أنا وهديل في ضيافة المساء، تمتد بيننا الطاولة. فوقنا سماء مرصعة بالجموح، وتلثم أقدامنا أرض تنضح بالغواية. صامتان تتجاذب أنفاسنا فتيل شمعة توشك على الانتحار، يتهاوى جسدها بلزوجة. وحدها الأقدار منعتنا هذا المساء. لم نخطط لحظة لذلك. عشنا قرونا في قبضة الأجداد، يتقابل صوتانا و طيفانا، ومحظور على الجسدين استنشاق العبق المكنون، أو احتضان اللهفة المحمومة. قرون والأحلام تغادر مخدعينا. لا الشرق شرق، ولا للغرب اتجاهه. ارتضينا العيش بخضوع يجمد.الأطراف. حجزنا لقلبينا مساحة من الحزن والوهم. وقبل دقائق تغيرت رواية الحياة واختلطت أصواتها. انفرجت أسارير الكون حين عرض المساء علينا الذهاب اليه وأهدانا نجمة. ترددنا وسرعان ما قررنا المجيء. اخترنا اللحظة المناسبة فانتهزنا غياب عشيرتينا وكسرنا الأعراف. سحبنا ظلال الشك على وجوهها وألقينا بها في الظلام. وأدت هديل طفلة الخوف، وجئنا نسرد للكون حكايات الباحثين عن الحلم والهذيان. ما أروع الثورات!. نحن معا. من خلفي بحر وكائناته و وراء هديل الصحراء وسكانها. الواحة تعزف أنفاسا هادئة، تسري إلى حبال الصوت. يفني البحر، وتشاركه الصحراء. تآلف لا يوجده غير اجتماعنا هذا.
ابتسمت هديل، فطوت ظلمة الأرض. قالت ولعينيها بهجة العيد: "أخيرا!". تنهدت فهاجت الرمال وراءها. قلت: "وأخيرا!". مدت يمناها إلى قلبي الهش. حملته كطائر مستكين بين أناملها وغمسته في الشمع الذائب.
– هل يؤلمك ذلك؟
– لا أعرف. لا أملك الآن أن أتألم. فات كل شيء.
– هل عدت مرة أخرى لتقتل الحلم؟
– مكتوب عليه الموت قبل ميلاده. لست إلا طيف حلم سينقضي!.
– الا تستعذب الحلم وان انقضى؟!. ألم تؤمن بعد بمملكته التي يرتع فيها أسلافنا؟.
– ألم نحرق المملكة قبل المجيء؟.
– لا أظن. كل ما كان قبل الآن، لن يكون بعد ذلك. احمل قلبك واتبعني.
هرولت هديل تجاه النجمة وفتحت بابها وركبت. نادتني من الداخل: "تعال. تول القيادة". حملت طائري المستكين لاحقا بها. همست لها وأنا أجلس على مقعد القيادة: "ونترك كل هؤلاء دون رقيب؟!". ضغطت يسراها على يميني: "لا تخف. كسر القيد لا يلفي استشعارهم لسلطة علوية". رأيتها خيلا جموحا لا تحده الفضاءات. يا لجرأتها!. وحدي من يأبى كسر القيد، و يتلذذ بالخضوع. قلت: "إلى أين؟". أشارت بيدها إلى البعيد: "لنكتشف نهاية لهذه السماء الواسعة". انطلقت حيث أشارت. شقت النجمة دربها وسط السماء. بدأت هديل أغنية عذبة. غنت للفقراء، والأطفال، وأحلام العارة، وبؤساء الأرصفة. وهبت الكون ذهبا مسائلا بلون شعرها الناعم. فجرت الينابيع بين أصابعها وروت السماء الظامئة. ضاقت قيودي علي. شعرت بنشوة التمرد. صرخت: "طفلتي هديل. ما أروع غناءك!". توقفت عن غنائها فجأة كالمذعورة. بدت عيناها حائرتين. التفتت الي:
– لست طفلتك.
– لم؟
– لا تجد رغباتي عندك مأوى.
– ماذا أسميك إذن؟!.
– لم تهتم بهذا؟
– لأنك قريبة. تمتدين داخلي إلى أخمص الرجع.
– قريبة؟!. تذكر أن قلبك الآن في الجهة المعاكسة لي.
– تولي أنت القيادة وسيصبح طائي المستكين في اتجاهك.
– هل أنت جاد حقا؟.
– نعم.
– منذ الآن؟.
– وحتى نهاية الخضوع في أفئدة البشر. انفرجت أساريرها. شرعنا نتبادل المواقع دون إيقاف نجمتنا المتحركة. وفي منتصف المسافة اقتربت مني حتى خث ري عطرها. نظرت إلى عينيها مليا.هالني ما رأيت. استمر وقوفي طويلا حتى صرخت تحذري أن النجمة تهوي بنا وسط غابة الغربة الكثيفة.
قالت هديل:
– هل ستظل تتدثر بالصمت طويلا؟.الشمعة تهدد بالانتحار إن لم تتحدث.
– وما الذي ينبغي أن أقوله؟.
– حدثني عن البحر وكائناته. صف لي اللآليء، اشتاقت الصحراء وهوامها لحديثك. مالك تتسور بالصمت؟. لم أتوقع أن يتحول طبعك الثرثار إلى هذا السكون.
ردد البحر صوتها. ابتسمت:
– عيناك….
– أعرف. متاهة. بحار. زوابع. معجزة. قبائل تتناحر. ميدان حرب. جنة. قطعة من الجحيم. خليط لا يوصف.
– كيف عرفت أني أود قول ذلك:
– هل تملك غيره؟.
أخذتها من يدها اليمنى. كانت ناعمة تشعل الرغبات في. انساقت دون تردد. قلت لها: "اتبعيني أنت هذه المرة". أطلقت ضحكة رقيقة قائلة: "أكون سعيدة معك في أي مكان". انطلقنا بسرعة نبحث عن عالم جديد. قال المساء: "حذار أن تأكلا شيئا عند الباعة المتجولين. قلنا له: "لا تخف. لا وقت للأكل". ذهبنا إلى المدينة النابضة بالحياة والألوان والأوهام. توقفت المدينة عن الحركة لثوان حين رأت هديل. بدت الشوارع مشدوهة، والسيارات صامتة. نامت الأسواق. ثم عاد كل شيء لحركته. امتصت المدينة وهجنا. فتنتنا الألوان والملابس الجميلة م هلل كل شيء لنا. سمعنا هتافا باسمينا، وتصفيقا حارا لكل حركة منا. قلت لعيني هديل: "ما رأيك بعالمي؟. الا يقترب من الخلود؟". قالت عيناها: "مازلت أبحث". ألفينا أقدامنا وسط الزحام. تجولنا في السوق حتى شدنا نداء بائع ينادي من زقاق بعيد. تشبثت أطراف أصابعي بيد هديل واتجهنا نحوه. قال البائع: "المدينة وهم. الزقاق وحده يصنع المدن. ومن لم يجرب طعامه لم يجرب الحياة". قلنا: "لا نملك أن نشتري أوان نقرر. للمساء رغبته". رفع البائع طبقا من أطباقه: "جربوا. لن تنسوا الملايين الذين يعيشون بين أزقة النسيان". أيجوز كسر التردد مرة أخرى؟. قلنا لنفسينا: "حين تعرف الأقدام الطريق، لا مناص من خلق الخطي". حين أكلنا من الطبق بدا لنا حزننا فطفقنا نحصف عليه من ورق الحلم…
عاودت هديل سؤالها بصوت عال:
– هل تملك غير ذلك الكلام:
– أظن ذلك !
– قله إذن. لقد رحل البحر، وتبعته الصحراء غاضبة.لم يبق على هذه الأرض سوانا
– أخشى غدر العشيرة. لا أملك الهرب من المصير. و لا أملك صنع المعجزات
– لا تحاول إخافتي. وجدت أربأ للملم ولن أعود. أصابعي لا تعرف التراجع.
– ألن يضرموا لنا النار؟
– لا أظن. كن معي وليسقط العالم من وراء الهذيان.
– إذن سأقول.
– قل.
– هديل أنا..
– أنت ماذا؟
– أنا..
هاج المساء فجفت مياه الواحة. ارتعشنا فانتحرت الشمعة.
أنا وهديل في ضيافة المساء. فوقنا سماء مرصعة بالجموح، وتلثم جسدينا أرض تنضح بالغواية. صامتان نتجاذب الأنفاس.
عبدالعزيز الفارسي (قاص من سلطنة عمان)