(انه لن يطرق بابك فلم الانتظار؟ عليك الاستمرار بالتنفس مهما كان الهواء ملوثا). تلملم بقايا سهرتها لوحدها ليلة البارحة، تمسح آثار الشمع من على الطاولة، تغسل أطباقها، تكوي ثيابها على عجل، تنظر للمكان من حولها تبتسم ثم تفتر باب صومعتها قاذفة جمدها وروحها وسط تعب العالم.
تقود سيارتها بمثل ما للضوء من سرعة في شارع حزين تتراكم الاوساخ على جانبيه، على امتداده بيوت متراصة لطالما توقف خيالها عندها في طريق الذهاب والعودة من العمل، البيت الاصفر كونت انطباعا عن صاحبه انه فنان او يملك بالفطرة ذوق فنان سريالي، البيت الضخم ذو الواجهة الزجاجية الزرقاء تتخيل، اكون اسرة صغيرة ممزقة تسهر ليلا على السلالم الرملية جموع أفرادها، اما المنزل الواقع على الزاوية ذو الحديقة الكبيرة فلا مئك ان لساكنيه قلوبا طيبة كنباتاتهم الغريبة. كم أضاعت من وقت وأحلام وأرصفة وهي تحاول مد بصرها الى خلف النوافذ المختلفة في مدينة جدرانها العازلة غير قادرة على حفظ الاسرار او منع الأصوات من التحليق خارجا، أولئك الذين لاحقتهم بقصصها الس ية وملاحظاتها الطفولية ينفضون من حفلها ولا يشكل وجودهم السابق س ى حصة زائدة في أحدى تا(فيف الذاكرة،ترى كم واحد منهم فقد حاسة الشم؟
×××
في عيادة الطبيب تقدم بطاقتها ورسوم المراجعة للممرضة وراء مكتب الاستقبال تستفسر عن موعدها تخبرها الممرضة ان امامها الكثير وأن الازدحام يبدو غريبا هذا الاسبوع والاعداد في تصاعد ستمر.
تجلس على المقعد الوحيد الشاغر وسط عشرات النسوة، لا أثر للرجال هنا مع ان الطبيب متخصص في أمراض الاذن والانف والحنجرة، تلتقط مجلة نسائية ممزق غلافها وتتظاهر بالقراءة. في بداية البداية راوغت احساسها ان ثمة شيئا في طريقا للانطفاء مثلما حدث لاشياء كثيرة في حياتها بدت براقة وجميلة وأحيانا مألوفة وحتمية ثم خبت وتلاشت تاركة وراءها اضاءة خافتة لا ترشد تائها الى الدرب ولا تغري للالتفات الى الوراء. في محطة الوقود اعتادت فيما مضى ان تحكم اغلاق نوافذ السيارة حتى لا تتسرب الرائحة المزعجة اليها الآن بامكان عامل المحطة سكب برميل من الوقود عليها ولن تشعر سوى بالبلل. لم تعد تشعر بالغثيان من رائحة الاجساد الكريهة في زحمة الاسواق ولا برائحة النفايات المنسية في الشوارع الداخلية ولا التنونة الصادرة عن أنابيب المجاري المكسورة، ايضا لم تعد تناسب ابنها الرائحة الصادرة أو عطرها او فسمات الصباح الأولى او طعام أمها ولا حتى وسادته المشبعة برائحة وجولته.
×××
يفتح الطبيب باب غرفته يتوجه للممرضة طالبا منها عددا من الملفات، يحملها معه ويغلق الباب خلفه بهدوء، تتمنى لو اختفت جميع النسوة الجالسات حولها حتى ينتهي انتظارها، الشابة الجالسة قالتها، تخرج من حقيبتها هاتفها النقال ذد الجرس العالي، تتمتم ببضع كلمات ثم يحتقن وجهها وترتجف اصابعها فعيدة الهاتف الى مكانه، يبدو أن من ازعجها رجل ما، تحمماها على ان هنالك من يهتم بها حتى وان كان مصدرا لألمها الذي بدا على وجهها، بالتأكيد هو ايضا مصدر لسعادتها في أوقات اخرى.
(لتأت الآن أو لا تأتي ابدا) ما زالت تتمتع بذاكرة قوية تمكنها من استرجاع تفاصيل ما حدث… كانت تقف أمامه على الأرض الباردة حافية القدمين تحرك يديها في جميع الاتجاهات وبصرت متهدج حاولت ان تعبر عن كل ما أزعجها، كانت امثد ضعفا واكثر حزنا من ان تنظر لعلاقتهما من خلف النافذة التي تحطم زجاجها او حتى تحاول فهم كلماته المقتضبة او نظراته الغامضة في الخارج كان السكون تاما فيما سحب الدخان الملوثة من المصنع القريب تعبر فوق المباني الشاهقة وتظلل الشر ارع قبل ان تختلط مع ملوثات النهار الأخرى، وعند أول مشعاع ضوء رمادي خرج دون ان ينبس ببنت شفة، لم تحاول ان تستوقفه، شعرت بنفسها منبوذة عاجزة عن الاستمرار في مطاردة آثار رجل غريب.
(اني بخير) كانت تؤكد لنفسها ذلك لزيادة الاطمئنان، وكلما لزم عليها ان تختار الجهة التي ستسلكها من بعده أقنعت نفسها ان الوقت لا يزال مبكرا، الآن بعد ان فقدت الاحساس بروائح الاشياء ادركت أن داخلها تمردا على حالة صمتها.
×××
تخرج المريضة من غرفة الطبيب بعد وقت طويل، تدخل بعدها سيدة في العقد الخامس من العمر ملامحها فاترة وخطوتها بطيئة، تمسك طرف عباء تها السوداء بيدها اليمنى وفي اليد الأخرى حقيبة زرقاء صغيرة لا تناسب سنها.
امامها الكثير لتنتظر لكنها ستصمد هكذا قررت فالتزامها اليوم بموعدها الشاي مع الطبيب واجراؤها جميع التحا ليل المطلوبة ونمم كرهها للاطباء وعياداتهم نابع من ذعرها ان يعود فجأة بعد غيابه فتجد نفسها عاجزة عن استنشاق رائحته التي تملأ حياتها بالحياة.
×××
في المرة الاولي لزيارتها للطبيب سألها ان كانت تعان ضفوطا نفسية فأجابت بالنفي، أمها ايضا تحاول معرفة سر الحيرة في عينيها لكن بدون فائدة، صديقتها لا تزال تحاول التوصل لاستنتاج ما من خلال سلاحظتها غيابه الدائم وهي لا تزال عصرة على الاحتفاظ بجميع أسرارها في صندوق مغلق لا سبيل لاختراقه. (معه كنت اشعر بجمال كل شيء وبؤس ومثقاء كل شيء أيضا) منذ أن فقدت حذرها وهو يمارس سيطرة مشؤومة عليها، كالدمية يحركها بخيوط لا مرئية في جميع الاتجاهات مما جعل أعماقها تخفق بغيظ خفيف، احيانا تود لو تصرخ فيه ان يعيدها الى حقيقتها، ان ترد الى ذاتها وان تتخلى في المقابل عن السعادة التي أوهمت نفسها بها وسط انبهارها به، فرصة أخيرة للعودة للوراء ستكون عادلة، ستتنازل عن هبة الوله وسر العشق العظيم. الآن بعدما حدث بينهما ما حدث بدت لياليها مظلمة وكئيبة والخارج رهيب ومصدر عقوبات يومية تواجهها وحيدة وأيامها الفارغة من صوته وصورته جعلتها تتدثر بالمزيد من الكآبة وفقدها حاسة الشم خسارة جديدة تضاف لقائمة طويلة.
×××
الجميع ينتظر، والممرضة كأنها نسيت أمرهم وانشغلت بالتنقيب في الملفات أمامها، الوقت محنط كمومياء في هذا المكان في هذا اليوم.
فجأة يخرج الطبيب من كهفه، يقف وسط الصالة يسألهن:
– من منكن أتت لمراجعتي بخصوص فقد حاسة الشم ؟ ترفع جميع الجالسات أيديهن، تبدو عليه علامات الحيرة، يهز رأسه قائلا:
– منذ أيام وأنا استقبل عشرات المراجعات يشكين من نفس الحالة والأعراض، يبدو الأمر غريبا بالنسبة لي ولزملائي في العيادات الأخرى، يلزمنا بعض الوقت لتفسير ما يحدث، لذا أرجو من الجميع تسجيل الاسم ورقم الهاتف لدى الممرضة ومنقوم بالاتصال بكم.
×××
تنهض مستسلمة لواقعها، تتساءل ما الذي ستفقده في غيابه أيضا؟!!
باسمة العنزي (قاصة من الكويت)