بالموت الفاجع لخليل حاوي ( 6919 _ 1982). تكتمل حياته، وتتسع الابعاد المأساوية لمصيره، فلقد اختار مصيره بقدر ما اختار هذا المصير، لتتجسد تجليات الرمز في مصيره، هو الذي كان مؤمنا على الطريقة “السورية “ القديمة، بالمصير القرباني الافتدائي للشاعر – النبي، الذي يموت فردا ويبعث جماعة، وكأن الارض لا تخصب الا بدم انبيائها وازدرادهم كقرابين.
وكان خليل حاوي نوعا فريدا من هؤلاء “الانبياء” او "الكائنات المصطفاة”، يتمتم بالرموز والرؤى والالتماعات والحالات الحدسية العليا تحت ظل الموت، بوصفه نبيا مختارا اصطفته أمع – الارض لهذا المصير القرباني، الذي يكون فيه وسم الضحايا مرسوما على جبهته في الآن الذي يحيى فيه دمه – النار عروقا يبست فيها ألخطايا.(1)
فما من راء بعيد افترست الرؤيا التي بشر بها عينيه كخليل حاوي، وما من شاعر كان ضحية لرؤياه هذه كما كان خليل حاوي، فهنا في موته القرباني : يبدو مصيره وكأنه يقلد رموزه، وتبدو الحياة وكأنها تتماهى بالرمز، ويغدو المصير الفاجع تجسيدا لرؤيا، اي لحالة كيانية وتجربة عليا.
فاذا ما أردنا تحديد المفهوم الذي يحكم طريقة انتاج حاوي لشعره، فان هذا المفهوم سيكون دون اي شك. مفهوم القصيدة – الرؤيا : يحتوي هذا المفهوم على تناقض داخلي ما بين مفهومين فرعيين فيه، هما مفهوم “القصيدة “ (Poeme) ومفهوم "الرؤيا” VOYANCE ويكمن هذا التناقض في ان مفهوم "القصيدة “ مفهوم شكلي هندسي تنظيمي ينبني على ارادة التنظيم والعمل، فى حين ان مفهوم “الرؤيا” مفهوم سديمي لا شكلي يتخطى العلاقات المنطقية وقيودها. وينبني على ارادة لا واعية، تدمج ما بين طاقات الشعر وطاقات الحلم.
حل خليل حاوي هذا التناقض الداخلي، بانتاج عالم شعرت متماسك منقبض من جهة وفسيح وممتد من جهة ثانية. ولعل هذا يفسر سر الحاح حاوي المستمر على ما كان يسميه بـ ”الوحدة العضوية“ للقصيدة لتي مكنه الحاحه واشتغاله الدؤوب عليها، من تطوير الدفقة الشعرية الرؤيوية السديمية اللا شكلية من عفويتها الأولى، وبكلام أخر تجاوز حاوي من خلال هذا الالحاح البناء العفوي المتسبب للدفقة الأولى الى بناء عضوي خاضع للعمل والصنع واعادة النظر، فعمل مثلا على بعض اناشيد “نهر الرماد” كما كان يسميها، سنوات كاملة، وكأنه كان يريد ان يكون “الصانع الامهر”، كما انه لم يتحرج في مراحل لاحقة من اعمال اعادة النظر والتنظيم العضوي لها، وبذلك يبدو مفهوم “القصيدة “ لديه، او على وجه الدقة مفهومها العضوي، نوعا من اضفاء شكل على اللا مرئي الذي هو الخاصة الجوهرية للدفقة الرؤيوية، وبالتالي تحويل الرؤيا الى شكل زمني مشدود ومتراص ومتضافر، ميز مفهومه “العضوي” للقصيدة، وطريقة انتاجه لهذا المفهوم.
من هنا كان خليل حاوي معنيا بالدلالة في شعره ولكن من داخل مفهوم رؤيوي لها، يجد كل ابعاده في الصورة الرؤيوية والياتها الرمزية الدينامية SYMBOL DYNAMIQUE، التي سنتوقف مطولا عندها، فداخل هذه الصورة الرؤيوية بمعناها العميق، يمتزج الانسان بالكون، ويصبح خالق رموز، اي يتحد مباشرة بالجوهر الروحي للاشياء، فتكون الصورة الرؤيوية ذات اشكال متعددة لا متناهية، تميز حاوي فيها باعتماده الصورة التجسيدية التي تنبثق من العالم الباطني للروح، وتخترق الحدود القارة للمادة، لا تعود الحقيقة خارجة عن الشاعر، بل انسجة ملفوفة في تجربته الروحية والميتافيزيقية والكيانية، يتعرف عليها الشاعر بطريقة الحدس.
وليست هذه التجربة الروحية والميتافيزيقية والكيانية سوى تجربة الرؤيا التي تتخطى بطبيعتها “الرؤيه“ الفكرية والموضوعاتية والايديولوجية التقريرية للواقع الى ما وراءه او الى ميتافيزيائيته المشبعة بالوجود، وباسراريته، وبابعاده اللا مرئية.
فبالنسبة لحاوي يصل الشاعر عبر معاناة نفسية غير عادية، حصلت في مصطلحات الحركة الشعرية الحديثة، اسم “التجربة الكيانية “ الى حالة من الرؤيا تتخطى وسائل الادراك الحسي والعقلي، ومن هنا تتميز هذه التجربة بطبيعتها الميتافيزيقية ووظيفتها الحدسية، الطبيعية الميتافيزيقية تكمن في تخطي العوالم المادية القارة للمادة والقفز فوقها وخارجها الى ما وراءها، والوظيفة الحدسية تكمن في انتاج معرفة داخلية مباشرة، تبعا لذلك يصح تماما القول ان الرؤيا عموما وعند حاوي خصوصا هي ادراك حدسي بالمعنى الدقيق للكلمة، اي بالمعنى الذي تكون فيه لغة هذا الادراك هي لغة الرمز الديناميكي,
ان اللغة الرؤيوية الحدسية هي لغة تواصل كونية مع اله العالم مقابل لغة الاتصال ما بين البشر، ومن هنا تكتسب بالضرورة طبيعة عرفانية، لطالما اختبرها الشعراء والانبياء والعارفون المتصوفة والقديسون والشهداء. ويتجلى هذا التواصل الكوني مه العالم، في ان الشاعر يتخطى ذاته الفردية، وينصهر في حالة عليا تمحي فيها ثنائية الذات والموضوع، لعل هذا ما يفسر لنا ولع خليل حاوي بمفهوم “الرؤيا الحضارية “ الذي يستدعينا للتوقف عنده وتحليل مراجعه الاساسية.
فالرؤيا الحضارية عند حاوي مرتبطة بالرؤيا الكونية، الرؤيا الاخيرة بالنسبة له هي التي تمد الشاعر الرائي بمعرفة ما تقتضيه اللحظة الحضارية التي يعيشها من موقف حضاري، يتصف على حد تعبيره باليقين المبرم، ويستند الى سلم من القيم المتعالية عما هو آني عابر.
وتنبع هذه القيم لدى حاوي من الاصول الخفية الأولى في طبيعة الانسان، لتسبغ في ضوء الموقف الحضاري، على ما هو قومي صفة انسانية، كما تسبغ على ما هو انساني صفة قومية. ويوضح ذلك لنا الى حد بعيد احتفاءه بالرمز الاسطوري كرمز حضاري قومي، وقد بلغ من احتفاء حاوي بال مز الاسطوري كرمز حضا رق، في سياق تشكل “القصيدة التموزية “ في حركة الشعر العربي الحديث، ان وصل هذا الرمز الى نوع من “الايديولوجيم “ الدلالي الشعري، لمرحلة شعرية كاملة، يمثل الآن محمود درويش في "ارى ما اريده “ و” لماذا تركت الحصان وحيدا”. وريثها ومطورها ولربما ذروتها في آن، فتحول مفهوم “الرمز الحضاري” الى احد المفاهيم المفتاحية في الحركة الشعرية الحديثة.
يعني ذلك أن شعر حاوي لا يصدر عن مفهوم “الرؤيا” وحسب. بل يصدر أساسا عن مفهوم “الرؤيا الحضارية “. و”الرؤيا الحضارية “ هي رؤيا في الأول والأخير. غير أنها _ في ضوء مواجه خليل حاوي ~ تستفيد من فتوحات “يونغ “ في علم النفس، وترسي مفهومها في مفهوم “النمط الاصلي" أو “النماذج العليا”.
فنظرية “النمط الاصلي “ تبعا لحاوي ولمرجعية يونغ له، هي النظرية الشاملة في عملية الخلق الشعري، وبخاصة ابداء الرموز الشعرية، فوفق استيعاب حاوي لهذه النظرية، فانه يرى وفي ضوء يونغ ان النفس عمارة شامخة تتألف من طبقات ثلاث : طبقتها العليا الذات الفردية التي تستجيب للتجارب الشخصية استجابة واعية، وهي طبقة الوعي، وتليها طبقة اللاوعي الشخص وفيها يترسب ما يسقطه الوعي، وله صفة التجارب والذكريات الشخصية المنسية او المكبوتة، وتستمد التجربة الشعرية من مخزون هذه الطبقة قسما كبيرا من عادتها، كما تستمد النماذج العليا او الانماط الاصيلة من الطبقة الاولية السابقة على حياة الفرد، طبقة اللاوعي الجماعي، ولهذه النماذج كل ما للرمز الاصيلة حسب حاوي من طاقة على الايحاء والغموض والامتلاء، وهي في تحولها الى رموز تتصاعد عبر الطبقات الثلاث، وفي تصاعدها تحمل من الطبقة الثانية والعليا بعض المضامين فيكون للرموز معان متعددة على مستويات متفاوتة، يدرك العقل منها العنصر الواعي وحده، اما ما دونه فلا يدرك الا بما هو من طبيعته، باللاوعي او بالحدس، ويكون الشاعر في خلق الرموز قد خلق ما هو سابقا على الجنس البشري بخلوده، لا يفني بفناء فرد او جيل.(2)
يعني ذلك ان الشاعر بلغة يونغ هو انسان جماعي يحمل النفس الانسانية بكليتها وحيويتها. ويحضر هذا المفهوم لدى حاوي في شكل مميز له هو شكل الشاعر الرائي _النبي _ المصطفى، الذي يتمتم بلغة الرموز الحضارية الكلية وانماطها الاصلية الأولى، بحيث يكون شاعر رؤيا حضارية تبعا لمصطلحات حاوي، بقدر ما هي رؤيا كونية، اذ في الرؤيا الكونية حسب حاوي يتم اضفاء ما هو قومي على ما هو انساني. وهذا الاضفاء هو نوع من “التعيين “ القومي ~ الحضاري للرؤيا الكونية.
يفسر ذلك لنا "تموزية “ حاوي "الانبعاثية “ التي دفعت لغته بـ "شاعر الانبعاث الاول“، غير ان هذه التموزية، اذ وجدت في نظرية يونغ تعبيرا نظريا عنها في مضمار جماعية الرمز الديناميكي الشعري، وتشبعت بالاستخدام الاليوتي للرمز الاسطوري في “الر.ض اليباب" او "الارض الموات" الشهيرة، حيث ترد هذه الصورة بشكل متواتر في شعر حاوي، فانها تضرب او تجد سياقها في مرجع اعمق، هو المرجع الذي يرتبط بأفكار الشهيد انطون سعادة في “الصراع الفكري في الادب السوري”، وهو المواطن “السوري" لابن “الشوير” خليل حاوي.
فقد انخرط حاوي منذ الخامسة عشرة في تجربة الدرب السوري القومي الاجتماعي، وكان يعتبر نفسه، حتى بعد انشقاقه عن الحزب، خالص العقيدة فيه، وبالتالي فانه لمن الاكيد تعرفه على كتاب سعادة، وتشربه بمفاهيمه، التي دعت شعراء بلاده، ضمن مفهوم قومي حضاري جديد، ان استلهام رموزها الاسطورية، بوصفها رموزا جمعية للذات القومية _ الحضارية السورية، ويهدف نهضوي لدى سعادة، هو هدف او وظيفة ايجاد موصل الاستمرار الفلسفي ما بين السوري القديم والسوري القومي الاجتماعي الجديد على حد تعبيره.
فمن المؤكد ان خليل حاوي كان، يرف الرمز “التموزي” قبل ان يجد في يونغ “صياغة نظرية" له، وقبل ان يقرأ “الارض اليباب “، كما ان تجربته للرمز “التموزي” تضرب عميقا في تجربته في حركة النهضة السورية القومية الاجتماعية، وهذا ما بينته مراجع رموزه التموزية، وفي مقدمتها الرموز النارية التموزية التي تستعيد “الزوبعة _ السورية القومية الاجتماعية، في سياق رمزي، ديناميكي خاص ومستقل في آن، غير أن "يونغ “ و"اليوت“ قد ساعداه بالتأكيد على تطوير تمثله لفهم سعادة لاستخدامات الرمز التموزي وظائفه، الذي استخدمه – في كتاباته المنشورة – اول ما استخدمه في “نهر الرماد” (1975)، وهو الاناشيد التي كتبها ابان انفصاله “الموجع المفجع“(3) ما يصفه _ عن الحزب السوري القومي الاجتماعي، فاتت هذه الاناشيد متمثلة ومستوعبة بتأثير المحنة وعوا ملها، لروح عصرها الوجودية، المهيمنة كـ "ايديولوجيم “ من “ايديولوجيمات “ ثقافة الخمسينات والستينات.
يعني ذلك ان مراجع التجربة الشعرية عند حاوي متعددة، وأنه قد ذوبها وصهرها في نسيجه الخاص الفريد، بشكل اصبحت فيه هذه المراجع _داخل التجربة الشعرية الحديثة _ تعرف به ولا يعرف بها، فهو الذي يستدعيها اكثر مما تستدعينا بحد ذاتها.
ولعل الأساس “السعادي" العميق في خليل حاوي الشاعر (4)، يكمن لا في اعلائه للبطوله، الفاديه، التي يموت فيها النبي القادر فردا ويبعث امة _ جماعة، ولا في تمجيده _”نسل الابطال “ القادرين وحسب، بل ويكمن أيضا في أن نظرية سعادة القومية، قد أسست لأول مرة الفكرة القومية على الأرض _ البيئة.
لم تعد، الأرض شعريا _ هنا موضوعا للزخرفة والتغني بل كيانا حضاريا قوميا، لقد تأسطرت الأرض وتقدمت واصبحت منبعا بحد ذاته للقيم، وقد أذكت النكبة الرهيبة (وصلت ذررتها في 15 ايار 1948) التي كان جوهرها طرد الفلسطينيين واقتلاعهم من أرضهم، هذا الحس الاسطوري، ذو الأبعاد الأسطورية والانطولوجية والميتافيزيقية بالأرض.
سيفسر ذلك لنا أن الرمز التموزي في شعر حاوي رمز مسيحي، ولكن الرمز المسيحي الخاص هو بمثابة طبقة دلالية في رمز أوسع هو الرمز التموزي الوثني. الرمز المسيحي روحي حيث ينهض المسيح في الروح في حين أن الرمز التموزي الوثني أرضي ينهض في ~ حياة الأرض ودورتها الطبيعية، والمشترك ما بين الرمزين هو الانبعاث.
والمهيمن في شعر حاوي، حين يتحديث الرمزان التموزي والمسيحي، هو الاستخدام التموزي _ دلاليا _ للرمز المسيحي، بما يحتمله هذا الاستخدام من تقديس الأرمني، وقد وجدنا في شعر محمود درويش الذي يعتبر استمرارا تطويريا وذرويا للقصيدة التموزية، هذا التأليه للأرض وتنزيهها بوصفها “المعنى” بالمدلول اللاهوتي، الذي يتعالى عن الصورة أو التجلي أي بوصفها “الله “ أو "المطلق “. وعند حاوي نجد تواتر هذا الاستخدام الميتافيزيائي الانطولوجي للأرض بوصفها قوة الهية كونية، تستوعب في بنيتها الشعرية الرمزية الديناميكية، اسقاطات الموقف القومي _ الحضاري، ومعاناة الشاعر في ضوئه للكونية.
واذا كنا نجد لدى درويش استخدامات الصوفي العارف للاله المنزه المتعالي وقد غدا أرضا قومية أو “معنى” باللغة التيولوجية متعاليا على “الصورة “ و”متجليا” فيها، في آن، من دون ان تحصره او تكونه نهائيا، فاننا نجد لدى حاوي استخداما “ناريا" للرمز “التموزي” تضرب مراجعه في “الزوبعة “ وارادتها “السدومية “ في انشاء نسل قومي جديد، ينهض من رماده أي _ على نحو ما _ في سياق ممكن من سياقات “الزوبعة “ السورية القومية الاجتماعية، وتمجيدها الالهي للبطولة القادرة، التي تمنح في موتها الافتدائي الفردي، الحياة الجماعية للأمة، فيموت البطل فردا ويبعث جماعة، وهنا التداخل الدلالي المتعدد الأبعاد ما بين “تموز” و”المسيح“ في شعر حاوي.
كي نفهم حاوي الشاعر، علينا ان نستذكر حيوية شخصيته وقلقها وتناقضاتها المريعة، لقد كان في المحصلة شخصية عصابية محضة بالمعنى الواسع للكلمة، حول كل شي ء لديه الى عصاب ولكن الى عصاب مبدع ترك تأثيرات حاسمة، وداخل هذه الشخصية العصابية بالمعنى الواسع، نفهم تمثل خليل حاوي لوجودية عصره واستيعابه اياها، كـ "ايديولوجيم ““ مذوب في رؤيا كيانية فريدة وشخصية تدل على الشاعر، ليس بوصفه “فردا” بين “افراد” بل بوصفه في ضوء اللغة الوجودية المصطلحية “شخصا" بينهم.
كان حاوي هذا الشخص، ولربما تأثر بالاتجاه “الشخصاني" النامي في الحركة السورية القومية الاجتماعية، ذات الاهتمامات الفلسفية، أبوه غياب سعادة في مغتربه القسري في الأرجنتين، هذا الاتجاه الشخصاني، قاد سعادة الى طرد يوسف الخال من الحزب، بارادة تنظيمية حديدية منه، هو المولع بالقضايا الميتافيزيقية، مع انه مادي في العمق.
لقد حملت هذه “الشخصانية “ في ووحيته وبالتأكيد شكلا “وجوديا” يتصل بـ ”ايديولوجيم" الوجودية في عصرها، غير انه ذوب هذا “الايديولوجيم “ في معاناة تجربته الرؤيوية الكلية، فغدا معطى من معطياتها، ولكنه معطى بيّن او بارز.
يكاد عالم حاوي يكون هو عالم التضاد. يولد التضاد أثرا دراميا بقطبية التناقض وديناميكيته داخل الذات الشعرية، وظفه حاوي بشكل بارع، في شكل القصيدة الرؤيوية متعددة الاصوات، التي تعبر اصواتها المتعددة عن المستويات المتناقضة والحائرة للذات الواحدة المنشطرة كما في “البحار والدرويش" مثلا.
اذا ما اخذنا عناوين مجموعات حاوي – والعنوان سيميولوجيا هو مفتاح سر النص – فاننا نجد هذه المتضادات فيها : "النهر والرماد”، "الناي والريح “، “بيادر الجوع"، “الرعد الجريح“، "من جحيم الكوميديا". لننتبه هنا الى التضادات المتوالية ما بين “النهر” مكمن الانبعاث والخلق والحيوية و”الرماد” مكمن الموت والعدم والجمود. وما بين “الناي" بحركته الغنائية الهادئة الساكنة المطمئنة و”الريح “ بحركتها الجارفة، وما بين “البيادر” بمعناها الاخصابي و”الجوع“ بمعناه اليبابي، وما بين “الرعد” القادر و”الجريح” الذي يصير تضاد الرعد من منتجاته، وما بين “الجحيم “ و"الكوميديا”.
هذا التضاد على مستوى المفتاح السيميولوجي _العنوان يحضر في الاصوات المتعددة، مثلا في قصيدة "البحار والدرويش" و”السندباد” و” عند البصارة “، وبهذا المعنى فان التضاد قائم داخل العالم الشعري نفسه، بدلالاته وصوره. انه على وجه الدقة قائم داخل الصورة الرؤيوية نفسها، ولكن ضمن ابعادها الدلالية المفتوحة.
داخل هذه الابعاد نستطيع ترسيم التضاد لصورة الكائن في شعر حاوي، ما بين الكائن الانحلالي والكائن الانبعاثي، هذا التضاد هو تضاده كشخص وتوتره كشاعر. فهناك في شعره الذي ينحو منحى الصورة الرمزية الواسعة، من نوع صورة “القطرس“ LABBATROS البودليرية، الشهيرة متعددة الاطراف، حضور الكائن في اطار علاقات التضاد،، اما كائنا انحلاليا عدميا مسحوقا بغصاته الوجودية او كائنا انبعاثيا ذا جدوى ودلالة ومعنى. والكائنات هما مستويان من مستويات الذات الشعرية في انفصامها وتناقضها وتضادها الداخلي، ولكن داخل تناقضات وحدة الذات بالموضوع، وتماهي الانسان بالكون.
في تمييز هذين الكائنين المستعرين داخل الذات الواحدة، نعثر على الكائنات الانحلالية في شعر خليل حاوي، التي تشرح تجربة وجودية فردية، كانت “ايديولوجيا” في الخمسينات حين نشبت معركة “الوجودية “ في الثقافة العربية، بشكل صاخب وايديولوجي وسياسي، اي بشكل حاد، يحمل بصمات المرحلة التاريخية العاصفة.
ففي “السجين" نحن ازاء أشلاء السجين، الطين، العظام، الرمة، التي بعثرتها ارجل الفئران، حيث رثت عظام السجين منذ سنين، وحيث انه فاقد الوجه، كما نعثر على الدرويش العتيق في “البحار والدرويش “، الذي غرست رجلاه، في الوحل، وبات ساكنا يمتص ما تنضحا الأرض المرات، وينمو طفيلي النبات على جلده الرث العتيق مقابل "البحار” الديناميكي القلق، وفي "جوف الحوت“ الذي تستعاد فيه تجربة “السجين “ بشكل آخر، نحن ازاء مصنع وحشرجات وسحب صفراء وجو جحيمي سعير، وكهف تدب العنكبوت في زواياه، وخفافيش تظهر في أسى الصمت، حيث يتمطى الموت داخل كهف الشاعر المحموم الضرير فيموت، وفي “عودة الى سدوم “ نحن ازاء ايوب الصابر العاجز، واطمار الاب وعكازه، والخفاش المذهب، وليلى السلبية، وشهرزاد، وفي “ليال بيروت" نحن ازاء كائن هو شيء “تافه“، عمره مشلول مدمى، عبثي دون جدوى وايمان، يعيش في السأم الوجودي، ويحمل جحيمه في دمه، ويحيا متحللا في اللهو والحانات واللامعني، وفي “دعوي قديمة “ نحن ازاء كائن هو ضحية السأم الملعون، الذي لا يجديه شيء، كما نحن في “جحيم بارد" ازاء كائن مدمى يصطاد الذباب (والذباب كلمة وجودية)، يطوف في زوايا الليل بالحانات (السلوك الوجودي)، ملموما من وحلة الشارع، السأم، والرؤى السوداء، باردا مشلولا، رث حسه، وانحلت اعصابه، شباكا من خيوط العنكبوت، وبيته قبر، وفي “الجراح السود" نحن ازاء جنازة خرسا، لا تنوح، حمى جروح ودم يسود في الجروح.
اذا ما تأملنا في هذه الكائنات الانحلالية، فانها كائنات وجودية صوفة، تمتص “الايديولوجيم" الوجودي في الخمسينات، الذي كان “ايديولوجيم “ عصر، ومن هنا تطفو الكلمات _المراضيه : المنفى، السأم، الموت، التفكك، العبث، اللا جدوى، العدمية، الانحلال الروحي، لتميز التجربة الوجودية للرؤيا.
عانى خليل حاوي هذه الكائنات الانحلالية وجوديا. اي في تجربة وجودية تعني مهاناته لهذه التجربة، ان هذه الكائنات ليست مضادة لذاته الشعرية بالضرورة، بل هي مستوى من مستوياتها في لحظة ازمة. هذه اللحظة كانت بالنسبة لحاوي، لحظة اقصاء الحزب له وتهميشه وتكفيره، وتحويله الى كائن رث، منحل، غير ان لها ايقاعا وجوديا يتجاوزها،كان يفعل فعله في روح حاوي الشعرية، اذا كانت التجربة الوجودية – بالمعنى الضيق – الانحلالية والعنكبوتية والعدمية والعبثية للكائن، مستوى من مستويات الذات الشعرية، فان خليل حاوي، يطرح ازاءها، في سياق علاقات التضاد في عالمه الشعري، تجربة الكائن الانبعاثية الكلية، وهنا تحديدا نعشر على دلالة الرمز التموزي الانبعاثية لديه، حيث تكتسب ابعادا قومية حضارية وانطولوجية وميتافيزيقية في صورة رمزية ديناميكية، كانت الدلالة “النارية“ لها. بالمعنى الاسطوري هي المهيمنة في “نهر الرماد”، فما هي مميزات هذه الصورة الرؤيوية الرمزية الديناميكية ؟
كي نفهم هذه الصورة، علينا ان نعرف اختراقها للحس وبحثها عن الروحي واللا مرئي، فيا، فخليل حاوي شاعر حسي بمعنى من المعاني، الا انه يتجاوز الحس الى ميتافيزيائيته، وهو مشبع بالمادة في الآن الذي يكتشف ابعادها الانطولوجية الخفية. لعل ذلك يفسر حسيته وميتافيزيائيتها في آن، وهو ما يطرح علاقة رؤياه الشعرية بالمادة.
تبدو المادة في شعر حاوي مشبعة بالوجود. انها على وجه الدقة معطيات حسية مشبعة بعوالم لانهائية منفتحة على اللا مرئي. هنا قد بدأ يمكن الحديث عن ميتا فيزياء الحسي في شعر حاوي، وطريقة انتاجه الرمزية الديناميكية لها، التي هي بالضرورة طريقة رؤيوية حدسية، ذات طبيعة ميتافيزيقية ووظيفة معرفية داخلية مباشرة، اذ ان لغة الرمز الديناميكي لا يمكن ان تكون الا لغة ميتافيزياء الحسي، والبحث عن الروحي في المادي، وكاننا ازاء نوع من لغة صوفية مادية، تتواصل مع الاشياء والمعطيات الحسية بوصفها عوالم روحية.
لعل ذلك يفسر لنا هيمنة الطابع الحسي على اغلب رموزه، على مستوى البنية الظاهرية او السطحية او اللفظية للقصيدة، واشعاعها بدلالات ميتا فيزيائية وانطولوجية واسطورية وحضارية لا محدودة على مستوى البنية العميقة او التوليدية فتتحرر اللغة الحسية الظاهرة في هذا السياق الرؤيوي الرمزي الديناميكي من "المعنى" وتتجه لتوليد اثر دلالي مركب ومتعدد بالعوالم الميتافيزيائية للمادة، يتخطى محدودية المعنى وحدوده القارة.
ويكمن تخطيها للمعني وانفتاحها على الدلالة، في سياقها الرؤيوي الرمزي الديناميكي، الذي لا يقارب المادة بوصفها معطى نهائيا بل بوصفها معطى متفتحا باستمرار على ابعاد لا مرئية، يكتشفها الرؤيوي ويرتادها، وهو ما نتبينه من خلال الطاقة الارجاعية لرموز حاوي الحسية.
والارجاع تعريفا هو قدرة الاشارة اللغوية في عملية القراءة على استدعاء غيرها، بشكل تكون فيه اشارة سيميولوجية اي رمزية، كما نجد ذلك في رموز الملح والجسر والنار والارض، والارض المرات والطين والعروق والدار والغيث والشمس والجلاميد والجليد والكهف والعنكبوت… الخ، التي تشكل بالمعنى السيميولوجي رموزا دلالية ارجاعية متواترة على نحو كثيف في شعر حاوي، مثلما ميزت في الوقت نفسه معجمه الشعري.
فهذه الرموز برمتها كما نلاحظ رموز حسية مرجعية، اي رموز تحيل على مستوى البنية الظاهرية للقصيدة الى مراجع حسية محددة ومحدودة المعنى، في حين انها على مستوى البنية العميقة ذات طاقات ارجاعية لا محدودة الى سلسلة من الاثار الدلالية المفتوحة، التي تكتسب في السياق القرائي للقصيدة،اي في سياق وضعيتها في عملية التلقي ابعادا دلالية متعددة.
وهذا هو جوهر التمييز ما بين المعنى والاثر الدلالي، اذ في المعنى يكون الشعر تعبيرا عن حالة قائمة منجزة او عن موضوع، انه تعبير عن العالم، في حين انه في الاثر الدلالي يكتسب طاقات خالقة لعالم جديد، يتخطى فيها التجربة الرؤيوية حدود العلاقات المنطقية الى الادراك الحدسي.
وربما يكمن هنا، وفق اجتهاد ممكن الفرق برمته، بين ما يمكن تسميته جدلا بالرمز التعبيري المحاكاتي الذي ينقل شعورا، ذا طاقة ارجاعية محدودة او شبه ايقونية، وبين ما يمكن تسميته بالرمز الديناميكي الرؤيوي الذي ينقل معرفة داخلية مباشرة، أي حدسا ذد طاقات ارجاعية لا محدودة.
تنطلق اللغة الرمزية في شعر حاوي تحديدا من المعطيات الحسية للمادة، الا ان السياق الرؤيوي الرمزي الديناميكي، يجعلها تتخطى مراجعها الحسية الى ارجاعاتها الدلالية السيميولوجية الثرة والمفتوحة، ولنأخذ مثالا نموذجيا على ذلك رمز “النار” المتواتر في شعره، فالمميزات الذاتية لـ "النار" هي : النار (+سم ) (+محسوس ) (+غير حي) (+طبيعي) في حين ان مميزاتها السياقية الشعرية هي :
النار (+ فعل ) (+مجرد) (+ حي) (مؤنسن مؤطر).
تحضر كلمة “النار” هنا شعريا، ليس في معناها المرجعي الحسي المحدد زي المقومات الذاتية، بل في معنى معناها او دلالتها الضمنية المرافقة، فتكتسب كلمة د،النار،د مميزات سياقية مختلفة عن المميزات الذاتية لـ "النار”. وبكلام آخر تكتسب ابعادا رمزية ديناميكية، هي ابعاد القوة الكونية الخالقة للعالم الجديد عبر رماد التجدد والاحتراق. فيكون لـ”النار” رمزيا، فعل “الاحياء" و “التوليد” و”البعث" و”النفص”، اي يكون لها فعل كلي قادر مؤلهن، وهو فعل ينجلى في آثار دلالية انبعاثية ونشورية، ذات ابعاد حضارية وقومية، حيث ترجع "النار” سيميولوجيا الى العنقاء وملكارت وسدوم والبعل… الخ، ليكتسب رمز “النار” ابعادا اسطورية ,
ان يكن رباه لا يحيي عروق الميتينا
غير نار تلد العنقاء فينا
في القرار
فلنعان من جحيم النار
ما يمنحنا البت اليقينا
أما تفض عنها عفن التاريخ
واللعنة والغيب الحزينا
تنفض الامس الذي حجر
عينيها يواقيتا بلا ضوء ونار.
وبحيرات من الملح البوار.
تنفض الامس الحزينا
والمهينا،
ثم تحيا حرة خضراء تزهو وتصلي
لصدى الصبح المطل
وتعيد
من ضفاف “الكنج “ “للأردن “ “للنيل “
تصلي وتعيد :
يا اله الخصب، يا تموز، ياشس الحصيد
تبدو النار هنا بعد تحولها من "اسم" في المميز الذاتي الى “فعل“ مؤسطر في المميز السياقي، وكأنها تضطلع بالوظيفة الرمزية للفعل الشعري "Verbe poétique"، اي ما يقترب من وظيفة الكلمة الخالقة الالهية التكوينية، ومن هنا تنبثق دلالتها الضمنية المقدسة، بشكل يؤلهن فيه حاوي النار ويؤسطرها.
فبكلام موجز، ليست النار هنا مجرد كلمة بل هي رمز ديناميكي بالمعنى الرمزي، يضطلع بوظيفة الخلق التكوينية المقدسة، التي تكتسب لدى حاوي شكل القوة الكلية النارية القادرة.
وبوصفها اشارة سيميولوجية تبعث دوالا مفتوحة اخرى، لا مجرد كلمة تذكر بـ ”معنى” مرجعي محسوس ومحدد وقار، فانها تتحول في الانتاج الرؤيوي لها، الى رمز تتمثل ديناميكيته، في طاقاته الارجاعية المفتوحة، الى فسيفساء من الرموز، يمتصها هذا الرمز ويدمجها في بنائه ويجعلها من عندياته.
ومن هنا يتميز رمز النار بالخاصة “التكثيفية “. التي تعني ضم صور متعددة في صورة رؤيوية واحدة متعددة الابعاد والدلالات، وهو ما يكشف عن حيوية الرمز وثرائه الدلالي المفتوح.
فـ ”النار” على مستوى معنى المعنى، اي على مستوى البنية الرمزية، هي الصورة الالهية الكلية القادرة، الخالقة والمكونة، التي “تحيي عروق الميتين” وتقوم بفعل “البعث “ و”النفض “ و”الحياة"، وكلها دلالات نشورية وانبعاثية ويتفرع عن صورتها الاحيائية هذه، صورة أخرى مكثفة ومدموجة فيها هي صورة “العنقاء" التي تتجدد من رمادها وتبعث حية من جديد، ومن هنا اذا ما حفرنا في السور الارجاعية التي يثيرها رمز النار ويستدعيها، فاننا نجد تكثيف الصورة “الملكارتية “ النارية للبعل، اي صورة البعل – حدد كاله الصاعقة ونار السماء حيث تتحول صورة البعل النارية “الملكارتية “،دلاليا الى الصورة الاخصابية لرمز “تموز” الذي هو احد استبدالات "البعل “.
بهذا المعنى يحول خليل حاوي رمز النار الى نمط اصلي او نموذج أعلى، يستمد نوياته الاساسية من الطبقة الاولية السابقة على حياة الفرد، اي طبقة اللاوعي الجماعي، فيصب في هذا الرمز مغزى كليا، يثير دلالات الانبعاث الكوني والقومي الحضاري، فيكتسب الجحيم دلالة المطهر القومي – الحضاري المقدسة والمؤسطرة.
حيث تتضاد صورة المرات (العفن والعيون المتحجرة وبحيرات الملح البوار) مع صورة الانبعاث (الحياة الحرة، الخضراء الزهو، شمس الحصيد…). لتأخذ في التحولات الدلالية للقصيدة، وتسرا لقانونيات التضاد في عالم حاوي الشعري، شكل تضاد ما بين الكائنات المنحلة العاجزة والكائنات القادرة.
يعين خليل حاوي هذا المغزى الكلي، في اللحظة القومية – الحضارية المعاصرة التي عاشها وانخرط فيها بوصفها لحظة الانبعاث القومي، ومن هنا فان رمز “النار” الديناميكي المعقد والمتعدد الطبقات الدلالية، يتعين على مستوى الارجاء الى التجربة الشخصية للشاعر ولكن بوصفه شاعرا نبيا جماعيا او رائيا يتكلم بلغة الرموز الاصلية، هذا التعيين يجد نفسه بصورة معقدة في تجربة “الزوبعة “(5) التي رمزت الى حركة الحزب السوري القومي – الاجتماعي، الذي انخرط فيه حاوي، وكتب قصائد “نهر الرماد” او اناشيده كما كان يحب ان يعبر، ابان الانفصال “المفجع الموجع" عنه على حد تعبيره، فالصورة “الملكارتية “ للنار هي الصورة الحدسية العليا لـ”الزوبعة" بمعناها العميق الانقلابي. فتكون “الزوبعة" باشاراتها الروحية والارادية في ذوات المكافحين بحد ذاتها احد الرموز الضمنية التي يحيل اليها رمز “النار” في شعر حاوي، وهو ما يكسب رمز النار ثراءه الدلالي الخصب والمفتوح.
ليست الطبيعة الميتافيزيقية لرمز “النار" سوى نتاج للادراك الحدسي اي للادراك الشعري الرؤيوي الذي يجعل الرائي متصلا مباشر ة بقلب الوجود. من هنا يمكن القول ان هذا الرمز في شعر حاوي، رمز “تناصي”، يقوم على طاقة ارجاعية لشبكة من الرموز، يمتصها ويحولها من جديد.
فاذا ما استخدمنا مصطلحات علم النفس، فان عمليتي الاجتياف INTROJUECTION والاسقاط PROJECTION تحكمان الطاقات الارجاعية للرمز من منظور نفسي، والتي هي طاقات امتصاصية وتحويلية في آن، واذا كانت وظيفة الاجتياف امتصاصية على الدوام، مما يجعل الرمز الشعري يدخل بالضرورة في تعالق نصي مه رموز أخرى، فان وظيفة الاسقاط تحيينية، مما يجعل الرمز الشعري وهو الذي يضرب في طبقة اللاوعي الجماعي الاصلي حينيا أو حاليا في لحظة معا~رة تتعين فدما دلالات الرمز الاسقاطية، ونجد الاحالات الى هذه اللحظة في صورة “الامة التي تبعث من جديد” و” النسل" و” البطل القادر”. وفي الصور الخفية المضمرة لـ ”الزوبعة “. و” نفض الامس الحزين “ و"عفن التاريخ “.
يأخذ رمز “النار” في قصيدتي “سدوم “ و”عودة الى سدوم" تحولا دلاليا آخر، يتميز باجتياف التجربة “السدومية" في العهد القديم، وتحيينها في اللحظة المعاصرة، وذلك باسقاط قيم “الزوبعة “ القومية عليها، فتحين “الزوبعة" المعاصرة الرمز بقدر ما يؤسطر الرمز الزوبعة، ويكسبها ابعادا كلية. فالصورة “السدومية التي يجتافها الشاعر – الرائي ويمتصها هي صورة “الزوبعة “ الكونية، النارية والكبريتية القادرة، التي لا تبقى ولا تذر، ماحقة كل شيء ومحولة اياه الى رماد.
كان في الآفاق والارض سكون
ثم صاحت بومة، هاجت خفائيش
دجا الافق، اكفهرا
ودوت جلجلة الرعد
فشقت سحبا حمراء حرى
امطرت جمرا وكبريتا وملحا وسموم
وحوى السيل براكين الجحيم
احرق القرية، عراها
طوى القتلى ومرا.
فتغدو الالتفاتة الى ماضي سدوم، الذي يحضر في القصيدة في صورة مطارح البيت والسمر والذكرى المبددة، مثل التفاتة امرأة لوط التي ينجيها الرب، وتحولها الى عمود من الملح، ويمتص حاوي في حركة “تناصية “ عميقة التفاتة امرأة لوط تلك، ويضمنها في الطبقات الدلالية لصورته الرؤيوية، التي يشكل فيها الملح رمزا للعقم :
عبرتنا محنة النار
عبرتنا هولها قبرا فقبرا
وتلفتنا الى مطرح ما كان لنا
بيت وسماء، وذكرى
فاذا اضلعنا صمت صخور
وفراغ ميت الافاق صحرا
واذا نحن عواميد من الملح
مسوخ من بلاهات السنين
من هنا يمجد الشاعر _ الرائي، المشبع في لحظته الاسقاطية المعاصرة بقيم “الزوبعة “ وارادتها الانقلابية، التجربة السدومية في قصيدة “عودة الى سدوم “، اذ يعود الرائي من السماء الى الارض، عودة “سدومية “ تدميرية، لا تبقى ولا تذر فيها شيئا، ففي عيونه “طوفان من البرق “ و” رعد الجبال الشاهقة" و”النار” و” الصاعقة “. ان النص الغائب لهذه “السماء” التي يعود منها الرائي الى الارض، هو الرمز “الملكارتي – البعلي “. فالصورة الرمزية للسماء هي صورة ملكارتية، اي صورة ملكارت اله النار والصاعقة، وكأن الشاعر – الرائي في جبله الذي يستدعي موسى “كليم الله“ في الجبل، ولكن بعد ضما في صورة جديدة لرائي، هو “رسول “ ملكارت الى أرض سدوم الموبوءة بالكائنات العاجزة، وبالخطايا وبـ "نسل السبا يا” “الخصيان الضئال “ “نسل سدوم“.
تحضر أرض سدوم الهالكة الموبوءة في العالم الشعري حضورا مرجعيا يشير الى واقع الامة في اللحظة المعاصرة التي يحين فيها الشاعر _الرائي رؤياه “الملكارتية _البعلية “. انها صورة “الأمة _الفندق “ التي تشير اشارات سيميولوجية الى “نزلاء” يعبثون بها، هم في القصيدة “غزاة الشرق والغرب “. ففي الصورة المرجعية لـ ”الأمة – الفندق “ واشاراتها السيميولوجية الى واقع معاصر. هناك “نسل سبايا” “نسل خصيان ضئال “ يعملون كـ ”خرقة ممسحة “ في “فندق الشرق الكبير”، فالبنت تستمرىء "ناب خصي” لأنه "ناب أمير”، والشاعر يتكسب خلف “الجيوب “ و”الدنانير”. و"الأب “ عاجز مهلهل في “اطماره“ و"عكازه “، والنسل يتعبد “خفاشا مذهبا” هو احد رموز حاوي العاجزة المتواترة التي هي في بنيتها العميقة هنا استبدال “تناصي” د،للعجل الذهبي” الذي يتعبده “الشعب “. وحينما يتلفت الرائي في عودته ال الواقع، فانه لا يرى سوى الكائنات العاجزة المستكينة : استكانة صبر ايوب، وانتحاب حب ليلى، وتوقي شهرزاد لظلم السلاطين، و” الذاكرة “ و”الأمس" أي الماضي كله الذي تمحقه الزوبعة الكونية النارية في قصيدة "سدوم“ هو نفسه هنا الذي تمحقه العودة "النارية “ "الملكارتية“ للشاعر- الرائي، انه “كل امسه“، تبيده عودته “السدومية “ المدمرة وتحيله الى رماد، كما “تجرف النار ذاكر ته".
ومن هذا الرماد تنبثق مكامن الخصب والانبعاث والتجدد التي يرمز لها الرائي بـ”النهر“ في صورة “نهر الرماد" المتضادة داخليا ما بين صورتي المرات والانبعاث، وكأن السدومية المهلكة هي تجربة انبعاثية، وكأن التجربة انبعاث الذات لا يتحقق الا بتدمير الذات القديمة ومحقها وترميدها، واحراق النار لـ”البيت المخرب “، وليس “البيت“ هنا كلمة بل رمز متواتر في شعر حاوي، يحضر في “السندباد في رحلته الثامنة “ تحت صورة تحول الرمز عبر الأسماء. فتكون “الدار" و”الرواق“ اسمين من اسماء ذلك الرمز الذي يشير الى الذات. يمجد حاوي ابادة الذات القديمة، ذات نسل السبايا والخصيان الضئال.
فليمت من مات بالنار
وبالطوفان.. لن ابكيك يا نسل سدوم
لن يعود الشاعر هنا ذلك البوذي الذي وجدناه في اسم “الدرويش" في قصيدة “البحار والدرويش “. فهو ليس “بوذيا يحبه، يطعم الطحلب والقمل شرايينه وقلبه “، بل رسول “ملكارتي" يدمر وقد تقمص ذات رب العهد القديم “سدوم “ ويرمدها. فيحن الشاعر – الرائي الى انبعاث،"لأرض" من جديد بواسطة “بعلها الالهي القديم “.
لن تموت الأرض ان متم..
لها بعل الهي قديم
طالما حنت اليه محبر ليل العقم..
أنثى والهة
فضها البعل ورواها
فغصت بالرجال الآلهة
في هذه الصورة الرؤيوية. تمتص الآليات الرمزية الديناميكية، الصورتين الاسطوريتين، للقوة الكونية الالهية المذكرة الممثلة بـ "السماء” والتي تحضر هنا عبر أحد استبدالاتها الذي هو "البعل “ في طبقة أولى و”البعل الملكارتي" المدمر في طبقة ثانية، لتتواصل الطبقتان مع طبقة ثالثة ثاوية هي طبقة رب العهد القديم، وللقوة الكونية الالهية المؤنثة الممثلة بـ"الأرض “ اي “عشتار” في الصورة الخفية او الغائبة المضمنة والمكثفة في آن، البعل هنا هو الزوج الكوني للأرض – الأنثى الوالهة التي تحن الى ماء زوجها الكوني عبر ليل العقم، فيفض بما تثيره اشارة يفض من اشارات سيميولوجية الى انسنة “الأرض“ وجعلها ذات “بكارة“، الأرض و”يرويها"، لتغص بـ “الرجال الآلهة “.
تحضر هنا علاقات التضاد ما بين السمر الطوال والخصيان الضئال، الرجال الآلهة ونسل السبايا نسل سدوم، حيث يمجد حاوي النسل القادر، العملاق، الطويل الفولاذي الذي احرق الرائي “سدومه“ برمتها من اجل بعثه. فيرى هذا اانسل الذي تصلي الرؤيا له، في صورة البطل القادر المنتظر، الفارس الذي يمتشق البرق على الغول والتنين، تتوال هنا الحركة التناصية لصورة هذا البطل، انه بدوي ضرب القيصر بالفرس وهو ما يشير فيما يشير الى محمد، وطفل ناصري وحفاة، وهو ما يشير الى المسيح وحوارييه، ومار جرجس او الخضر.
لا يولد هذا البطل الكلي القادر المنتظر الا “اعجازيا، فيسمي الشاعر _الرائي بالدلالة المقدسة لـ”البسملة “ بأشكالها، او بكلام ادق يبسمل باسم هذا البطل القادر القاهر، الذي يبعث سدوم من رمادها، ذاتا جديدة، ويحل الخصب، ويمضي في أثر الغزاة.
لتحل المعجزات
رب ماذا
رب ماذا
هل تعود المعجزات؟
لقد بقي خليل حاوي يصلي للبطل القادر الذي حوله الى نمط أصلي هو نمط البعل، ففي قصيدة “بعد الجليد” يحضر الجليد هنا بوصفه رمزا الى الأرض – الجسد – الذات المرات، حيث عروق الأرض ميتة، وأعضاء الجسد متيبسة، والذات مقطوعة الانفاس، فتندمج في خصائص البطل القادر المخلص وتتكثف خصائص ملكارت الابادية مع خصائص البعل الذي “يفض التربة العاقر”، وخصائص المسيح المشارا ليه _”الفصح المجيد” مع خصائص “تموز” لتكون صورة هذا البطل المنتظر صورة رؤيوية رمزية ديناميكية، تكثف شبكة او فسيفساء من الرموز، وكما في “عودة الى سدوم" فان البنية الاشارية للأرض هنا هي بنية عشتارية، بنية الشهوة الوالهة التي تبحث عمن يرويها ويفضها وينجب منها نسلا جديدا هو في الرؤيا الشعرية وتعيناتها في اللحظة المعاصرة، نسل البعث القومي، الذي يشار له في القصيدة بـ : “الرجال، الاقوياء، الصلب، النسل الجديد، النسل الذي لا يبيد، الذي يرث الأرض للدهر الابيد، النسل العتيد”. وهي صورة "الرجال – الآلهة“ بتداعياتها "النيشوية" القادرة.
ترتبط الصورة الانبعاثية اذن بصورة الزوبعة التي نجدها في قصيدة “الجسر” وهي آخر اناشيد “نهر الرماد" في صورة البطل القادر الذي “يفني ويحيي ويعيد خلق طفل يولد خفاشا عجوزا في طفل جديد، فيتولى غسله بالزيت والكبريت من نتن الصديد، ليخلق فرخ النسر من نسل العبيد" وهي بالتأكيد صورة ملكارتية – بعلية اي نارية تدميرية وانبعاثية في آن، منفتحة على التجربة المسيحية التي تتناص قصيدة حاوي معها، من خلال انكار الطفل في زمن ملكارت – البعل لابيا وامه وانشقاقه عن الارحام، وتقطيعها وتمزيق عروقها، والانفتاح التناهي على التجربة المسيحية، هو في الامتصاص العمقي لقول السيد المسيح "من أحب ابا او اخا او اما اكثر مني فلا يستحقني”، من هنا يهتف خليل في “الناي والريح “ ممتصا قول السيد المسيح :
ربي متى انشق عن امي، ابي
تلك التي تحيا
تموت على انتظار
هذا الجيل القادر، الفولاذي، النسري، هو جيل ملكارتي، ينصب له الشاعر الرائي _النبي في “نشيد الجسر” اضلعه جسرا وطيدا، للعبور خفافا من “كهوف الشرق الى الشرق الجديد”، حيث تصل الرؤيا الملكارتية – الانبعاثية الى ذررتها العليا، وتسترجع – ولكن وفق آليات الصورة الرؤيوية وديناميتها – اصداء الرؤيا الانقلابية لجيل القوميين العتاة الذين كان حاوي مكافحا بينهم، وبهذا المعنى أسطر حاوي زوبعة هذا الجيل بقدر ما أنسن الاسطورة وحينها وجعلها ذات دلالات واهنة ومعاصرة.
تضرب هذه الرؤيا الملكارتية – البعلية العاتية لـ”الانبعاث"، مراجعها الواقعية المتينة المعاصرة، في “زوبعة" النخبة القومية، وارادتها الصاعقة،في المحق الناري والتدميري اي الانقلابي للنسل “السدومي” العاجز، وبعثه من رماده وانقاضه نسلا قوميا بطوليا رسوليا جديدا قادرا، في شكل نسل رجال – آلهة عتيدين، نسور. احرار، وكأنهم “رجال متمنطقون بمناطق سوداء على لباس رصاصي، تلمع فوق رؤوسهم حراب مسنونة، يمشون وراء رايات الزوبعة الحمراء يحملها جبابرة.. فتكون ارادة للأمة.. لا ترد”. (6)
ومن هنا اجتافت هذه الرؤيا، ولكن وفق آلياتها الرمزية الديناميكية، ما يمكن تسميته على نحو ما بلغة جوليا كريستيفا بـ “ايديولوجيم “ IDIOLOGEME مرحلتها التاريخية، الذي رأى فيه خليل حاوي “ايديولوجيما” للعصر برمته، وصفه على الدوام ب “الرؤيا الكونية “ التي يستطلعها الشاعر الرائي بوصفه شاعرا جماعيا، في لحظته القومية – الحضارية المتعينة، وبالتالي فانه يستطلعها كرؤيا قومية – حضارية.
غير أن هذه الرؤيا العاتية سرعان ما تخلي الفضاء الشعري لصالح حضور رؤيا ملحمية داخلية، تتفحص الذات. او الذوات المتراكمة فيها، وتميتها، وتعريها، لتعود بها الى جوهر فطرتها الأولى، التي “تحس ما في رحم الفصل، وتراه قبل ان يولد في الفصول “، وهو ما نجده في “السندباد في رحلته الثامنة “، التي هي رحلة ملحمية داخلية في "داره“ أي في “ذاته" او بكلام أدق في الذوات المتراكمة فيها. وبعبوره لدهاليز هذه الذوات ذات الشبكة “التناصية “ الفسيفسائية من الرموز، ومهاناته لغياهبها الرؤيوية، يعاين في عريه الأخير. وقد عاد الى فطرته، اشراقة البيت، ويتم له اليقين.
والأساسي هنا ان اشراقة البعث ليست اشراقة ملكارتية – بعلية نارية صاعقة، انها ليست اشراقة “الزوبعة “، وتمزيق الارحام، وتقطيع العروق، وشق البيوت، بل اشراقة تطهيرية تنمو من الداخل في سيرورة تموينية للذوات الرثة العالقة بالذات الفطرية.
ليست هذه الذات الفطرية التي يعود اليها السندباد من رحلته التطهيرية، في مستوى اساسي من مستوياتها، سوى ذات ملحمية، تكمن ملحميتها هنا، في تخطي عالم التناقضات الذي عاينته الذات الملكارتية _البعلية بشكل ناري صاعق يؤججها ويدفع بها الى انتصار الترميد والنار، الى المؤالفة ما بينها، فيرى خليل صحراء الكلس المالح البوار تمرج الثلج وبالزهر وبالثمار، مؤالفا ما بين التناقضات، نازعا عنها هذا التناقض في ضوء فطرة “الطير” الملحمية، بعد ان كانت رموز “الكلس" والملح “ و”البوار” و"الصقيع“ احد تحولات معنى “الثلج" عبر الاسم في “نهر الرماد” نقيضة لرموز “الزهر" و”الثمار” الانبعاثية.
واذا كان الشاعر _ الرائي في،أنهر الرماد<، يتقمص ذات الرب التدميرية الصاعقة التي تمحق "سدوم“ ولا تبقي ولا تذر منها شيئا، فان الشاعر _الرائي في "السندباد في الرحلة الثامنة“ يتقمص لغة “البشارة “ الانجيلية. وفيضانها بالحب. وبلغة القصيدة لطالما كانت الألفاظ تجري من فم الشاعر- الرائي الثائر زوبعته الملكارتية البعلية "شلال قطعان من الذئاب" في حين – ان الشاعر_الرائي هنا، تغنى في الدم وتفور بفطرة الطير التي تحس ما في رحم الفصل، وتستبصر من الداخل ولادته. فـ”الحب" و”مسح الذنوب“ و"انماء الكرم والطيوب“ و”البلسم“ و”السخاء” و”الفطرة“ و"احتضان الارض“ هو احد مستويات لغة “البشارة “ الانجيلية التي تتناقض مع اللغة الملكارتية _البعلية لـ “الزوبعة “.
"في طبيعة الانبعاث ان يكون تفجرا من أعماق الذات “. هذا ما يقوله حاوي في مقدمة مطولته المأساتية المرثاتية المفجعة “اليعازر 1962”، الذي ينبعث "من موته“ "عقيما” "شريرا” “ينز بأبخرة الكبريت" “ميتا حجرته شهوة الموت “. فتفجع زوجته (مقطع : زوجة لعازر بعد اسابيع من بعثه) بموات “بطلها" “المنبعث “، وتفتش فيه عبثا عن اية قيمة من قيم انبعاث “صوتها” و”وجهها” و”عينيها” و"عمرها”. يكون الانبعاث هنا “عبثا” مريرا ومأساتيا، لكائن لم يتشكل انبعاثه من أعماق ذاته، بل انه منذ لحظة بدء الناصري في بعثه يطالب الحفار بأن ينمق “الحفرة الى قاع بلا قرار”، وكأن الخضر يتقمص طبيعة،"التنين “ الجلاد والفاسق، فيتحول الانبعاث الى نقيضه، الى موت في الحياة.
وتكمن فلسفة حاوي برمتها لمصائر الانبعاث، في هذا الرمز الانبعاثي المعكوس، رمز “اليعازر 1962". وكأن حاوي هذا الراثي العميق، الذي وصل الى بعث ملكارتي _ بعلي في “نهر الرماد”، ثم صلى الى بعث ينبثق من الداخل في “الناي والريح"، يصادق في “بيادر الجوع" بحدسه الاورفي المأساتي المستبصر للغات البعيدة، على الصيرورة “التنينية “ لـ”الخضر". وتكشف مشروع “الانبعاث “ عن موت اخطر مواتا من الموت نفسه، وكأنه يصادق بشكل مبكر للغاية، وقبل ثلاثة وثلاثين عاما من لحظتنا الراهنة. على ما انتهى اليه “البراكسيس “ القومي اليوم،من نهايات معكوسة مذلة مهينة، تبدو فيها الامة برمتها، وكأنها تحاكي "ايقونيا" مصائر “اليعازر” حاوي، وتبدو فيها الحياة العربية الذليلة الراهنة وكأنها تقلد ذلك الرمز. وكأن الفن – كما سبق لأوسكار وايلد أن قال – لا يقلد الحياة، بل ان الحياة هي التي تقلد اليوم حرفيا الفن، وتصادق على رؤيا حاوي فيها.
ويموته صبيحة ذلك اليوم الاسود من شهر حزيران 1982 المثقل بالهوان والانتكاس لنا نحن العرب، اراد خليل حاوي للطلقة التي اصابت صدغه، أن تكون خاتمة حسية مأساوية لمصائر هذا الانبعاث المعكوس، وربما لم يمت حاوي في هذا المصير عن نفسه بل عن الجميع.
هوامش
( ا ) كان مرسوما محك جبهته وسم، الضحايا
دمه النار التي تحيي عروقا يبست فيها الخطايا
وحراما أن يلبي لسرير العرس غصات، الصبايا
أمه الأرض دعتة لمصير يدعي من يصطفيه (الرعد الجريح، ص 86).
(2) ايليا جاوي، خليل حاوي في مختارات من شعره ونثره، دار الثقافة.
بيروت، حزيران أ98ا، شذرات نقدية ص 162 – 163.
(3) من شهادة حاوي في حديثه لساسين عساف، المفكر العربي المعاصر، 26، حزيران _تموز 1983، ص 106.
( 4) حول تأثير “الصراع الفكري في الادب السوري" في "القصيدة التموزية،
انظر : محمد، جمال باروت، الحداثة الأولى ط ا، ا 199، اتحاد أدباء وكتاب الامارات، فصل “القصيدة التموزية".
(5) حول ذلك تجد اشارة. شهادة معبرة لأخيه ايليا حاوي ني : خليل
حاوي، في سطور من سيرته وشعره، دار الثقافة، بيروت، ط ا. حزيران 1984 ص 134.
(6) أنطون سعادة، 1لمحاضرات العشر 1948، دون مكان ودون تاريخ ودون اسم الناشر، ص 33.
محمد جمال باروت(ناقد سوري)