أحمد خيري
يسعى البحثُ إلى مقاربة خطاب الشخصية المنبوذة مع التحليل البلاغي لتقنيات الخطاب، وإلقاء الضوء على طبيعة الشخصية المتمردة (ولد نوح)، الموظفة شعريا، والتي تحاكي ظاهرة جدلية السؤال، عبر دخولها حيّز الزمان الواقعيّ؛ فيتوجّه البحث إلى قراءة جماليات الخطاب الشعري للشخصية من جانب والكشف عن أبعادها الجدلية التي تمارس من خلالها نقد الواقع وإثارة السؤال عبر بنية الواقع وسلطته من جانب آخر، كاشفا بذلك عن هيمنة الشخصية المنبوذة التي تمارس حبكتها، عبر سلطة الواقع، وعلاقتها بالمجتمع والسلطة الدينية، وهيمنة خطابها العاطفي الذي تمارس تأثيرها من خلاله ، مستفيدين بذلك من آليات السرد، وربطها بتقنيات الحجاج البلاغي للوقوف على أبعادها المختلفة.
يتميّز إنتاج حركة الدلالة وصناعة السؤال -أحيانا- بحركية الحكاية، ونقلها من واقعها الحرفيّ، إلى واقع التخييل؛ فتتحرر خلاله الشخوص المهمشة، أو المتمردة -ضمن الدّين خصوصاً-، إلى شخوص نابضة بلسان اللغة -الشعرية منها-، منفصلة بذلك عن تيار الواقع، وحدود الصرامة الدينية والثابت العُرفي، لتمارس نقدها؛ فيصبح ذلك النقدُ منتجًا دلاليًا ومعبرًا أساسيًّا عن رؤىً أيديولوجية مختلفة، تشخص أزمة الواقع، عبر استدعاء الماضي؛ فتتداخل الأزمنة، وتتوحد الأمكنة، وليس ذلك التّشخيص بمنأى عن ذاكرة المجتمع، كونه يسعى إلى الطلب المتزايد للقيم والأخلاق والعدل، بل هو متحرر في ذهنية المجتمع، دون إثارته، لاعتراضه الثوابت المسكوت عنها، وأعني بذلك الثابت الديني، رغم كونه يقع ضمن الممتنع، دون الممنوع1.
إنّ إلقاء الضوء على الشخصية السردية، في قصيدة الطوفان، ينتج سؤالًا بديهيا يأتي من بداهة المعرفة بشخصيات القصّة الدينية، نوح (عليه السلام) وولده، وهلاك الثاني إثر استسلامه للشرك. وهو: ماذا يقدّم توظيف هذا النوع من الشّخصية، وما هو أثرها في توليد المفارقات الحجاجية، والإجابة تنصرف إلى طبيعة ذلك التوظيف؛ فالشّاعر لا يقف عند حدود الشّخصية الزمانية والمكانية، أو الكلامية، وواقعها العينيّ، بل يجعلها مغايرة لما تتنبأ به خلفيات القارئ الخارجية، وهذا التّغاير ساهم في صنع تلك المفارقات، وإثارة المسكوت؛ لأنّه يخلخل ثوابت الذاكرة المغروسة -عبر سلطة الوعي بالخطاب الديني- في أحضان المجتمع، وجعل الّذاكرة وسيلة للنقد؛ “لأنها هي المسؤولة عن وعينا”(2)، أو بعبارة أخرى عبر نقل الشّخصية من واقعية التاريخ والقصة الدينية، إلى أفق التحرر، لتمارس جانبين: نقد الواقع، وصناعة السؤال.
فاستدعاء الشخصيات التراثية، التي تأخذ طابع التمرد، دينيًا وتوظيفها شعريا، وسيلة من وسائل خلق المفارقات التي قد تصبح حجاجًا يأخذ سلطته من احتكاك الشخصية السردية بين التراث والواقع، وبروز بلاغتها، ونقصد ببلاغة الشخصية: التأثير الذي تحدثه الشخصية وخطابها معا في القارئ، عبر التصوير الفنّي أو المحاجّة معًا، ومن خلال جعلها مهمّشة؛ فتكون اللغة الشّعرية قاسما مشتركا في تكوين دور الشّخصية؛ إذ يأخذ الإيحاء الشّعري، والخطاب المجازي، على لسان الشّخصية، الآتي من مجاز الشّخصية نفسها، وانحرافها ، دورا مهمّا في تيسير الخطاب نحو التأثير. والكشف عن تلك المفارقات الحجاجية، والصور التأثيرية يمثّل فاعلا أساسيا في قراءة الشخصية، وتوجهاتها داخل الخطاب الشعري؛ فوظيفة الشخصية السردية داخل الخطاب، بنوعيه -النّثري والشّعري- ليست بمعزل عن بلاغتها؛ إذ تمارس دورها الإقناعي. ومن ثمّ؛ فالمعرفة البلاغية تساهم في معرفة مقاصد الشخصية التي لا تفصح عنها دراسة المكونات السردية، وإن كانت تكشف عن آليات الاسترجاع والاستباق ومفارقات الزمان والمكان وغيرها؛ ولذا فإن دراسة الوسائل التي يستخدمها الخطاب في رسم الشّخصية بدل دراسة الشخصية مباشرة يجعل الشّخصية أثرًا من آثار الخطاب حسب تصورات جينيت (3)enette، ومعرفة ما ينشأ عن تلك المقاصد من علاقات بين النّص والمتلقي، أي التفاعل؛ ولذا يقول الدكتور محمد مشبال في فكرة العلاقة بين البلاغة والسرد، إنّ ثمة تلازما بين التصوير والحجاج، دون جعل الوظيفة البلاغية محدودة إما بدراسة البنيات الأسلوبية للسرد، وإما الحجاجية في النص(4).
وعلى الرغم من كون الأسلوب الشعري يتسم بالتكثيف الذي لا يسمح بخلق الجوّ السردي المتمثّل بالكتابة الروائية، التي تخضع لفلسفة الكتاب في الحياة؛ فهذا يعني أن الشرح “والتفسير ليسا هما الغاية الأولى للشعر”(5)، بقدر صناعة الصورة الشعرية المتأثرة بخيال الشاعر. ذلك الخيال الذي يلبس -على حد تعبير وردزورث- اللوحات لباسًا تكتسي فيه الأشخاص نسيجًا جديدًا(6)، قد تثير جدلية النص، برفعها -أي الشخصية- عن واقعيتها؛ فليست الغاية في الشعر تسخير الشخصية لإنجاز الحدث، بقدر ما هو إنجازٌ دلاليٌّ “في الوعي الجمعي خصوصا الشخصيات التراثية…”(7) المتصلة بالواقع، اتصالًا دينيا، أو تاريخيًا، أو اجتماعيا…؛ فهي ترسم في ذهنية المجتمع طابعا أيديولوجيا معينًا، تبعًا لذاكرة الشخصية في المجتمع، كونها إصلاحية أو متمرّدة؛ فالشخصية المتحكمة بمجرى القصد والتكلم، في قصيدة الطوفان -ولد نوح- تحمل طابع التمرّد والعصيان، في سياقها الديني، والتاريخي الواقعي، وطابع الدفاع الذاتي والنقد الاجتماعي في سياقها الشعريّ، مما مثّل انزياحًا عن واقعيتهًا إذ لا يقع على التاريخ ما يقع على المحكي، سواء سردًا نثريا أو شعرًا، فالتاريخ “ضرب من المحكيات ذات النزوع إلى الحقيقة، فيما السرد محكي تخييلي، ويترتب على هذا التمييز تمييز آخر بين واقعية التاريخ ولا واقعية التخييل”(8) وهذا يضعنا أمام سؤال: ماذا تقدم دراسة الشخصية المنبوذة؟ وهو سؤال يختلف عن سابقه؛ إذ تقدّم لنا محاكاة واقعية، ترسم من خلاله خطابا يمارس حجاجيته عبر سلطة رؤيتها للواقع، بعين رؤية الواقع لها، بوصفها متمرّدة، ونقدها للواقع بوصفه فاقدًا لمبادئ تصورات الشخصية نفسها، وهذا ما يجعل الشخصية تفرض هيمنتها في الخطاب، عبر مبدأ التبادل الحجاجي؛ فنكون خلال ذلك -في الحقيقة- أمام واقعين حقيقيين للشخصية، الأول واقعها الديني، والثاني واقعها الاجتماعي بوصفها عين الواقع، ولسانه؛ فتكون الشخصية منتمية لطبقة اجتماعية، ورمزًا، تمارس سؤالها، وعندها يتحقق البعد الاجتماعي الذي يقصده الخطاب.
وانطلاقا من البعد الاجتماعي نفسه، نضع عنوان البحث (بلاغة الشخصية المنبوذة في إثارة الحجج ونقد الواقع)، لنلفت الانتباه إلى نقطتين: الأولى تتمثّل بالشخصية المنبوذة، نفسها، التي تمتلك بلاغة الإقناع عبر دخولها أرضية الواقع؛ لأنها تعكس سلبيتها أمام سلبيات الواقع فتتماثل معه؛ والثانية إن هذا التماثل يجعلها تمارس الخطاب العاطفي وإثارة الحجج ونقد الواقع؛ ومن ثمّ فإن بلاغتها تنقسم بين التجسيم والخطاب؛ عبر نقلها من صفة التمرّد في الذاكرة المحفورة، إلى ملامسة التأثير بالخطاب العاطفي، فالقارئ يراها متمردّة، والشعر يطرحها واعية، ومن ثمّ تحاكي الواقع بوعيها الشعري.
الشخصية المنبوذة:
استعمال تسمية الشخصية المنبوذة وربطها بالكتابة الأدبية والسردية، يجعلنا نبحث عن الطريقة التي استُعملت بها تلك الشخصية، خصوصا إذا كانت تلك الشخصية تأخذ بعدها الديني السلبي أو الاجتماعي أو الأيديولوجي من المجتمع؛ لأنها قد تحقق وظائف لا يستطيع العمل الأدبي وحده التعبير عنها، ولذا حاول الكتّاب استدعاء الشخصيات التاريخية والدينية والتراثية ليحققوا بها إنجازا يقترب من الواقع، يعبّرون من خلاله عن نزعته. بل إن هذا الاستدعاء للشخصية المنبوذة يمثّل مسلكا سعى الأدباء إلى إحضاره؛ فالرومانتيكيون مثلًا يعبرون على لسان الشخصية المتمرّدة (الشيطان) عن آرائهم فيما يعتريهم من قلق وشك وضيق بالخليقة، للسعي وراء الحرية والتحرر، مبتعدين بذلك عن مصدر الشخصية الديني من خلال نقلها إلى ميدان العمل الأدبي، كما في أعمال ملتن (1608- 1674)(9).
والشخصيات المنبوذة هي الشخصيات التي ارتكبت خطيئة فحلّت عليها اللعنة؛ وهي على نوعين(10):
النوع الأول: شخصيات حلّت عليها اللعنة لتمرّدها على إرادة الله تعالى.
النوع الثاني: شخصيات حلّت عليها اللعنة لسقوطها لا لتمرّدها.
فهذه الشّخصيات المتمرّدة تأخذ بعدا سلبيا من ذاكرة المجتمع، عبر تمردها؛ لذا فإن توظيفها في العمل الأدبي من الممكن -أحيانا- أن يضع المجتمع أمام قضاياه وسلبياته، عبر طرح السؤال أو النقد أو اقتحام الواقع وسلطته، وهذا ما تمارسه الشخصية المنبوذة (ولد نوح) في قصيدة الطوفان.
الشخصية في قصيدة الطوفان:
الشخصية التي يوظفها عارف الساعدي، تتّسم بصفة التمرّد في سياقها الديني، عبر مخالفة السلطة الدينية -بعيدًا عن طبيعتها في إطار القصيدة- ومن ثمّ فهي تحمل طابع التّمرّد بعين المجتمع، والبشرية التي تؤمن بالسلطة الدينية، في حين تخضع للتعاطف في سياقها الشعري، الذي ينتقل بها إلى ملامسة الواقع البشري، ونقده، ممّا يجعل المتلقي أمام تصورٍ لهذه الشّخصية بواقعها، ومن ثمّ مقابلة هذا التصور مع الواقع البشري، لتبرز بذلك وظيفة استدعاء الشخصية التي تحقق وقوف المجتمع على عيوبه، في قبال وعيه بالقصّة الواقعية وهدفها.
ففي البدء يحيل عنوان القصيدة (الطوفان) إلى وجود علاقة مع السّرد، وتقنياته، بحكم المعرفة بواقع القصّة القرآنية، وهذه المعرفة تنسحب إلى معرفة توجهات القصة، بما فيها الشّخوص، وهي تختلف – بالطبع- عن معرفتها في مقام السرد؛ ولذا فإنّ الشخصية في النص الشعري تفرض علينا أولا أن نفرّق بين شخصيةٍ خاضعة لمعايير القصّة الواقعية، وبين شخصية خاضعة لمنتج السارد أو الشاعر، ورؤيته، وتوجهاته؛ لأنّ الأخيرة قد تساهم في إنشاء مفارقات، لا يستطيع المنطوق الواقعي الإفصاح عنها، بحكم بداهة الواقعي، أو بحكم السلوك الأخلاقي؛ فقد تتشابه صفات الشّخصية التراثية وصفات الشّخصية الشعرية وقد ينفصلان عن بعضهما؛ فلا شيء يمنع السارد من أن ينسب إلى الشّخصيات أقوالا وأفعالًا وميولًا ومشاعر لم يذكرها التأريخ، وهي تتكون من الكلام الذي يصفها ويصوّر أفعالها، وينقل أفكارها(11)؛ لذا فالشخصية المحور في قصيدة الطوفان (ولد نوح) تأخذ حكم البداهة، بتمردها الديني، في عين المجتمع، بحكم الثقافة الدينية، المتشربة في أحضانه، وهي معرفة تسودها واقعية القصة، في النص القرآني، لا توجهات القصة، نفسها، الموظفة شعرياً؛ فالأخيرة يحكمها الانزياح والبعد عن الواقع، وذلك لصنع أكبر قدر من التأثير وتحقيق الاستجابة، وأول ما يلفت النظر، في الشخصية المحور (ولد نوح)، الصراع بين كونها مهمّشة، دينياً واجتماعيا، ومجمّلة شعريا، والأولى خاضعة للنقد من قبل المجتمع، دينيًا -بعيدًا عن القصيدة- بحكم تمردها؛ والثانية تنعى التدهور الاجتماعي والأخلاقي، الذي ينحدر لما هو أدنى من ماضيها، كما تراه الشخصية، وهذا ما يجعلها في علاقتين داخل خطابها الشعري:
الأولى: علاقة الشّخصية بأبيها (تجسيد الخطاب العاطفي).
الثانية: علاقتها بشخصيات الواقع؛ أي علاقتها بالمجتمع (نقد الواقع).
والعلاقة الأولى تنسحب منها مفارقات التعارض والتّصوير العاطفي والاسترجاع الاستباق والسؤال؛ والثانية تقود إلى الرمز وخطاب النقد بالسلطة والتبادل الحجاجي والمقارنة، وسنحاول أن نقف في العلاقة الأولى على مفارقات الخطاب واستجاباته، وبنيته، التي تتجسّد في الخطاب العاطفي، ليتسنى لنا أن ندرك في العلاقة الثانية للشخصية قدرة الخطاب العاطفي -بوصفه خطابا واعيًا من خلال الوعي بالشخصية الموظفة أيضًا – على إثارة الحجج وصناعة التقنيات الحجاجية، واستنطاق المسكوت ونقد الواقع، كما سيأتي:
العلاقة الأولى للشخصية:
ينحصر الحوار الخارجي (الديالوج) في القصيدة، على الشّخصية المحور (ولد نوح)، دون سواها؛ فلا يوجد حوار ثنائي بين الشّخصيتين، وهذا يرجع إلى المعرفة الخارجية بواقعية القصّة، مما جعل الشّخصية المحور تأخذ طابع السؤال والتّوجيه والتّعليل والتفسير، في خطابها للشخصية الثانية؛ فالعلاقة بين شخصية الأولى (ولد نوح) والثانية (النبي نوح) في حدود قصّة الواقعية علاقة المصير والقانون الإلهي، إذ هي -وبتعبير النص القرآني ((فكان من المغرقين)) هود:43- تخضع للحكم الديني، الموت، وهذه واقعية القصّة، في حين تنبعث الشخصية الشعرية، لتمارس حجاجيتها في السؤال، والتبرير، واللّوم، والإلزام، والإفصاح، الذي أصبح شرعيا بحكم الخطاب الشعري، والتحامها بالواقع، وهذه أولى المفارقات (الموت/الانبعاث)، مما أنتج -بالتأكيد- علاقات مختلفة للشخصية (ولد نوح) مع غيرها من الشخصيات، خارج واقعية القصّة؛ فالخطاب الشعري، أو السردي بصورة عامّة، قد يبعث الحياة للشخصية؛ فيخرجها عن قيودها، وصرامة واقعها، وهذه أولى القضايا الجوهرية، وتمثّل ذلك الانبعاث بنقل محور النداء المصحوب بالأمر، من الشّخصية الفاعلة دينيًا (النبي نوح) : ((وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلاَ تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ * قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاء قَالَ لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ)) هود: 226، إلى الشّخصية الفاعلة شعريًا:
ناديته وخيوط الصوت ترتفع
هل في السفينة يا مولاي متسع
ناديتُهم كلَّهم هل في سفينتكم؟
كأنَّهم سمعوا، صوتي وما سمعوا
هذه المفارقة غيّرت محور النداء، من نداء العظة والأمر الإرشادي (اركب) إلى نداء (طلب العون)، المقترن بالاستفهام المجازي، تعبيرًا عن سؤال اليأس، والخوف، وإظهار الضعف، وطلب الرّخصة. وما يزيد من حدّة التأثير الدّلالي، والعاطفي، اقتران النداء بالاستفهام مع أسلوب الحذف الوارد على لسان الشخصية (ناديتهم كلّهم هل في سفينتكم؟) أي: (هل في سفينتكم متّسع؟)؛ فليس الإيجاز هنا على لسان الشّخصية عملية بلاغية في المقام، واقتضاء الحال فقط، بل هو طريقة حجاجية تأخذ بعدها النفسي، تحيل إلى مجموعة من الوظائف المتحققة:
قوّة المناداة وتكرارها لأكثر من مرّة.
التّرقب وانتظار الرّد للشّعور بالضّياع من قبل الشّخصية.
عدم الاستجابة للنداء، بغرض التّجاهل لا لعدم السّماع، عبر الوظيفة التي حققتها ثنائية (سمعوا صوتي/ ما سمعوا) في البيت التالي.
بروز حالة الاطمئنان التي عليها أصحاب السفينة.
وهذه الأفعال التي نتجت عن توسّل الشخصية تساهم في استمرار العملية الخطابية للشخصية، فهي بمثابة البداية الأولى لإنتاج المفارقات، وإنشاء خطاب التعارض، الذي يُعدّ حجة بلاغية كفعل حققه النداء، أنتج الخطاب العاطفي للشخصية، الذي يمثّل حجّة هو الآخر في إثارة السؤال عبر آلية الاسترجاع، وهذه وسيلة لاستمرار العملية الخطابية التي أرادها الشّاعر نفسه. والمتمثّلة بالخطاب الاسترجاعي والعاطفي، ومن ثم فالتعارض هنا يمثّل موقفًا مجرّدًا من قبل الشّخوص الذين أُسند إليهم الخطاب، تجسد في كلام الشخصية، وهذا يتّضح في:
حجاجية التّعارض بين
الخطاب والسلوك
إذا كان التّعارض يفرض تأويل الألفاظ ما دامت في سياق اللّغة لا ضمن المنطق الصوري حتّى لا نكون أمام شيءّ من قبيل المحال، أو من قبيل التناقض عند استعمال اللغة الطبيعية(12)، فإن ذلك التّعارض قد يخرج عن كونه خطابا يتم تأويله، إلى موقف يتجسّد في أفعال الشّخوص، وهذا أكثر أيديولوجية؛ فالشّخصية (ولد نوح) تستعمل التناقض الذي هو من قبيل التعارض؛ بوصفه موقفا من قبل الشخوص الذين أسند إليهم النداء (ناديتهم)، لا بوصفه خطابا؛ فهو أقرب للسلوك منه للخطاب الموجّه، وتمثّل هذا التعارض في:
كأنَّهم سمعوا، صوتي وما سمعوا
فالسماع وتجاهل المسموع يعتبران سلوكًا يدلّ على عدم اهتمامٍ بالمسموع، في قبال الطّلب، فهو تعارض تراه الشّخصية بعينها، بوصفه نتيجة لذلك الطّلب؛ فهي لم تتجرد في خطاب الشّاعر عن كونها متمرّدة، دينيًا، وهذا التّمرد هو الذي أنتج سلوك التّعارض، على لسان الشّخصية، وهي مفارقة، أتاحت توليد مفارقات أخرى وخطابات قد يكون مسكوتا عنها، عبر استنطاق الجانب العاطفي، أو بعبارة أخرى إن هذا التعارض السلوكي الذي تراه الشخصية هو الذي أتاح لها ممارسة الخطاب العاطفي؛ إذ هو تعارض يرتبط بالبعد النفسي لها كبدايةٍ أولى لمدّ الخطاب، ومن هذا المنطلق يمرر الشاعر تصورات الشخصية المتخيلة ليضفي عليها طابعا ميلودراميًا يتسم بإثارة العواطف والانفعالات المؤثّرة واستدراكها عن طريق إنتاج الخطاب العاطفي عبر آلية الاسترجاع.
حجاجية الخطاب العاطفي:
نقف هنا على ثلاثة محاور -(الخطاب العاطفي، والاسترجاع والاستباق، وإثارة السؤال)- تعتبر فاعلة في بناء خطاب التأثيري والإقناعي؛ وذلك من خلال دمج هذه المحاور في خطابٍ ما، وهو ما اعتمده الشّاعر وأطلقه على لسان الشّخصية، وتعتبر أيضًا قادرة على استنطاق ما هو مسكوت عنه؛ لذا فإنّ هذه المحاور الثلاثة التي يوظفها الشّاعر ليست متعلّقة -فقط- بخطاب الشخصية، وما تريد تمريره كونها منبوذة في إطار القصّة الشّعرية، بل ترتبط أيضا باستجابات القارئ لهذا التّوظيف، وطريقة تفاعله، وهو ما يهمنا هنا، خصوصا أن الخطاب موجّه إلى قارئ، وهو المجتمع، الذي يدين بالقصة الواقعية؛ فخطاب الشّخصية هنا ينتقل إلى الجمهور، وهذا ما سيتّضح لاحقًا في علاقة الشّخصية بالمجتمع.
ليس العطف بين الخطاب العاطفي والاسترجاع والاستباق وإثارة السؤال يدلّ على أن كلًا منها يماثل الآخر أو يقابله، بل هي عملية تتابع قد تتوافر كلّها داخل الخطاب، أو السّرد بشكل عام؛ فالاسترجاع والاستباق مصطلحان سرديان، يدلّ الأول على مخالفة سير السّرد عبر العودة إلى حدث سابق، والثاني على مخالفة زمن السّرد عبر تجاوز الحاضر وذكر حدثٍ لم يحن وقته بعد(13)، في حين أن الخطاب هو أداة التّوظيف، التي يستعملها الشّاعر أو السارد لتفعيل هاتين العمليتين، أما إثارة السؤال فهو يخضع لطبيعة الخطاب، ونوعيته، والشّاعر هنا يستفيد من هذه التقنيات السردية، وتفعيلها في خطاب الشّخصية العاطفي، ويتّضح ذلك:
الاسترجاع: ويتمثّل في عودة الشّخصية إلى قضايا تتعلّق بما قبل وقوع الحدث، وإن شئنا القول إلى ما قبل وقوع الطّوفان الحقيقي، وهي عودة الشّخصية إلى طفولتها العاطفية (أكتافك السمر، صدرك الفرح)، ويسمى هذا النّوع في السّرد بالاسترجاع الخارجي؛ إذ تقوم الشّخصية هنا بذكر حدث متعلّق بماضيها، سابق لزمن الحدث، وهذه خصوصية يستعملها الشّاعر تجعلنا أمام مفارقة بين إيماننا بحقيقة الطفولة وشعرية الحدث، من هنا تنطلق استجابة القارئ، للنص فيصبح الخطاب العاطفي خطابا حجاجيا: ويتجسّد هذا الاسترجاع بالأبيات:
ياشيخ ذاكرتي الأولى ويا أبتي
ويآ الذي ضاق بي تقواه والورعُ
أكتافك السمر ياما قد غفوتُ بها
وصدرك الفرح المنسيُّ والوجعُ
كل التفاصيل مرَّت في مخيلتي
البيتُ والأهلُ والأشجارُ تجتمعُ
صدى غراماتي الأولى وأسئلتي
والقبلةُ البكر والأسرار والخدعُ
مرَّت سريعًا عليَّ الناس والتصقوا
في دمعتي وعلانا الموج فانشلعوا
كل الحكايات يامولاي تبصرها
وتزدريها، لهذا حزننا جشعُ
أنت الذهبتَ بعيدًا عن مواسمنا
لتصنعَ الكون لاخوفٌ ولاطمعُ
الاستباق: فالشّخصية تتجاوز حاضرها إلى ذكر حدث لم يحن أوانه، وهو استباق يتجاوز خاتمة الحدث، إلى ما بعد وقوعه، يوظّفه الشّاعر بطريقة مختلفة، يمتزج فيها الخطاب العاطفي مع إثارة السؤال، فهو ليس استباق لحدث لم يقع، بقدر ما هو معالجة حجاجية تستنطق الجّانب الشّعوري، تبني واقعها عبر الإيمان العاطفي (هل ستذكر، هل تنام وفي عينيك نابتة عيون طفلك)؛ فمن الواضح أن هذا الاستباق ولّدته طريقة الاستفهام؛ فهي ليست أسئلة عرضية تقدّمها الشّخصية، أو أسئلة البحث عن إجابة، بل تصوير واقع آتٍ، تستبق الشّخصية وقوعه، ترسم من خلاله ملامح الفقد، التي تتمثّل بعد زوال الشّخصية، تمارس خلاله عملية التّذكير:
وهل سترتاح؟ هل في العمر طعم ندى؟
وأنت وحدك والصحراء تجتمعُ
وكيف تبدأ هذا الكون ثانيةً
وقد تركتَ الفتى والموج يصطرعُ
أنا صغيرك، اقنعني وخذْ بيدي
أم أنت بالموت والطوفان مقتنعُ
الماء يأكل أحداقي وتبصرني
كيف استرحت وعيني ملؤها هلعُ
وهل ستذكر؟ قبل الموت كيف دنا
عيني تضيق، وعين الموت تتسعُ
وهل تنام؟ وفي عينيك نابتة
عيون طفلك والألعاب والمتعُ
أم سوف تنساه مزروعًا بخاصرة
الطوفان، يركله الطوفان والفزعُ
فخطاب الشّخصية يمارس حجاجيته على القارئ بصورة عامة؛ إذ ينطلق من زاوية يستغلها الشاعر، أتاحت له جرأة الكتابة، وإفاضة التصوير، وهي زاوية الحميمية والقرابة العاطفية -أنا صغيرك، عيون طفلك والألعاب والمتع…-، عبر آليتي الاسترجاع والاستباق؛ فهو ليس خطاب الداني للسلطة الدينية، وإنما خطاب الصغير لأبيه، وهي نقطة جوهرية ومفارقة يستغلها الشاعر لتفريغ العاطفة ورسم شجون الحزن، وإثارة الانفعال، لدى القارئ، فيجعله يعيش واقعًا متخيلًا، يتعاطف معه، ونقف أمام سؤال: على من يمارس الخطاب العاطفي حجاجيته وهل للخطاب العاطفي حجاج؟
نستطيع الإجابة في ضوء استجابة الجمهور أو القارئ للخطاب العاطفي، وتأثره به، خصوصا في الخطابات السياسية والسلطوية، التي تمارس حجاجيتها على الجمهور عبر شحنه بالخطابات، ولسنا بصدد تلك الخطابات؛ فالخطاب العاطفي وإن كان -على سبيل المثال- يحمل بعض التّقنيات الحجاجية، إلا أنّه قد يمثّل تقنية حجاجية بذاته؛ ومن ثمّ فحجاجيته تتمثّل باستجابة القارئ له، بوصفه خطابا يؤثّر في مشاعرهم، أكثر مما يؤثر في عقولهم، عبر إظهار الخوف أو الضعف أو الشّفقة، وهو يرتكز في حجاجيته على العلاقات أو القيم المشتركة بين المتلقي أو الجمهور والمتكلم، ومن ثمّ يُصبغ الخطاب بطابع الشّرعية، وعليه فهو يمارس حجاجيته على المتلقي بالدّرجة الأساس، وهذا ما نجح الشّاعر في توظيفه؛ إذ انطلقت الشخصية من محور التأثير في شعور المتلقي، عبر استرجاع الماضي الطفولي الذي يستبيحه السامع واستباق المتوقع الذي يؤمن به المتلقي، وهو الشعور بألم بالفقد؛ فالخطاب العاطفي يستهدف المتلقي بالدّرجة الأساس؛ لذا فمن الممكن أن يكون وسيلة لتوجيه النّقد أيضا، أو الدخول في خطابات قد يكون مسكوتا عنها بدافع الحمية الدينية، أو الاجتماعية، أو غيرها، وهذا ما ساعد الشّخصية على نقد الواقع، وعرض التّساؤلات المحذورة، عبر استمرارية خطابها العاطفي، فخطاب الشّخصية على الرّغم من كونه خطابا عاطفيا، يستحوذ مخيلة القارئ بحكم طبيعته، إلا أنّه يحقق وظائف قد تتجاوز تفاعل المتلقي معه، بوصفه خطابا شعريا، إلى امتلاكه، وجعله يتبنى نتائجه، وليس ذلك في القصيدة على وجه التحديد؛ ومن ثم فهو وسيلة من الوسائل الناجعة في بناء التقنيات الحجاجية، وإن كانت هذه التقنيات قائمة بحكم طبيعة الخطاب العاطفي على ملامسة شعور المتلقي، وفي الخطاب الشّعري على وجه التحديد؛ فلغة القصيدة تستند على الكثير من الشّحنات العاطفية، والكلمات المؤثّرة (تركت الفتى، أنا صغيرك، عيني ملؤها هلع، عيني تضيق وعين الموت تتسع، يا أبتي، وغيرها)، وهو خطاب يجذب المتلقين للتعاطف معه، عبر التّكثيف كما يلاحظ (البيت، والأهل، والأشجار والمتع…، والقبلة البكر، والأسرار والخدع)؛ فكلّها تعبر عن جانب الإلحاح في عرض الماضي الطفولي، وملامسة الجانب العاطفي للمتلقي، والذي تستسيغه المشاعر.
والإلحاح الآخر المتمثّل باستعمال الثّنائيات قد أعطى الخطاب نوعا دراميًا تجسيديًا، تصنعه مخيلة القارئ، التي تأخذ العون من خلال اللغة المجازية التي يقدّمها خطاب الشّخصية، وهي تغطّي أغلب أسلوب الشاعر، والسبب في استعمال الثنائيات أنها تقديم مفارقات قادرة على عكس مواقف مختلفة، للشخصية (ولد نوح)، وتفسّر حالتين، يؤدي الكشف عنها للوصول إلى البنية المتحكمة داخل النص؛ ومن ثمّ فالخطاب العاطفي هنا يتكئ على طريقتين الاستفهام والثنائيات، ومن ذلك: (كيف استرحت وعيني ملؤها هلع) إذ إن هذه الثنائية (استراحة الأب – خوف الابن)، تجعل القارئ أمام نتيجة، لا يجب أن يستريح، يأخذها من خلال توجهات السؤال والشعور بخطاب الشّخصية، الذي يجسّد صراعها بين الحياة والموت، وكذلك: (مرّت سريعا علي الناس والتصقوا / في دمعتي وعلانا الموج فانشلعوا)؛ فالثنائيتان الضديتان اللتان تحملان سمة الاستعارة، توضح من خلالهما الشخصية آليتي (الإرادة والجبر)، فالإرادة متمثّلة باستعادة الشّخصية للذكريات، التي التصقت عبر التوظيف الاستعاري بدموعها، والجبر الذي خلع الذكريات بعلوّ الموج (فانشلعت)، وتعبير الشّاعر بالجملة (انشلعوا)، تحمل شحنة عاطفية تتسم بالجبرية، إضافة لكونها جملة تحاكي لغة الواقع المعاصر، بعيدًا عن معجميتها، تعبّر عن القسرية؛ فالشاعر يستنفد طاقته التعبيرية، في تقديم صورة عاطفية تخترق الشعور، عبر الاستعارة؛ ولذا فإن هذا التفاعل بين التعبير (انشلعوا) الذي أسند إلى الناس، هو الذي يجعلنا أمام جدلية (الجبر والإرادة) ؛”نتيجة التفاعل داخل التركيب الاستعارة بحسب تصور ريتشاردز للاستعارة التفاعلية”(14) ودون إغفال الجانب الموسيقي وعدد الحروف المتماثل للثنائيتين. وكذلك: (عيني تضيق وعين الماء تتسع)، فهي ثنائية ضدّية تحمل البعد الفني والعاطفي، والأثر الحجاجي، إذ إن الخطاب يجعل القارئ أمام صورةٍ تجسيديةٍ، لحالة ضعف الشّخصية واقتراب الموت منها، عبر كنايتين (عيني تضيق= ضعف الشّخصية)، (عين الماء تتسع= اقتراب الموت)؛ فيستمد الخطاب قوته الحجاجية من خلال المعنى الكامن وراء الكناية(15).
أما الاستفهام فيأخذ الدّور الأهم في توجهات الخطاب العاطفي، وتأثيراته، بدءًا من استراتيجية التّذكير (هل ستذكر، هل تنام… أم سوف تنساه، كيف تبدأ الكون ثانية وقد تركت الفتى)، فهي كلّها أسئلة القلق في المستقبل، أو بعبارة أخرى عرض المستقبل على وتيرة من الإحساس بالنّدم الذي تصوره الشّخصية؛ فتلقيه في مخيلة القارئ، ليعيش صراع المواساة، الّذي يفرضه إيمان الشعور بالفقد، عند المتلقي، المتجّسد في النّفسية الإنسانية، فالشّخصية وإن كانت في ذهن القارئ منبوذة دينيًا إلا أنّ توظيفها الشّعري عبر الاستفهام خصوصا، يقود المتلقي إلى نتائج ولّدتها مقدمات الاستفهام الحجاجية، إذ إنّ استفهامات الشّخصية تبعد الخطاب عن الإخبار(16)، لتضعه في بودقة الجّدل، داخل ذهنية القارئ، تسلك به إلى التّساؤل: هل سينساه أو لا؟ هل سينام أو يتذّكره؟ وإن كان ذلك بحكم الافتراض، لكنّه يبني سلوكا حجاجيًا، ونتيجة متوقّعة يستجيب إليها القارئ، (لا ينبغي أن ينساه) وإن كانت هذه النّتيجة يتحكم بها البعد العاطفي، وهذه الاستجابات قد تدخل القارئ في ملابسات مع الواقع، أو السّلطة الدينية، وأيديولوجيتها، وبعبارة أخرى قد ينسحب التأثير العاطفي -جدلا- إلى التّعاطف مع الشّخصية الواقعية، وإن كانت الّذاكرة تأخذ منها مواقف سلبية، ولذا سعى التّحليل النقدي للخطاب إلى فحص الخطابات، وإن كان ذلك في سياق مقاومة السلطة، إلا أنه يمكّن من الكشف عن وظائف التحكم والهيمنة على الممارسات التواصلية المنطوقة والمكتوبة بعيدا عن وصف الأشكال(17)، وكذلك البلاغة النقدية؛ ولذا يمكن الاعتناء بالخطاب العاطفي ليس بوصفه خطاب الهيمنة ولكنه يساهم في إنشاء الهيمنة أيضًا ومن التقنيات التي ولّدها الخطاب العاطفي للشخصية ما سيتم الوقوف عليه في العلاقة الثانية للشخصية، علاقتها بالواقع.
العلاقة الثانية للشخصية:
تناولنا في العلاقة الأولى ما تضمنه الخطاب العاطفي للشخصية من أساليب واستراتيجيات خطابية، وهذه العلاقة التي سنتناولها ليست بمعزل عن الأولى؛ لأنّ الشاعر لا يفصل بين خطاب الشخصية لواقعها وبين خطابها عن الواقع، بل إن الخطاب الذي تقدمه الشخصية يمثّل تمهيدا للدخول في الواقع، ونشر التّقنيات الحجاجية فيه، والفصل بينهما في إطار البحث، طريقة مثلى لقراءة الخطاب العاطفي للشخصية وتأثيره على المتلقي، بوصفه خطابا بذاته يساهم في بناء مقدمات ويعطي نتائج، يحكمها اللغة والتأثير أو الشعور، أو غير ذلك، وبين كونه خطابا يساهم في بناء تقنيات خطابية تمارس أثرها الأيديولوجي على المتلقي، لتدخل في ذاكرة الواقع ومخاطبة السلطة.
يرتبط أثر الممارسات الحجاجية للشّخصية برؤيتها الواقع، ودخولها حيّز المكان والزمان الواقعيين؛ ولذا فهي ترتدي ثياب الشّعر التي تجمّلها، عبر انزياح لغته، لتصبح مهذّبة في أعين الواقع الذي يراها مشوّهة، لتمارس دورها اللاواقعي في قبال نقد الواقع بالسّلطة، ونقد السّلطة بالواقع، ولذا لابد من الوقوف على تقنيات الممارسة الحجاجية التي أنتجها الخطاب العاطفي للشخصية، خصوصا عبر آليتي الاستباق والاسترجاع، ومن ثم فإذا كان الاسترجاع والاستباق أثرهما في استمرارية الشخصية لعرض الجانب الشعوري، فإن لهما القدرة على إنشاء المقارنة الحجاجية أو التبادلية؛ ولذا فالاسترجاع أو الاستباق وإن كانا يحملان جانب التأثير ومن ثمّ الاقناع -بفعل طبيعة خطاب الشخصية- إلا أنهما يساعدان على بناء التقنيات.
ودخول الشخصية حيّزي المكان والزمان بوصفها شخصية متمرّدة، جُمّلت بالخطاب العاطفي، يلبسها جانب الواقعية؛ فإذا كنا قد وقفنا على أبعاد الخطاب العاطفي الذي تضمن الثنائيات وآليات الاسترجاع، فهنا نقف على ما خلف خطاب الشخصية إلى الممارسة الاجتماعية، التي خلّفتها تلك الآليات، لأن دخول الشّخصية حيّز المكان والزمان الواقعيين يكسبها رمزية الواقع، وانطلاقا من حيثية الزمان والمكان سنقف على:
الرمز والشّخصية:
انطلاقا من فكرة الخصوص والعموم، نعبّر عن القناع بالرّمز؛ لسببين: الأول يرجع إلى تعريف القناع نفسه؛ إذ هو “رمز يتّخذه الشاعر ليضفي على صوته نبرة موضوعية، شبه محايدة، تنأى به عن التدفق المباشر للذات، دون أن يخفي الرمز المنظور الذي يحدد موقف الشاعر من عصره، وغالبا ما يتمثل رمز القناع في شخصية من الشخصيات”(18)؛ فكلّ قناع يمثّل رمزًا، وليس العكس. والسبب الثاني، متعلّق بخطاب الشخصية -هنا- وواقعيته؛ أي متعلّق باجتماعية اللغة والممارسة، أو ما يسمى بالاستعمال الاجتماعي للغة، فكون الشّخصية تمثّل قناعًا -كما سيأتي- فإنّ خطابها يمثّل واقعًا؛ فتتحقق بذلك رمزية اللغة، تعبيرًا عن المجتمع وتساؤلاته، بعيدا عن كونها -أي اللغة- موضوعا مستقلًا كما هي عند دي سوسير أو أوستن وهابرماس حينما يعتقد أنه يجد في المادة اللغوية أو الخطاب ذاته علّة تفسير الكلام”(19).
والقناع بالإضافة لكونه رمزا يستدعيه الشاعر يجعل العمل الشعري بعيدا عن حدود الغنائية والرومانسية، إلا أنه لم يجرّده -العمل الشعري- من أسلوبه الفني والتأثيري والانفعالي الذي يعدّ وسيلة لخلق الجو التخييلي؛ ولذا فالخطاب العاطفي الذي تميّزت به القصيدة وإن كان تأثيريًا إلا أنه وسيلة لخلق الخطاب الواقعي الذي سعى إليه قناع الشخصية، وتمهيدًا أوليًّا لحجب الذاكرة عن واقعية الشّخصية المنبوذة، بمميزات الخطاب العاطفي؛ لتمرير التّساؤلات الواقعية، على لسان الشّخصية، وهذه التّساؤلات تلتحم بالواقع، وهذا ما جعلنا ننطلق من حيثية الزمان والمكان للشخصية (ولد نوح)؛ إذ إن الشاعر يقحم الشّخصية في الواقع، وهذا الدّخول ليس منفصلًا عن ماضيها، فقد ربط بين زمنين، (ماذا صنعتَ؟= زمن القصة/ وهذي الناس ثانية= زمن الواقع)؛ فالخطاب وإن كان في حدود العمل الفني، إلا أنّ بعده ينتقل إلى القصة الواقعية وينصهر بالواقع، مما جعلها ترتدي قناعًا، تربط من خلاله خطابها العاطفي (الذي تؤثّر من خلاله)، والمشحون بتيار مشاعر الحميمية، بخطابها التّأنيبي، وسؤالها الذي يعبّر عن رؤيتها الواقع، بمجازية الاستفهام:
ماذا صنعت؟ وهذي الناس ثانيةً
من كل ليلٍ إلى سوءاتهم رجعوا
والخطاب العاطفي الذي قدّمته الشخصية هو الذي أتاح لها أن تدخل الواقع لتمرر جدوى التّساؤل، والمقارنة، والنفي بـ ماذا صنعت؟= لم تصنع شيئا وهذي الناس ثانية…، فالشخصية عالمة بالواقع، والمجتمع وتفكيره، وما يدور حوله من مساوئ، بل تقترن به. وهو سؤال الانتقال من الخطاب العاطفي الذي تمثّلت من خلاله توجهات الشخصية في بداية القصيدة، إلى سؤال المقدّس، (النبي نوح عليه السلام)، وهذا ما يجعلنا أمام مفارقات الخطاب العاطفي في استدراج المقدمات، بحكم شرعيته، إلى ملامسة المحذور، وليس المحذور هنا بعيدًا عن رؤية الواقع؛ ولذا مثّلنا للشخصية بمسمى القناع، كون هذه الأسئلة هي أسئلة الواقع المعاصر، نفسه، الذي يبحث عن مبادئ القيم؛ فمن ناحية الإيمان بأن القناع ليس مطابقا كل التّطابق مع الشّخصية المقتبسة تأريخيًا، إلا أنّه “محصلة العلاقة بين الشاعر والشخصية”(20)، وللتقدم قليلًا فهي محصّلة العلاقة بين المجتمع/ الشاعر والشخصية، ولذا يوظفها الشاعر، يتلفظ بها ما يريد، تعبيرًا عن قضايا ترتبط بالواقع والمجتمع؛ فالأسئلة التي تعرضها الشخصية بعيدًا عن شرعيتها، أو محذورها، هي أسئلة صدحت مسامعنا، بطريقتها الديالكتيكية الجدلية، وهذا ما جعل خطاب الشخصية خطاب الممارسة الاجتماعية:
وهاهم زرعوا الأنهار خيط دم
وكم حصدناه في صمت وكم زرعوا
ماذا صنعت إذن مولاي معذرة
كلي سؤال وشكي كله بقع
إذ هي نفس الأسئلة التي ينادي بها المهمشون أو الذين تتحكم بهم أيدي الطبقات، أو أسئلة فقدان العدل والقيم، أو أسئلة الصراع المتزايد للسلطة، ونقدها، -وقد عبّرت قصيدة الشاعر الفلسطيني علي هاشم رشيد الذي استعمل الطوفان كرمزٍ عن طوفان العالم، الذي يلوج في صراع الطلب المتزايد لامتلاك الآخر: (فكل من يركبها ربان.. القرد فيها يزجر الغزال)-، أو أسئلة الهزل التي يمارسها المجتمع، تجاه الواقعة التي انتشلت الصلحاء، وصيّرت المتمرّدين في بودقة الطوفان، تاركة خلفها سؤال الجدل (إذا كان كذا فلماذا كذا؟). وهذه الأخيرة تتطلب الإجابة بحدود القصة القرآنية كالبحث في رقعة الطوفان، وحدوده وغيرها التي يبحثها التأريخ. فلغة الشّخصية التي يوظفها الشاعر -في هذا السياق- تنكشف أبعادها بالممارسة الاجتماعية لها؛ فهي أقرب للخطاب الواقعي كرمز، منها للغة الخطاب الشعري، فتتحقق بذلك رمزية اللغة مع رمزية القناع.
السلطة والمجتمع ومقاربات التبادل والمقارن
ترتبط مسألة السلطة والمجتمع بالهيمنة ارتباطا وثيقًا، يرجع ذلك إلى عمليات سوء توظيف السلطة في المجتمع، كما ترتبط الهيمنة أيضًا بالخطابات وكيفية تمريرها من قبل السلطة، لتمارس من خلالها دعم الممارسات لصالحها؛ وتفسير العلاقة بين الخطاب والسلطة التي تمارس هيمنتها من خلاله يعد من اشتغالات التحليل النقدي للخطاب؛ إذ “يصف ويفسر طرائق سوء توظيف السلطة واستمرارها أو تشريعها عن طريق النصوص والكلام الذي تنتجه الجماعات أو المؤسسات المهيمنة”(21)؛ فالهيمنة هنا تمثّل أمرًا سلبيًا، هدفها تحقيق المصلحة، بعيدا عن المساواة الاجتماعية، وهذا ما يدخلنا أيضا في سياق البلاغة النقدية التي تقترب في اشتغالها من التحليل النقدي للخطاب، كونها تعالج نقد الخطاب، بدلا من تكوينه.
والخطاب المدروس أو خطاب الشّخصية لا يمارس الهيمنة غير المشروعة، أو تزييف الخطاب، أو استراتيجيات سوء التوظيف، أو موصوف بالهيمنة السلبية؛ فالشخصية هنا تمارس نقد الواقع بسلطته ونقد السلطة بالواقع، وإقناعه، وهذا ما دفعنا إلى استدعاء مفهوم الهيمنة التي يعتني بها التحليل النقدي، والبلاغة النقدية، دون التصوّر والإجراء؛ فليست الغاية هي نقد الهيمنة، وإنّما الوقوف على الممارسة الحجاجية التي جعلت الشخصية تمارس فعل الهيمنة، عبر وسيلتين:
أولاهما: خطاب الشخصية الذي يأخذ مقدماته من الواقع.
ثانيتهما: طريقة توظيف الشخصية التراثية ونقلها من سلبية التمرد بعين المجتمع، إلى تعاطف المجتمع.
والنقطة الثانية تمثّل محور الهيمنة، لأن الكيفية التي توظف بها الشخصيات قد تفرض استجابات الجمهور لها، كونها اعتمدت الخطاب العاطفي، كوسيلة للتأثير كما بينا في العلاقة الأولى للشخصية، ولا نقول هنا سوء توظيف الشخصية يجعلها تمتلك الهيمنة، بل إن توظيف الشخصية المتمرّدة بطريقة مختلفة يجعل منها سلطة مهيمنة، تمتلك رمزية تجعل المتلقي أمام حيثيات الواقع. وقد تحققت هذه الهيمنة للشخصية المتمرّدة في أعمال الرومانتيكيين الذين “احتضنوا تمردها كتعبير عن النزعة إلى الحرية”(22)، وهذا ما يهمنا من مفهوم الهيمنة في محور شخصية (ولد نوح)؛ فليست هيمنة الخطاب – بشكل عام – تنحصر تحت منظور السلطة وممارساتها، بل في سياقات أخرى تمارس هيمنتها، ولذا فالكشف عن تلك الهيمنة -هنا- ينحصر في إبراز التقنيات الحجاجية التي ارتبطت بسلطة الواقع، وإلزام الواقع بسلطته، وما يتبناه، من تصورات وقيم وأفكار، حاول الخطاب صياغتها، وإخضاع الجمهور لاستجابتها، سواء أكانت تلك الهيمنة على التّصورات والأفكار، أو على القيم، أو السلطة التي يؤمن بها، أو غيرها؛ فكما تكون السّلطة سياسية متكلمة تتحكم بالخطاب، تكون أيضًا سلطة اعتقاد متكلم عنها يتحكم بها الخطاب، فكلاهما يمارس هيمنته الأول لصالح سلطة القهر والقمع، والثاني لجعل الجمهور يمارس حجاجا على سلطته، الأول يتّضح عبر كشف سوء توظيف الخطاب، والثاني عبر البحث عن الحجج المؤسسة، ومطابقتها، والأول ينقد الخطاب والهيمنة، والثاني يبحث في الخطاب وآلياته.
إنّ الشخصية المنبوذة، هنا، تنطلق من سلطة الواقع، لتمارس شرعية النقد، وكون السلطة حجة تتجسّد على بنية الواقع عبر علاقات التعايش كما يرى بيرلمان، تتخذ صيغا مختلفة كالرأي والإجماع أو سلطة شخصية أو غير شخصية؛ فيتم الاعتماد عليها، إلا أن حجاجيتها تتمثّل بما تدعمه من حجج أخرى؛ ولذا فالشخصية الشعرية تمتلك الخطاب ليس فقط من خلال العمل الأدبي والفني، وإنما من خلال توغلها في بنية الواقع؛ فهي لا تمارس هيمنتها عبر سوء توظيف الخطاب، بل من خلال بنية الواقع؛ ومن ثم فإن ما تطرحه من خطابات يمثّل ممارسة حجاجية، ونقدية في الوقت نفسه، تأخذ سلطتها من المجتمع، عبر مماثلة الواقع بخلفياته وهذا ينتج لنا عملية المنفعة والتبادل الحجاجي والمقارنة الحجاجية، التي طرحتها سلطة الواقع، وهي تقنيات يخفيها الخطاب، وتطرحها الشخصية في ذهنية المتلقي دون إثارتها:
الشخصية النفعية (البراغماتية):
تثير الشخصية عبر هذه الحجة كثيرا من الاعتراضات، سواء أكان ذلك من خلال التقييم أو من خلال النقد. ومن هذا المنطلق تحاول الشخصية نقد السلطة الدينية، ونقد الواقع بسلطته؛ فالنفعية كما يسميها شاييم بيرلمان، “حجّة النتائج التي تُقيِّم فعلًا أو حدثًا أو قاعدة، أو أي شيء آخر تبعًا لنتائجه الإيجابية أو السَّلبية”(23)؛ ومن ثمّ فإن التوظيف الشعري لخطاب الشخصية هو الذي يحدد سلبية النتائج أو إيجابيتها؛ فهي تنطلق من عملية المناجاة في بداية القصيدة (المونولوج)، ومن خلال الخطاب العاطفي الذي يقف في جانبها، ومن دخولها الواقع؛ فتبرر سقوطها بتقييمها الواقع:
ماذا صنعت؟ وهذي الناس ثانيةً
من كل ليلٍ إلى سوءاتهم رجعوا
صاغوا ملامح موت لا يليق بنا
وحزمةً من منافٍ فوقنا وضعوا
وأورثوا كل شيب الأرض في دمنا
متنا كثيرا وقلوا موتكم جرع
فالبيت الأول يحتك بالواقع، ويأخذ منه سلطته، حتى ليبدو أن الشخصية صاغت خطابها العاطفي لتقدّم تقييما للواقع، (ماذا صنعت؟)؛ فمن الخيال إلى قراءة الواقع، ومن كسب المتلقي بالخطاب العاطفي إلى نقد الواقع، ونقد السلطة بالواقع؛ فالخطاب وإن كان شعريا، إلا أنه يلقي بعده الواقعي في ذهنية المتلقي، ويقوده إلى بودقة القصة القرآنية؛ كون الشخصية انتقلت به من الخطاب بالبعد العاطفي إلى محاكاة الواقع (وهذي الناس ثانيةً… رجعوا)؛ فتتمحور خلال ذلك الأبعاد الجدلية للسؤال الديني، ويتم التفكير في تقييم الحدث الحقيقي للقصة ونتائجها مقارنة بالواقع ونتائجه، وأيديولوجيته، ليس فقط عبر خطاب الشخصية وإنما من خلال الوعي بخطابها؛ إذ إن النتيجة التي تطرحها الشخصية أو تقييم الحدث الواقعي – عبر استفهام النفي المجازي (ماذا صنعت؟) -، ليست مسبوقة بعرض الحدث الواقعي للقصة، بحكم الخطاب الشعري، وإنما بمعرفة المجتمع بواقعه، ومواقفه؛ ومن ثمّ فإن النتيجة السلبية في خطاب الشخصية تأخذ جرأتها من دخولها حيّز الزمان والمكان الواقعيين، وهذا ما يجعل الشخصية المنبوذة هنا تكسب هيمنتها في صياغة الجدل والسؤال؛ لأنها تقف وراء ستار الواقع، وتأويلاته.
التبادل والمقارنة:
على الرّغم من كون المقارنة تختلف عن التبادل في الإجراء إلا أننا في هذا المحور نحاول التوفيق بينهما، والسبب يقترن بخطاب الشخصية نفسه، وطريقة تلقيه؛ فهي تمارس تقنية المقارنة لتضع إدراك القارئ أمام مبدأ التبادل، وهي مفارقة ترتبط أيضا بالنقطة السابقة (المنفعة أو البراغماتية)؛ إذ إن النتيجة التي أفرزتها الشخصية ومثّلت من خلالها تقييما سلبيا للقصة، عبر وعيها بسلبيات الواقع، جاء من خلال تقنية المقارنة بين واقع القصة الحقيقي والواقع البشري، وهذا يتعدى حدود الشخصية إلى وعي الشاعر بحدود الواقعين ووعي المتلقي بهما أيضا؛ لأن توظيف الشاعر للشخصية وهي خاضعة لأساليب الشعر واللغة الشعرية الصرفة يقع ضمن وظيفة الشاعر، ضمن مخيلته وإحساسه برسم الصور، التي تتيح له أن يباعد بين واقعية القصة وشعريتها، أما تعبير الشخصية عن الواقع ومقارنته بصفة رمزية؛ فهو يتعدى حدود الوظيفة إلى الوعي الواقعي، مما يجعل بعض التقنيات تقع ضمن الوعي؛ فالمقارنة التي فرضها خطاب الشخصية أو أسلوب الشاعر تنتقل في إطار الوعي إلى إدراك تقنية التبادل، وهذا ما يجعل الشخصية المنبوذة تمارس واقعين: واقعها الشعري، الذي ترسم من خلاله تقنياتها الصريحة؛ وواقعها الإدراكي الذي يرسم تقنيات يمارسها الواقع.
ومن المنظور الحجاجي؛ فالمقارنة والتبادل حجتان شبه منطقيتين، الأولى: نحاول من خلالها المقارنة بين الأشياء أو قضايا مختلفة؛ فيتشكل أثرها الحجاجي “من تضمّنها لفكرةِ أنه يمكن تدعيم الحكم الذي تُطلقه”(24) عبر المقارنة؛ والثانية: تعبر عن مبدأ التسوية، أو قاعدة للعدل مفادها أن الكائنات التي تنتمي إلى نفس الفئة ينبغي أن تعامل بالطريقة نفسها(25)، والشخصية من خلال المقارنة تحاول إطلاق حكمٍ، يُدعم خطابها العاطفي، أو بعبارة أخرى يقابل مناجاتها لأبيها. وسنحاول تطبيق هاتين الحجتين في خطاب الشخصية:
فالشخصية – بعيدا عن خطاب الحجة النفعية – تصوغ من خلال سؤالها ( ماذا صنعتَ؟) مجموعة من الصفات، التي تلقيها على البشر، بصفة عامّة، تقارن من خلالها بين واقعين سلبيين الأول خضع لواقعة القصّة لم تذكره الشخصية، لمعرفة القارئ به، وهذا يجعلنا أمام التصور بوعي القارئ بوصفه مشاركا بعملية إنتاج المعنى، والثاني تجسده الشخصية عبر قناعها، ودخولها الواقع، وتمثّل ذلك:
ماذا صنعت؟ وهذي الناس ثانيةً
من كل ليلٍ إلى سوءاتهم رجعوا
صاغوا ملامح موت لا يليق بنا
وحزمةً من منافٍ فوقنا وضعوا
وأورثوا كل شيب الأرض في دمنا
متنا كثيرا وقالوا موتكم جرع
لأجل من أنت يامولاي ترفضني
لأجلهم أكلوا الدنيا وما شبعوا
وهاهم زرعوا الأنهار خيط دم
وكم حصدناه في صمت وكم زرعوا
ماذا صنعت إذن مولاي معذرة
كلي سؤال وشكي كله بقع
فهذه الأوصاف التكثيفية التي تعرضها الشخصية: (إلى سوءاتهم رجعوا، صاغوا ملامح موت، أكلوا الدنيا وما شبعوا، زرعوا الأنهار خيط دم) تجعل القارئ خاضعا للمقارنة مع واقعة القصة الدينية، وإن كان الخطاب الشعري مبتعدًا عن صفات شخصياتها، إلا أنها كامنة في ذهنية القارئ، وهذه المقارنة أتاحت للشخصية أن تمارس آلية التسوية، أو ما قلنا عنه سابقا بآلية الحكم الذي أتاحته تقنية المقارنة؛ فالحكم الذي تقدمه مقارنة الشخصية بين الواقعين، يتمظهر في جانبين:
الأول: لا يبتعد عن حكم الحجة النفعية -كما بيناه- بشكله الظاهر، وهو إبراز السلبية للحدث الحقيقي، وهذا ما جعل الشخصية تمارس جرأة القول:
ماذا صنعت إذن مولاي معذرة
كلي سؤال وشكي كله بقع
هل اقتنعت بهذا الكون يا أبتي
أم نهر حزن لهذا الشيب يرتفع
يا كم بكيت عليك الآن يا أبتي
فقد غرقت كثيرا عندما طلعوا
إني لأبصر في عينيك يا أبتي
أشجار خوف بلا خوف ستقتلعُ
وقد رأيتك ندمانا ومنكسرا
وفوق حزنك ينمو سكّرٌ ورعُ
الثاني: يرتبط بالبعد الإدراكيّ الذي ترسمه ذهنية القارئ، بوصفه تابعا للقصة الدينية، يتمثّل بمبدأ التسوية، أو حجّة التبادل؛ فمقارنة الشخصية بين واقعين سلبيين يجعل القارئ أمام مقارنة أخرى بين واقع خضع للطوفان وواقع يمارس الظلم والقهر القسري لم ينتشله الطوفان؛ فالمجتمع دائما ما ينادي بطوفان آخر ينتشله من تعالي النخبة المسيطرة، من التردي، الذي يعيشه؛ ليتحقق مبدأ العدل وإن كان ذلك على وجه الافتراض لا الحقيقة؛ لأن الحدث الحقيقي للقصة القرآنية لا ينطبق على الواقع بأشكاله وسلوكه، لتطبيق مبدأ التسوية، والمعاملة بالمثل لتحقيق العدل. وكما نريد القول: إن هذا الوعي الإدراكي بالمقارنة وإنتاج مبدأ التسوية، لما خلّفه خطاب الشخصية، جعل الشاعر -ذهنيًا- يمارس حجاجية التبادل أيضًا؛ فيكسر بذلك حبكة الشخصية، المتجسّدة في خطابها العاطفي، مرورًا بنقدها؛ فتنسحب الشخصية من وظيفتها إلى الوعي والممارسة الاجتماعية؛ لتتخلّى عن خطابها التأثيري، ونقدها الحدث الحقيقي، إلى موافقتها إياه، وهو ما يمثّل تراجعًا قسريًا، ليتجسّد بذلك وعي الشاعر مع إدراك تقنية التبادل، صراحةً، على لسان الشخصية:
نحتاجك الآن للطوفان ثانيةً
فربما نصف طوفان وننتفعُ
فاصنع سفينتك الأخرى وخذ بيدي
فإنَّني الآن بالطوفان مقتنعُ
الخاتمة:
البحث في الخطابات المهيمنة أيديولوجيا، أو المثيرة للتّساؤلات، وبعثرة التّفكير، بما يراه المجتمع مسكوتًا، بفعل المرجعيات التي يخضع لها، وما يراه سلطة، قد لا يخلو من تقديم رسالة كونية، ترتبط بالمجتمع وتقلّباته، أو معالجة المجتمع وكبواته. والإفصاح عن ذلك المسكوت ونقله من التّجريد بعين الفكر، إلى التّجسيم بعين الفن، صورة من الصور التي يجب العناية بها، وإعمال الفكر في تحليلها والوقوف على دلالاتها، وارتباطاتها بالسّياقات الاجتماعية، وقد تناولنا جانبا من جوانب كُثر، يجدر بالباحث الغوص بها، وتفريغ جزء من مساحته البحثية في معالجتها، والوقوف على بنياتها العميقة، خصوصا ما يتعلّق بأنواع الخطابات العاطفية التي تنضح بهيمنتها، وممارسة الأفعال القسريّة من خلالها.
الشخصية – هنا – تمنح القصيدة بعدها الاجتماعي دون حصره في غنائية العمل الشعري أو ذاتيته؛ ليكون تعبيرًا عن رؤىً مختلفة، تفرض هيمنتها على المتلقي كونه حاملا في ذاكرته سلبيات الشخصية المنبوذة، التي تتقلّد الواقع عبر حيثيات الخطاب الشعري، وهذا ما جعلها تمارس هيمنة قسرية في الخطاب، وتشكيله، عبر انعكاسها أمام مرآة الواقع الذي أتاح لها صناعة الحجج. وتوظيف الشخصية المنبوذة بشكل معاكس عن واقعها أو جعلها تدخل حيّز الواقع، يقدّم قاعدة بنقد الواقع؛ كونها تخاطب الواقع بسلطته، وعليه يجب رصد المفارقات والأبعاد الاجتماعية التي تحققها بشكل عام.
كما أنّ حبك الشخصية بالخطاب العاطفيّ يجعلها تمارس هيمنتها عبر إثارة المشاعر وإن كانت في عين المجتمع تحمل طابع السلبية، وهذا ما جعل الشخصية هنا تتماثل للتعاطف، مما يوجب الاعتناء بالخطاب العاطفي وفحصه والبحث في بلاغته؛ كون البلاغة تتيح أرضية خصبة لتحليل خطاب الشخصية المنبوذة هنا، إذ كشفت عن ممارسات الخطاب، وتقنياته وأبعاده، التي تقف خلفها الشخصية الشعرية، خصوصا أن البلاغة تمارس عمليات الوعي بالخطاب المهيمن إضافة إلى الشعور بجمالياته؛ فهي لا تقف بالعمل عند حدود المكونات السردية وعلاقاتها، بل تتوسّع إلى إدراك الأبعاد الواقعية والاجتماعية من الخطاب كما قدّمناها، سواء أكان ذلك في مقام السلطة أو غيرها. وقد وفّر لنا دمج آليات السرد كالاسترجاع والاستباق ومفارقات الزمان بالتحليل البلاغي ملامسة الأبعاد التي تخفيها خطابات الشخصية كالمقارنة الحجاجية كما تتّضح هنا، وغيرها من المفارقات التي يحاول التحليل البلاغي إبرازها.
المراجع
الأدب المقارن، د. محمد غنيمي هلال، نهضة مصر، ط 9، 2008م.
استرجاع الشخصية التراثية في الشعر العربي المعاصر، د. علي عشري زايد، دار الفكر العربي – القاهرة، ط1، 1997م.
أقنعة الشعر المعار- مهيار الدمشقي، جابر عصفور.
آليات السرد في الشعر العربي المعاصر، د. عبدالناصر هلال، مركز الحضارة العربية، ط1، 2006م.
البلاغة والسرد- جدل التصوير والحجاج في أخبار الجاحظ، د. محمد مشبال، مطبعة الخليج العربي، تطوان- المغرب، 2010م.
تحرير البلاغة – بحث في الذاكرة، د. صلاح حاوي، دار شهريار- العراق، ط1، 2021م.
التحليل النقدي للخطاب، مفاهيم ومجالات وتطبيقات، مؤلف جماعي، إشراف وتحرير: محمد يطاوي، المركز الديمقراطي العربي للدراسات، برلين- المانيا، ط1، 2010م.
الخطاب والسلطة، توين فان دايك، تر: غيداء العلي، مراجعة وتقديم: عماد عبداللطيف، المركز القومي للترجمة، ط1، 2014م.
الرمز والسلطة، بيير بورديو، ترجمة: عبدالسلام بنعبد العالي، دار توبقال، الدار البيضاء- المغرب، ط3، 2007م.
اللغة والحجاج، د. أبو بكر العزاوي، العمدة في الطبع، ط1، 2006م.
معجم مصطلحات نقد الرواية، د. لطيف زيتوني، مكتبة لبنان ناشرون ودار النهار للنشر، ط1، 2002م.
الممنون والممتنع- نقدُ الذات المفكِّر، علي حرب، المركز الثقافي العربي، ط1، 1995م.
الهوية والسرد، د. نادر ناظم، دار الفراشة، ط1، 2016م.
نظريات الاستعارة في البلاغة الغربية، د. عبد العزيز لحويدق، دار كنوز- عمان، ط1، 2015م.
نظرية الحجاج عند شاييم بيرلمان، الحسين بنو هاشم، دار الكتاب الجديد المتحدة، ط1، 2014م.
النقد الأدبي الحديث، د. محمد غنيمي هلال، دار نهضة مصر، 1996م.
الهوامش
1* – ثمة فارق بين الممنوع والممتنع، إذ إن تغييب السؤال لا يندرج ضمن الممتنع، دائمًا، ولكن في بعض الأحيان تقف جوانب شتى حائلا دون إثارة الأسئلة، تتحكم بها عادات وتصورات ومعتقدات، والتي لا تقبل الشكّ فيُتصور أنها تقع ضمن الممنوع، لاعتقاده أنها تمسّ تلك المعتقدات وتثير شكوكا في نفسه، وبعبارة أخرى -كما يقول علي حرب- إن “الممنوع هو خارجي، ولهذا فهو يتمثل في القيود المفروضة من قبل السلطات المختلفة سياسية كانت أم دينية، مادية أم رمزية، أما الممتنع فهو يتعلق بالعوائق الذاتية للفكر، وهي عوائق تتمثل في عادات الذهن وآليات التفكير وقوالب المعرفة”(1).
2 القرآن الكريم
1- الممنوع والممتنع، نقدُ الذات المفكِّرة، علي حرب: 163.
– تحرير البلاغة، بحث في الذاكرة، د. صلاح حاوي: 16.
3 – ينظر: معجم مصطلحات نقد الرواية، د. لطيف زيتوني: 115.
4 – ينظر: البلاغة والسرد، جدل التصوير والحجاج في أخبار الجاحظ، د. محمد مشبال: 6.
5 – النقد الادبي الحديث، د. محمد غنيمي هلال: 309.
6 – يُنظر: السابق نفسه: 389.
7 – آليات السرد في الشعر العربي المعاصر، د. عبدالناصر هلال: 88.
8 – الهوية والسرد، د. نادر ناظم: 127.
9 – ينظر: الأدب المقارن، د. محمد غنيمي هلال: 250
10 – استرجاع الشخصية التراثية في الشعر العربي المعاصر، د. علي عشري زايد: 98.
11 – ينظر: معجم مصطلحات نقد الرواية, م.س: 114.
12 – نظرية الحجاج عند شاييم بيرلمان، الحسين بنو هاشم: 59.
13 – ينظر: معجم مصطلحات نقد الرواية, م.س: 15، 18.
14 – ينظر: نظريات الاستعارة في البلاغة الغربية، د. عبد العزيز لحويدق: 173
15 – تحليل الخطاب النقدي، مفاهيم ومجالات وتطبيقات، مؤلف جماعي، إشراف وتحرير محمد يطاوي: 284.
16 – ينظر: اللغة والحجاج، د. أبو بكر العزاوي: 45.
17 – ينظر: التحليل النقدي للخطاب، مفاهيم ومجالات وتطبيقات، م.س: 11
18 – أقنعة الشعر المعاصر – مهيار الدمشقي، جابر عصفور: 123.
19 – ينظر: الرمز والسلطة، بيير بورديو، ترجمة: عبدالسلام بنعبد العالي: 57، 58.
20 – أقنعة الشعر المعاصر – مهيار الدمشقي، م.س: 123.
21 – الخطاب والسلطة، توين فان دايك، تر: غيداء العلي، م، ت: عماد عبداللطيف: 149.
22 – استدعاء الشخصيات التراثية في الشعر العربي المعاصر، م،س: 98.
23 – نظرية الحجاج عند شاييم بيرلمان، م،س: 72.
24 – نظرية السابق نفسه: 69.
25 – ينظر: السابق نفسه: 64.