عرف خورخي لويس بورخيس Jorge Luis Borges نفسه بأنه كوسموبوليتاني (كوني) وفوضوي غير مؤذ. سافر عبر كل العالم، وقضى آخر أيامه في سويسرا، ذلك البلد الذي عاش فيه خلال الحرب العالمية الأولى. ففي 1984، أي قبل سنتين من وفاته، عاد – مؤلف رواية "الألف " المصاب بالعمى منذ 1955- الى جذور مراهقته، وتحدث عن لديمقراطية ومستقبل بلاده الأرجنتين التي كانت تعيش في تلك الآونة مسار تشتت سياسي. والآن، وبمناسبة الذكرى لمئوية لميلاده في 24من أغسطس، نورد هذه المقابلة التي بتطرق فيها الى الموت: "إنه أمل بالنسبة الي "، والى السيرورة لابداعية: "الأدب هو ما يهم ".
في 25من أكتوبر 1984 وفي الطابق الأخير من فندق Arbalute بجنيف حيث اعتاد خورخي لويس بورخيس الاقامة كلما حل بهذه المدينة، لم يكن يتصور أنه سيحمل في أقل من سنتين بعد ذلك، على كرسي ذي عجلات ليلفظ أنفاسه في منزل مجاور. كان يعود الى جينيف باستمرار منذ 1978، مباشرة بعدما أخذ يمطر بالأوسمة والتشريفات في مختلف العواصم بادئا بذلك أسفاره الخمسين التي توجت أقوله، أنذاك ظل بجنيف محافظا على صداقته مع واحد من صديقي المراهقة تلك الفترة التي كان يدرس فيها بمستوى البكالوريا ما بين 1914- 1918. وأغلق الكاتب في 1985 حلقه أدبية بديوان شعري مهدى الى سويسرا، استهله بقصيدة "التعازيم " Los conjuros استلهم في لحظات من ذلك المساء الخريفي البارد.
واليوم (1999) تظهر لأ ول مرة في الأرجنتين المقاطع الأكثر من تلك الدردشة التي جرت بالاسبانية، والتي أسهب فيها الحديث عن الأرجنتين والديمقراطية والعسكريين، وثقل الدين الخارجي. لقد أصر فيها على اعتبار نفسه كونيا، وبذلك أذاب أسطورتي جنيف والأرجنتين الحاضرتين بقوة في أدبه، واللتين كان غيابهما ملحوظا في وصيته حول المكان الذي أراد أن تدفن فيه بقاياه.
"جنابكم يتفضل بالسؤال، وأنا أجيب… الأفضل الا تعرف الأسئلة مقدما، هذا شرط وضعه لذلك الغريب الذي شرع مقابلته دقائق قليلة بعد دخوله للفندق صحبة زوجته Maria Kodama.
– ما الذي يدفع بكم للعودة الى جينيف ؟ أهو الحنين ؟
– نعم، وكذلك شعوري بأنني جنيفي. تشكل جزء من حياتي كإنسان في جينيف وصلنا في بداية 1914 واشتعلت الحرب في أغسطس، فمكثنا هنا طيلة الحرب، حيث منحت أشياء كثيرة: الفرنسية، واللاتينية وتعلمت الألمانية لقراءة 0شوبنهاور، والصداقة بطبيعة الحال. كنا نقطن في شاع (مالاكنو) قريبا من الطرف القديم من المدينة، وهكذا كما جئت الى أوروبا أمضي – دائما – بعض الأيام في جينيف التي هي وطن من بين أوطاني المختلفة. أنا أسعي لتكون لي أوطان في انحاء كثيرة من العالم. وللتخصيص، كنت البارحة مع صديق لي، Simon Jichlinski الوحيد الذي بقي. أيضا، لي بجينيف أصدقاء Mauric Abamowick الذي توفي،، Slavquin الذي كانت له مكتبة بـ.Chaudronniers ما بين ساحة Bourg de Four والكوليج (الكوليج الكالفيني حيث درس بورخيس) بالاضافة الى أن لدي بالطبع أثر سويسرا، لقد نشرت في السنة الماضية قصيدة حول سويسرا ببوينس أيرس في مجلة Lira هذه القصيدة التي ليست معي الآن تسمى "المتآمرين" Los Conjurados , طيب، كيلا أسميها فرضا "المتحالفين "، وتوصلت برسالة تهنئة من الملحق الثقافي بالسفارة السويسرية، جئت مرارا الى جينيف. أحببت أن أكشف المدينة لـ Maria. والآن، واضح أنها تعرفها أكثر مني نظر الأن لدي ذكريات ملتبسة، أما هي فلا، هي لديها عيون في الأخير. إنها ترى الأشياء، المدينة القديمة، نهر الراين، وهنا حيث نحن الجسور، وبحيرة Leman التي كادت أن تكون بحرا…
– يبدو أن جنابكم في حاجة الى إعادة اتصال جسدي بالأماكن التي عشتم بها. الاينال منكم تذكرها؟
– الشيئان معا:: الحنين والحضور، القرب يمكن أن يكون ذلك ميزة كبيرة، أنا فقدت بصري في 1955، أقصد بصري كقاريء، وبوينس أيرس التي أتخيلها لا وجود لها الآن. في تلك كانت الضفاف هي الـ Palermo de Evaristo Carriego ,والآن ليس الأمر كذلك. وبالمقابل، هنا على الأقل، مازال الطرف القديم من المدينة قائما. إنهم يحاولون المحافظة على الماضي مع إثرائه. أما في بلداننا فالعكس تماما: إن الأشياء تغير في اتجاه نمط آخر.
– أحب أن أثير موضوعا آخر كي نأتي على سويسرا؟
– لماذا تريد الاتيان على سويسرا؟ تبدو لي الفكرة دموية.
– لا، كنت أقصد إن كان هناك نوع من الالفة بينكم وبين النظام السياسي الذي يحكم هنا؟
– بكل تأكيد، إنه النظام الذي نتجه صوبه الآن: الديمقراطية. ويبدو لي أن الأمر هنا أسهل منه هنالك، أليس كذلك ؟ حينما جئنا الى هنا عام 1914، وباعتبارنا أمريكيين طيبين، سألنا عن اسم الرئيس، لم يكن أحد يعرفه، الرئيس فيما بيننا شخصية عمومية، بينما هنا غير ذلك، هنا السياسة فعالة، وهي تقريبا سرية،وكيفما كان الحال، فهي ليست مزعجة. إن مثال سويسرا رائع. سأقول لك ما يفترض أنك سمعته آلاف المرات: سويسرا الألمانية، سويسرا الروماندية (تلك التي تتكلم الفرنسية)، سويسرا الايطالية، والرومانش أيضا(هي رابع لغة رسمية بسويسرا، وهي تكاد تكون دارجة). كلهم يتفاهمون تماما اعتبارا لهذا الموقف الاعتقادي الذي يقول "إنني سويسري، إنني هلفيتي ( 1). إنه موقف اعتقادي رائع. قلت في تلك القصيدة أرجو الله أن يأتي يوم يتضاعف فيه عدد المقاطعات، وأن يصير كل العالم سويسرا أو تصير سويسرا العالم أجمع.
– ما الذي يجذبكم الى النظام السياسي السويسري؟
– واقع أن الحكومة هي تقريبا غير مدركة وهي فعالة. إنها غير شخصية، وهذا مهم جدا. إننا ننحو الى الرؤية بالاحتكام الى الأشخاص وليس بالاحتكام الى الوقائع التي تحدث بصيغة غير شخصية ومستمرة. إنه نادرا ما يفكر دائما في سويسرا وكأنها بلد متجانس، هذا كله خاطيء، إنها غير متجانسة، وأعطت أناسا نوابغ مثل Blaise Vendrars & ,Paul Klee & Gottfried Keller ,ويصدد روسو Rouseau ليس باستطاعتنا القول أنه كان سويسريا، لأنه كان سابقا،و Hodler الرسام، وJung الأكثر أهمية من هراءات Freud والأكثر دراية على ما فيه من نقط ضعف وما لديه من نماذج أصلية كثيرة الأهمية، إضافة الى.Paracelso. وتحديدا، سأنشر في السنة المقبلة كتاب حكايات عجيبة، ومن ضمنها حكاية "وردة Paracelso. ". هذه الحكاية تدور في Basilea بالطبع، وأتخيل فيها حوارا بين Paracelso وتلميذ له.
– قلتم جنابكم، بأنكم تسعون لكي تكون لديكم أوطان مختلفة في نفس الآن. هل أنتم مواطن بدون بلد؟
– لا، أنا مواطن كل البلدان كما يقول الفلاسفة الرواقيون، كوني، بمعنى مواطن العالم حسب ترجمة
Goethe لـ:Weltburger أريد الاحساس بكل بلد أوجد فيه وأن أبحث عن التماثلات بين البلدان، أو عن اختلافاتها اللطيفة. سافرت بما فيه الكفاية، وبقي أن أزور بلدانا كثيرة، وعلى الخصوص الصين والهند، فقد كانت لدي فرصة معرفة اليابان. قمت بصحبة زوجتي ماريا بسفرين الى هناك، وسنعود مرة أخرى الى هناك عما قريب. إنه بلد متحضر بشكل عجيب.
– أشرتم، جنابكم الى أن تدعيم الديمقراطية هو ما تمضي اليه الأرجنتين.
– ذلك ما نتمناه. الوطن في حاجة الى هذا الموقف العقدي من طرفنا. ستكون فترة نقاهة بطيئة. ومتكون شديدة الصعوبة،. لأنه يوجد هنالك بالمرصد أنصار الرئيس , Peron والعسكر، وكثير من الأطماع الشخصية. إنهم لا يفكرون في التضحية من أجل الوطن. توجد مشاكل اقتصادية وأخلاقية، وربما كانت الأخلاقية منها هي الأكثر خطورة. لكن علينا أن نعالج الأمر باعتباره فرصة في ملكنا، إما هذه الحكومة، واما الفوضى،واما أشكال من الفوضى القديمة.
– أهي العودة من جديد لسنوات مضت مليئة بالأحزان ؟
– تخيل. فترة الرئيس Peron كانت مفزعة، أعقبها صنف من الفجر المزيف مع ثورة 1955. ثم تبعها الارهاب الذي كان فظيعا. وتلاهما القمع الذي كان شكلا من الارهاب الرسمي، والحكم العسكري، ذاك الذي سمي "التدرج " إنه سلسلة من النزاعات وأخيرا أكثر الحروب ألغازا. والآن عموما، ها نحن نحاول الانبعاث من كل هذا.
– تقدم وكالات الأنباء صورة عن أرجنتين في طور تفتت.
– طيب، لكني سأحاول لكي يكون هذا خاطئا، لربما كان صحيحا، لكن إن وضعنا ارادتنا الطيبة في خدمة إنقاذ الوطن أمكننا إنقاذه إجمالا، لدينا ميزات على باقي دول أمريكا: طبقة وسطى قوية، وبلد وهب كل الموارد، وهجرة أجنبية قوية، مع غياب المشاكل العنصرية. صحيح أننا فتلنا الهنود، وأن السود ماتوا لدينا… ومع ذلك استطعنا بمفردنا أن ننتج أدبا جيدا، الناس مثقفون، وهذا ما لم يتم استغلاله إنه هنالك ينتظر.
– مؤخرا برز بورخيس في الصحافة الأوروبية بآرائه السياسية، ذاك ما لم يكن يحدث في السابق.
– انظر، لا، أنا لا أفهم في السياسة،ولست منضما لأي حزب. أنا أعرف نفسي بأني فوضوي غر مؤذ، كان Spenser يقولها: الفرد مضاد للدولة، لكن في الوقت ذاته أنا أدليت برأيي في هذه الوقائع قبل الانتخابات، لربما كان فعل ذلك خطيرا نوعا ما، غير أنه في حالتي لم تكن المسألة ذات خطورة كبيرة، فبما أنني معروف نسبيا، فقد كان بإمكاني التصريح بما أفكر فيه، طيب لست أدري إن كنتم تعرفون أننا عانينا من 82 جنرالا كانوا في الخدمة الفعلية، لكن، كيف يبدو لكم الأمر؟ إنها عدوى في الواقع، ومن حسن الحظ أن هؤلاء الجنرالات كانوا متخاصمين فيما بينهم.
– تتردد في أدبكم مواضيع الأخوة الفحلة، والرجولة والخطر، وشبح الموت.
– الأدب هو ما يهم، لأن السياسة… الأدب هو شكل من الأخلاق، لكن الموت بالنسبة لي أمل، وليس شبحا، أنا أتمنى – كما لو كان بوسع أبي أن يقول: أن أموت كليا روحا وجسدا، وأن أصير منسيا كذلك، وهذا ما يجعلني لا أفكر في الموت خائفا. وبالرغم من ذلك، فربما سأكون جبانا لحظة الموت، كما هو شأن الجميع. أنا أفكر في احتضارات كثيرة، ولدي رغبة ملحة في أن أموت دفعة واحدة.
– مثلما هو شأن Minotauro (الثور الخرافي) في إحدى حكاياتكم.
– نعم، هذا صحيح، تلك الحكاية كتبتها.. كنت أشتغل في مجلة تسمى حوليات بوينس أيرس Los anals de Buenas Aires هناك نشر Julio Cortazar حكاية لأول مرة في حياته، إنها حكاية وضعت رسومها أختي وكان عنوانها، "بيت مبحوح"،. عندما دخلنا المجلة كانت أمامنا ثلاث صفحات بيضاء. حينها حضرتني فكرة الاشتغال على أسطورة هي "بيت استريون "، فذهبت لمقابلة المسؤولة عن وضع الرسوم المصاحبة للنصوص، إنها الكونديسا (Maria Elisabeth Wrede) Wrede النمساوية الأصل، شرحت لها نسبيا موضوع هذه الشخصية الكريتية (نسبة الى جزيرة كريت)، شخصية لا تعرف جيدا من ذلك المحارب الذي يتقدم نحوها. فأنجزت السيدة wrede رسما جميلا. لم أخرج تلك الليلة من البيت، فقد انهمكت في كتابة الحكاية قبل وجبة العشاء وبعدها وطيلة الصباح الموالي، وفي المساء حملت الحكاية الى المجلة بعد أن استخرجت البيانات من قاموس، إنها حكاية جميلة، ويبدو أن فيها رائحة من تأثر الرسام الانجليزي Warch ( فونيتيكيا، يحتمل أن يكون Wols الرسام ذا الأصل الألماني). وفي هذا الاطار، لن يكون الـ , Minotauro (الثور الخرافي) ثورا إغريقيا، بل إنه ثور انجليزي بقرنين قصيرين ينظر الى حديقة، وقد تكو ن الفكرة جاءت من هناك إنها حكاية عرضية من ابداعي.لقد كتبت حكاية "حديقة الـMinotauro " في يومين، وهو شيء لا يحصل معي، نظرا لأني اشتغل ببطء كبير، فأنا أصحح كثيرا من المسودات، لكن مع هذه الحكاية لم يكن الأمر كذلك، فقد كان علي أن أرتجلها، وقد توفقت نسبيا في عزف هذه النغمة لنقل في انجازها هذه التهريج.
بوخيس ….شاعر كل المدن
خوان كاسبريني
ترجمة : مزوار الادريسي(مترجم من المغرب)