يرى العديد من الباحثين المهتمين بالأدب والفلسفة، أن هناك أكثر من رابطة تشد الفلسفة إلى الأدب والأدب إلى الفلسفة، فإذا كان الأدب تفكيراً بالصور كما يرى أرسطو فإنه موجود بالتالي في غالب الفلسفات بهذا القدر أو ذاك. وإذا كانت الفلسفة علم القوانين الأكثر شمولية، والنتائج العامة في ترابطها، فهي تستند بالتالي الى الكثير من المعارف والأدب في جملتها.
هذا الفهم التاريخي الشامل لقضية العلاقة بين الأدب والفلسفة، يفسح في المجال ان الأدب على حد تفكير ماشيري الأستاذ في جامعة ليل في فرنسا ينتج أشكالاً وصوراً وأنماط تعبير وصفية وسردية وحوارية، ويُنتج في الآن ذاته «أفكاراً»ويطلق رسائل، ولكنها ليست أفكاراً مجردة كما هي المفاهيم الفلسفية، وليست رسائل مباشرة، كما هي الرسائل في التوجيهات الأخلاقية والمبادئ التعليمية، وكونها كذلك لا ينتقص من قيمتها كتجارب فكرية. بهذا المعنى يتكلم مؤلف الكتاب عن «فلسفة أدبية»متجنباً الوقوع في الخيار بين أدب فارغ أو مليء بالفلسفة، وبين فلسفة فارغة أو مليئة بالأدب.
ومن خلال العنوان الرئيسي يناقش الباحث بيار ماشيري. الفكر الكائن في الأدب وعلاقته بالفلسفة، وقد يتبادر إلى الذهن أن المقصود بذلك أن الأدب يتضمن أفكاراً فلسفية يمكن استخراجها من النسيج الأدبي ودراستها دراسة مستقلة ، و أن الفلسفة تتضمن عناصر أدبية يمكن أن تدرس علاقتها بالمضمون الفلسفي بحصر المعنى ، كما تدرس خصائصها على ضوء أحد المناهج الفلسفية . ولكن هذه نظرة سطحية تبسيطية تسيء في آن واحد إلى الأدب والفلسفة ، و هي ، بطبيعة الحال ليست أطروحة المؤلف ، ذلك أن العلاقة بين الأدب والفلسفة أكثر تعقيداً والتباساً ، فهما خلال فترة تاريخية طويلة لم يكونا منفصلين.مفهوم الأدب، كما نعرفه اليوم حديث العهد في أوروبا ، إذ بدأ يتحدد في القرن الثامن عشر ، ذلك أن الأصل اللاتيني للفظة ( Littera ) يدل على النصوص التي تكتب لتحفظ ، أياً تكن مواضيعها ، وظل هذا المعنى سائداً حتى أواخر القرن السابع عشر .
التداخل بين الفلسفة والأدب
في فترة زمنية معينة ، ومفهوم محدد للفلسفة أكثر مما هو حاصل في طبيعة كل منهما ، فهو لم يكن قائماً في الفكر اليوناني القديم مثلاً ، ولم يعد قائماً في الفترة الحديثة والمعاصرة ، حيث تتداخل الفلسفة بالأدب ، وحين يتضمن الأدب فكراً فلسفياً وتعالج قضايا فلسفية بأسلوب أدبي ، كما زالت الحدود بين الأنواع الأدبية وبين فنون النثر وفنون الشعر ، فمفهوم الأدب ، في الفكر النقدي الحديث ، طرأت عليه تحولات جوهرية وتعريفه قضية مطروحة بشكل دائم ومجال مفتوح لا يبدو أنه قابل للانغلاق قريباً ، يطرحه الأدباء كما يطرحه الفلاسفة والنقاد من سارتر إلى بلانشو و رولان بارت ، على سبيل المثال ، فاعتبار الأدب ” فناً من فنون اللغة ” ، ليس تعريفاً ، لأنه ليس كذلك فحسب ، وليس هذا سوى وجه من وجوهه ، كما ان اعتباره لقاء بين الفن التعبيري والخطاب الأيديولوجي ، وجه آخر وليس الوجه الوحيد . والأدب مهما تجرد فناً يبقى تعبيراً عن ” أفكار ” ،ولكنها متجسدة في مواقف وفي وجود إنساني ، وهو شديد الارتباط ، عن وعي أو غير وعي بالقيم الأخلاقية والإنسانية وبقضايا المجتمع تأثراً و تأثيراً . . . كل ذلك يزيد من تعقيدات العلاقة بين الأدب والفلسفة .
وهل تعني ” الفلسفة الأدبية ” إذاً تم “استخراج ” العنصر الفكري من الآثار الأدبية ، عزل المفاهيم والقضايا الفلسفية عن ” المادة الأدبية ” ، عن فن السرد مثلا وفن الأسلوب ، ودراستها دراسة مستقلة ، وهكذا يتم الجواب عن السؤال الذي يطرحه الكتاب : بمَ يفكر الأدب ؟ إذا أمكن ذلك ، أي عزل العنصر الفكري عن ” المادة الأدبية ” ، فهذا يعني أن الفكر طارئ عليها وأن وجوده عرضي وليس عنصراً مكوناً من عناصره الجوهرية ، وهو بالتالي ليس أدباً بالمعنى الصحيح ، وهذا ” المضمون ” الفكري المستخرج لا ينتمي انتماءً أصيلاً إلى الفلسفة لأنه لا يستوفي متطلبات المنهج الفلسفي .
عرف تاريخ الأدب والنقد الكثير من الدراسات التي تستوحي مناهج العلوم الإنسانية كعلم النفس وعلم الاجتماع . . ولعل أحدثها تلك التي تعتمد على العلوم اللسانية وأشهرها المنهج البنيوي ، وهي في نظر المؤلف قاصرة لا تحيط بالموضوع ولا ترى منه سوى جانب واحد ولا تؤدي النتائج التي ترتجى منها ، ذلك أن النص الأدبي ليس نظاماً مكتملاً ، مكتفياً بعناصره وأدواته ، بحيث يؤلف بنية مغلقة ، بل هو طاقة متجددة ، لا يوجد إلا في تفجره وانفتاحه على تعدد في المعاني والدلالات والإيحاءات ، فهو يتوالد باستمرار ، ولكونه كذلك لا يتضمن أجوبة جاهزة عن أسئلة مطروحة مسبقاً ، فتأتي النظريات الأدبية لتكشف عن هذه الأجوبة بشكل واضح ونهائي ، النص الأدبي هو هذا النوع من الكتابة التي يحتمل عدداً غير محدد من القراءات التي تكشف عدداً غير محدد من الإيحاءات ، وهو إذا وهب دلالته ” الحقيقية ” من خلال أي من المناهج فهو نتاج ميت .
عدم كفاية المناهج
لا ينفي المؤلف أياً من المناهج التي سبق ذكرها ، ولكنه يعتبرها غير كافية ، وهي كلما ادعت التوصل إلى نتائج نهائية تتهافت و تظهر عجزها كلما اقتصرت معالجتها على زاوية واحدة . الفلسفة الأدبية منهج آخر في ” قراءة ” الأدب ، يقترحه المؤلف ، و هو لا يلغي سواه ، بل يرى أنه يكشف جواب مهمة و أساسية في النتاج الأدبي .
فإذا كان الأدب لا ” يفكر ” كما تفكر الفلسفة ، ولا يحتمل وجود أفكار فلسفية جاهزة تضاف إليه وتنتزع منه ، لأنها تكون بمثابة خلايا ميتة في جسد حي ، وإذا لم يكن فناً لغويا صرفاً ولا شكلاً خاليا من مضمون ، فإن الأدب وهو ينتج أشكالاً وصوراً و أنماطاً تعبيرية وصفية وسردية وحوارية ، ينتج في الآن ذاته “أفكارا” ويطلق “رسائل” . ولكنها ليست أفكار مجردة كما في المفاهيم الفلسفية ، وليست رسائل مباشرة ، كما هي الرسائل في التوجيهات الأخلاقية والمبادئ التعليمية ، وكونها كذلك لا ينتقص من قيمتها كتجارب فكرية ، بل يكسبها صفة خاصة ويمنحها بعداً آخر . إنها نسيج ضمن نسيج متشابك الخيوط كثير التشعب ، متعدد الألوان ، على الباحث أن يحسن تمييزها وملاحقة تعرجاتها والتفافاتها من دون أن ينقلها إلى نطاق آخر ، و من دون أن يجردها من طبيعتها الأدبية .
هذا هو مفهوم المؤلف للفلسفة الأدبية ، و هذا ما حاول تطبيقه على النماذج الأدبية التي اختارها ، ففي رأيه أن الأدب ، من دون أن يخرج من “أدبيته” ، بل وهو متجذر فيها يمكن أن يوجه رسائل للفلسفة هي بحاجة إليها ، أكثر من حاجة الأدب إلى أفكار فلسفية ، فالمنحنى التي يتخذه في بحثه ينطلق من الأدب ليبلغ الفلسفة وليس العكس كما درجت العادة .
وهنا نتساءل: ما الذي تجنيه الفلسفة في هذه الحركة المعاكسة؟ وكيف تحقق هذه الفائدة في النهج الفلسفي؟
رأينا أن النص الأدبي ليس بنية مغلقة وليس شكلاً فنياً فحسب، بل هو شبكة من ((أشكال معرفية)) ولكنها ليست معطاة مباشرة، بل يجب أن تُنتزع من النص، والنص بدوره ليس له وجود ثابت ونهائي، فهو لا يتحقق بالفعل إلا في علاقاته مع نصوص أخرى وفي توالده المستمر عبر ((قراءات)) متعددة، إذ أن القراءة فعل إبداعي، به يحافظ النص على إبداعيته، في هذه التعددية تسقط الحتمية كما تسقط الموضوعية المطلقة والحقيقة الواحدة الثابتة، وفي ذلك دروس تقدّم لبعض المذاهب والمناهج الفلسفية المتشددة في نزعته اليقينية، والمبالغة في تفاؤلها بالتوصل إلى حقائق نهائية. هكذا يحمل الأدب الفلسفة على وعي حدودها وإدراك نسبية المعرفة والاعتراف بأن لا حقيقة مطلقة، بل حقائق نسبية، وذلك في موقف نقدي ذاتي هي بحاجة إليه، فإذا اعتادت الفلسفة خلال عصور أن تفكر انطلاقاً من معطياتها ومناهجها الخاصة، وأن تتكلم لغتها الخاصة، فإن الأدب يفتح لها منافذ جديدة ويقدّم لها مواد جديدة لم تتعودها، ويحملها على النظر إلى القضايا من زوايا مختلفة وبرؤيا جديدة، كما أنه يخفف من اطمئنانها ويخلّصها من الكثير من أوهامها، ويخفف من جفافها وعبوسها، ويعيد إلى الممارسة الفكرية شيئاً من ((اللعب)) الذي هو مظهر إبداعي يُدخل الفكر في مناطق لم يألفها، ويبث في مذاهبه حركة وحياة وتعدداً في الأصوات.
هكذا تبدو لنا النصوص الأدبية تحت أنوار هذا المنهج الجديد الدائم الحركة بين الأدب والفلسفة وبين النصوص الأدبية ذاتها، قارئاً الواحد منها على ضوء الآخر ومن خلاله، في تشابك موضوعاتها وتنوع إيقاعاتها، كأنها سيمفونية كاملة، ففلسفة التاريخ عند ((هيغل)) وشارحه كوجيف من خلال روايات كينو غير ما هي في ذاتها، وقصص كينو في استيحاءاتها الحرة والساخرة والعابثة أحياناً للهيغلية، غير ما هي في ذاتها . . . كما أن كلاً من الأدباء الذين تتناولهم الدراسة ينكشف له وجه جديد، فلوبير رائد الواقعية والداعي إلى لاذاتية الأدب، تنكشف عنده العلاقة المعقدة بين النزعتين المتناقضتين، كما تنكشف لاواقعيته، بل مثاليته، فهو الذي صوّر المشاهد الأكثر إثارة للتقزز، مشاهد الأقذار التي يغوص فيها الخنزير وهو يتلذذ فيها . . . هو ذاته يقول: ((فوق الحياة، فوق السعادة، هناك شيء ما أزرق ومشعّ، سماء شاسعة ثابتة ولطيفة، الأشعّة التي تصلنا منها تكفي لإحياء عوالم. تألٌّق العبقرية ليس سوى انعكاس شاحب لهذه الكلمة المستترة)).
إن اعتبار الأدب مكبوت الفلسفة,يعني قلب الوضع التقليدي لنهج تفسيري,يعرض الأدب كحيّز لكشف جوهري,ويعتبر بالتالي الفلسفة كأنما هي لافكريّ الأدب,أو الذي مازال غير فكري في الأدب.وهذا يعني نفي خرافة الأدب الممتلئ بمعنى ضمنيّ,وردّها إلى طبيعتها الخيالية, بحيث لا يتطلب هاذا المعنى إلى أن يُدرَك من جديد وأن يعني في الآن ذاته القبول بأن النصوص الأدبية لا يعبرها فكر تلميحي إلى عَرضاً,حتى ليبدو أنه غائب عنها حتى الامّحاء.إلى أيّ حدّ يرد هذا الفكر في خطاب الأدب,كحضور عارض بإمكانه أن يبقى خفيّاً من دون أن يُحدث أثراً سيّئاً؟أم أن هذا الفكر يسهم حتماً في حيكة نسيجه؟ أيّ شكلٍ من أشكال الفكر تتضمنه النصوص الأدبية,وهل يمكن استخراجه منها؟ذلك أننا إذا تعرفنا في الأدب على حقيقة الفلسفة,فمن الضروري إذا أن نجد في الكتابات الأدبية حقيقة ما,بالمعنى الفلسفي للكلمة.
الامتزاج المعقد
لا شيء يفرض أن هناك حلاً للتعارض بين الأدب والفلسفة ؛ بل على العكس من ذلك ، إن اعتبار هذا التعارض دائما وجديداً أبداً ، يؤكد لنا ، جفاف الكلمات لا يطبق علينا كطبقة من الجليد .
الأدب والفلسفة ” ممتزجان ” امتزاجاً معقداً . هكذا كانا على الأقل إلى أن اقام التاريخ بينهما نوعاً من القسمة الرسمية . تقع هذه الفترة في أواخر القرن الثامن عشر عندما بدأ لفظ ” الأدب ” يستعمل بدلالته الحديثة . شهد ديديرو هذا التحول الذي فصل بين الأدب والفلسفة وقدم فيه شهادة ملؤها الحنين ، كما لو كان هو ذاته واقفاً على الضفة السابقة معزولاً بهذا الانقطاع :” كان الحكيم في ما مضى فيلسوفاً وشاعراً وموسيقياً . لقد انحطت هذه المواهب بانفصال بعضها عن بعض ، دائرة الفلسفة ضاقت ، والشعر افتقد الأفكار ، كما افتقدت الأناشيد القوة و العزم ، والحكمة التي حرمت من هذه الأعضاء لم تعد تسمع الشعوب بالسحر ذاته”.
إن الظروف التي رسم فيها هذا المخطط الفاصل تظهر ذلك : المواجهة بين الأدب والفلسفة التي تعتبرهما كيانين جوهريين مستقلين ، ومنغلقين في الحقل الذي يحدد كل واحد منهما ويثبت حدودهما ، هذه المواجهة في إنتاج تاريخي . وهذا الإنتاج يتوافق مع فترة زمنية خاصة في تطور العمل الفلسفي والأدبي حيث يكونان خاضعين لقواعد مستقلة ومتعارضة . عندئذ تبدأ في آن واحد سيطرة الأدب والتفكير في نهاية الفلسفة : إنهما نموذجان ” حديثان” بامتياز .
إن إعادة قراءة بعض الأعمال التي يعتبر أنها تنتمي إلى مجال الأدب ، في ضوء الفلسفة ، يجب ألا يكون في أي حال لجعلها تفصح عن معنى خفي يلخص توجهها الفكري ، بل لإيضاح بنيتها المتعددة التي تحتمل ، لكونها متعددة ، طرائق متمايزة في المقاربة ، فكما أن الخطاب الأدبي الصرف ، كالخطاب الفلسفي الصرف ، غير موجود ، ولا توجد إلا خطابات ممتزجة ، تتداخل فيها ، و في مستويات متعددة ، ألعاب لغوية ، مستقلة في أنظمة مراجعها وفي مبادئها ، كذلك من المستحيل تحديد نسبة الشعري والروائي والمنطقي تحديداً نهائياً ، هذه النسبة التي تظهر بشكل عالمي في أشكال تغيراتها . عندئذ لا بد أن يظهر الفلسفي يدخل في النصوص الأدبية على مستويات متعددة ، وأنه من الضروري تفكيكها بعناية وفق الوسائل التي تتطلبها والوظائف التي تشغلها .
إذا تأملنا الصرح الشعري الذي شيده فوكو تمجيداً لروسيل في نص لا ينتمي إلى الأدب ولا إلى الفلسفة لأنه في منتصف الطريق تماماً بينهما ، لا يسعنا إلا أن نفكر بالعمل الذي أنجزه هايدغر حول هولدرلين ، وهو لا يزال ، منذ ما ابتدأ سنة 1934 ، يرافق مسيرته الفلسفية . يبدو أن تجربة فكرية مماثلة تحدد المحاولتين : الإصغاء إلى مجنون يتكلم ، طرق تعبيره تخرج عن قوانين الخضوع ” لقول صحيح “، وفي الآن ذاته تحمل هذه الطرق على إعادة طرح مسألة الاستعمالات العادية للغة ، وبالتالي أساليب التفكير . أيكون الكاتب مجنون الفيلسوف؟ وهل إن وضع الأدب بالنسبة إلى الفلسفة يمنحه الوضع الملتبس ، أي لا في داخل الحد الفاصل تماماً ولا في خارجه تماماً ؟
ولكن إذا توفقنا عند تعابير كهذه، ألا يُخشى أن نُفعّل مجدداً مفهوماً جوهرياً للأدب وللفلسفة قد يحاول تثبيت العلاقة بينهما بشكل نهائي؟ لأن هناك أنواعاً من الجنون، وليست كل الحدود من النوع ذاته. عندما بدا أنّ فوكو يعيد المسيرة التي اتبعها هايدغر بالنسبة إلى هولدرلين، واتخذ روسيل كمثل له، فإنه نقل هذه المسيرة إلى ميدان آخر حيث أفضت إلى بُعد جديد: إنّ جنون روسيل اللطيف، مع طابع السخرية التي يستمد منها مهمة نقدية ظاهرة، خالٍ من الاعتماد على العظمة البطولية المتشامخة والباردة التي تميز صورة هولدرلين عند هايدغر. وعبثاً نحاول أن نجد في القراءة التي عرضها فوكو المعادل للنزعة الجرمانية الأساسية التي أنعم بها هايدغر على شاعره، عن حق أو عن غير حق: لأن رخاوة ومجّانية النزعة الفرنسية التي تنبعث من جناسات روسيل ليست سوى قناع، وإذا نُزع فالإظهار فراغ غيابٍ، وذلك لعدم وجود قناع آخر. وبتعبير آخر، إن روسيل الذي يتكلم عنه فوكو، لا يُستعاد في منظار تأويلي (Herméneutique): ليس لديه في النهاية شيء يقوله، وكل خطابه ينزع إلى الكشف عن اللامعنى المطلق. إن نصوص روسيل، بتلاعب كلماتها الصبياني وأبحاثها الشكلية حول جوهر اللغة، تتكلم عن الموت وليس عن أي شي آخر: فهي تقول إنّ كل شيء يجب أن يزول.
لماذا على الفلسفة أن تهتم بالأدب؟وأي أشكال يمكن أن يتخذ هذا الاهتمام؟هل هذا الاهتمام ناتج من التوجه الشامل للفلسفة التي لا تهدف إلى معرفة أي موضوع محدد,فتبدو,طبيعياً,أن قدرها هو معالجة كل المواضيع من دون تمييز؟
حقل التفكير بينهما.
قد يعني هذا أن الأدب,إلى جانب الحقوق والدين,…الخ سيكون قابلاً لمراجعة فلسفية محددة هدفها الكشف عن دلالته الجوهرية,بمنحة أساساً منطقياً أو بتعيين الحدود التي تحتضن مشروعة.نتكلم عند ذاك عن فلسفة الأدب كما نتكلم عن فلسفة القانون أو فلسفة الدين:في هذه الحال تمنح الأدب مادة فكرية للفلسفة وتعالج هذا الموضوع إلى جانب مواضيع أخرى لجعله ينطق بأشكال التفكير الكامنة فيه بصمت,وربما من غير علمه.
هذه المسيرة تشبه كثيراً محاولة استعادة أو إلحاق، إنها تُدخل الأدب في حقل التفكير الفلسفي لاستغراقه فيه، وفي الحد الأقصى لعملية الاحتواء هذه، إزالة الأدب كأدبي، بأن تعيد تحديده كلياً بتعابير تفكير يبقى خارجاً عنه، أو بإنقاص قيمته بالنسبة إلى الحكم الصادر عليه من وجهة نظر تتجاوزه. إذا كانت محاولة كهذه غير مرضية، فذلك لأنها تحيل مسألة العلاقة بين الفلسفة والأدب إلى مسألة تركيز موقع: المقصود، في هذا المنظار، هو أولاً تقدير أهمية مجالات التأثير أو التدخل على التوالي، وذلك من أجل التوصل إلى دمجها (هذا ما نقوم به إذا ما أعدنا التفكير بالآثار الأدبية فلسفياً)، أو أن نقيم بينهما علاقة فصل (وهذا ما نقوم به عندما نضع خطوطاً فاصلة واضحة، إلى حد ما، بين ما هو فلسفي وما هو غير فلسفي في الأدب ذاته). هكذا نتبنّى تمثيلاً موسّعاً أو مكثفاً لقدرات ((أدب)) و ((فلسفة)) يعيدهما إلى تحديدات مكانية، كأقاليم للتحديد أو للضم، أو للحماية أو للدفاع.
عندما نتكلم عن فلسفة أدبية نرغب بتبني توجه مختلف تماماً عن تلك التي تتوافق مع فلسفة للأدب كهذه، وذلك بطرح موضوع علاقات الأدب بالفلسفة بتعابير لا تتعلق بالتموضع (بحيث تُوزع المواقع)، بل بتعابير الإنتاج. نتساءل عندئذ عن الطرائق، وهي حتماً متنوعة، التي بموجبها تستطيع الفلسفة أن ((تتعاطى)) الأدب والأدب أن ((يتعاطى)) الفلسفة. نضع إذاً، في المقدمة، الجانب الإجرائي (Opératoire) المنفّذ لآثار حقيقية، الذي يعقد الشبكة حسياً وبداخلها الأدب والفلسفة يتحدان ويحوّل الواحد منهما الآخر. عندئذ يُبحث في العمل الأدبي ذاته عن علامات هذا الإنتاج الفكري الذي يجب أن يهم الفلسفة بالدرجة الأولى، باعتبار أنها هي أيضاً تُفهم كعمل، كعملية، كإنتاج. وإذ نأخذ بعين الاعتبار هذا الجانب الفكري الجاد بشكل جوهري، يمكننا البحث عن أشكال علاقة فعلية بين الأدب والفلسفة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
العنوان: بما يفكر الأدب؟
المؤلف: بيار ماشيري.
دار النشر: المنظمة العربية للترجمة.
الطبعة الأولى
ترجمة: جوزيف شريم.
عبدالله العليان