سمير اليوسف
باحث وناقد فلسطيني
المقالة الأولى في مجلد “الكتابات غير القصصية المختارة”، في الترجمة الإنكليزية، لأعمال الكاتب الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس، هي محاولة فلسفية ترمي إلى تقويض مفهوم “الذات”، أو “الشخصية” و”الهوية الشخصية”. وكان المؤلف ما زال في مطلع العشرينيات من العمر. وهذه ليست المقالة الفلسفية الوحيدة التي أولى فيها بورخيس اهتمامًا خاصًا بالمفهوم المذكور. فهو سيعود إلى هذا الأمر لاحقًا وحتى نهاية حياته.
الزمن أيضًا كان موضوعًا ذا حظوة استثنائية عند بورخيس. ولعل مقالة “دحض جديد للزمن” هي أهم ما كتب فلسفيًا، وجعلته يكشف عن عمق اهتماماته في الفلسفة واستعداده لأن يكون فيلسوفًا. وفي حوار معه، سُئِل ما إذا فكّر، في ضوء اهتماماته الفلسفية الميتافيزيقية النزعة، أن يقصر اهتمامه على الاشتغال بالفلسفة، بأن يكون فيلسوفًا. أجاب بورخيس بالإيجاب، بيد أنه استدرك قائلًا بسخرية أن لقب “فيلسوف أرجنتيني” تبدو كضرب من المبالغة أو البدعة التهكميّة.
ينظر القُراء، حتى القراء الذين تربطهم به علاقة ولاء استثنائية، إلى بورخيس باعتباره أديبًا كبيرًا، موسوعي المصادر متعدد الاهتمامات، رائدًا مؤسسًا صاحبَ إنجازاتٍ مُدهشة كان لها أثرها على بعض أهم كُتّاب العالم. ولكن بورخيس كان بالدرجة الأساس فيلسوفًا وموضوع فلسفته، وحياته أيضًا، هو الكتاب. وهو إن لم يتقدم بنظام فلسفي، أو حتى نظرية كاملة في هذه الفلسفة، فهذا لأن الكتاب يُمثل لغزًا كونيًا وكل محاولة للكتابة عنه هي أشبه بمغامرة لا تقل إثارة للخيال عن مغامرة حلّ لغز بوليسي أو العثور على جزيرة كنز. بورخيس كان قارئًا شديد الإعجاب بقصص إدغار ألن بو البوليسية وقصص روبرت لويس ستفنسون (صاحب “جزيرة الكنز”) والقصص البوليسية لتشسترتون، وكتب عنها بالتقدير نفسه الذي أولاه لأعمال هوميروس ودانتي وشكسبير. وفلسفة الكتاب هي مغامرة في البحث عن الكتاب، الكتاب عامة والكتاب المفقود بشكل خاص.
اكتشاف الكتاب
أصحابُ الخيالِ الجامح من شعراء وأدباء وفنانين ابتكروا مخلوقات لا وجود لها واكتشفوا قصورًا وقلاعًا ومدنا متوافرة فقط في جغرافيا أحلام اليقظة. بورخيس اكتفى، من جانبه، باختلاق كتبٍ لم تُكتب يومًا، موسوعات معرفية ومخطوطات وقصائد. بل والأنكى من ذلك، في سياق الإمعان في الخيال، بعض هذه الكتب، بحسب الخبراء، الذين هم أنفسهم شخصيات خيالية، زائفة أو ناقصة أو حتى مفقودة.
في مستهل رائعته القصصية “طلون، أُكبار، أوربِس أريتوس” يخبرنا الراوي عن منطقة في العراق أو آسيا الصغرى تُدعى أُكبار، لا وجود لها في كتب التاريخ أو خرائط الجغرافيا، ولكنها بحسب صديق الراوي مذكورة في “الموسوعة الأنغلو أمريكية”. الراوي وصديقه يبحثان عنها في النسخة المتوافرة في مكتبة الراوي ولكنهما لا يعثران على أدنى أثر لها هنا أيضًا.
في اليوم التالي يتصل الصديق بالراوي ليخبره بأنه قد عثر على نسخة من “الموسوعة الأنغلو أمريكية” وفي نهاية أحد مجلداتها مقالة من أربع صفحات عن أُكبار نفسها. لاحقًا يُقارن الصديقان مجلد الموسوعة التي عثر عليها صديق الراوي بمجلد الموسوعة المتوافرة في مكتبة الرواي فيتراءى لهما وكأن المقالة المذكورة كانت قد دُست دسًا في المجلد.
أُكبار نفسها ليست هي الكيان المُتخيل الوحيد في القصة ولكن الموسوعة نفسها من نسج الخيال. لا موسوعة هناك بهذا الاسم. إلى ذلك فإن صديق الراوي هو الكاتب الأرجنتيني أدولفو بيوي كاساريس وهو صديق بورخيس فعلًا. بما يعني أن الراوي هو بورخيس نفسه وليس شخصيّة متخيّلة. ولكن بورخيس وظّف نفسه وصديقه كشخصيتين في قصة من نسج الخيال.
هذا التصوير للخيالي وكأنه واقعي، ومن ثم المزج ما بين الواقعي والخيالي، يستوي وفق فلسفة يعتنقها الأديب الفيلسوف بأن لا فرق في القيمة، من حيث الحقيقة، ما بين ما هو موجود وما هو محتمل الوجود. والأبعد من ذلك أن لا نهاية هناك لكل ما يمكن أن يحدث من خلال اجتماع جملةٍ من العناصر والعوامل أيضًا.
ما ابتكره بورخيس كان أشدّ إثارة للدهشة من كافة مخلوقات المؤلفين ممن جاؤوا قبله أو بعده، مُشددًا بذلك على أن الكتاب أكبر من العالم لأن الكتاب يحتوي على ما يوجد من كيانات و ما لا يوجد في الوقت نفسه.
الكون مكتبة خالدة
“شأن رجال المكتبة، سافرت في شبابي، ارتحلت بحثًا عن كتاب، لربما فهرس الفهارس.” يقول الراوي في قصة “مكتبة بابل”.
رجال المكتبة الذين ينتمي الكاتب إليهم هم رجال الكون. والارتحال في الكون ارتحال في مكتبة تتألف من عدد لا يُحصى من الأروقة السداسية الشكل، على جدار كل رواق عدد معلوم من الأرفف وعلى كل رف عدد معلوم من الكتب، وكل كتاب يحتوي على عدد معلوم من الصفحات .. وهكذا.
هناك العديد من نصوص بورخيس التي تتكلم عن الكتاب والكتب ولغز الكتب. البعض منها يُعرّفنا بفلسفة بورخيس عن معنى الكتاب وعلاقة الإنسان بالكتاب وأبرز هذه النصوص “مكتبة بابل” الذي يُقدّم تصويرًا طوبوغرافيًا للمكتبة والعالم.
المكتبة- الكون موجودة منذ الأزل بما يُملي بأنها ستستمر في الوجود إلى الأبد، وهذا لا بد وأنه من صنع الله. أما الكتب نفسها فالبعض منها ينطوي على ألغاز محيّرة. العناوين نفسها لا تفيد بمحتوى الكتب. وهناك من الكتب التي تتألف من تكرار متواصل رتيب لثلاثة حروف على مدى مئات من الصفحات. وأخرى على ما يشبه المتاهة من الحروف أو ضرب من الفوضى والطلاسم. هناك من المُطّلعين على هذه الكتب من يحسب بأنها مكتوبة بلغة بدائية مُغرقة في القدم. وهناك منهم من يحسب بأنها تتألف من شيفرة يتوقف تفسيرها على رقم السطر والصفحة التي ترد فيها. ويرى فريق ثالث بأنها لا تنطوي على أي معنى، الحروف تشكّل تصاوير متشابهة فحسب.
كل هذه الألغاز ستفضي في النهاية إلى خلاصة مفادها بأن كل ما موجود بالفعل، وممكن الوجود أيضًا، موجود في المكتبة ومن ثم فالمكتبة هي الكون. والاكتشاف المذهل هنا هو الأمل الأعظم والأسمى بأن المكتبة تحتوي على حلٍّ لكل مشكلة خاصة كانت أم عامة. المكتبة أشبه بصيدلية لا حدود لما تحتوي عليه من دواء لكل داء أصاب الناس ويمكن أن يُصيبها في أي زمان ومكان.
أبعد من ذلك فإذا كان الإنسان زائلًا فإن المكتبة خالدة.
أصل الكتاب
من منطلق علماني محض، يُبشّر موقف بورخيس هذا بانتصار النصّ المكتوب (الكتاب) على الحكاية المروية المتناقلة من جيلٍ إلى آخر والثقافة الشفوية عمومًا. أو على ما يصف الفيلسوف الألماني والتر بنيامين، في مقالته الرائعة “الحكواتي” بالانتقال من عصر القصة الشفوية إلى عصر الرواية، من عصر الحكواتي إلى عصر الروائي.
لكن بورخيس لم يكن مؤرخًا ثقافيًّا علمانيًّا. المكتبة أزليّة الوجود وأبدية الاستمرار ولا انتقال حاصل من الشفويّ إلى المكتوب كالذي يقترحه والتر بنيامين. فكل الكتب مكتوبة منذ الأزل. وحينما يتفحّص بورخيس ثنائية الشفوي والمكتوب، أو الكلام (القول) والكتابة، في نص بعنوان “ديانة الكتاب”، سيعود ليشدد على أولوية الكتاب، على أزليته وأبديته، على خلوده.
يشير في هذا النص إلى حقبتين في اللغة، الأولى هي حقبة الكلمة المنطوقة والثانية حقبة الكلمة المكتوبة. عباقرة الإغريق آمنوا بسموّ الكلام على الكتابة ومنهم من لم يكتب أبداً شأن فيثاغورس وسقراط، أما من كتب -شأن هوميروس وأفلاطون- فلقد توسّل أسلوبًا يجعل الكلمة المكتوبة ناقصة ما لم تُنطق. سقراط توسّل الحوار أسلوبًا لكي يصل بمحاوريه إلى الحقيقة وأفلاطون كان مُعلّمًا والتعليم، الذي يتطلب الكلام أصلًا، من أرقى المهن. الكتاب من دون معلم لا فائدة منه. بل وقد يكون مصدر خطر على الناشئة. وأكبر المعلمين قاطبة، يسوع المسيح، كان خطيبًا، مُعلمًا شفويًا. الصوت أشدُّ مدعاة للثقة من القلم الذي يُنتج كلماتٍ صامتة.
حتى نهاية القرن الرابع كانت الكلمة المنطوقة سيدة الموقف ثم ظهرت شخصية الصامت الوحيد، يقرأ كتابًا من دون أن يُصدر صوتًا لكي لا يصرفه الصوت عن التفكير: القارئ المُفكِّر! ثم ظهر الكتاب الذي سيُعلي من شأن النص المكتوب علوًّا إلهيًا يتجاوز كل زمان ومكان: القرآن. المعجزة الإلهية للنبي محمد.
وتساوق مع ظهور القرآن ظهور منهج القراءة الصوفية اليهودية (القبالة) ولاحقًا المسيحية والإسلامية، للنص المقدس الذي شدد أيضًا على أولوية الكلمة المكتوبة. كان من المتفق عليه أن الأمر الإلهي الأول (وقال الله “ليكن نورًا” فكان نورًا) هو عبارة منطوقة. إلا أن المتصوفة رأوا بأن قوة الكلمات وأثرها الفعلي ليست نتيجة الصوت المزعوم وإنما اجتماع الحروف التي تتألف منها كل كلمة. وتبعًا لهذا المنهج فإن الله خلق العالم من أرقام وحروف. ومن حروف الأبجدية الاثنين والعشرين صنع الله كل ما كان وما سيكون.
الكتاب، النصّ المكتوب، هو الأصل. وقصة “بيير مِنار مؤلف دون كيخوتي” إنما تستوي على أساس هذا التسليم. بيير منار لم يشأ نسخ أو محاكاة رواية ثربانتس الشهيرة “دون كيخوتي” بأي إسلوب، وإنما يؤلف رواية جديدة، ورغم أنها جديدة، إلا أنها تحتوي على كل ما يرد فيها سطرًا سطرًا وكلمة كلمة. كيف تكون جديدة أو مختلفة وهي عبارة عن صورة طبق الأصل لرواية الكاتب الإسباني الشهيرة؟
قبل الإجابة على هذا السؤال لا بد من الإجابة على سؤال آخر: هل هناك أصل وصورة؟ وهل رواية ثربانتس هي الأصل حقًا؟
نعم هناك أصل وصورة ولكن رواية ثربانتس، وإن كان ظهورها سابقًا على محاولة بيير مِنار فإنها ليست الأصل. الفكرة نفسها قد تظهر في مكانين مختلفين في الوقت نفسه. لطالما زعم البعض بأن نيتشه تأثر بأعمال دستويفسكي، إن فكرة “الإنسان الأعلى” إنما تعود إلى شخصية راسكولينكوف في رواية “الجريمة والعقاب” وأن فكرة “موت الله” هي فكرة أندريه كارامازوف في رواية “الإخوة كارامازوف” ولكن الحقائق التاريخية تشي بأن نيتشه توصّل إلى هذه الأفكار في الوقت نفسه التي ظهرت في أعمال دستويفسكي.
والفكرة التي قد تظهر في مكانين مختلفين في الوقت نفسه قد تظهر أيضًا في زمانين مختلفين من دون أن تكون اللاحقة أقل أصالة من الأولى السابقة. أو قد تظهر في زمانين ومكانين مختلفين. بعض المؤرخين العلمانيين يردون النصوص المقدسة إلى أساطير حضارات سابقة وبطريقة تشي بأن النصوص المقدّسة لم تنزل من السماء على الأنبياء، كما يزعم أتباع الأنبياء، وإنما هي إعادة إنتاج لأفكار ونصوص سابقة. ولكن لماذا لا نقول بأن الأصل واحد لكافة النصوص، مقدسة وغير مقدسة، سابقة أو لاحقة؟ إنها صوّر للأصل الثابت أو الخالد، للمثال، بحسب أفلاطون؟ لماذا لا يكون مؤلفها الأزلي واحد وأن كل من كتبها في الدنيا إنما فعل ذلك بإلهام من هذا المؤلف الأول الأزلي، الله نفسه؟
في نصٍ بعنوان “كافكا وأسلافه” يذكر بورخيس أربع مفارقاتٍ وألغاز سابقة تتمثل في أعمال كافكا: مفارقة السهم والسلحفاة عند الفيلسوف الإغريقي زينو وحيث الانقسام الأبدي للمسافة المحدودة يجعل من المستحيل القول بأن السهم سيصل إلى الهدف قبل وصول السلحفاة. وهناك أيضًا نبرة الحيرة في نص للكاتب الصيني يان هو، من القرن التاسع، وفيه يتحدث عن استحالة التعرف عما نعرف. الثالثة توظيف الفيلسوف الدنماركي سورين كيركجارد للأمثولة الدينية في سياق ثيمات معاصرة ومألوفة. أما الأخيرة فنجدها في قصيدة للشاعر الإنكليزي براوننغ حيث نتعرف إلى رجل تصله رسائل من صديق مجهول الهوية ولكنه صاحب مزايا نبيلة. بعد محاولات فاشلة عدة للتعرف على هوية هذا الصديق، يسأل الرجل نفسه “ماذا لو أن هذا الصديق هو الله نفسه؟” الله كمؤلفِ، ومُرسلِ، رسائل، ليست جديدة طبعًا، ولكن المغزى هنا أن الله قد يُرسل الرسالة نفسها لأكثر من نبي وإن بلغات وأساليب مختلفة وفي أزمنة وأماكن متباينة.
لئن كان التاريخ الذي يفترضه بنيامين، في المقالة المذكورة آنفًا، ينمّ عن فقدان وندم، فقدان تلك العملية -السرد الشفوي الذي ينتقل من جيل لآخر ويجمع الناس من خلال ما يقدم لهم من ترفيه وحكمة وعزاء في الوقت نفسه- وندم على ضياع هذا الماضي، فإن مثل هذا الندم لا وجود له في الكون- المكتبة الذي يتكلم عليه بورخيس. الندم الوحيد هو ذاك الذي يحسه المرء بعد تبديد أعوام عديدة من حياته في البحث عن الكتاب (كتاب كل الكتب، الكتاب المفقود) الذي يريده من دون أن يحظى به.
أعداء الكتاب
لهذا الكون- المكتبة تاريخ أيضًا ولكنه ليس دائمًا تاريخًا سعيدًا. فالبحث المسعور أحيانًا عن المعرفة (عن الكتاب الذي يزود الباحث بالمعرفة التي يطلبها) شجّع على محاولة تقليص عدد الكتب وحصر وجودها بالمفيد منها بما أدى إلى ضياع ملايين الكتب. إن الكتب تحتوي على كل ما جرى وما يمكن أن يجري، أي ما سيجري في المستقبل، حقيقة أفضت إلى الفوضى والشغب والعنف واليأس أيضًا. أين سيعثر الباحث عما سيجري؟ عن أصل الكون؟ عن أية معرفة أخرى يمكن العثور في هذا الكون اللانهائي، هذا السجل المطلق الحدود؟
في تاريخ الكون- المكتبة أعداءٌ أيضًا. هناك (الطهوريون) الذين يرون بأن المتاهة المعرفية التي تكابدها البشرية مردّها إلى ذلك العدد اللانهائي من الكتب والمعارف التي تنطوي عليها. لا بد وأن العديد منها باطلة المعنى مُفسدة ومن الأجدى التخلص منها. الأمر يؤدي إلى إتلاف ملايين المجلدات. بيد أن الخسارة طفيفة نظرًا إلى أن الفارق في الكتب في المكتبة، التي لا حدود لها، طفيف للغاية.
وهناك الكفّار (العقلانيون) الذين يزعمون أن كل مجلدات المكتبة لا تحتوي على أي معنى مفيد. إنها محض طلاسم تحضّ على الإيمان بالغيبيات والشعوذة. ولكن لعل أسطع نموذج لعداء الكتب يرد في نصّ آخر، أمثولة “السور والكتب” وتروي قصة الإمبراطور الصيني شي هوانغ تي الذي أمر ببناء سور الصين العظيم وفي الوقت نفسه أمر بإحراق كافة الكتب التي صدرت في العهود السابقة على عهده. ثنائية البناء والتدمير، خاصة إذا كان التدمير سابقًا على البناء، تبدو معادلة طبيعية محمودة من حيث أنها تسعى الى التجديد تبعًا لمعادلة الموت والولادة. ولكن الفعليْن المذكورين في قصة الإمبراطور الصيني غايتهما واحدة، النفي. نفي الزمان والمكان، استخدام النار لنفي الماضي السابق على عهد الامبراطور واستخدام السور لنفي العالم مما يقع أبعد من حدود الإمبراطورية.
لقد شاء الإمبراطور أن يكرس الظن بأنه موجود منذ الأزل. لا كتب تعود إلى العهود السابقة يعني لا دلائل تدل على عهود سابقة على عهده. أما السور، فهو ليس لحماية الإمبراطورية من هجمات الأعداء وإنما لكي يكرّس الظن بأن حدود الإمبراطورية المحاطة بالسور العظيم هي حدود العالم برمته. أن لا عالم هناك أبعد من الإمبراطورية نفسها.
بخلاف الإمبراطورية الرومانية التي سعت إلى احتواء الزمان والمكان، الماضي السابق على ظهورها وسيطرتها وكافة البلدان التي استطاعت جيوشها غزوها واحتلالها، فإن الإمبراطورية الصينية، على الأقل في عهد الإمبراطور شي هوانغ تي، لم تتوسل سياسة التوسع الإمبريالي وإنما اكتفت باختزال الكون في حاضر الإمبراطورية وأرضها المسوّرة بسور عظيم. وإذا كان العداء للآخر برر للأباطرة الرومان غزو البلدان الأخرى وإخضاعها لسلطانهم فإن الإمبراطور شي هوانغ تي اتخذ من هذا العداء مبررًا لإغلاق الأبواب والانكماش على الذات.
ثمة في هذا السرد ما يغوي إلى استنتاج خلاصات أبعد تتعلق بالفارق ما بين الغرب والشرق تاريخًا وثقافة. ولكن تكفي الإشارة في هذا السياق إلى أن بورخيس الفيلسوف الكوني الفكر والخيال، الذي يرى العالم بمثابة مكتبة لا نهاية لها، لم ينظر إلى الإمبراطورية الرومانية والصينية إلا كتجسيد لأروقة من أروقة المكتبة التي ينهل منها معرفته المفتوحة على مشارق الأرض ومغاربها.
الكتاب المفقود
قبل انتشار علم العلامة (أو ما يُعرف بالسيميائية) وما أفضى إليه من نسف للقول بثنائية الفن الرفيع والفن الشعبي والترفيهي التجاري، تناول بورخيس القصص الشعبي والأفلام الترفيهية ورقص التانغو والمبارزة بالسكاكين بالمقدار من الجدية نفسه الذي تناول فيه النصوص الكلاسيكية الأدبية والفلسفية.
بورخيس لم ينظر إلى العمل الفني من منطلق الاعتبارات والمعايير الأكاديمية الراسخة أو حكم القيمة الرائج، وإنما اعتبره بمثابة نصٍ من العلامات ذات دلالات تفيد في معرفة الثقافة التي ينبثق عنها أو يُنتَج في سياقها. بهذا المعنى فإن القصص البوليسية للكاتب الإنكليزي تشسترتون، مثلًا، لا تقل أهمية في الدلالة عن نصوص شكسبير الخالدة القيمة. ما هو مصدر هذه الرؤية عند بورخيس؟
بحسب الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو، بورخيس جعل المكتبة ميدان الاكتشافات والبحث عن الجديد، الغريب والمدهش، وليس الليل أو الغابة أو الجزر البعيدة.
وخلف تصوّره فإن الباحث المغامر لا يجوب الصحارى والبحار وإنما المكتبة. وما يطلب اكتشافه موجود بين دفتي كتاب، في النص الذي يتضمنه الكتاب. قراءة النص هي غالبًا ما تكون عملية فكٍ لشيفرة سرية والمعرفة المطلوبة لا يمكن بلوغها إلا من خلال قراءة النص كنسيج من العلامات الدالة على ما هو أعمق من معنى النص الواضح.
وهذا منهج في القراءة تقف خلفه الفلسفة المثالية لأفلاطون وبيركلي وشوبنهور وأبعد من ذلك، التصوف الديني أيضًا. لا غرابة أنه اعتبر العالم اللامحدود بمثابة مكتبة والمكتبة هي عالم المُثل والأفكار التي تحكم معرفتنا بحقيقة الوجود. هذا التفكير المثالي الذاتي يرسو على أساس تصوّر صوفي ديني للعالم يجعله يرى العالم بمثابة نصّ كتبه الله. وكما أوجزنا آنفًا، فتبعًا للمقترب الصوفي في قراءة النص المقدّس، فإن الله خلق كل ما هو موجود وما سيوجد من حروف اللغة، وكل حرفٍ له سلطة على موجود ما، الماء والتراب والنار والهواء والحكمة والسلام والعدل والغضب والنوم ..إلخ. ومثل هذه القراءة كان لها صداها على مدى القرون اللاحقة وقد تأثر بها -ويا للمفارقة- فرنسيس بيكون، أول من قال بالمنهج العلمي في البحث، وغيره ممن جاء من بعده في القرون اللاحقة.
وكتب الله، الكتب المقدسة، نفسها هي “مكتبة” المعرفة المطلقة. وأنت إن كنت تطمح للمعرفة المطلقة للوجود، فلا بد أن تعود إلى الكتب، بل إلى الكتاب الواحد، النص الأصلي، النص المقدّس.
في “مكتبة بابل” يحدثنا الراوي عن شيوع الاعتقاد بضرورة توافر “الكتاب-الإنسان”. ما المقصود بـ”الكتاب-الإنسان”؟
الكتاب هو بمثابة الشيفرة الكاملة والمختصر الشامل لكافة الكتب. أما الإنسان فهو أحد المكتبيّين الذي لا بد وحالفه الحظ بتفحص هذا الكتاب. حتى هنا يمكن الخلوص إلى أن الراوي يُحيلنا على الأنبياء الذين نزلت عليهم النصوص المقدسة. بيد أن الراوي يستمر في السرد لندرك بأن هذا المكتبي هو بمثابة إنسان مماثل لله نفسه. وفي الرواق المعني ما انفكت علامات تشير إلى عبادة هذا الرجل. هنا يصير الكلام حصرًا على الإنسان يسوع المسيح الذي يؤمن أتباعه بأنه ابن الله والله هو نفسه.
يواصل الراوي السرد فيخبرنا بأن العديد من الناس مضوا بحثًا عنه. إنهم لمئات السنين ساروا في كل درب ممكن للوصول إليه ولكن من دون جدوى. ما السبيل إلى معرفة الرواق المعبود الذي آوى المكتبيّ الإله؟ هنا ينقلب السرد إلى الكلام على “الكتاب- الإنسان” الذي هو بمثابة كيانٍ واحد. يسوع المسيح ابن الله بحسب العهد الجديد، وهو أيضا كلمة الله بحسب القرآن الكريم. ثم يمضي الراوي لكي يخبرنا بأنه هو نفسه صرف أعوامًا عديدة في البحث عن “الكتاب-الإنسان” وإنه لمن غير المستبعد أبدًا وجود كتاب شامل كهذا على رفّ كتبٍ ما في الكون.
كل الكتب، المكتبة برمتها، كتاب واحد، كتاب الله المفقود.
بورخيس لا يشكك بصحة أو مصداقية الكتب السماوية والمقدسة المتوافرة. بالعكس تمامًا! فهو يعتبرها أمهات كل الكتب ولكن الكتب السماوية نفسها ليست سوى فروعٍ واشتقاقات من كتاب الله الأكبر.
الجدُّ في المعرفة، السير في طريق المعرفة، بحسب القناعة الصوفية لدى بورخيس، هي الدافع التقريبي لافتراض وجود موسوعات معرفية لا وجود لها أصلًا، أو لم يُكشف النقاب عنها بعد. وهي حتى إن تمّ العثور عليها فمن المرجح أن نكتشف بأن أحد مجلداتها ناقصٌ أو زائف بما يفضي إلى مزيد من البحث، فطريق البحث عن “الكتاب المفقود” نصّ الله الكامل لا نهاية لها.