فتى مشاكس ، وشيخ دمث
مجدد، ومحافظ
باديء ، ومتردد
وهذا الذي أقرأ، هو شاعر من زمني فتح النافذة على سماء _ مفتوحة هي الأخرى – على الجهات المتنوعة ، وأطلق طيوره في فضاء مزدحم المذاقات. لكنه بعد خطوته الأولى نحو الحرية ، نظر الى نفسه بإعجاب خفي، ثم اكتفى بجرأته وصمت.
كأن المحاولة الجسور كانت هي الغاية. بل كأنه عاد من مغامرته متوجا بالاعياء، فجلس يستريح تحت ظل سحابة !
وهنا عندما أقرأ كتاب الفتى المشاكس ، تجبهني صورة الرجل الأنيق المحافظ. واذ أتمتع ببداياته وأتعدد، أرى الى نهره هادئا فيما بعد، فيما بعد الخمسينات حيث رماد التعب ينسدل على القصيدة الا في التماعات نادرة تذكرنا به فجأة ، ثم تنسى بعد زمن.
هنا أيضا اكتشف كم كان منسيا، رغم أنه لم يحب الخلوة ، أو الاعتزال (ألم يقرر مرة أن يعتزل الشعر، ثم عاد عن قراره ؟) بل حتى وهو في مركز الأضواء العامة كان شاعرا منسيا. هل يكشف الموت حقيقة الكائن الى هذا الحد من الوضوح ؟
أنقل عن "شارع الاميرات " (1) وصفا لجبرا ابراهيم جبرا لتلك الفترة الأولى من المغامرة ، لذلك المزاج الذي رافق التمرد، لتلك الكوكبة المبادرة بانتاج تذوق جديد في الكتابة والرسم والتفكير. كانت أوائل الخمسينات ببغداد عند الأدباء الشباب عصر الوجودية الذهبي، كيفما كان فهمهم لها مما وصلهم من مترجمات متمثلة في كتابات جان بول سارتر والبيركامو، أو
مقالات مترجمة عنهما. قلائل منهم استطاعوا أن يميزوا بين الواحد والآخر، وأقل منهم من أدرك أن البيركامو لم يكن فى جوديا بالمعنى السياسي أو غير السياسي الذي أراده سارتر. وقد راق لمعظمهم أن يفهموا الوجودية على أنها بوهيمية جديدة تفلسفها هذه المرة مقاهي سان جرمان ، ولكنها للبعض كانت تعني الالتزام ، حسبما أراد اليسار يومئذ ان يفهم الالتزام. وكان هناك من رأى في منطقها ما هو نقيض ذلك بالضبط نوعا من العدمية التي تبيح للفرد تجاوز القيم كلها، والفلسفات السياسية كلها في مدن "قتلها السأم " أو بعبارة كامو في مقالة "وقفة في وهرأن " مدن "التهمها المينوتور".
بلند الحيدري ، اذ عد نفسه وجوديا يومئذ ، كان مأخوذا بهذه الفكرة ، على طريقته التمردية ، وكتب قصائده القليلة "أغاني المدينة الميتة " ، بوحي منها، بلغة مدببة ، بارعة البساطة ، ترفض الصور البلاغية التقليدية ، لها ايقاعها الموسيقي الخاص ونفسها الدرامي، وفيها شيء من "الايماجية " التي جاءته مبكرا وعفويا وهو طالب في الثانوية مع الكثير من إحساس باللعنة التي سحرته في شعر "الياس أبو شبكة ".
تلك الفترة بين 46- 51حين نشر بلند "خفقة الطين " ثم "أغاني المدينة الميتة " التي رسم لها الغلاف جواد سليم ، كان هناك غليان تجديدي وبحث مستمر ، قبل ومع معرض "جماعة بغداد" والتجارب الشعرية والقصصية الجديدة ، والدراسات الاجتماعية كما في محاضرة الدكتور علي الوردي "الازدواجية في الشخصية العراقية " وما رافقها من جدل في الصحافة والمقاهي الأدبية ، ومن نمو وعي سياسي للتحرر من الماضي ومن الاستعمار، ومن مطالب اجتماعية بالخروج من الظلمة الى القرن العشرين.
هناك كان شعر بلند يعبر عن رغبات انسانية صريحة ، نقلة عصر. من البلاغة والاطناب الى معاينة وجودية لم تلتفت كثيرا الى العام ، لأن اختيارها فردي، كما لم تلتفت الى المألوف في حركة المجتمع ، في الأدب خاصة هناك يولد الشاعر من رغبته.
أما ساعي البريد فقد سجلت على أسطوانة ، حيث كان نادرا ومن غير المألوف أن تسمع شعرا على اسطوانة ، خاصة اذا كان هذا الشعر حديثا، وهو الآخر لم يكن مألوفا بعد!
هناك لم تأخذ الشاعر انشغالات عصره السياسية ، ولا تلك السياقات من الصراع السائد. ان صراعه يكمن في التمرد على شكل الكتابة ، كما في سلوكه ومظهره إزاء مجتمعا والآخرين. وفي اختياراته لأقرانه وزملائه : علاقته بالمتمرد الآخر حسين مردان ، وبالمجدد في الفن التشكيلي جواد سليم ،. وتلك النخبة البغدادية التي يختلط فيها مثقفون وكتاب بريطانيون،وكان جبرا واحدا من محاورها.
إن المدينة ساحة صراعه ، فهو منذ "أغاني المدينة الميتة "
والتي أعاد انتاجها مرة ثانية ، وهو يرى الى المدينة والبشر، متسائلا وشاكا، حيث غالبا ما يكون هو الطرف الأساسي في القصيدة ويتعالى فعل أناه في حواره مع الآخر ومع المدينة مصحوبا ببوح شخص هو مركزه ، وهو مصدر الشكوى واللعنة.
في الستينات لم يكن صوت بلنا مسموعا، لقد تحطم ذلك الاطار الروحي ، وأطر الارتكاز الاجتماعي التي كانت تسند خياله وحياته ، فرغم أن بيروت قريبة ، فقد كان بلنا نائيا عنا.
وفي كل تلك الاحتدامات التي أعقبت انقلاب 8شباط الدموي، وتلك الرجة _ الصحرة على الروع ، وعلى تجميع أشلاء الحزن والتفكير، والتي طالته أيضا، ظل بلنا غائبا، لكنه فجأة يذكرنا بحضوره من هناك. ففي منتصف الستينات حين كان مظفر النواب في السجن نشر بلنا قصيدته الشهيرة في "الآداب "
.. غصن وصحراء ومظفر" (2):
اصحيح يا مظفر
أن غصنا طمرته الريح فى الصحراء
رغم الريح والصحراء
أخضر… ؟
أصحيح
ما روته الريح :
ان البرد في صحراك ملعون
فلن تحيا غصون
في صحاري كل ما فيها منون
كيف يحيا غصن زيتون صغير
كيف يحيا ويصير
لربيع موعدا
كيف يكون…؟
أصحيح يامظفر
ان ذاك الغصن رغم البرد
رغم الريح
خضر… ؟
كان لوقع هذه القصيدة الغنائي والسياسي أثر كبير علينا آنذاك ، وكان هو كمن يريد أن يذكرنا بحضوره وذكرنا بحضوره بقوة ، ثم انطوى زمن آخر على هذه الالتماعة وظل بلند منسيا كشاعر.
الذي أبعده الى بيروت أبعده شيئا فشيئا عن المكان والزمان عن المدينة ، عن بغداد تلك التي وجد فيها حياته وصراعه ، ألقه وحبه وحريته.وبينما برز جيل آخر ، وشعر آخر ، ظل بلنا متحصنا في انجازه الأول. أرسم له صورة جانبية :
كان ذلك في بيروت عندما التقيته أول مرة في مجلة"الأحد" في تلك الغرفة المستطيلة الكبيرة التي كنا نكتب فيها مع أدونيس وسمير صايغ ورياض فاخوري، وكان يتردد عليها فوزي كريم وشريف الربيعي وأحيانا عمران القيسي ، حيث تزدحم غالبا بوجوه معروفة ،أو لامعة في الوسط الابداعي اللبناني.
ثم في اجتماعات "مواقف " حيث كان بلنا أحد أهم الأعضاء في هيئة التحرير بعد أدونيس. لكن تباينا جليا يظهر في النقاشات بين آرائه وآراء أدونيس حول الكتابة. كأن لمسة محافظة بدأت تطرأ على تذوقه الشعري ورأيه في الشعر.
ثم كان يذكرنا نحن الأصفر سنا، بمعاناته الأولى ، فيروي القصة ذاتها عن علاقته بالأب أنستاس الكوملي ، الذي كان يضع خطوطا حمراء تحت سطور أو كلمات قصيدته مصححا. كان يحكي عن علاقة التلميذ المجتهد بالأستاذ. لكنه كان يروي ذلك بطريقة مهذبة تحاول أن تخفي الشكوى من الجديد والصادم. أليس في هذا تناقض مع بداياته كباديء ، ومجدد ، ومنقلب على الماضي؟
وبعد فترة وجد نفسه خارج "مواقف " مع رسالة اعتذار تعبر أيضا بطريقة مهذبة _ عن تردده كان ذاك كذلك موقفا مناقضا لطراز بلند الأول. بلنا الذي يرسمه جبرا:
"لقد أعجبني في هذا الفتى الشبيه برامبو ، ولكن في زمان ومكان غير فرنسا القرن التاسع عشر، انه بقي حتى صيف تلك السنة (1948) لا يرتدي الا معطفا مطريا طويلا واحدا لم يفارقه قط. ولم يكشف يوما عن البدلة العتيقة ولا شك ، التي يغطيها.. وما من دخل له الا بضعة دنانير شهريا يتقاضاها من خاله مدير الزراعة العام ، لقاء تصحيح ملازم المجلة التي تصدرها الدائرة الزراعية ، ومع ذلك فانه يتحدث ويتصرف باعتزار وكأن الدنانير تملأ جيوبه ، وينفقها يمينا وشمالا دون حساب.."(3)
رغم انه ابن عائلة غنية محافظة كبيرة. تمرد إذن خارج الاطار الاجتماعي، وشعر بمستوى المشاكسة والتجديد.
وهنا لا أرى تناقضا محضا، بل ما يمكن أن أحدده بانقطاع التواصل بين بلنا الأول وبلنا الآخر بعد أكثر من عشر سنوات. فهناك فترة انقطاع أصابت العمق الشخصي ، ثم الشعري في داخله وفي تجربته منذ أن خرج من بغداد.
من ناحية ، لم يواصل صراعا فكريا للدفاع عن وجهه نظره في الشعر، فهو لا يملك موقفا نظريا معبرا عنه في كتاباته عن الشعر. أي أنه لم يضع للحركة الشعرية تصورا جماليا يقترحه ، أو يرى الى مثل وتجارب جديدة ، وقراءة لجيله ولعصره. لكنه وهب جزءا رائعا من حياته للدفاع عن نظرته هذه بأسلوب مختلف : بالسلوك المشاكس للمجتمع ، بمظهره الغريب بحضوره واختياراته الأغرب حيث يؤسس "جماعة الوقت الضائع " ويفتتح مقهى ثقافيا باسم "مقهى واق الواق ".
كان آنذاك ذائقة متفتحة للتجديد، ووعيا من طراز خاص ، لم يشذ أن يشارك الحفل أتيكيته الكامل ، ذلك الفتى.
أما الشيخ فقد ظهرت عليه علائم الحكمة منذ السبعينات وهو يتحدث للأصدقاء ، وفي الصحافة عن موسيقى الشعر، وبإلحاح ، ليصل في الأخير الى نصيحة من طرف خفي الى الجيل الجديد، بالدقة في استعمال الوزن ، وتجنب الزحافات والعلل في القصيدة ، ويتحصن خلف رأيه هذا عند موقعه كرائد للشعر الحديث ، وكان لبلنا كل الحق في أن يظهر بمظهر الشاعر الرائد، لكنه لم يستطع التعبير عن هذا الحق في انجازاته التالية ، وتحديدا بعد "أغاني المدينة الميتة ".
كأن انقطاعا فصل بلنا عن الشعر العراقي والعربي كل هذه السنوات ، بعيدا عن جحيم الستينات بانقلاباتها وعصفها وصراعاتها. كأن حالة استجمام أو مراجعة أخذته في استراحة طويلة على شاطيء يبعد مسافة هذه السنوات ، كما لو أن حالة مصالحة وضعته في هدنة.
هل لأنه لم يكن رجل صراع أو شاعرا إشكاليا؟
هل ان تهذيبه وطيبته جعلاه في منأى عن الخوض في اللجة ، أم أن عصره قد توقف عند المحطة الفائتة ؟ أم أن ترفعا باطنيا نحا به الى الاعتزال والافتقاد؟
أم أن قصورا في قاموسه وخياله الشعريين بدأ يتراجع مع الزمن ، وهو يضع بينه وبين التجارب والتطورات الشعرية مسافة تبعده بدل أن تقربه ؟
انها أسئلة وليست حكما. أسئلة من نوع : هل كان شعر بلنا شروعا دائما وتحولا؟
على مقاس عصره وجيله لم تكن له سمعة السياب كرائد يضعه النقاد في منجزه التام كشاهد، وربما أحيانا كمقياس. كما لم يحقق شهرة بمستوى البياتي والدراسات التي أعدت عن شعره. ولم يضع نصا نظريا حول الكتابة الجديدة كما وضعت نازك الملائكة في مقدمتها لديوانها.
اذن… ليس دقيقا انه كان منسيا بيننا… إنما كان نسيانا أبيض.
مرة ترجم رباعيات البيوت الى العربية في مجلة "شعر" فضل ان يختار نهايات مقفاة لبعض الأبيات والأسطر، مؤكدا أن ذلك يخلق ايقاعية تحاول محاكاة النص الأصلي. وكانت أحدى الرباعيات وهي تصف النسوة تنتهي أبياتها بـ غاديات ، ورائحات. وهكذا. كما كان يؤكد على الايقاع ، وعلى الأوزان ، واستخدام البخور استخداما خليليا مع قليل من التجاوز، وعلى معرفة تامة ، أو لنقل على اطلاع واسع بالعروض هل لأنه وجد فيما يكتب منافيا لتصوره عن الشعر تلك الأيام ؟ لمفهومه أو لذائقته الفنية ، وهو يؤكد على احداثه تغييرا جرينا في استخدام موسيقى الشعر؟
لقد كانت قضية الوزن تطفي على تفكيره وعلى تلميحاته النقدية. آنذاك كان يرى وهو على كرسي الأستاذية ، مخلصا الى القناعات ومهملا في ذات الوقت السؤال ، سؤال الشعر وحركيته. إن شعره لم ينعكس على وجه عصره فترة الستينات والسبعينات ، رغم غليان تلك الفترة بالتطلع والاحباط وصراعات الأساليب والاتجاهات ، والتجارب الشعرية في العراق ولبنان ومصر. فقد كان نصيبه من كل هذا صفحة ثابتة في مجلة أسبوعية ومشاركة دائمة في المهرجانات والمؤتمرات الثقافية التي تقام في المغرب وتونس ولندن. ثم.. كان يبدو مثل ضيف مجامل في مأدبة. على عكس ما يحدثه أبناء جيله من اهتمام رو حضور مثل أدونيس ، وقباني، والبياتي، حتى أن جيلا جاء بعده طفت شهرة بعضهم عليه : سعدي يوسف ، فاضل العزاوي، عبدالمعطي حجازي ، أمل أنقل ، محمود درويش.
رغم أنني استخدمت مفردة "شهرة " مجازا على أن أعتمد الدقة لأقول : الأهمية !
فعندما تضع توصلات سعدي يوسف وتجريباته أمام مجمل انجاز بلنا ، تكتشف الفارق بين الالتماعة والبهوت. أو تضع تنوع موهبة فاضل العزاوي واجتهاداته النظرية في الشعر مقابل انجاز بلنا ستشعر بالتجاوز بين تجربتين. لماذا ؟
كان حضور بلنا الأخير وظيفيا ، بحكم الدرجة السابقة للانجاز الأول _أكثر مما كان مدعوا له مع جيله أن يكون تحريكيا.
عندما عاد الى العراق بداية أو منتصف السبعينات ، كان ظلا لعصفه الأول، ظلا لماضيه ، كان تذكيرا بالنسيان ،فقد ظل الحاضر الغائب. الحاضر بشهادة التمرد الأولى ، والغائب بامتناع أثره على الحركة الشعرية. حتى وهو يتولى مسؤولية تحرير مجلة "آفاق عربية " حيث اختص بتعليقات نقدية على الفن التشكيلي ، كان كمن يهرب من حضوره كشاعر الى البحث والتنقيب في الزيت والألوان والصحافة. وحين كان ظل سعدي يوسف وارفا على امتداد الشجرة العراقية للشعر، كانت خطوات بلند بطينة من ديوان الى آخر ، وكان تواصله محكوما بشرط الاستمرارية وليس بشرط التجديد والتحديث. لماذا ؟
انها أسئلة لا تمنعها محبتي له بل تقترحها قراءتي الشخصية له كشاعر.
الهوامش:
1- "شارع الأميرات " _ جبرا ابراهيم جبرا _ المؤسسة العربية للدراسات
والنشر.
2- رحلة الحروف السفر 1968 بيروت.
3- شارع الأميرات.
جليل حيدر (شاعر وكاتب من العراق يقيم في السويد)