مللت مني، فهبطت الى الشارع، واتصلت بصديق.. ولكن الهاتف تقيأ البطاقة، فقذفتها الى القمامة. قلت: أمشي الى البحر، فالجوع سيقتل الزرقة الضئيلة لسائر أيامي الفارطة.وفي الطريق مررت بحانة..قلت: أكتري ذهبا للنوم، وصعدت،واذا بعينين ولطمة..ثم لا أدري كيف سول لشارع ضيق أن يدحرجني، على عربة بنصف إطار أوقفتها قدم مجنون،قال فمه: خذ هذه الحقيقة، وأدخلها إلى جوفك.
وناولني صرة..
(2) ما كتبته قبل شهرين
(أ)
من إحدى قصص جميل حتمل خرج جميل حتمل تائها، بعد ست علب رديئة، مضى الليل دون أن تسلما للنوم. وحالما وجد جميل نفسه خارج النص، هبط الى مقهى على حافة حانة في باريس، وهناك التقى بالمرأة التي يحب، المرأة التي تركته. فعاد تائها الى الشارع. حالما فعل ذلك فكر: إن النوم كلب كسول، ينام، ولا يطارد أبدا.. فبدأ يعد الى الألف… دون جدوى.. وأخيرا دخل قصة قصيرة من "كتاب الرمل"،وأخذ يتجول، ويدنو من فرح انقض عليه فجأة..كان جميل يحتمل اللقاء بـ«بورخيس»، ويتهيأ لعناق طويل، إلا أن بورخيس كان في قصة أخرى- من نفس الكتاب – كتاب الرمل – ولا يعلم عن هذه الزيارة شيئا..
(ب) الروح
– إذا التفت وراءك فلا توقظني.. ولا تخف يا رفيق..
– نحن فوق عظامنا..
– هل عدنا الى النور أم الى الظلمة !..
– أم لعلنا بينهما !..
– إني أسمع الريح تعوي عند الباب..
– أزائر جديد…
– كم سلخنا في ترميم الصعود!..
– ازائر ؟..
– رفيق يتبع الاثر..
– يمحو الاثر..
– من.. يحفل بهذه الكارثة !..
لم تكن أربع أيد تنبش قبرين، لكن قبرين انفتحا، وفاحت كارثة:
– هل هذا أنا؟
– وذلك أنا؟
– أنظر: بهذا الفم لا أدري: ماذا مضغت.. ماذا تفوهت.. ماذا قبلت..
– بهذه اليد قفلت جائعا الى البيت..
– هل كان جميلا:..
– هل يدري هو: أعنت جميلا ؟..
– أله بأب:..
– لا يطرق.. لا يدخله، ولا يخرج منه أحد غيري..
– أنظر.. انظر وراءك !..
– إنه الباب يفتح..
– اسنظل عالقين بين فراغ وفراغ !..
– الى اين ؟..
– من أين ؟..
– انظر.. انظر وراءك !
– من أي جهة يقترب الأثر؟..
– يبتعد الأثر..
– أنظر..
– إنه الباب.. تريث..
(جـ) الى: الفتى عبد الله
كأنما الى نزهة مهلكة.. كأنهم يعلمون أن كل شيء سينتهي سريعا، تبعنا الظمة الى لا آخرها.. القرويون الأشداء سبقونا، وهزوا المصابيح، ليتأكدوا من أنها مازالت تعمل منذ الجنازة الماضية..
ليل.. أقدام يوسوسها الحصى.. جنازة العمة تتناوب الأكتاف إرشادها الى المغادرة.
الفتى يهيل التراب.. نظرت في عينيه.. كأنه أفشى سرا.. أشار الى قبر قريب: قبر الجدة. اخرج عينيه فوق كتفي، لم يكن ثمة أثر للجنازة، وامتدت قبور هائلة في عينيه.. رأيت العمة تغني للفتي، تناغيه: في الليل القادم سنكمل حكاية الضبعة وبنات الظبية. هنا ينتهي الأمر، قالوا، منا يبدأ الأمر.. ولم أفهم أي أمر قصدوا. أصبح قبر جديد…لن يزورا أحد.. خلى البيت من روح.. وتمطى بعضنا من أثر الانحناء: أإلى هذا الحد أتعبنا الدفن.. ضوء المصابيح يبالغ في حدته.. الغبار يغتاب الحنين.. انتفضت ظلالنا كعصابة تجهز على جثة.. وما عدت أميز وجه الفتى.. أغمضت العمة.. أغمض الفتى عينيه.. مضمض الحفار فمه.. بصق ترابا بعضه علق بشاربه.. نفض يديه: لنذهب.
وذهبنا..
(3) الفكرة
كيف تسللت الى رأسي
كيف تخللت ملابسي، وشعري، وجلدي
كيف اضاءتني
هيأت لها النبيذ، والخبز اليابس
المتخلق من أصابع أمي
**
للطريق أن يترصد حذائي
أثرا، أثرا..
أنا لا اعلم شيئا. قضيت ردحا من الفظاعات لكي
أتهجى اسمي، لكي أرسم لي دربا بلا لافتات
تقود الى جهنم.
**
كيف طرقت بوابة رأسي
كيف غافلت المزلاج
كيف استقرت على الطاولة
كيف قبلتني من فمي، ولم تقل: سيغمس أبي رأسي
في ماء الموت..
عميقا أحست بعينيه.. التفكير في الراتب الشهري خذلها من أن ترتكب اثما أحمق، لذلك ابتسمت برتابة: للمرة الثانية يا (سيدي)، النوع الذي تطلب ليس موجودا الآن.
– حسنا.. أي شيء..
وبعد "أي شي" قام محتقنا، يتحسس الطريق ليفرغ اي شيء.. ولكي يصل الى اي شيء، عليه 1ن يقطع ممرا ملتويا، شبيها تماما برقعة الشطرنج، لكن دون الألواح / الأصنام، التي تسمر عليها عادة. وان كأن – الممر – محفوفا بالطاولات، والدخان، واللغط، وأغنية رخيصة..
في منتصف الطريق التقاها.. حملق في عينيها، حملقت في عينيه، وفي آخر الشهر الذي بدأ يقترب.. كاد يسقط لفرط ثقل رأسه.. وحدق في عينيها..
(5)
تخلت الأدراج عن المسودات الضئيلة.. تخلت الطاولة عن الأدراج.. تخلت القوائم عن الطاولة..
تخلى الاطار عن اللوحة.. تخلى المسمار عن الإطار.. تخلى الجدار عن المسمار..
تخلت النافذة عن الستارة.. تخلى الجدار عن النافذة.. تخلى المزلاج عن اليد الوحيدة.. تخلى الباب عن المزلاج..
تخل الجدار عن الباب..
ففكر صاحب ما كان بيتا فيما صار
(نصا)، فحاول أن يرتق الفقد بالركض
بعدا في الذاكرة، وتضر ليله
هشيما تذمره الرياح.. ولما ادبر
الصباح كان العراء ممتدا فوق ما اصبح
عراء..
(6) الكوارث
(أ)
ماذا لو عاد جميل الى المقهى..
(ب)
ضعوني في صندوق العدم، واغلقوا عيني بقفل رجيم..
(جـ)
الموت وحده سيسرد ما تبقى..
(7)
طرقتني المفكرة.. انتشرت خلالي بفزع، لكن فكرة أخرى سبقتني: أن أعود الى البيت، وأهدي كتاب الرمل الى صديق ما.. أن أنبش ما كتبته قبل شهرين، وأمزقه..
لم أستيقظ بعد من لطمة الحانة. بصقت المرأة على وجهي، وأفقت في الخارج، حيث تذكرت عينيها.. وكرتهما بوحشية، وأحسست بقرف، كما لو أني تقيأت ثم ابتلعت قيني.. ولما وصلت الى البيت لم اجد البيت، ولا جدوى من البحث الطويل في الصحراء. أوصلني البحث الى الحقيقة التي أعطانيها المجنون، وكنت جائعا.. فتحت الصرة فإذا بسردين تفوح منه رائحة
عطفة.. ابتلعته.. ونمت في العراء..
سالم الى تويه ( كاتب من سلطنة عمان)