تكلم باسمك الخاص لا باسم أحد آخر، لكن حذار من الاستمرار في التكلم وكأنك الواحد نفسه، إنما ما أنت عليه الآن، لم تكن كذلك قبل قليل طبعاً، ولن تكون هكذا بعد حين، إن الاعتقاد بانسجامك الذاتي مجرد وهْم يعنيك وحدك، لتكون الهوية التي تلوذ بها مجرد شكل، وأن ما يعنيك على معرفة نفسه هو المتعدد فيك، وحيث يكون عقلك أبعد من كونه الجدير بالنظر إليه بالمطلق، ففيه من اللامعقول ما فيه من المعقول وأكثر..
واعلم أنك رياضي وفي داخله فنان، يتباهى بكينونته في عصر المعلوماتية المتفجر، وله فرصة ظهور فيه.
وإذا تكلمت فلا تحاول تمثيل غيرك، ولا تتكلم وملء ذاتك شعور بكلية واقعك، إنها بدورها في غاية التشظي: التناثر، وبالتالي فإن الاختلاف المتحول بدوره هو علامتك الفارقة.
تلك هي السمات الأهم لما بعد الحداثي، كما هو الممكن تقصّيه أو مقاربته في سجلّه الذي يشمله فنوناً بصرية عدة: مسرحاً وعمارة، وموسيقى، وسينما، واتصالات، وأدباً، وفنوناً (في الرسم والنحت)، ورقصاً.
إن إنسان اليوم ومنذ عقود عدة إنما راهناً أكثر، ممثل دون تسمية، فنان دون عرض مباشر، إعلامي حيث يتكلم في مكان عام وكاتب في حالة خلوة ومسرحي في تعدد حواراته إنما المكشوف غالباً في الحالات كافة.
ربما يعني ذلك ومنذ البداية المفترضة أنه معرّف بين كائنين : رياضي يموقعه وفني يبتدعه بتلوينات جمة.
إنه يتوافق وما يشغله زمكانياً في فراغ ما، وما يمنَح له من فراغ في قسمة إبداعه أو عطاء رمزي ما!
نعم، إن الكاشف اللافت في هذه العلامة الفارقة هو الفراغ، لا بل بلاغته كما هو المثار في العلوم الإنسانية، وعلوم التقانة، ليطوى تاريخ طويل من المطلقيات فيما أخذنا به علماً نظرياً وعملياً كما لو أننا إزاء جردة كاملة لكل ما تم إنجازه وتصنيفه، وإعادة نظر في تاريخنا الثقافي والحضاري دخولاً في عهدة كونية مغايرة لما كان، حتى بالنسبة للإنسان ذاته، فلا يعود في الوسع الحديث عن سلف وخلف، وإنما مساءلة السلف عن حقيقة ما ينسبه إليه أو توقيفه، وكأن الخلف يؤسس لسلف من نوع مختلف كلياً، سرعان ما يخل بالعهد، انطلاقاً من هذا الانفصال القائم والذي يترجَم بالفراغ وهو في حسّيته وسخونته وقابليته للدرس، لكن دون أن يعني ما تقدم أن التالي مغاير للسابق يكون خالياً من المطلقيات أو مما يصله بها لكنها الرقابة الذاتية جرَّاء متحولات ما كان ومستجداته، أي عبره وقدرتها على تفعيل المقاربة والتعرية المباشرتين بغية الأفضل.
نشهد هنا عودةً معلومة ومقدَّرة لإقليدس مشاطراً أينشتاين نسبيته، بقدر ما نشهد عودة السفسطائي صحبة أفلاطون بجوار كانط ونيتشه، أو ابن سينا صحبة الغزالي، لأن الفراغ الموسوم هذا يشير إليهم جميعاً.
إن متابعة متأنّية لهذه البلاغة المستحدثة: بلاغة الفراغ ترينا التحول الانعطافي في تاريخنا ومغزاه.
هذا الفراغ الشديد الحسية
من أين يأتي الفراغ؟ حيث يكون موجوداً أساساً، وليس باعتباره افتراضاً. التاريخ يعلمنا بحقيقة وجوده، لكنه التاريخ الذي يلزَم باستشارة الجغرافيا، حيث الزمن في نسبه التاريخي يتقطع ويتراءى في إهاب جغرافي، إذ يكون المكان،حيث إن الرياضيات مهما بلغت تجريداً تكون ممهورة بقسمة مكانية، والفني هو ضميرها!
لنذهب بعيداً متحرّين الفراغ وصلته بنا أو أهميته الحيوية لنا، وكيف أننا نعيش الكوني فينا بفضيلة من فضائل الفراغ، كيف أننا نفكر ونحسن التفكير، لا بل ونبحث عن المختلف إبداعياً عبر الفراغ، حيث نجد إن ما نقرأه عما هو حداثي، وفيما يخص الكتابة الفكرية أو الفلسفية وما يدور في إطارها، يستمد العزيمة ويمهّد لوجوده بمعيَّة فراغية بما أن الفراغ يستحيل فناً، لا بل لا يكون فنٌّ بمعناه الواسع إلا وهو معرَّف به فراغياً!
ربما كان في جدل الملء والفراغ vide et plein، ما يقرّبنا من ذائقة الفراغ والشعور باستثنائيته.
إنه الحوار مثلما أنه الصراع بين ملء فائض وفراغ نافض، بين ذيوع الرياضي بإحداثياته وتجلّي الفني باستلهاماته، والحصيلة العملية من كل ذلك، تبعاً للقيم المعتمدة ومواقعها في المجتمع..
هذا يرجِع بنا إلى قرابة خمسة وعشرين قرناً، إلى الصينيين والفلسفة التاوية ودور الفراغ في نشأة الكونيّ.
( الفراغ هو أساس الأونطولوجيا التاوية. فما كان قبل السماء- الأرض هو العدم، اللاشيء، الفراغ..)، ويكون عكسَه الملء، وفي الفراغ يكون المعنى، يكون مجال الرؤية والذهاب بالتفكير بعيداً في تخيل العالم، وتصور الكائن، وبتعبير» لاو- تزو» التاوي المعبّر الفعلي عن الفراغ وقدسيته بالذات( لا تعيش العشرة آلاف كائن إلا مدموجة في الحركة الكبرى التي يقوم بها الفراغ الذي يدخلها. تجويف السماء- الأرض يستقبل الحياة، إنها العقدة الحيوية، المركز الحي، مكان تشكل السيولة، مكان التبادلات..)(1).
تتجلى التوازنات ويتبلور المعنى من خلال حضور فراغي ليس فراغاً، إنما يشهد على عالم المختلف أبداً، في رؤية كل شيء وهو في نسق مفهومي خاص به، ليُتمكَّن من تحديد علاقته بسواه وبمحيطه، والصيني كما يظهر يأخذ الوجود باعتباره وصفة فنية ولديه جرعات دورية تقوية لعلاقته بذاته ووسطه الطبيعي..
ولكن الاكتشاف الكبير والمفارقة المثيرة تجلّيا فيما جاء به متعدد المواهب: الألماني بول كلي «1879-1940»، فهو كاتب وناقد وفنان معروف، وربما أمكن القول بأن ما انطلق منه تراءى وهو في تجريديته المتقنة أي أنه هو ذو عمق فراغي، هو التأهل بعزيمة فراغية، أي وهو يجمع بين الرياضي والفني، أو يعيد الرياضي إلى أصل تليد له: الخط وما نشأ عنه الخط، حيث التصوير كان أساس لقاء الإنسان بالعالم .
كانت الفوضى( أو السديم الذي يركز عليه دولوز كثيراً لاحقاً)، هي المنطلق، ولديه أن( أي نظام هو وجود أشمل من الكون المنتظم، ولذا فإن الفوضى أوسع من النظام..)، ومن ثم( يمكن أن يصير الكاوس عدماً أو أي شيء كامن، موتا أو امتلاكا حسب توفر الإرادة أو غيابها.. والرمز الدال على هذا الغياب، على هذا الوجود غير المدرك هو النقطة.. ونعني بها النقطة الرياضية أي الصفر..)، وهذه النقطة تمثل الرمادي في جمعه بين الأسود والأبيض وبينهما تكون قائمة الألوان، إنما تتواجد الثنائيات، ومن النقطة يبرز الخط، وبه يكون التشكيل وهو في مواجهة دائمة مع السطح( عندما يصطدم شكل خطي بشكل مستو ٍ، أي سطح ما، يلعب الخط دور العنصر الإيجابي، ويلعب السطح المستوي الدور المقابل أي السلبي. الخط كعنصر موجب يلعب دوره بطريقتين: إما أنه يقسم الشكل المهاجَم إلى جزءين، أو يتجاوز ذلك.. يفصل أجزاءه عن بعضها)، إن ذلك ما يعيدنا إلى حوار قائم، إذ تكون الحياة كما يكون الموت، ولكن الممكن ذكره هو العائد إلى الفراغ بالذات، وفعله في التصوير وتذوق الفني، و( الفراغ الذي نرسمه على سطح اللوحة هو فراغ تخيلي..)(2)..
كأن الفن يثبت عرَّابيته في الدفع بالعلوم الإنسانية وحتى العلوم المحضة إلى أن تتمايز، أن تتقابل وفي كل منها ما يشدها إلى الأخرى، وذلك على أرضية اختلافية دون أن تتوقف عن التشكل والتحول، وبالتالي فإن فكرة الصيرورة تبدو فناً، رسماً، أو حدثاً فنياً بصرياً بامتياز، ولذاكرتنا ذائقة لونية فارعة هنا.
يدخل الحدث في الزمن، أو يسمّي زمنه الحسابي والفني، من خلال نوع الأثر، تكون حداثته تصاعدياً.
وما أثير هنا هو بغية الربط بين ما عاشه الإنسان قديماً دون أن نعرف ما هو متداول عن الهندسة الفراغية، والثقوب السوداء، والكاوس في مفهومه الأشد حداثة، وفي مقاربة النصوص نقدياً وفي توخي الحذر لحظة التعرض لأي مفهوم باعتباره متعدد الأجناس والوجوه ومنفتحا على الجديد، وما يعيشه إنسان اليوم، أو ما يمثّله الإنسان من تنوعات لا تحصى في تاريخه المجهول والمعلوم، والفراغات التي كانت سبباً في سلسلة انتقالاته أو ارتحالاته بين المعاني، وطرح القيم المختلفة كما لو أنه المختلَف عليه أصلاً لا المؤتلف أولاً!
إن قراءة متبصرة لذاتها تستهدي بالفراغ تحفّزنا على لقاء من هم بعيدون عنا جغرافياً وزمانياً وبتفاوت، ومعاينة من هم قريبون منا جداً، وهم يسمحون لنا بالمزيد من التعارف ولكل منا ما يعاين فيه حدود تمايزه..
وفي المعترك الإبداعي ولو في خانة التفلسف أو الفكر الأكثر تنويراً من الداخل، يعمّد الفراغ مفاهيمه من خلال استعارات فنية يسهل تحسسها أو تصورها، فأفلاطون جعل الفنّي مضمراً داخله ليحسن التكلم بصورة أفضل، والفارابي لم يسلّم نفسه للفلسفي فيه دون تطرية مفرداته وهو في باعه الموسيقي الطويل، حيث يحضر اللون الصوتي، وهيجل ما كان في وسعه تدوين أو بناء مكتبة فلسفية دون الدخول في مساومة محسوبة مع الجمال وعائلته العريقة في الرسم والشعر والموسيقى والنحت، وهيدجر لم يكن في وسعه الدخول في التجريد والتلاعب باللغة رغبة في الأكثر إيفاء بالمعنى، دون الاستئثار بما هو حسي، أو مهني أي( التقانة)، ولنا في الشعر والرسم ما يعيننا في المكاشفة الفلسفية وبنيتها عنده، وهذا يشمل نيتشه وموسيقاه وشاعريته المتخللة لما سطَّره فكرياً..الخ، إنه الفراغ الذي يحتفى به تاريخياً، وما زال وبصيغ شتى..
ولكن التعرض للفراغ في الحالة هذه أشبه بمكاشفة بنية ثقافة كاملة وكيف تشكَّل تاريخها وأين. ثمة سعي إلى قراءة التاريخ من زاوية مختلفة، هو تاريخ ثقافة، وتاريخ تفكير في الثقافة ومساءلة حول حقيقتها.
إن الأباعد والأقارب مسألة صياغة، أما الحقيقة فمسألة طي للمسافة كرمى الترائي والمكاشفة أكثر..
ميشيل فوكو ونعيُ الفراغ
ذلك ما يمكن مقاربته عند ميشيل فوكو «1926-1984». عزيزٌ هو مفهوم الانفصال ونحن بصدد الفراغ.
الانفصال ليس أكثر من أخذ الفراغ وما فيه من تقاطعات وتوترات واختلالات وانزياحات حيث لا يعود يُنظَر في التاريخ كخطاطة، ومن زاوية ثابتة، وقيمة كلية، أو فردانية مجردة، وتبعاً لذلك نجد أنه من بين النتائج اللافتة في ذلك هو ( أن مفهوم الانفصال أصبح يحتل مكانة كبرى في فروع المعرفة التاريخية..)(3).
إن نفض مفهوم التاريخ في هذا المنحى، يضعنا في مواجهة ما يجب أن يتولده التوجه الجديد في التاريخ.
إذ لا يعود الخطاب الذي يمثل ما هو تاريخي، في كليانيته، وجمعيته وفرادته مضرب المثل وسؤدد العقلانية ضمناً في تماسك الفكر المزعوم وما يُمضى عليه باسمه، إنما يكون نسيجاً ملؤه الثقوب على مستوى العبارات التي تكوّن خطابها( فالتشكيلة الخطابية، ليست كلية متنامية ذات دينامية أو سكون خاصين بها، تحمل في أحشائها، في شكل خطاب لم يصغ بعد، ما لن تقوله أو ما لم تقله بعد، أو ما لو قيل لناقض أقوالها، ليست إنباتاً أو ولادة عسيرة، بل هي توزع للتبعثرات والفراغات والفجوات والحدود والتقطعات..)(4).
إن تغليب الفصل باعتباره مبدأ على الوصل بوصفه قاعدة إلزام والتزام أخلاقية وسلطوية، يندرج وينخرط في نطاق استنفاري، بدعوى أنه لم يعد بالإمكان الانتظار، لأن ما وراء الوصل ثمة اهتراءات ونخر قيم.
ويمكن اعتبار القرن التاسع عشر بداية استيلاد الكارثي، حيث الحداثة مارست تنويمها المغناطيسي كما يظهر على المأخوذين ببدعتها في عقل لا يخطئ، وجماعة متراصة حقيقة لا تتجزأ( إن مجتمع القرن التاسع عشر» البورجوازي»، الذي لا يزال مجتمعنا دون شك، هو مجتمع الانحراف المفجّر والمتفجّر)(5).
في ضوء المسطور والممكن التشديد عليه هنا، يتم التوجه إلى الموقع الأكثر حساسية وقابلية للمكاشفة، أو للتصوير، وأعني بذلك مفهوم» السلطة» الملغَز كثيراً، عندما ينظَر إليها على أنها ليست مركزية، أي جماعية كلية الانسجام، تأكيداً على حكمة المختلف في مبدأ الانفصال، لتتم بعثرة السلطة وتسمية ورثتها، فلا يكون هناك محروم منها( فالسلطة ليست مؤسسة، وليست بنية، وليست قدرة معينة يتمتع بها البعض. إنها الاسم الذي يطلق على وضع استراتيجي معقد في مجتمع معين..)(6).
إن ما يعجّل بالقول فيما ينهمُّ به الإنسان وهو في فخ حداثته، هو مساءلة القول ومصدره مآله، لحظة النظر إلى الوراء والمصير الذي ينتظره، كونه خلاف ما كان يتداول في سياق الفكر الكلاسيكي، لأن الحياة تكون سبقته كما أنها تتجاوزه، وهذا هو الفراغ الكبير الذي لا يتم تحسسه وهو سهل المقاربة( إذ لا يكتشف الإنسان ذاته إلا مرتبطاً سلفاً بتاريخية قائمة أصلاً: فهو ليس في أي وقت من الأوقات معاصراً لهذا الأصل الذي يرتسم من خلال زمن الأشياء ويتوارى، فعندما يحاول أن يحدد نفسه ككائن حي، لا يكتشف بدايته الخاصة إلا على خلفية من الحياة نشأت هي ذاتها قبله بكثير.)(7)..
إنها ضرب من الاستحالة المقدامة بمحال يمتلك وفرة كافية لخرق الوهمي فيه، أو ما صير عقيدة جمدت العقل في تاريخ طويل باسم الإيديولوجيا اللغوية أو الأعراقية، أو تعبيراً عن مركزية الإنسان كونياً.
وفي متن هذا الحدث الكبير حيث الشعور يصعد بكائنه إلى الأعلى وهو يعيش انهياره كقيمة فاعلة، يتعمق الفراغ بقدر ما يسخن من الداخل، أي ما يتهدد العقل في أصوله الصراطية وثوابته الهوائية( فلم يعد اليوم التفكير إلا داخل الفراغ الذي يتركه وراءه الإنسان المندثر. ذلك أن هذا الفراغ لا يشكل نقصاً. فليس هو أكثر أو أقل من إعادة انتشار لفسحة يتسنى فيها التفكير مجدداً..)(8).
هذا النيتشوي في مقامه وكلامه، يحاول تمثيل الفكر في تطرفه أو عصاميته المثلى، إنما فيما ينسَب إليه وحده على عتبة الاختلاف الكبرى وبصفته واحداً، دون أن يعزل نفسه عن مجتمعه، شعوراً منه أن الأشياء لم تعد تتحمل أسماءها وصفاتها، ولأن الإنسان المأمول والموعود بإنجاز المأمول هذا هو في طور التلاشي إن لم يتنبه له المعنيون بشؤون العقل والمجتمع، وهم لا بد أن يكونوا مختلفين حيث (إن الإنسان الذي برز في أوائل القرن التاسع عشر هو إنسان « منزوع التاريخ» déshistorisé)(9).
الإنسان الذي يلي الإله الخاص ذاك الذي أعلن نيتشه حداده الكوني من باب الانعطافة الكونية، أو للدخول في مجال ثقافة مغايرة، وليس لأن الإله تلاشى كلياً، إنه الحدث الأبرز في ثقافة قلَّصت من مساحة الفني، وأُعطي الرقم الوجاهة الضاربة بنفوذها هنا وهناك، ليكون الإنسان إفصاحاً عن عدمية مضاعفة، عن ذلك الانقراض العائد للفن وقد جرّد كلياً من شرط توالده، ليكون الفراغ قبرياً إن جاز التعبير، وما فيه من إلحاح على ضرورة التباعد بين مكونات الرياضي احتفاء بالفني ولزوم حضوره والعناية به على صعيد البصيرة!
لعلها العتبة المطلقة لتاريخ بشري، تاريخ انتصاراته، لا يعود الإنسان في مقدوره تحمل تبعات الآخرين وقد تراكمت أخطاؤهم أو استفحلت عدوى التفكير في المسار الأكثر كارثية من جهة النتائج والمردود القيمي.
ولعل استعادةً لمناخات كتابه المتعلق بالجنون، سنة 1961، تبرز لنا مدى رهانه على الجنون بمعنى المغاير لما هو سائد، إن جنون فوكو هو ضربة النرد المعتبرة، الحاصل على جزة الصوف الذهبية، حيث لا يجرؤ آخرون على مجرد التفكير فيها، وهي مغامرة جديرة بالتأمل في بنيتها لأن الذي يفكّر به هنا رحالة الفراغات ومتحرّي أصولها في سلبيتها، أو ممعن النظر في الهاوية المموهَّة، إذ يكون المجتمع في انحدار، إنه شاعر أو فنان أو موهوب يشتعل من داخله، جنون اعتباري وأي اعتبار، يثمر معرفة وجمال رؤية قياماتية أرضية في ملمحها، من نوع نيتشه وفان جوخ، وآرتو ودي ساد وآخرين، جنون عروق الذهب في الأرض الصلبة والمعتمة، أي ما يضاد الاتصال والقطيعي، نشداناً لزمن أقل عدداً في الضحايا والممتلكات، ولهذا، وجرَّاء هذا الفتح الجنوني المندفع، فـ( إن العمل الفني يفتح، من خلال الجنون الذي يوقفه، فراغاً، زمناً للصمت، سؤالاً دون جواب، إنه يستثير تمزقاً دون مصالحة حيث العالم مكره على التساؤل..)(10)..
في الصيغة الكلاسيكية للتاريخ وهو أوربي، وللثقافة وهي أوربية، وللمأمول وهو أوربي أيضاً، لا نجد أنفسنا خارج فراغه اللماح، إنما نكون معنيين به وفي عالم اليوم، لأن ثمة ما يقرّب ما بين الحدود أو المسافات، وفي الآن عينه ما يعمّق الفراغات في الوسط المتضايق هذا، ويحفّز على المزيد من ضروب المقاومة الخاصة تلك التي لا تستنزف دماء أو تحرض على الحرب، لأن وسائل المواجهة مدمرة بشكل غير مسبوق، إنما يعزّز جملة القوى وهي في مواقعها من الاختلاف وحِكمانية المختلف بالمقابل.
وحيث يبرز الفني فيما هو مرئي أو ممكن الشعور به فاعلاً في توليد المختلفات وتهذيب النفوس أكثر!
إن المجتمع الذي يتوقف عنده فوكو، هذا المفكر الابستيمي، لا يخفى عليه طابعه الرأسمالي، والرأسمالية هنا ليست حاملة التاريخ في مداه الواسع ومذ تكوَّن تاريخاً، إنما هو مد معين فيه ومرحلة محسوبة، ولكي يعطي الأمل في الامتداد بنظامه، لا بد من تعريضه لأكثر الصدمات حدة، وكما هو المعهود في الرأسمالية كبنية ثقافية صراعية تتوخى البحث عن المقوّم الأمثل لها وفيها، فيكون المغاير محسوماً لصالحها لا عليها.
إن الملوّن الأدبي كما هو نسَب الصورة في كتاباته يسجّل له هذا الأثر الحسّي، وهو الذي يستجيب لخاصية الانفصال، أي بلاغة الفراغ الذي يقابل مسامات الجسد وتهويته من الداخل. إننا إزاء حمية صحية تبتغي تعريض الجسد المجتمعي لما من شأنه تدعيم قواه العضوية أو الحية على الصعيد الدلالي.
ومن الصعب إن لم يكن مستحيلاً مقاربة النص الفوكوي دون مؤازرة من اللغة في وجهها الاستعاري.
جيل دولوز ومرايا الفراغ
هذا الفراغ المحتمى به أو المنشود في بنية النص ما بعد الحداثي إن تعمقنا في مفهومه، يستوقفنا عند جيل دولوز «1926-1995» صحبة فليكس غتاري، وخصوصاً في كتابهما الرئيس (ما هي الفلسفة)، إنه الكتاب الذي تشقه فراغات طولاً وعرضاً، بقدر ما يبرز الفراغ كمفهوم بمثابة حراثة حقل وإعداده للبذار لاحقاً.
نحن في حقل الاستعارة الجغرافية والرياضية معاً، حيث المسطح أبعد من كونه سطحاً مستوياً، تيمناً بما هو مشاع حديثاً عن انتفاء وجود المستقيم بالكامل، عبر كروية الأرض ونسبية حضورها كونياً، إذ إن قراءة ( إن المفاهيم الفلسفية هي كليات متشظية)، وما يستحضره التشظي من تناسل فراغات طبعاً وكذلك( إن المفاهيم أشبه بالموجات المتعددة التي تعلو وتهبط)، ومن ثم يأتي المسطّح ليسهّل تقبل الفكرة المطروحة، وهو ( يضم الحركات اللامتناهية التي تجتازه ومن ثم تعود.)، لتكون مشكلة الفكر كامنة في السرعة اللامتناهية وهذه تكون من خلال وسط ذاتي الحركة لانهائياً أي ( إلى المسطح، إلى الفراغ، إلى الأفق..)(11).
يستعان بالجغرافيا، أي بإحداثياتها، سعياً إلى تعطيل عمل المعطّل في المطلقيات أو اليقينيات في الفكر، وخروجاً إلى العالم وما فيه من تنوع، حيث لا تتوقف النقطة وهي في متحولها الخطي، والخط في مناوشة السطح ورسم الأشكال، كما هو الفن الجدير بالتسمية، وكأن التاريخ ما هو كائن، ما كان سالفاً.
يحضر لاو- تزو، معه أو في إثره بول كلي، وفي كل منهما موعد مع المختلف مع مديح فراغه، لأن اللحظة الحداثية وهي تحدد زمنها الخاص تتوقف على مقدار العطاء، على هبَة الكائن الفني، ودولوز ومعه غتاري مأخوذان بعصا الساحر التاريخي أولاً وأخيراً، بالخط الذي يتخذ مسارات: استقامات مؤقتة وانكسارات كثيرة ليعايَن ظله في كل مرة، وفي الظل يكون التذكير بمبدأ التشكيل بالأبيض والأسود المتداخلين.
إن السديمي كما في العهدة التاوية أو الفنية لدى كلي، وبتحسينات وتحويلات تتناسب ومستجدات الراهن، يقف في الواجهة، كأن السديمي يطمئن صاحبه الفنان في روحه إلى أن لا شيء يوقفه، حيث الكون يتراءى هلاماً، مادة خاماً، وما عليه إلا أن يغمس ريشته الأسطورية في الوسط، ويسطّر أو يخطط أن يكون هو ذاته في مقام المنغمس بمؤثرات محيطه، وعلى قدر مؤهلاته، لأن السديمي يبقى دون انصراف، ما أن تستجد حالة، أن يكون أثر فني أو فكري، حتى يمارس عمله في التغير إخلاصاً لمبدأه أي للصيرورة، فنحن نشهد صراعاً إذاً( إن السديم يعمل سديمياً ويبدد كل تماسك في اللامتناهي..)(12).
هذا المحتفى به سديمياً، يعرّف بالكائن الغامض أو الطفل وهو يلعب عالياً داخل دولوز وصاحبه، أي بذلك الفنان: الرسام، الشاعر، الموسيقي، بهاردي ورامو وغوغان وكلي وبيسوا وكاندنسكي..الخ، إنها أطياف تشتعل كرموز في عالم ما بعد الحداثة، طالما أن الوضع له صلة بالتنوع، بالمزيد من تعميق أثر المختلف.
إنها العين على كل حال، حيث يعمل اللحم الدافئ والطري والرائي لموضوعه وهو ذاته موضوع في الجسد المتوتر بأحاسيسه، ويكون الفراغ مسامات تهوية وتسوية في آن، ولا يمكن الاستهانة إذاً بالفراغ في هذا المنحى( فحتى الفراغ هو إحساس..)، ينساب القول فراغياً وهو ممهور بالإحساس، كما في مثال توضيحي عبر اللوحة، وحضور الصيني تأكيداً على بلاغة متأصلة( فاللوحة يمكن أن تكون ممتلئة كلياً، إلى حد أنه حتى الهواء لا يمر عبرها، فهي ليست عملاً فنياً، كما يقول الرسام الصيني، إلا إذا أبقت على ما يكفي من الفراغات لجعل الخيول تعدو فيها( على الأقل من خلال تنوع المسطحات..)(13)..
هذا الكائن المشعور بخطوط لحمية، هو الذي يفسح المجال واسعاً لمعرفة الفراغ وما يؤتى منه، وليكون في التجريد بلوغ مرام ما، لأن رغبة من الرغبات التي طال انتظارها كما يظهر، قد تحققت وهي أن يجد الإنسان المتعلم، الإنسان الواعي لحيوية اللحمي فيه أمام اكتشاف هو حقيقة، أي ما يلغي عن التجريد كما هو مفكَّر فيه، تجريديته وتلمس كثافة العالم داخله، وقد نزع عنه لحمه وصار ممكناً تبين داخله، وما في هذا التوجه من تحفيز على البقاء بالمزيد إبداعياً( فالرسم التجريدي هو إحساس، ولا شيء غير إحساس.)(14).
وهذا التمادي- ربما- مع خاصية الفراغ، والمزيد من الأمثلة الحسية محاولة لتأهيل التجريد، لقراءة اللامرئي داخله، لجعل الفراغ الذي طال أمد انتظاره هو الآخر، ذلك الفاعل المصرَّح به خلاف المتصور عنه، كما هو النظر إلى الفن وقد تجاوز به اللحمي لقابليته للزوال، أو باعتباره النقلة الأولى للقفزة إلى الداخل، إلى بيت الجسد، حيث يكون البين نموذجاً للمكاشفة وتخيل الكوني والتحليق بالجسد عالياً، لتكون العمارة معتبرة (الفن يبدأ، ليس مع اللحم الجسم، وإنما مع البيت، ولذلك فالعمارة هي أول الفنون..)(15).
ذلك يكون بمثابة التخطيط غير المنجز أبداً لفكرة تنشأ وتتكون في الفضاء اللامتناهي، هي ذاتها الإنسان وقد تجاوز حدود مدينته، حدوده اللحمية وأناه، وهتف للسديم: أن انفذ داخلي، ليكون له تكوين آخر ومتجدد.
يتحقق الجغرافي فيه بوصفه يتعدى الأرضي، إنه الفضائي، الفلكي، صنعة الميثولوجي في العمق، وتلك ميزة لم تدرَس في الفلسفة، عندما يتلمَّس في الميثولوجي ما هو مشدَّد عليه خارج الأرضي، ما يتجاوز الغلاف الجوي، ومقاربة أجواز الفضاء ولو تخيلياً، إنه سديم السديم، إبداع لمجهول باعث على اللذة.
كأنّي بالمعزّز للتجريد كما هو مشاع عنه خطأ، تخلص من وطأة الحسّي المبتذل، ومعانقة لحقيقة تتخللنا..
وفي النقطة هذه، وعبر مفهوم الخط السحري يأتي مفهوم التعدد: جذمورياً وهو في منشأه النباتي الأرضي.
المتعدد في سياق ما بعد الحداثي، لماذا ينشد إلى الجذمور rhizome (إن الجذمور كساق تحت الأرض يتميز قطعاً عن الجذور والجذيرات..)(16)، إنها ولادة كائن جديد، وآخر مغاير للتالي في جدل المختلف!
ليس هذا فحسب، وإنما هو الإلحاح على مبدأ التجاوز لذات المكان، وطمس الظل الذاتي والعمل الدؤوب على إبراز ظل آخر، لجسد آخر لا ينفك عاشقاً للمغاير فيه وفي العالم الذي يتجاوز حدود النظر والسمع..
إنه الفكر المنبثق من الأعماق والخريطة، وباعتبارها خريطة تعزّز لما بعد حداثيتها، هي تقايض على ما خفي وقابل للإثارة والغواية، والجذمور داخل في لعبة المفكر لا الفيلسوف كما يظهر، لأن ثمة تاريخاً لا يسلم من المطاعن أو المثالب، نظراً لممارسات منسوبة إليها على الصعيد الإيديولوجي كما لو أن مجرد ترك العمل في عهدة الفلسفة، إعلان عن توقيف العمل باسمها، أو طي صفحتها كلياً. وبالتالي فإننا نجد أنفسنا في الأعماق في عمل منجمي أشرف على النفاد، وصار لا بد من تغيير الجهة والمكان( الجذمور هو شيء مغاير، إنه خريطة وليس رسماً، وضع الخريطة وليس النسخ..)(17)..
لعله تثبيت المتاهة وهي معلومة، مع سبق الإصرار على أن ثمة ما يغري بالإقامة داخلها، بما أن مفهوم الجديد دائم الانبثاق أو التبلور، فالفعل الجذموري يشق الأرض كما يسحب الرطوبة ويتنفسها من الداخل، كما أنه يصعد عالياً بمادته وينشر أثرها في المحيط، إنها بلاغة أخرى للفراغ، وكيف أن القلم وهو يتحرك في بياض القرطاس، أن الأصابع وهي تحتضن القلم، يتمثل الجذموري، ويضمن العالمين: ما تحت الأرض وما يعلوها، فالجذمور مفهوم نباتي واستنباتي، ولكنه ينبه إلى أن عدم نمو الجذمور بمثابة نعي للشجرة.
إنها علاقة أفقية وعمودية، بين توجه سلفي لا ينغلق على نفسه، ونشاط خلَفي لايعادي خلَفه، بقدر ما يحاول تلقي الدرس منه وتعديله، ليترك هو من جهته بصمته على ما يعنيه ويسمّيه تعزيزاً لجمالية الاختلاف.
ذلك ما يستقرَأ في هذا الخطاب الجذموري، وهو معايَن فراغياً( الجذمور لا يبدأ ولا ينتهي، إنه دائماً في الوسط، بين الأشياء، بين الكينونة فاصل زمني، الشجرة بنوّة، لكن الجذمور تحالف، بالمصاهرة فقط.)(18).
إنها مؤاساة التاريخ بحشد جغرافي معمَّق، درس الطبيعي غير المعايَن جيداً، وإنعاش التاريخ وهو اقتصادي وسياسي واجتماعي وثقافي، لم الشمل لعائلة الإناسة، دون الإغفال عن تلك الخصوصية المهدورة كثيراً.
إنه اعتراف ما بأصل لا يلغى، أو ينكَر قيمياً، عبر الإعلاء من مقام الأب ونجابته أو سلطته الرمزية، بالمعنى الإخصابي، حيث الشكل الشجري يلازم متخيلنا باعتباره ترطيباً للمناخ، للوسط، كما هي البنية وهي مشدود بجهاتها إلى بعضها بعضاً، من خلال مقومات وجودها، فليتولد ما يتولد تعظيماً للمفهوم هنا.
دولوز يعشق الوصف لأن فيه ما يمكنه من النظر في محيطه، حيث الفلسفة مرهونة بالخط، رهينته بمعنى، طالما أن أي تحرك على هيئة أوصاف أو محفزات معنوية، أو رؤوس أقلام في انتظار بدء ما جمٍّ الخيارات هو الذي يشي بمكنون الفلسفة خارج الكلي أو الثابت مكانياً، لتكون الفلسفة رعشة الروح في جسد لا يتوقف هو الآخر عن الاهتزاز، عن إرسال بث يخص نوعية الحياة وبدعتها داخله وهي تمتد خارجاً وتتنوع( كون الفلسفة تولد أو تُنتج من الخارج من طرف الفنان التشكيلي والموسيقي والكاتب، كلما ترتبت عن الخط النغمي الرنة، أو عن الخط المحض المرسوم اللون، أو عن الخط المكتوب الصوت الواضح…)(19)..
إن التوقف الإجرائي عند مفهوم الخط، يقرّبنا من هذا المولَّه بالتضاريس ولعبة عناصرها داخل مفهوم الكتابة، حيث العين الناظرة تتفنن في التقاط المؤثرات، ولأن لعبة الخطوط تداخل مع خطوط المواصلات وهي جوية وبرية وبحرية كما أن المتاح سلكه فضائياً وبرياً ومائياً، يثير شهية الكاتب أو المفكر في ممارسة لعبته تلك الكامنة في استقدام العنصر الجغرافي وثراء أبعاده، وإبقاء مدينة الفكر مفتوحة من جهاته كافة.
إنها الرؤية ما بعد الحداثية التي لا تترك صغيرة أو كبيرة إلا وتتلمس فيها وميض فكرة ما أو عامل تأثير في بنية العبارة أو التنويع في الموضوع، والخط يبقى هو المنشود لأنه يصل ما بين بداية ما ولو أنها افتراضية، ونهاية تكون كسابقتها مهما توسعت المسافة، حيث الثغرات أو الثغور لا تعرضه لقلق التيه أو التفكك.
هذا ينطبق حتى على اللاشعوري( ينبغي أن يكون تحليل اللاشعور جغرافياً عوض أن يكون تاريخاً)(20).
في الجغرافيا يمكن النظر من مواقع مختلفة، وتنوع الخيارات أسهل مما هو في التاريخ نظراً لمفهومه التجريدي، أو لضغط المعتقد أو سلطة القواعد التي تلزم كاتبه بضرورة مراعاة خطوط معينة حصراً.
في الجغرافيا تتنوع العوالم، إذ يمكن التخفي، الرصد، تخيل القمة والحضيض وما بينهما والتفكر الإبداعي، ومن ثمة إمكان نقله إلى الورق، وهذا ذو نسب طبيعي، شجري، والمد بالسطر عميقاً وهو ينوء تحت ضغط الكلمات الأكثر قدرة على توقيف القارئ، تجاوباً من المنثور. إنه التحرك برعاية الفراغات واستلهاماتها!
ولكن يجب أن يؤخَذ في الاعتبار على أن دولوز لا يكون إلا حيث يكون التنويع في جهات الأرض كما في
مجالاتها الحية من سهل وجبل وغابة وبحر..الخ، فما هو شجري وهو يشدنا إلى الغابة وكثافتها وحرص كل نوع شجري على « هويته» النباتية، تبرز الصحراء لتمارس حضورها المختلف، إنما على خلفية ثقافية، حيث تلعب الاستعارة لعبتها الكبرى عبر إمعان النظر في فراغاتها الدقيقة، عندما نقرأ( إننا صحاري، لكننا معمرون لقبائل وحيوانات ونباتات، ونقضي وقتاً في ترتيب هذه القبائل وإعادة وضعها، وفي تنحية بعضها وإغناء البعض الآخر.)، ومن ثم (إن الصحراء والتجريب على ذواتنا هما هويتنا الوحيدة، هما حظنا الوحيد في كل التآليف التي تقطننا. ويقال لنا هنا: لستم أسياداً ولكنكم مع ذلك أكثر مضايقة. كم نود شيئاً آخر)(21)..
في وسع قارئ دولوز أن يستشعر رهاب الثبات في المكان، أو النمطية في التفكير وفي ضرب أمثلة لها ذات الاتجاه اليتيم، حيث إن هذا الجمع بين متنوعات الأرض، كما هو الفضاء محاولة رأب الصدوع الكبرى، والتقليص من هول الفراغات التي تشكل عبئاً أو وزراً على المعنى، وتحول دون الإبداع أو رؤية الأجمل.
دولوز رحالة بقدر ما يكون هاوي غوص، أو قاطع مسافات ومكتشف مجاهيل كما يعلمنا بذلك نصه وهو في غاية التلون والتحول، إيماناً فكرياً خاصة منه، على أن اللامتناهي هو موطن الكاتب الفعلي..
لقارئ دولوز كما تقدم أن يعيش فورة اللحظة الفنية في كتاباته، حتى وهو يحاول مقاربة فكرية عميقة لغيره من نمط شديد الخصوصية هو نيتشه أو غيره، لعل في هذا التغيير الجغرافي الجهوي أو الفضائي ما يحفّزه على أن ثمة اكتشافاً يلي سواه، أن بيت الكائن وهو جسده يستحيل فضاء وقد تراءت دقائقه أو صغائره.
لعل في هذا الارتحال المتعدد الوسائل ما يستأثر به انطلاقاً من اللذة القارة في أصل الفراغ وهو لا يثبت، لأن كل ما يجعله نصب عينيه هذا المابعد الحداثي ضمناً يمهد لما يمكن أن يكون أكثر استساغة ورحابة.
جاك دريدا والفراغ حدثاً
وهذا ما يصبو إليه جاك دريدا»1930-2007» نفسه، عبر مفهومه التفكيكي لخاصية الاختلاف وصلته اللافتة بالفراغ: فراغ الأثر والمنتظر من الفراغ ضمناً، والذي من أساسياته الفاعلة في توسيم عالمه بما هو تنوعي أو اختلافي: الإرجاء، أي إن الحقيقة ما يكونها أماماً، أو داخلاً، ونسبياً دائماً في كل ما يمكن التفكير فيه، والاسم الذي يحدد شيئاً ما يفتتح ثغوره أو يعاين بنا فراغاته ذات الصلة بما هو جزمي، وما يتوخى خارج التأطير( نحن نرى أن الاسم. وخصوصاً ما يطلق عليه اسم العلم. أسير دائمٌ في سلسلة أو في نظام من الاختلافات. ولا يصبح تسمية إلا عندما يمكن تسجيله في داخل تشكيل..)(22).
وفي حيّز العلاقات الاجتماعية أو الثقافية لا يمكن الحديث عما هو منجز نهائياً، إنما الناقص والداعي إلى ضرورة الإكمال المتتابع أو ما يبقى فراغاً هو العلامة الفارقة لأي موضوع يطرح للنقاش (فجوهر المكمل غريب يتمثل في ألا يكون للمكمل أي طبيعة جوهرية، وبالتالي يمكن له دائماً « ألا يحدث»..) (23).
هذا الإجراء يستعجل التذكير بالتفكيك المنسوب إلى دريدا وهو المعنون بالفراغات، بما أن لا شيء في نصه يمكن تناوله أو تسميته أو عرضه للحوار بعيداً عن تقليبه على وجوهه ووضع علامة: قابل للمساءلة دائماً، إذ إن الشيء ما إن يدخَل نطاق البحث أو التسمية حتى يجري تفكيكه، وهو التفكيك الذي يلازمه بقدر ما يضفي على اسمه شيئاً من الزمكانية أو التزمنية تبعاً للحظة ولادته أو تجليه، لأن الزمن فاعل فيه كما هو المثار فيما يقول (إن التفكيك حاصل: إنه حدث لا ينتظر تشاوراً أو وعياً أو تنظيماً من لدن الذات الفاعلة ولا حتى من لدن الحداثة. إن «الشيء في تفكك» أو «هذا يتفكك»..)، ولاحقاً (إذا كان التفكيك يحدث حيثما يحدث شيء، ويقوم حيثما هناك شيء قائم، فيظل علينا أن نفكر بما يحدث اليوم.
(يتبع البقية بموقع المجلة على الانترنت)
وداخل الحداثة، في اللحظة التي يتحول فيها التفكيك إلى « موضوع» مع مفرداته وموضوعاته المفضلة واستراتيجيته المتحركة،الخ..)(24).
ذلك هو تعيين اللقاء بالآتي وهو لم يأت بعد، تخيله أو النظر فيه على أنه أكثر مما هو معطى وفائق الوصف وقادر على الاستجابة لتعددية الرغبات وإلا فإن ما تمت تسميته لا يستحق أي لقاء، لأن مجتمعاً تسوده لغة ما، لا يعني أنه واحد في تصوره أو ما يتفكره، إنما هو العدد اللامتناهي من أفراده ممن كانوا أو هم في واقع الأمر متواجدون فيه وأكثر من حصيلة إحصائية، بما أن الواحد نفسه أكثر من خاصيته الفردية وهو معرَّض للتغير والتحول في أهوائه وميوله وهواجسه وما يصدمه من مستجدات في واقعه ومن عالم بعيد عنه.
ذلك ما هو أبعد من حدود التطابق بين الاسم والمسمى، من العلامة والتمثيل، حيث الشيء لا ينحصر داخل اسم يقوّس عليه أو يتأسس عليه هو وحده فقط، كون التمثيل ينفي عن الشيء تعددية الدال فيه، أي يعتّم على الفراغات باسم سلطة كليانية أو الوثوقية أو الدوغمائية، وبالتالي وكما هو في حواره التفكيكي مع الألماني هوسرل وفيما انتهى إليه (حتى نتأمل هذا العصر و» نتحدث» عنه تلزمنا أسماء غير العلامة والتمثيل)(25).
يسمح دريدا لنفسه في أن يتكلم بصفته مستأهل الكلام المختلف، انطلاقاً من قاعدة العلاقات المدنية الذهبية، وهو أن ثمة لزوماً للتكلم من موقع المختلف، وفي الوقت ذاته، لأن ثمة ما يحث على تأكيد حق الاختلاف.
إن دريدا في مسعاه التفكيكي يحفّز قارئه على ضرورة اكتشاف العالم في ذاته، على التنوع الذي ينتظر من يسمّيه في داخله، وأن وراء كل محاولة تلذذاً بطبيعة المقاربة للموضوع وهو دائم التحول والتبدل أيضاً.
يكون التفكيك ذاته معرَّضاً لما يؤثر فيه، لما يزحزحه عن موقعه، ويضطره إلى معاودة النظر فيما جعله تفكيكاً وما يبقيه في مستوى الاسم التاريخي كلما آثر النظر في الجهات الأربع، وكأني به في كل مقاربة معينة يستنفر قواه الحية لأجلها، ويرى في كل ما يتخذه مجالاً أو موضوعاً للدرس اعترافاً بالتاريخ عينه، وهو التاريخ الذي يصله بأي كان من مبدأ التساوي في القيمة، ونقض التراتبية تقديراً للأفضل.
إنه الفراغ الذي يقابل خاصة المرجَأ دائماً، أو معاودة استنطاق تاريخ الموضوع وكيف ألقي به في نطاق جملة من التصورات ليكون المميز، المنجَز. في الكتابة أو الشفاهة أو الأسلوب أو الجنسانية …الخ.
الحدث المستعاد أو المتقدم يمضي على دوام الإنسان ويؤكد فعله المختلف في كل مرة وإلا لتوقف الاختلاف عن تأكيد فعله المرغوب فيه، كما هو وارد الإبداع وصادره والجامعان بين كمّي الظاهرة وكيفيّها.
إنه المرتبط بعقد، كما يظهر، مع أزمنة الفعل المتداخلة، ووحدها قادرة على تبيان جمالية الأثر، على مدى قيام الفراغ القائم والمستحدث بواجبه الذاتي، وإيلاء الإنسان المختلف اهتماماً وهو مرئي بأكثر من معنى..
لكن ما يجب التنويه به هو أن ثمة فراغاً من نوع آخر شغل دريدا كثيراً قبل رحيله، وقد عمَّق شعوره الذاتي أو التراجيدي بما كان يتفكره دائماً بأن أشياء كثيرة في العالم تظل طوع المعتَّم عليه، في حالة إرجاء قهرية، ولها صلة بالعنف مباشرة، بما هو قياماتي لا يعد إلا بالخراب الذي لا يليه إلا حداد أرضي دون أحد منا.
إنه الفراغ الذي لا يحافَظ عليه ليكون ثمة متَّسع لأي منا في أن يتأمل نفسه، أن يكون لصورته وهي أمامه أو في متخيله حافز على الحياة، إنما هو الفراغ القبري، والذي يعدم إمكانية الإيجابي فيه، ولعل الذي جرى في حدث «11 سبتمبر2001» إثر انهيار برجي مركز التجارة العالمي النيويوركي، كان له وقع الصدمة، وبدا أن مفهوم الإرجاء والمتعلق بسياسة التفكيك المعرفية أقرب إلى العدمية السلبية، لأن ما تم تخزينه أو إنجازه تعرَّض لهزة من الداخل، لانهيار قاعدي أو عامودي، كما هو المرئي في الانهيار ذاك.
وهذا ما أشار إليه بأن ما جرى كان حدثاً خاصاً، تبعاً لرؤيته الفكرية لمفهوم الحدث وجرَّاء معايشته لخاصية اللغة وعنفها أيضاً، وأنه (لا بد له من الآن فصاعداً أن يظل شيئاً من التاريخ المستحيل نسيانه، فهو حدث لا يمكن محوه من الأرشيف المشترك لتاريخ عالمي- أو من المفترض أن يكون عالمياً..)، ولاحقاً( لقد حدث شيء ما، ويخامرنا الشعور بأننا لم نره قادماً، وهذا الحدث ينشر عواقبه بشكل لا يقبل الجدل..الخ)(26).
إن وضع مفردة حدث بين مزدوجتين «حدث»، يشير إلى حرص التفكيكي على سلامة مفهومه غير المتوقع، فيما آل إليه أمره، إلى الصورة الكارثية التي لا علاقة لها بالمتخيل من الداخل، إذ لأول مرة بالنسبة له ولغيره ممن درسوا الصورة وفاعلية الصورة وفنيتها ولذة المعايشة الحسية داخلياً، خالفت تلك بولادتها أو بصدمتها ما هو مألوف، وهي تهبط من عل بأثرها الكارثي، صورة ترتسم في الأفق، وتملأ سطح شاشة التلفزة كاملة، ويعاد نشرها بصرياً مراراً وتكراراً، فيكون لدينا (حدث الحدث)، فيجري اهتمام خاص به.
يراهن دريدا على عنصر التجدد في كل محاولة تفكيك، أو استشراف لموضوعه، لأن ثمة زمناً ليس هو، فلا يكون هو المنظور ذاته، وكأن الحدث يعيد بناء نفسه من جديد، ويشد المعني به صوب فراغ ملهم أكثر!
إن الطابع القياماتي لدى دريدا، وهو يمارس تفكيكاً لموضوعاته باعتبارها أحداثاً ينشغل بها وهي تحفّزه على التفكير مختلفاً عما كان عليه سابقاً، ولو بزمن قليل جداً فاق توقعاته، وربما ألزمه ما جرى في أن ينظر للقياماتية بمعايير أخرى، حيث الفراغ المنظور لم يكن في الحسبان وفيه معاً، فهو ضرب من ضروب النفير اللاعقلي ، وهو من العقلي على العقلي، من خارج سياق النظام العام على ما هو ذات النظام واستقراره.
جان بودريار والفراغ المفترس
ويمكن التوقف عند رمز جلي الحضور من رموز ما بعد الحداثة، أي: جان بودريار «1929-2007»، والذي يرى أن ما يجري وفيما تعرَّض له بالنقد الحاد وهو في صيغة قيامياتية، يتهدد كل فراغ ممكن للتفكير الجدي، بقدر ما يدعو وبالسرعة الممكنة إلى النظر في الفراغ المأهول بالاختلاف، بالفردية المبدعة..
ويمكن اتخاذ العمارة كفن تطبيقي عالي المستوى، وشاهد على مدى تقدم البشرية واتساع مساحتها الأرضية صوب الفضائي، كمثال حي من نوع هجاسي أو فوبيا النظر بالنسبة إليه، ولديه مسوغاته في تبين الفراغ الذي لم يعد له من أثر يذكر للإبداع الفعلي، إنما هو الفراغ المتخيَّل دائماً والمتعلق بضروب من الفناء.
ذلك ما يتعلق بالمزيَّف وقد أمكن فرضه كحقيقة، بالمصطنع، إذ( لم يعد التجريد اليوم تجريد خريطة أو نسخة أو مرآة أو مفهوم. ولا الاصطناع اصطناع إقليم أو كائن مرجعي، أو مادة ما. إنه توليد بنماذج لواقع بلا أصل ولا واقع: واقع فوق- واقعي. والإقليم لا يسبق خريطته، ولا يستمر بعدها..)(27).
إن ذلك له صلة مباشرة بالعلاقة القائمة بين ما هو مرئي وما يجري خفاؤه أو لا يقبل الرؤية، بين ما يجري التستر عليه عن عمد أو عجز، وما يتم إظهاره باعتباره الحقيقة الواجب التعامل معها أو بها.
وللجغرافي المشمول برؤية مسحية له أفقياً وعمودياً، جانبه المحوري نظراً للثقل النوعي الضاغط عليه، أي ثقل التاريخي الذي لا يعبأ بنتائجه كما يظهر، والصورة المقدَّمة بطبيعتها الإعلامية فعل تضليل، أي كيف أن الفني مرمى به في سوق السلع الرخيصة أو الخردة نظراً لمعدل التسارعات الكبرى فيما هو استهلاكي( نحن نعيش في عالم تزداد فيه المعلومات أكثر فأكثر، بينما يصبح المعنى فيه أقل فأقل..)(28).
قد يكون في وسع قارئه توقيفه ومساءلته عن هذا المسح الهولي له لموضوعه، عن تعتيم لتعتيم آخر وهو يشدد على خطورة ما يتناوله بوصفه فعلاً سرطانياً مستفحلاً يتملك الأرض ومن عليها، لكن الاختلاف منح لمفكر ما بعد الحداثة وهو يمارس رثاء خاصاً لا يطلب من أحد تصويره ليكون أقدر على التفكير فيه، اختلاف يحثه على النظر المقارَن، على قراءة التاريخ الكارثي وكيف يظهر الفردوس الأرضي معرضاَ لدمار تدريجي لا يتنبه له، كيف أن الحيوان الذي يعتمَد عليه في القنص والتسلية والتجارب والإبادة من خلال معايشة رغبات شديدة الذاتية مدمرة لبيئته وقانون طبيعته، فقد الفراغ المناسب له، فراغ معايَن لدى من يستمتع به وهو يقلل من فرص حياة كائنه، حيث تكون محميات الحيوان أو حدائقه خارج منطق البيئة التي تتطلب وعياً ينطلق منها عموماً، وفيما يقول بودريار ربما يمتلك قدراً جلياً من الحقيقة( إن تعاطفنا مع الحيوان هو بشكل خاص علامة أكيدة على استخفافنا به. وهذا التعاطف متناسب مع هذا الاستخفاف.)(29).
الحيوان لا ينفصل عن عالم المدينة، عن العمارة التي تستشرف الأمداء، وتحمل بشرها ولوازمهم معهم في رحلة ليست رحلة صاعدين إلى الأعلى، وإنما بغية الإقامة وباسم التطور العمراني.
وفي عالم المدينة يكون الفن متجاوباً مع الثقافة الستولدة من الداخل، والمعبّرة عن نظام اجتماعي، سلعي.
وفي المثال الحيواني السينمائي المرتبط بالعمارة ما يبرز حيوانية الصورة أو بهائميتها السلبية من خلال رؤية « الوحشية المشهدية»، بتعبيره بودريار( وحشية كينغ كونغ المنتزع من غابته ليصبح نجم موسيقى الهول.) ومن ثم( فجأة تغير السيناريو الثقافي. في السابق، كان البطل الثقافي هو الذي يقضي على الوحش أو التنين أو الغول، وكانت النباتات والناس والثقافة تولد من الدم المراق، أما اليوم فالوحش كينغ كونغ هو الذي يأتي ليخرب الحواضر الصناعية. وليحررنا من ثقافتنا الميتة لأنها تخلصت من كل وحشية فعلية وخانت العهد معها..)(30).
إن في الدمج بين الاستطالة العمودية العمرانية واكتساحها للمحيط الجغرافي الشمسي، وهذا الخسف الحيواني والتلاعب بمصيره بزعم المشرَّع له إنسانياً، وما يتعرض للفناء في الوسط: الغطاء النباتي، ما يقود بودريار إلى وضع الإصبع على الجرح المريع، حيث يكون الفراغ المستحدث فظيعاً، وذلك إزاء هذا الجاري باسم العمران، لتكون العمارة موضوعاً للدرس وليس للتأمل الفني والفلسفي، حيث تكون العمارة دالة على كشف الحقيقة المضحى بها على مذبح رغبات ميتاحدودية( لم أهتم بالعمارة، وليس لدي إحساس خاص نحوها. نعم انشغلت بالفراغ، وبكل الأشياء المسماة» مشيدة» التي تجعلني أشعر بدوار الفراغ.)(31).
إنه الدوار في وضح النهار بالتأكيد، ولأن شعوراً بوطأة الجاري لدى مفكرنا، فهو لا ينفك يعاود النظر عالياً جداً، حيث يصعب عليه لقاء ضوء الشمس كما لو أنه مقذوف به في قلب غابة أمازونية، أن ناطحات السحاب على وشك الانطباق عليه، وأن الغابة الاسمنتية شديدة الافتراس تربيه على العنف المستبطن أو العنف الذي يتآكله من الداخل لأنه عاجز عن فعل شيء، لا يمكنه الصعود والمقاومة إلى درجة الشعور بأن ما كان في مقدور الفني استباقه واعتماده تخفيفاً من صدمة الجاري واقعاً، ها هو مسلّم أمره، وسط هذا التواطؤ المرعب بين انكماش الأرض وارتعاش الفضائي كما لو أن الأولمب ذاته قد طوّح به بعيداً( لم يعد هناك ضرورة لوساطة جمالية مزعومة، فالفنان هو الذي يستغل مجال التفرد كي يتملكه ويعيد تقديمه مرة ثانية في التفاعلية بالانتقال من خلال السوقي وأشياء أخرى كثيرة..)(32).
إن رؤية الفن وقد نحّي بعيداً عن مركز اهتماماته، ربما أمكن تحديدها كنقطة استشراف محيطية من خلال مثاله العمراني، أي نيويورك، وهي تعتبر مقبرة كل رؤية حسية أو فنية، إنها النفي المحقَّق والموثَّق عنده لأي فراغ متوقع يؤاسي أو يحفز على الاستقرار والنوم دون كوابيس، وما جرى في مركز التجارة العالمي ربما كان عقاباً من نوع إلهي( يمكننا القول إن برجي مركز التجارة العالمي يعبران وحدهما عن روح مدينة نيويورك في أكثر أشكالها راديكالية: الرأسية- فالبرجان يحاكيان شريطين مثقوبين…)(33).
بودريار يتلمس في الحدث النيويوركي ما يستنفر الآخرين، حيث إن الشر المجسَّد لديه في العمران النيويوركي وباعتباره ثقافة فاعلة في الاتجاهات كافة، شر يستفز القيم الأخرى مجتمعة، لأن ثمة فعلاً ورد فعل، وبالتالي فإن صورة» الإرهاب» تتطلب المزيد من التبصر لمعاينتها( نحن نعتقد أن تقدم الخير أي ارتقاءه بالقوة في الميادين كافة( العلوم، التقنيات، الديمقراطية حقوق الإنسان) يتماشى مع هزيمة الشر وتقهقره. إذ يبدو أن أحداً لم يدرك أن الخير والشر يرتقيان بالقوة في الوقت نفسه ووفق الحركة نفسها)(34).
إن ردود الأفعال العنيفة التي أثارها موقفه، وهي متفاوتة في بنيتها الثقافية(35)، لا تتوقف عند حدود المرئي فقط، وإنما في اللامرئي وكيفية تقديره، إنها زوايا داخل زاوية واحدة، بغضّ النظر عن الاختلاف الممكن، حيث الصورة الحسية والتي خالفت عرفها التاريخي، وهي تحيل القاعدة إلى هرم وبالعكس، إثر رؤية المشهد الانهياري، صورة تحث الباحث الناظر ملياً في العمق على الربط بين المنفجر عالياً، حيث الميدان الفضائي يستذكر بما كان أرضياً سابقاً، وبعدَّة مغايرة، والناخر سافلاً حيث تتشكل رؤية نافذة في العمق.
إن نيويورك التي تتصدر واجهة اهتماماته وتقلقه وأي قلق، تغلّب فيه كلَّ ما هو سريع الانقضاض وخطر، ويتسم بالغلو وفرط الحساسية المدمرة وإرادة النرجسية الخارقة، على ما هو فني، أو جمالي مفرح كما لو أن النموذج المديني هذا صناعة عالمية، أكثر من كونها محلية: «ماد إين أمريكا»، إنها حصيلة أعراق شكلت هذا القارة على مزاجها، على حساب أعراق أصلية ليختلط الحابل بالنابل، ويكون للعنف مساره الرهيب.
وما يقوله يجري على خلفية من هذا الفن البصري ما بعد الحداثي( إننا في كون شطُور، أطواف جليد رضراضة، انسياقات أفقية. إن أثر الزلزال، العقلي كذلك، الذي يترصدنا هو[ نوع من] الانخساف[ العضوي] انفلاق الأشياء جد المنقبضة، انشطار الأشياء التي تتضيق، التي تنعقد على فراغها…الخ)(36).
شعوراً منه بالهزيمة الساحقة أمام هذا التمويه على الخطر الفضائي المطبق عل الأرضي، ولعبة الميديا في تسيير شئون المعنيين بالخراب المنظم لأغراض تعبوية، شعبوية، نهبية بامتياز، لا يجد بودريار نفسه إلا في حرب الكلمات وعلى المستوى نفسه، كما هو متصوَّر عنده، وكأنه يعتمد لغة قضائية: السن بالسن، مع تكثيف متكرر لفعل الكتابة بالنسبة لداء ينطلق من نقطة محورية، تكون نيويورك الأقدر على تمثيل العنف الذي يوزَّع على جهاتها إلى ما وراء البحار إلى حيث تنتهي حدود الأرض وما يليها صاعداً، وما يقوم عليه هذا التصور الإخراجي الذاتي، من موقف ثقافي لا يخفي فرنسيته في المكاشفة النقدية، وإن تجلى على غاية من الشعور بعالمية التفكير والحرص الإنسانيين، حيث إن تدفق الصور الإعلامية وفي أكثرها اتصافاً بالجمالي، يعزّز الثقة بالذات، حتى وإن بدت الذات هذه ضحية شعور بالتضخيم، افتداء لجمال طهراني هنا..
إن شعور الآخر بالكارثي أو بالعدمية المطلقة أحياناً، إنما هو زمكاني بجلاء، بقدر ما يتوقف على عملية التقدير للموقف، وشعوره بذاته ومفهوم الحياة المتكوَّن في شعوره ولاشعوره، لتكون الصورة الملتقطة غير ممكنة الكشف أو التحليل إلا وفق اعتبارات تصل ما بين التاريخي والثقافي والاجتماعي والفردي، ولأن في فهم ما بعد الحداثة، يكون العقل وعتاده الفكري والبحثي والفني والعلمي، تكون الحداثة التي تتقدم باطراد، في ضوء معطيات المقاربة النقدية باستمرار، إذ إن نقد الحداثي لا يعني نسف الحداثي، إنما الانتقال في الموقع، وكل علامة تغيّر في الصياغة تستبقي بعضاً مما كان، وإلا لانعدم التاريخ أساساً، حيث إن ما يصل ما بعد الحداثي، بالحداثي كما في موقف بودريار، أو التفكيكي دريدا، أو الابستيمي فوكو، ليس هو العنف الذي يرينا خطاً جبهوياً يتناوشان على طرفيه، إنما هو الاشتراك في هم يفعّل لقاء دورياً بينهما، ليكون لمفهوم الحداثة أكثر من النظر الخارجي إليه، ليكون ثمة الدمج بين لحظة وأخرى من الأمام، مما يليه.
ادغار موران والفراغ المعلَّب
إن إدغار موران ذاته من رموز ما بعد الحداثة، والنظر في بنية الكتابة لديه يفصح عن الخوف والترقب مما يمكن أن يحصل لاحقاً، ومنذ عقود زمنية عدة، كما يقول في مستهل كتاب له( من نحن؟ من أين نأتي؟ إلى أين نمضي؟ لدينا إجابات فيزيائية وبيولوجية وانتروبولوجية وسوسيولوجية وتاريخية متزايدة الوثوقية حول هذه الأسئلة. ولكن ألا تطرح هذه الإجابات أسئلة أوسع بكثير من تلك التي تجيب عنها…الخ)(37).
هذه اللاأدرية التي تذكرنا بإيليا أبي ماضي، لكنها لا أدرية محكومة بثقافة تتبصر تاريخها كثيراً، أدرية مكاشفة لفنون عصرها بقدر ما تعنى بحياة مجتمعها، وتنشغل بمستقبل الأجيال القادمة، وبالتالي فإن الرؤية الجلية بخوفها على المنظور إليه، تنطلق من ذرائع ملموسة في المجتمع: إعلامياً وتقانياً وفنياً وسياسياً..الخ.
إن تكرار مفردة( أزمة) له ما يبرره من خلال العنف الدوري والمتكرر( كل شيء، في هذا العالم، في أزمة) أو( نحن في عصر أزمات، عصر صخب وغضب، عصر ضروب تقدم/ تراجع..)(38)..
هذا التأزيم يضع كل شيء في نطاق المساءلة، إنما من الخارج ليتسنى للناظر في أن يحصي أنواع الإصابات أو أوجه الخلل أو الأدواء المستفحلة، وفي الفني، حيث يكون الإبداع محط رهان ونقطة استناد قوة إيجابية، أي كيف أن المبدع وهو فنان أصلاً قد جرّد من عناصر قوته الذاتية تحت إلحاح التقانة السوقية أو البورصات الفعلية والرمزية، وتضييق الخناق على المبادرة الذاتية للمرء، وإلزامه بالدخول في دائرة الشروط التقنية الطابع( المبدع، أي المؤلف، مبدع جوهر عمله وشكله، ظهر متأخراً في تاريخ الثقافة: إنه فنان القرن التاسع عشر. وهو يوطد ذاته، على وجه الدقة، في البرهة التي بدأ، فيها، العصر الصناعي. وهو ينزع إلى التفسخ مع دخول التقنيات الصناعية في الثقافة؟ فالإبداع ينزع إلى أن يصير إنتاجا..)(39).
هذا الرصيد السلبي من الصور الملتقطة من الشارع وعلى مستويات مختلفة، وهو رصيد لا يعد بأي أمل في مضمونه، نظراً لسلبيته التي تحول دون مقاومته وتغيير مجراه، يشكل إشارة/ إنذاراً بأن ثمة ضرورة للنظر بشكل مغاير تماماً لما هو معهود، وكأني به يقول: إن الجاري في هوله غير مسبوق، فهو يتطلب مواجهة جهة الحلول، لا تكون مسبوقة من ناحيتها، لأن ما ينطوي عليه الرصيد الجمعي أو الغفير من المقاومات العائدة إلى السلع ومحمياتها ورموزها، وهي تحيل إليها مجتمعاً كاملاً، يتربص بكل محاولة تفكير مضادة، وكأنا ثمة حالة حصار فعلية، ويعود الخيالي ذاته منخرطاً في لعبة التقني مأجوراً ومحكوماً بسلطته( إن الخيالي هو المتجاوز المتعدد الأشكال والمتعدد الأبعاد لحياتنا والذي تقوم، فيه، حياتنا أيضاً…)(40).
إنها غواية النجومية التي تحتكر كل الأسماء وبرغبة من الأسماء هذه وهي معلومة بعناوينها، كونها تعمل بأجور متفاوتة، تبعاً للائحة الأرباح، حيث تتحدد الأسعار وما تعلمنا به الوسائط المرئية، ما يكونه الفن في أكثر حالاته استقطابية وقابلية للتقدير النقدي: السلعي، أي ما يكونه الهوليوودي فاعلاً فعلاً أو رمزاً والسعادة التي تحمل دمغته( إن تيار هوليوود الرئيس يظهر النهاية السعيدة، السعادة، النجاح. أما التيار المضاد الذي يمضي من موت بائع متجول إلى لا وجود لدفع نقدي، فإنه يظهر الفشل، الجنون، المهانة..)(41).
لا يستشف من نص موران أنه صراطي إلى درجة تحميل الوزر أفراداً معينين في المجتمع، ولو أن الصيغة تشير إلى سلطة التكنوقراط الموسعة بحدودها وامتيازاتها، إنها صراطية مفكر مسكون بسلامة كونية من ناحية، ولكنها لا تخفي علاقة رياضية أو فيزيائية، حيث المعادلة تستوجب حضور أكثر من طرف لبلورة فكرة ما، ولكنه يمضي وفق توجه يعتبره عاماً والجميع هم معنيون بما يسمّيه، فما هو فني وعلى صعيد المرئي يتطلب مناقشة ومكاشفة للناخر فيه أساساً، كاستراتيجية بليغة وتنويرية لا تهويلية، وهو إذ يشير إلى الحداثة فمن باب التحمس ولكن دون اندفاع( إن الحداثة مستمرة في نموها، ولكنها، في الوقت نفسه، في حالة أزمة..)(42)، وكأني به يهلل للحداثة المنضبطة، وهي تواجه صورتها المفقرة في مرآتها العقلية..
إنها المطالبة بالمزيد من التحري في الصائر والدائر من حولنا، وتبين أوجه الشقاق وحتى النفاق في جملة الإعلاميات المزخرفة لإنجازات الراهن، والذين يمدحون تاريخ الإنسان التقني دون مكاشفة التدمير الحاصل في الطبيعة، جرّاء النهب المتواصل لها حتى أعماق المحيطات طبعاً، وما في هذه المقدامية ذات التهور الجلي من حماقة مهلكة لآخرين يعيشون بساطة الحياة، والفن مكموم فيما يغمره من زيف المرئي.
وبالتالي( فالطبيعة المهزومة هي التدمير الذاتي للإنسان)(43)، حيث لا أحد يرتاح للحاصل في كونه.
لكنه الحاصل الكمّي وهو ينمُّ عن قدر كبير من النوعية الفاسدة والمفسدة في الوسط المجتمعي، وعلى صعيد التفكير في الممكن واللاممكن، لأن حدود النظر في الأشياء الأكثر افتراضاً فنية، لا تضمن مناعة من هجوم فيروسات فتاكة أو تعمل في صمت كما هي بنية العضوية من الداخل، وما في هذا التصور من زلزلة قيم.
ريجيس دوبريه ولغز الفراغ
إن ديوجين العصر المعتبَر أو المشحون بالسخرية المرة، السياسي سابقاً والمأخوذ بمرارة التأملات راهناً: ريجيس دوبريه، وهو المتعدد الاهتمامات بدوره كما تقول عنه مؤلفاته الأخيرة، لديه ثوابته من جهة التعبير عن مجتمع يذود عن حياضه في النقاط المهدّدة لكينونته( فالمجتمع الذي لا يغضب من شيء يعني أنه تخلَّى عن أية قداسة، وبالتالي عن أي تماسك…) ليردف ما يضيء هذه المقولة التقريرية والتنويرية( إن سخريتنا الجماعية تعتبر أنها قادرة على تحقيق اقتصاد تعالي معين ولكن هذه الممرات في الفراغ تترجم بصفة عامة المرور من تعال ٍ لآخر، أي من منع إلى آخر، غالباً ما يكون أسوأ..)(44).
إنها الصرخة التحذيرية لا يعود يتعامل أفراده مع بعضهم بعضاً بلغة معتبَرة، إنما بما هو حسي، أو شديد الحسية استجابة لما هو استعراضي أو متداول بصرياً من حولهم. إنها غواية المرئي( فالمرئي أصبح في هذا العصر صاحب السلطة..)(45)، لتكون الصراحة متناسبة وجانب الإهمال للذات، للصمت المطلوب من قبل المبدع والمفكر أو الفيلسوف الأكثر تعرضاً للتفقير والإفقار نظراً لأن المجتمع الاستهلاكي لا يسمح لأحد في حدود الإمكان في الاختلاء بنفسه، بطرق شتى عبر وسائطه الإعلامية والترفيهية الموجَّهة.
ولأن دوبريه يتحدث من موقعه كفنان وذي مسؤولية أخلاقية عما يجري ضداً على الفن، وتمثيله عنفياً بقدر ما يتراءى سياسياً فيما يتفوه به ويشير إليه في مدى مجتمعي واسع يتجاوز حدود ثقافته، يكون لكلماته طابع الهدير أو النفير وبلاغة الصوت النابع من بئر عميقة (فالفن اكتسب ضداً على الاستلاب، ونما في حضن الاستقلال الذاتي ومات في المرجعية الذاتية..)، وذلك يقودنا مباشرة إلى استحضار المرآة ودورها في التمويه وتعيين الآخر الوهمي بإرشاد إعلامي خاص (إن المرآة وسط المرآة تقود في النهاية إلى إفراغ اللقاعات من الرواد. فتشكيل التشكيل كمسرح المسرح، وسينما السينما ورقص الرقص وإشهار الإشهار يبدأ بالابتسامة لينتهي بالتجهم. إن الصورة حياة. وهي لذلك سذاجة، والكثير من السخرية قد يقضي عليها. ونرسيس كائن الغروب، والنرجسية عيب جنائزي. فالتقعير يشكل حتف من يبالغ في ممارسته.)(46).
إن الصورة الخطابية اللماحة في كتابة الفرنسي لا تخفي قدرته على المواجهة، ولكنها القدرة التي تستشرف مخزوناً طاقياً أوشك على النفاد، وهو التاريخ الشخصي لمتعدد المواهب، ولكنه يظل في داخله المائل إلى التماسك وليس التفكك، وهو يجمع بين رموز ثقافية تعبيراً عن رؤية مجتمعية، عن الفراغ اللامطلوب إنما المنكوب في الأصل، فهو فيما تقدَّم الشاعر لكنه الناثر أيضاً، الفنان: الرسام بحسياته المؤثرة، والموسيقي بقياس الصوت المضمر والمتخيل والممثل حامل الأقنعة، التعددي في نبراته على خشبة المسرح وإزاء كاميرا محمولة واسعة، والإعلامي ونقيضه وما في هذا الصهر من تشكيل انتروبولوجي.
لكنه لا يقف عند حدوده الفرنسية، كما هو وميض تاريخه السابق، وهو ينظّر لتاريخ سيطرات لدول على أخرى، واستهلاكيات تفترس مجتمعات دفاعاً عن التقانة كما في علاقة الشمال بالجنوب (إن المثالية التكنولوجية ليست في حشرجة البكاء وإنما في عزلة الإنسان الأبيض..)(47).
هذا الخوف على الكلمة يقابل مدى سفور الصورة وسطحيتها وهي تغزو الأعين وتنفذ إلى الأدمغة، عبر شاشات منصوبة هنا وهناك، وإمكانية تحويل الإنسان إلى لاعب دور تمثيلي حتى وهو في بيته، وتبعاً لموقعه ووفرة إمكاناته وتقديرها في بورصة قيمية خاصة، حيث الشعور بأن اللغة قد تراجعت كثيراً تحت قصف الصورة المسطحة، أو الموجَّهة، وأن مجرد مواجهتها يعني الانتقال إلى موقع محكوم بالصورة أي بمنطقها البصري (فالمرئي لا يمكن تفنيده بالحجج وإنما يتم تعويضه بمرئي آخر..)(48).
إنه تمثيل لدور الترجمان المحلَّف، انطلاقاً من قاعدة حسابات معلقة على الرأس مع مراجعين لا يطلبون من هذا الممثل إلا الاستجابة لما هو مطلوب منهم بدورهم، وكأنهم أنفسهم منذورون لصور تتلوها صور، كأن الجاري على نطاق واسع ليس إلا الصور وهي تتقابل أو تتنافس، حتى على صعيد الفن أو اللوحة الفنية، ومدى الضغوط المفروضة عليها، وكأن الحقيقة كامنة في هذا المرئي في زحام الصور الأوقيانوسي.
إن هذا يوجهنا بحقيقة صامتة، عبّر عنها سابقاً بطريقة أخرى وهي أنه ( حين يغدو كل شيء مرئياً، فلا شيء يغدو ذا قيمة. فتجاهل الاختلافات يتقوى مع اختزال الصالح في المرئي.)(49).
ماذا يعني قول كهذا؟ أهو اليقين بأن لا وجود ليقين ممكن، يقوّي رغبة الإنسان فيما هو قائم أو آت لاحقاً؟
إنها العودة المستمرة إلى صدام المرئيات للإنسان وقائمة متضمناتها التي تلغي المسافة المطلوبة للنظر فيما آل إليه أمره، وما يمكّنه من استرداد النفَس أحياناً، ومن السعي إلى التحرك خارج ما يؤطّره..
إن الغزو الفضائي المحبوك للإعلاميات، وبروز الصورة بمثابة التحدي الأكبر لمحترفي الفن في ضروبه المختلفة، والذين ينشغلون بقضايا الفن، حيث يتوافر الفراغ المناسب، كلٌّ حسب حاجته وقواه الذاتية، هو ما يعني شهود عيان المجتمع وتسطيحه، أو تحويله إلى مجتمع أحادي الأبعاد، ليكون هناك اطراد في فراغ من نوع آخر، يحول دون نماء الفن المرئي ومنبعه اللامرئي، وحيث يكون ذلك إيذاناً على أن خطراً حقيقياً يتهدد المجتمع في الصميم، كلما تم التكتُّم على النفوذ المتنامي للصورة المفبركة ودعاتها هنا وهناك.
إن ما حاولت التعرض له، ومن منظور الفراغ المحفّز على مكاشفة نصوص متفاوتة، ومتنوعة في اتجاهاتها البحثية، إنما هو استشراف لعالم الذين عاشوا حداثة، بقدر ما انتقلوا إلى ما يليها وفق مفهوم غيّر في مدلوله، أي (ما بعد الحداثة)، وما كان عليه مصير الفنون البصرية، ولو في زوايا محددة، حيث يتراءى الفراغ مؤثّراً غاية التأثير في بروز الفنون هذه، تبعاً لسياسات النظر القائمة وتحولاتها، أي انطلاقاً ما كان مسنوداً بالفني، ومنسوباً إليه، وكيف تجاورت المواقع الفكرية لمن وقفوا من العقل في طابعه الكلياني أو الجمعي أو المثالي أو المطلق موقفاً نقدياً، وكأن كل رمز من الرموز ذات الصلة بالمواقع تلك أراد أن يكون له فراغه، أن يكون مجاله الحيوي على الضد من أصحاب السياسات والأنظمة الثقافية في الغرب، وفي فرنسا قبل غيرها إذ تنتسب الأسماء إليها، وهم يوسّعون الفراغ كرمى المرئي والتفافاً فعلياً على اللامرئي، وما يترتب على توجهات عقَدية كهذه، من تقليص الفرص التي تنمّي الحداثة وتتجاوز بها سلبياتها..
إن التعرض لمفهوم الفراغ وبالمعنى المركَّب، عبر التشابك القائم بين الحداثة وما بعدها، في نصوص عربية، يتطلب مكاشفة مغايرة في الطريقة أو النظرة والتقدير، حيث يتجلى الفراغ بمعنى مختلف تبعاً للتنوع الثقافي والاجتماعي والسياسي، أو تحديداً، من زاوية التقنية بالمعنى الفلسفي بقدر ما أحسب أن فكرة الفراغ بالطريقة المقدَّمة تفتقر إلى حقيقتها الفنية عربياً كما هو وضع النصوص التي تحمل أسماء لمثقفين أو باحثين عرب هم على تماس مباشر بأحدث التوجهات الفكرية والنقدية في الغرب كما في حال: مطاع صفدي، وسامي أدهم، وعلي حرب، وعبدالسلام بنعبد العالي، ومحمد الشيخ، والزاوي بغورة…الخ، وهي تحتاج إلى حيّز خاص لدراسة تتحرى انزياحات الفراغ وبؤسه الرمزي وكوابيسه هنا وهناك(50).
إشارات
1- شينغ، فرنسوا: الفراغ والملء» اللغة التصويرية الصينية»، ترجمة: د. عدنان محمود محمد- د. صلاح صالح، منشورات وزارة الثقافة السورية، دمشق/2007، ص54- 59.
2- كلي، بول: نظرية التشكيل، ترجمة وتقديم: عادل السيوي، دار ميريت، القاهرة،ط1/2003، ص50-53- 87..
3- فوكو، ميشيل: حفريات المعرفة، ترجمة: سالم يفوت، منشورات المركز الثقافي العربي، بيروت، ط2/1987، ص 10.
4- المصدر نفسه، ص 111.
5- فوكو، ميشيل: إرادة المعرفة، ترجمة: مطاع صفدي- جورج أبي صالح، منشورات مركز الإنماء القومي، بيروت، ط1/ 1990،ص63.
6- المصدر نفسه، ص 102.
7- فوكو، ميشيل: الكلمات والأشياء، ترجمة: مطاع صفدي وآخرين، منشورات مركز الإنماء القومي، بيروت/ 1989-1990،ص273.
8- المصدر نفسه، ص 281.
9- المصدر نفسه، ص 301.
10- فوكو، ميشيل: تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي، منشورات المركز الثقافي العربي، بيروت، ط1/ 2006، ص 539.
11- دولوز، جيل- غتّاري، فليكس: ما هي الفلسفة- ترجمة: مطاع صفدي وآخرين، منشورات مركز الإنماء القومي، بيروت، ط1/ 1997، ص55.
12- المصدر نفسه، ص 61.
13- المصدر نفسه، ص 173.
14- المصدر نفسه، ص 191..
15- المصدر نفسه، ص 194.
16- ينظَر حول ذلك ما نشر جزئياً، أي مقدمة كتاب دولوز غتاري( ألف مسطح: الجذمور)، في مجلة( العرب والفكر العالمي)، العدد 21/ 2007، ص29.
17- المصدر نفسه، ص36.
18- المصدر نفسه، ص48.
19- يُنظَر حول ذلك كتاب( حوارات: في الفلسفة والأدب والتحليل النفسي والسياسة)، لدولوز- بارني، ترجمة: عبدالحي أزرقان- أحمد العلمي، منشورات أفريقيا الشرق، بيروت،/1999، ص95.
20- المصدر نفسه، ص 130..
21- المصدر نفسه، ص 21..
22- دريدا، جاك: في علم الكتابة، ترجمة وتقديم: أنور مغيث- منى طلبة، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة/ 2005، ص195.
23-المصدر نفسه، ص 566.
24- دريدا، جاك: الكتابة والاختلاف، ترجمة: كاظم جهاد، دار توبقال، الدار البيضاء،ط1/1988، ص61- 62.
25- دريدا، جاك: الصوت والظاهرة» مدخل إلى مسألة العلامة في فينومينولوجيا هوسّرل»، ترجمة: د. فتحي إنقرّو، منشورات المركز الثقافي العربي، بيروت،ط1/2005، ص163.
26- دريدا، جاك: ما الذي حدث في « حدث» 11 سبتمبر؟- ترجمة: صفاء فتحي، مراجعة: بشير السباعي، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة/2003، ص52..
27- بودريار، جان: المصطنع والاصطناع- ترجمة: د. جوزيف عبدالله، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، ط1/2008، ص46..
28- المصدر نفسه، ص 147.
29- المصدر نفسه، ص 210.
30- المصدر نفسه، ص 211.
31- يُنظَر حول ذلك،جان بودريار وجان نوفيل: الأشياء الفريدة» العمارة والفلسفة»، ترجمة: راوية صادق، دار شرقيات، القاهرة، ط1/2003، ص12.
32- المصدر نفسه، ص 44.
33- المصدر نفسه، ص58.
34- ينظَر في مقاله حول ذلك، في كتاب( ذهنية الإرهاب» لماذا يقاتلون بموتهم»)، لبودريار وآخرين، إعداد وترجمة: بسام حجار، منشورات المركز الثقافي العربي، بيروت، ط1/2003، ص23.
35- ينظر حول ذلك في الكتاب نفسه، من خلال جان جوليار- امبرتو إيكو- دريدا..الخ، كما ينظرَ في الكتاب المشترك( عنف العالم) لبودريار وإدغار موران- ترجمة: عزيز توما، وتقديم: إبراهيم محمود، دار الحوار، اللاذقية،ط1/2005، بدءاً من( جماليات العنف)..
36- بودريار، جان: الانذهال والعطالة، مقال منشور في مجلة( العرب والفكر العالمي)، ع 10/1990، ص127، وهو الفصل الأول من كتابه( الاستراتيجيات المحتومة)..
37- موران، ادغار: مقدمات للخروج من القرن العشرين- ترجمة: أنطون حمصي، منشورات وزارة الثقافة السورية، دمشق/1993، ص7.
38- المصدر نفسه، ص 318-322.
39- موران، ادغار: روح الزمان، ج1: العصاب- ترجمة: د. أنطون حمصي، منشورات وزارة الثقافة السورية، دمشق/ 1995، ص29.
40- المصدر نفسه، ص 88.
41- المصدر نفسه، ص 54.
42- موران، ادغار: روح الزمان، ج2: النخر، ترجمة: د. أنطوان حمصي، منشورات وزارة الثقافة السورية، دمشق/1995، ص345.
43- المصدر نفسه، ص 420.
44- دوبريه، ريجيس: محاضرات في علم الإعلام العام» الميديولوجيا»- ترجمة: د. فؤاد شاهين- د. جورجيت الحداد، دار الطليعة، بيروت، ط1/ 1996، ص226.
45- المصدر نفسه، ص 248.
46- المصدر نفسه، ص 52.
47- المصدر نفسه، ص245.
48- المصدر نفسه، ص 290.
49- المصدر نفسه، ص 296.
50- ذلك ما يمكن التعرض له في سياق التقابل ونوعيته، وكيف يتم تفعيل مفهوم الفراغ بمعنييه عربياً، وأي لعبة فنية تُكتنَه في فعل التبصُّر للواقع، ولخاصية الكتابة وعلاقتها بجدل الاختلاف، أعني بذلك البعد المعماري الرمزي والأرضية التي يقوم عليها في المجتمع، وكيف يُعنى به، بالنسبة لمطاع صفدي، وهو يطل على قارئه، وما تعنيه إطلالته دلالياً، من خلال المقدمة: المقالة، في كل عدد جديد من أعداد مجلته المعروفة( الفكر العربي المعاصر)، حيث يصار إلى جمعها في كتب متتابعة لاحقاً، كما في محتويات كتابه ( نقد العقل الغربي» الحداثة وما بعد الحداثة»)، وسامي أدهم، في ( ما بعد الحداثة)، وعلي حرب في ( أزمنة الحداثة الفائقة)، ومحمد الشيخ في كتبه عن رموز الفكر الغربي، وعبدالسلام بنعبد العالي، في ( أسس الفكر الفلسفي المعاصر)، والزواوي بغوره في( ما بعد الحداثة والتنوير)..