما محفوظ هذه المرة.. سيتركان بجانب الرؤوس الاخرى.. غير ان الطقس الذي يتبع قبرهما مغيب كذلك فطبقتهما لا حق لها في ذلك.
مرهون العزري (قاص من سلطنة عمان)