فريدريك توتن
ترجمة: أحمد شافعي-مترجم مصري
عثرت فورا على تاكسي أمام فندقي، فظننت ذلك حظًّا سعيدا يكتنف المغامرة التي كانت بانتظاري. ابتسم السائق. وابتسمتُ. شرحت له الوجهة بالإسبانية، ثم بالفرنسية، وأخيرا أعطيته العنوان في قصاصة ورق. ابتسم. انطلقنا ببطء عبر شوارع تعلو وتنخفض ثم إلى وادٍ مليء بالناس من باعة السجاجيد والأواني المطبخية وتعلونا فيه مئذنة. مررنا برجل يسير ومعه حَمَلٌ حيٌّ يعتلي كتفيه. كان ذلك يومي الثاني في المغرب فلم أكن معتادا بعد على تلك المناظر الإنجيلية.
بعد عشر دقائق، رأيت المشهد نفسه بسجاجيده وصفوف أوانيه وطاساته، ومسجده، فأومأت أن ما هذا؟ فهزَّ السائق كتفيه ومنَّ عليَّ ببسمة أخرى من بسماته العريضة. لم تطمئني ابتسامته، وخطرت لي قصص الاختطاف وما هو أسوأ من الاختطاف ممَّا قيل إنه يجري في المغرب، وهي قصص أعجبتني لكاتب أعجبني منذ أن كنت في السادسة عشرة وكنت في طريقي إلى مقابلته. وإذ ذاك، أخيرا، وصلت سالما غانما، وقد تأخرت عشر دقائق، وتخفَّفت من ثلاثين دولارا شاملة الإكرامية.
كان بول بولز قد وصل بالفعل، وجلس ينتظرني على أريكة في مدخل المدرسة الأمريكية. بدا شديد النحول، واهيا، في سترة قشدية اللون، وبنطال رمادي، وربطة عنق رفيعة هادئة، يدخن سيجارة في مبسم.
قال: “لعل طريقك كان جيدا”.
“جيد. وجدت تاكسي منتظرا على باب فندقي. فندق فيلا دو فرانس”. أضفت اسم الفندق بشيء من الفخر، لأن ماتيس وجرترود شتاين نزلا فيه ذات يوم. “استغرقت أربعين دقيقة لا أكثر”.
قال: “ياه. كان يمكنك أن تأتي مشيا في أقل من عشر دقائق. لكن أتصور أنك من أجل ذلك كان ينبغي أن تكون على علم بالطريق. ذلك فندق جيد، أو على الأقل، هكذا كان قبل أربعين سنة. ألا يزال متداعيا؟”
قلت: “فوضوي، لكن جميل”. كنت قد أحببت الإفطار هناك في صباحي الأول، إبريق قهوة ومِلء كأس من عصير البرتقال الطازج وخبز محمص ملفوف في منديل من الكتان على مائدة وسط حيضان زهور تحت شجرة ياسمين. رفاهية لم أحظ بمثلها من قبل وبتُّ أحلم بأن أنعم بها لما بقي من حياتي.
“احرص على أن تختزن بعض الماء لأنه ينقطع عن المدينة كلها كلَّ بضعة أيام أو نحو ذلك، والكهرباء أيضا”.
شكرته. لكنني كنت قد تلقيت ذلك التحذير وملأت حوض الاستحمام في الصباح بمياه عكرة.
قلت: “بيننا صديقة مشتركة”.
ابتسم. “فعلا؟”.
“سوزان سونتاج. حكت لي أنها زارتك مرة هنا في طنجة. وطلبت مني أن أبلغك أحرَّ تحياتها”.
“بعثت لي مجموعتها القصصية قبل فترة”.
قلت: “أعتقد أنها مجموعة ’أنا وما إلى ذلك’. صدرت قبل سنوات قليلة”.
“نعم، هي هذه.” وسألني وهو يميل برأسه ميلا خفيفا “قرأتها؟”
“يعني، ليس جميع القصص”.
ابتسم وقال بصوت كأنه صرير باب: “لا تفهم لماذا كبَّدت نفسها عناء كتابتها”.
صدمتني كلماته القاطعة في حق صديقة مشتركة وصغر قليلا في عيني، وتحفزت. لكنني تألمت أيضا، فقد كان بولز من أوائل أبطالي.
كنت معجبا به منذ سنوات مراهقتي، قبل ثلاثين سنة، حينما قرأت للمرة الأولى، في شقة معتمة ببرونكس، “السماء الواقية” وحلمت باليوم الذي أسافر فيه إلى أماكن غريبة وأخوض مغامرات تغص بالخطر والمعنى. تحت شباكي في برونكس، كان طريق، ومن بعده، خط مترو علوي. وغير بعيد حديقة حيوانات برونكس وحدائق النباتات يشقها جدول عكر يسمونه نهرا. وفيما عدا رحلات إلى منهاتن، لم أكن سافرت إلى أي مكان خارج برونكس، وإن يكن ابن عم لي أخذني في رحلة يوم واحد إلى شمال الولاية. كنت في الخامسة عشرة، ورأيت بقرة للمرة الأولى في حياتي.
عوضت إقليميتي لاحقا فسافرت منذ ذلك الحين إلى أمريكا الجنوبية وأوروبا وفي تلك الفترة كنت أعيش في باريس محاولا أن أكتب روايتي التالية، وقد مرت عشر سنوات مذ أصدرت كتابي الأول “مغامرات ماو في لونج مارش”. صادفت بعض النجاح النقدي، وبفضلها حصلت على منحة جوجنهيم لتأليف كتابي الثاني، وكان رواية عن شخصية (تن تن) الكرتونية البلجيكية. كنت قد سمعت من سونتاج أن أصدقاء يفترض فيهم حسن النية لا يعتقدون أنني سوف أنتهي أبدا من رواية أخرى وقالوا إنني ذهبت أعيش في باريس لأداري فشلي.
قالت سوزان: “أنا شخصيا لا أعتقد ذلك. لكن رأيت أنك ينبغي أن تعرف”.
حاولت أن أعرض عن الأمر، لكنه لم يبارحني. كنت قد كتبت كتابات أخرى في السنين التالية للرواية الأولى، بدايات وتوقفات، منها شيء عن النصاب الرائع في القرن الثامن عشر الكونت كاجليوسترو، الذي كان له دور غير مقصود في الثورة الفرنسية، وكتب عنه ألكسندر دوما سلسلة من خمسة أجزاء. لا بد أني كتبت مئة صفحة قبل أن أهجرها وأبدأ نوفيلا عن الشبابيك.
استغرقت وقتا طويلا -ولكن هذه قصة أخرى- قبل أن أفهم أن بداياتي وانقطاعاتي في الكتابة لا علاقة لها بأي أسس جمالية ولكنها نتيجة لاستمرائي الشراب الذي كان الهدف منه في البداية هو تليين تروس آلة الكتابة، ثم بعد فترة صارت التروس تعمل بكامل طاقتها ولكن ليس للكتابة وإنما للشراب وحده.
في تلك الأثناء كنت أكتب، ببطء، روايتي عن (تن تن). وظل ينتابني إحساس كريه بأن أي شيء أكتبه عدا ذلك لم يكن قط روايتي الثانية، وفي جيلي، لم يكن لشيء قيمة عدا الرواية، وكلما كانت الرواية أضخم، كانت أفضل، وأهم، وأشد أمريكية. لم أطلع أحدا قط على شعوري ذلك. كنت أريد للكتابة أن تكون مشذبة محكمة محرِّضة. وفي حوار باريس رفيو، قال جورج سيمينون إنه تأثر بسيزان الذي كان بضربات ثلاث، حسبما قال، يخلق جوهر تفاحة، بل جوهر التفاح.
حينما تلقيت في وقت ما من ربيع 1981 رسالة من مدرسة الفنون البصرية في نيويورك يسألون فيها إن كنت أحب أن أشارك بول بولز في تدريس برنامج صيفي للكتابة في طنجة، علمت فورا أنني أريد أن أذهب. فقد كان يكتب الرواية المحكمة المحرضة التي تروق لي أكثر مما عداها. وحياته كانت مفارقة للمعتاد في الحياة “الأدبية” التنافسية. وألم يكن أيضا الشخص الذي ترك بلده؟
كانت سمعتي طيبة في مدرسة الفنون البصرية، إذ كان لي فيها عمل إضافي، هو تدريس فصل أدبي لأكثر من خمسة عشر عاما بعنوان “الحضارة ومنغصاتها”. ورأت المدرسة أنني قد أشكل مع بولز فريقا جيدا، بعد أن قام وحده بالتدريس في الصيف السابق بنجاح غير كبير.
كان الكتَّاب يأتون من بعيد ليدرسوا معه في طنجة، وأغلبهم أمريكيون من الولايات المتحدة وقليل من المغتربين المقيمين في أوروبا. بعضهم جاء وقد أغوتهم كتابته، ومنهم من لم يقرأ له قط، لكن كثيرين جاءوا وراء شهرته بوصفه شخصية أصلية من جيل البيت Beat ورواده، وصديقا لآلن جينسبرج ووليم بوروز وغيرهما من المارقين الرومانتيكيين الذين زاروه في طنجة قبل عقود. مهما تكن أسباب رغبتهم في العمل مع بولز، كان رجاء كثير منهم يخيب أمام عادية بولز وتحفظه الشخصي، وأهم من ذلك كله، برودته الرسمية تجاه كتابتهم. ورأت مدرسة الفنون البصرية أنني قد أبث روحا في الجو وأقلل من برودة الفصل.
كنت متوترا قبل لقاء بولز لأنني معجب قديم به. ومتوترا أيضا لأن الموقف كله كان غريبا. فلم أكن أعرف كيف اقترحت مدرسة الفنون البصرية على بولز فكرة مجيئي، وبأي لباقة أو كيفية كان رد فعله، فأقلقني أنه قد ينفر من الوضع الجديد، ومني بالتبعية، فما كان مني إلا أنني في أول لقاء بيننا تطرقت مباشرة إلى الموضوع.
قلت: “أرجو ألا تضيق بمشاركتي لك في الفصل يا سيد بولز”.
قال “مطلقا. فأنا لا أعرف ما ينبغي عمله. لم أقم بتدريس الكتابة من قبل، ولا أظن أصلا أنها قابلة للتدريس. ورجاء نادني ببول”.
قلت: “ولا أنا”. وكان هذا صحيحا، لكنني أردت أيضا أن تكون بيننا أرضية مشتركة، وأن أرضيه.
كنت قد جئت معي بنسخة من “السماء الواقية” لكي يوقعها لي ولكني أحسست أن الوقت لم يحن بعد لطلب ذلك. أقبلت سيارة قديمة من طراز موستانج، لوَّح لها بولز. جاءت لتقله إلى البيت، فهمت أن لقاءنا انتهى. كنت مبتهجا فأفلت مني قولي “أنا معجب بك يا سيد بولز”.
سألني وقد بدا مبهوتا: “معجب بي؟ لماذا؟”
أردت أن أقول له إنني أحمل معي نسخة من “السماء الواقية” أينما ذهبت. أردته أن يعرف كم أنا معجب بحياته التي اخترعها وفق شروطه.
قلت وقد شعرت بحماقتي: “لأنني معجب بك”.
في غضون أيام قليلة، استقررنا على روتين مقبول. كنا نلتقي في العاشرة صباحا، في غرفة جيدة التهوية بالمدرسة الأمريكية، ونجلس جنبا إلى جنب على منصة مرتفعة. وبروح الورشة كان الطلبة يعلقون على العمل المعروض للنقاش وينقدونه. ثم يحين دوري أنا وبولز. وكان بول يشعل سيجارة محشوة بالكيف ويبقى صامتا بينما أبدأ في عرض ملاحظاتي.
كنت أحاول أن أعثر على قيمة حتى في أبشع النصوص، وغايتي من ذلك هي تشجيع أفضل ما في العمل وما يمكن تحسينه فيه. باختصار، لم يكن لي اهتمام كبير بالحبكة، وقوس السردية ـ فكل ذلك يمكن أن يأتي لاحقا ـ لكنني كنت أريد أن أجد مداخل محددة يمكن أن تفتح للكاتب ما يجعله يرى قصته الكاملة رؤية طازجة. كنت أيضا أوضح أن الكتّاب يتطورون بإيقاعات مختلفة وأن أهم شيء هو مواصلة الكتابة. فما كان بوسع أحد أن يتخيل أن مؤلف (كأس الذهب)، وهي من أسوأ روايات الكوكب، هو الذي سيصبح لاحقا كاتب روايات عظيمة من قبيل “في معركة مريبة” و”عناقيد الغضب”.
كان بولز دائما مهذبا، متحفظا، ولكن لم يكن الطلبة ليكتبوا شيئا فيسرّه أو حتى يلقى رضاه -وإن لم يعبر قط عن سخطه- ومن هنا كان إحباط الجميع. فالجميع بالطبع كانوا راغبين في استحسانه. فمن أجل ذلك جاءوا، من أجله هو، في نهاية المطاف. كنت نائب الرئيس، وهو الرئيس. فأي جودة كنت أعثر عليها في نصوصهم كانت أقل قيمة من فتوره تجاهها.
كان بولز يدخر تعليقاته ليشير إلى موضع يلزم فيه تعديل فاصلة منقوطة أو فقرة أو زمن: “في الصفحة الرابعة تقول: ’فكَّر أن يشتري لها زهورا’ لكن المؤكد أنك تقصد ’كان قد فكَّر أن يشتري لها زهورا’ أو أني أتصور أنك قد عنيت ذلك”.
وبين الحين والآخر، حينما كانت كلمة تبدو غير منضبطة أو غير مناسبة، كان يتمهل قليلا عند ضرورة أن يعثر الكاتب على التعبير الدقيق. لم يتكلم قط عن القصة ككل، ولا حدَّد درجة نجاح الكاتب، ولا تناول الكاتب الذي بذل الجهد.
كان نائيا عنا جميعا. والكيف الذي كان يدخنه في الفصل كان وقود انفصاله. لكنه على ضيقه مما شعر أنه غير مؤهل لعمله، وعلى تبرُّمه البادي في الفصل، كان يرحب بالطلبة في شقته.
فيقول لكل راغب في مقابلته: “تعال لتناول الشاي”.
كنت أندهش من تساهله وعدم تفرقته في دعواته. لكنني لم يكن ينبغي أن أندهش، وقد عرفت منه مبكرا أن الشباب من شتى أرجاء أوروبا والولايات المتحدة، على مدار السنين، كانوا يقصدون بيته.
“فماذا تفعل في تلك الحالة يا بول؟”، هكذا سألته وأنا فزع من احتمال أن يطرق غرباء باب شقتي في نيويورك أو في أي مكان بالعالم.
“أرحب بهم، بالطبع”. وسألني بنبرة قدرية “وماذا عساي أفعل عدا هذا؟”.
أردت أن أقول له: تطردهم. لكن إحساسه بالتسليم الحقيقي أو المتخيل كان ينصرف إلى كل شيء. فالعالم يمضي في دورانه القائم أو الواجب، وما كان له هو من يد في إدارته. والناس كانوا يحلون ببابه، وما كان له أن يرفضهم. لكن الحقيقة أنه كان مستوحشا إلى الرفقة. وحكى لي أن شتاءات طنجة في المواسم الأخيرة كانت سيئة بصفة خاصة وقد قلَّ زائروه، حتى بات بوسعه أن يحصيهم على أصابع يده عددا ويذكرهم جميعا بأسمائهم. “زوج وزوجة سويسريان، ثم في مارس، رسام هولندي”. كان يستوحش إلى لغته الأم، أيضا. كان واضحا أنه بعيد عن الاستعمالات اللغوية الأمريكية المعاصرة. ففي بعض الأحيان، كان يستوقف طالبا ليسأل عما تعنيه عبارة أو كلمة في قصة لأنها غريبة عليه.
“تقول هنا ’إنها القنبلة’. وهذا غريب”. [ويعني التعبير أن شيئا ما فائق الجودة].
وبالطبع كان الطلبة يسرون من ذلك، فهفواته تلك كانت تضفي عليه هالة ما.
سألته مرة: “لماذا لا ترجع إلى الوطن؟”
“وأين أعيش وفيم أعمل؟ ومن أين أحصل على الكيف؟ وفي كل الحالات، من أين أدبر المصاريف؟”. كنت أعرف أن إيجاره خمسون دولارا في الشهر في بناية جيدة. بل وكان له فيها جراج لسيارته.
وحسب روايته، لم يكن لديه نقود، فكان يعيش على فوائد وبعض التمويلات التي حرص على ألا يكشف عنها، فلعله كان يعيش بأربعة أو خمسة آلاف دولار في السنة كما قال. “ففي أي مكان آخر يمكن أن أعيش بمثل ذلك؟”.
لم أحر جوابا.
قال: “ثم إن الجو بارد في نيويورك”.
قلت: “في نيويورك يا بول مئات الناس الذين يحبون أعمالك، وأثق أن أطنانا من البشر يمكن أن يساعدوك على العيش في المدينة”. وكنت أفكر في جميع العطايا التي توهب للكتّاب من رعاة، وكيف أن بيجي جوجنهيم كانت تبعث شيكا كل شهر إلى جونا بارنس للإيجار وأن نانسي كونارد كانت تغدق على جيمس جويس. كنت على يقين من وجود أثرياء يمكن أن يرعوا بولز فيحسنوا رعايته في شيخوخته. لكنني لم أقل ذلك كله، وقد شعرت بالغريزة أنه ليس بالذي يمكن أن يستجيب برفق لفكرة أن يعيش في عهدة راع، مهما بلغ الواهب من الفتنة. في الواقع، أدركت أن ذلك حلمي أنا.
في الأسبوع الثاني لي بطنجة، دعاني بول إلى تناول الشاي، فظللت أختلق الأعذار للتأجيل. كنت أخشى زيارته، وقد ظننت أنه فور أن أعبر باب شقته سوف تداهم الشرطة المغربية المكان وتعتقلنا جميعا. كان يدخن الكيف طيلة النهار. ففي الفصل كان يخلي سيجارة ويحشوها بالكيف، ثم يثبتها في مبسم ويدخنها في هدوء، فينهل الدخان كأنه أرستقراطي نمساوي مجري في فيلم من أفلام الدرجة الثانية.
كان قد نما إلى علمي أن الشرطة حازمة مع الأجانب الذين يتعاطون المخدرات، وغالبا ما تنصب لهم الأكمنة، وبخاصة الشباب القادمين من أوروبا وأمريكا، ثم تزج بهم في السجن فلا يعودون في حماية من سفاراتهم. لم يتعرض بولز للاعتقال قط بسبب تدخين الكيف، لكنني كنت على يقين من أنني لو صرت معه، فسوف أتعرض للاعتقال ويزج بي في أبشع السجون وأبقى في القفص إلى الأبد. كان لبولز نفسه نصيب في ذلك الخوف، فهو الذي ظل منذ الأسبوع الأول لوصولي إلى طنجة يغذيني بقصص عن أفعال الشرطة المريعة.
ها هي قصة كان يلتذ بها: زوج وزوجة محافظان بريطانيان في منتصف العمر، يقضيان إجازة وهما في سيارة في جبال المغرب، أوقفتهما لجنة شرطية وفتشت سيارتهما. أتى شرطي بلفافة كيف وقال إنه عثر عليها في صندوق سيارتهما. أنكر الاثنان حيازتها أو معرفتهما بها.
قال الزوج: “شخص ما وضعها هناك” وكبح نفسه قبل أن يتهم الشرطيين ومطمئنا إلى أن كلمته في هذا الشأن كافية. قال أحد الشرطيين: “نحن لسنا راضيين. أرضنا”.
لم يفهم الاثنان بسرعة، ثم لما فهما غضبا -وقد تعرضا للحصار والابتزاز- وقالا للشرطيين إنهما سوف يبلغان السلطات المعنية. تم اعتقال الزوج والزوجة في الحال وسيقا إلى السجن، وهناك، جاء أخيرا شخص من القنصلية لزيارتهما وفق ما يقتضيه الواجب.
كانت مسألة محلية، ولم يكن بوسع القنصلية أن تفعل فيها شيئا في واقع الأمر. لكن أشيرَ في موضع ما إلى أنه كان بوسعهما أن يجتنبا كل تلك المشاكل في أول الأمر بإعطاء الشرطيين محض جنيهات قليلة، أما الآن فعليهما أن يستعينا بمحام مغربي ويذهبا إلى المحكمة. وعسى أن يعثر ذلك المحامي على طريقة لمساعدتهما، على أي حال.
اقترح المحامي دفع مبالغ معينة، مكافآت لاسترضاء ضابطي الاعتقال وضمانا لحسن نية القاضي، ثم بالطبع، هناك أتعاب المحامي. كان الزوجان قد شعرا بطرف من بشاعة حياة السجن واستشعرا أن نتيجة المحاكمة قد لا تقوم على أمانتهما وصدق أقوالهما، فسمحا للمحامي على مضض أن يتولى الأمور على النحو الذي أشار به فإذا بكل من له علاقة بالأمر، ولبعض من لا علاقة لهم بهم، يجدون جيوبهم أثقل من ذي قبل. وبرغم كل الاسترضاء والتمهيد للمشاعر الطيبة، حكمت المحكمة على الزوجين بسنتي سجن.
صدمت. “لماذا تم حبسهما وقد دفعا؟”
قال بول مبتسما “ليتعلما الدرس”.
سألته “وكيف تقيم في مكان مرعب كهذا؟”
“ومن قال إنني لا أحب الرعب؟”
دائما يرتدي سترة، وبنطالا بنيًّا محكم الكي، وربطة عنق هادئة، وكان بولز أنيقا مهندما، سيدا أنيقا، خافت الصوت، متحفظا، وعلى النقيض من ذلك كله، مولعا بالجامحين المارقين. وكذلك كانت زوجته جين مثلما علمت من بول لاحقا. كانت تحب الشرب والصخب في حانات طنجة، مثل حانة باريد. اقترح بولز مرة أن أذهب إلى هناك. وذهبت. لا بد أن الحانة في يوم من الأيام كانت فجوة صغيرة ساحرة بنضدها الضيق والكراسي الطوال المخططة كالحمر الوحشية، لكنها باتت ديكورا مسرحيا باليا. أصابتني بالاكتئاب، ولم أدرِ لماذا أراد بول أن أذهب إليها. لم أقل ذلك لبول. بدا مسرورا أنني قمت بالرحلة، وكأنه بعثني لزيارة ضريح. قال بول: “كانت جين تقع في بعض الأحيان عن تلك الكراسي، وأحيانا كان يتعين علي أن أذهب لآخذها من هناك إلى البيت”. أحسست أنه يلتذ بتلك الذكرى، التذاذ المرء بطفل منحرف قد تكون تصرفاته مزعجة لكنها مسلية على الدوام.
كنت أسأل نفسي، كيف تسنَّى له أن يكتب وهي على مقربة؟ ثم أقول لنفسي، لعلها كانت تشبع في نفسه فراغا، أو لعله كان يكتب هربا منها. وفي النهاية قلت لنفسي، وماذا تعرف أنت عن خفايا الأزواج؟
وذات يوم بات واضحا لي أنني لو أرجأت ثانية زيارة بولز، فإنني لن أتلقى دعوة الشاي بعدها أبدا وأن علاقتنا سوف تسوء. ولا أعني أنه سوف يشعرني بذلك مباشرة -فقد كانت عدم مباشرته بحجم جبل جليدي- ولأني أحبه لم أرد بيني وبينه أي مشاعر سلبية. قلت إنني أريد أن تقابله صديقتي دولي وإننا يمكن أن نرتب موعدا بعد وصولها في غضون أسبوع، ونأتي معا لتناول الشاي.
وفي بداية رمضان، صعدت أنا ودولي ست طبقات من الدرج المقام من رخام إيطالي مغسول حديثا إلى باب شقة بولز. وكنت لم أزل ألهث حينما فتح الباب.
“لماذا لم تركب المصعد؟ ألم يكن يعمل؟”
“يعمل لكن دولي تخشى المصاعد”.
قال مترفقا بصديقتي “وكذلك كانت جين”. كان محمد مرابط، صديق بول القديم وتلميذه منذ سنين عديدة، حذرا هو الآخر في استقبالنا، يحيينا بلغته الإسبانية المعيبة ولغته الإنجليزية العرجاء.
كانت حقائب منهكة قد تكدست مرتفعة في الطرقة فهي طوطم لأسفار بولز. فتنتني غرفة معيشته بلونها البيج، وهي تبث وهج الصحراء عند الغسق. شعرت بارتياح فوري. ولولا المأدبة المغربية، لبدا بالضبط وكأني في غرفة أصدقاء في قرية جرينتش في الخمسينيات: فطاولة صغيرة للشاي، وكرسي من القماش. كل شيء في مكانه، وكل شيء نظيف، لولا لمسة قِدَم. لا يمكن أن أتخيل أن شيئا تغير فيها منذ أن انتقل إليها بول قبل أربعين سنة.
كنت قد قرأت عن مرابط وأنه وبول متقاربان منذ أكثر من ثلاثين سنة. كان مرابط ولد شوارع في الخامسة عشرة من العمر حينما قابله بول. كان أميًّا، حكَّاء بالفطرة، سجَّل بول قصصه على أشرطة، وفرَّغها وترجمها وساعد في نشرها. جلسنا وشربنا الشاي بالنعناع وتبادلنا المجاملات. وفجأة قال مرابط: “بول هو بابا”.
قلت “أوه، هذا أمر عظيم”.
“أنا متزوج. وعندي ثلاثة أبناء. ولست مثليا”.
قال بول ضاحكا: “أوه. لقد طارد ألفريد تشيستر في الشقة مهددا بقتله لما قال عنه إنه لي بمنزلة راعي بقر جنسي”.
قال مرابط: “كان غبيًّا كبيرا. بول يعرف أغبياء كثرًا. لكنك لست منهم. أنت لم تأت قط لتضايقه”.
ضحك بول وقال: “لأنه لا يأتي أصلا”.
وفيما كنا نشرب الشاي، فتح مرابط كيسا قماشيا أخضر وأخرج منه الكيف، وشرع هو وبول يفصلان البذور. ثم مضيا يدخنان وهما يعملان. قدَّم مرابط لدولي بعض الحشيش. فدخنت قليلا حتى بدا أنها تترنح وقالت “أشعر وكأني نفذت من جدار”.
سألت: “هل لديك شيء يشرب عدا الشاي؟”. كنت أتوق إلى كأس ويسكي.
قال مرابط: “لا. لا كحول” وابتسم ابتسامة عريضة قائلا “كِيف فقط”.
قلت: “عندي حساسية من كل المخدرات، كلها عدا الكحول”.
وضحك الجميع من قلوبهم.
كانت لحظة مودة حقيقية. شعرت للمرة الأولى منذ قابلت بول بلحظة ألفة وارتياح. وأحببت مرابط. وأحببت أن دولي بدت في غاية السعادة بوجودها هناك. كانت هي الأخرى قد قرأت “السماء الواقية” وشعرتْ مثلما شعرتُ أنا برباط عميق مع انخلاع شخصياتها من جذورها وعزلتها الداخلية. لكنها كانت قد تعهدت بألا تذكر هذا مطلقا لبول في اللقاء الأول.
قالت: “لا أريد أن أندفع كالباقين جميعا. وأنا متأكدة أنك منهم”. لكن قبل أن نغادر، اختفى مرابط في غرفة خلفية وبعد لحظات قليلات ظهر، عارضا أمام دولي قلادة من حبات متناسقة ملضومة بخيط. نظر لي بول في سرور. كانت القلادة من حبات زرقاء وخضراء، ومحارات ناصعة البياض، وحلقات زجاجية، وقطع من العظم. فهي أشبه بالعقد الذي قد تصنعه طفلة في السادسة في مخيم صيفي.
قال مرابط: “هذه فيها طاقة عظيمة، كثير من البركة لحمايتك. وأيضا لإمراض أعدائك وإيقافهم عن إيذائك بالسحر الخبيث”.
استطاعت دولي أن تصد مرابط دونما إهانة واضحة له. فرفع القلادة في بطء أمام عيني وقال “طيب، وماذا عنك، هل تشتريه لصاحبتك؟”
جعلني الحمق أسأل عن سعره. فهمس لي بولز “لا تشجعه” إذ كان مرابط يريد فيه ما يقارب مائتين وثمانين دولارا، وذلك سعر لصديق، ولأن بول يحبني.
قال بول: “ما هذه إلا نفايات عثر عليها في الشارع. هو دائما يحاول أن يبيع أشياء للناس، لا تلق له بالا”.
عبس مرابط. وتركنا ماضيا باتجاه الباب، وفي اللحظة الأخيرة رفع القلادة أمام عيني دولي وقال “مئة دولار”.
دعينا إلى شقة بول مرة أخرى بعد أسبوع. قال إن في ذهنه ترتيبا خاصا لزيارتنا. ثم ما كدنا نخطو عابرين الباب حتى قال بول “علينا أن نغادر سريعا. فمرابط منتظر منذ الصباح”.
اندفعنا إلى سيارة بول الموستانج، وجلس بول إلى المقود. كان مرابط مبتسما سعيدا يدندن. سارعنا خارجين من المدينة إلى التلال والريف. قابلتنا حواجز ونقاط تفتيش للسيارات بين الحين والآخر. وكانت الشرطة تكثر من ذلك في رمضان، مفتشين عن الكحول في السيارات، لكننا قطعنا مسافة دونما إيقاف.
عند الحاجز الأول، تبادل بول ومرابط النظرات إذ تشير لنا الشرطة بالتقدم، وظللت أنا أفكر في قصة الإنجليزيَّيْن. باستثناء أن الكيف الآن موجود في السيارة وأن اعتقالنا سيكون قانونيا تماما. فبموجب القانون المغربي، كل من يتم العثور عليه وهو برفقة حاملين للمخدرات يتعرض للاعتقال، سواء أكانت المخدرات في حيازتهم أم لا. وأخيرا، وفي محاولة لأن أبدو غير مكترث، تشجعت وسألت إن كان معهما.
قال بول: “بالطبع لا. ليس في السيارة”.
سأل مرابط: “لماذا؟ هل تريد أن تدخن؟”. بدا سعيدا بفكرة أن أدخن الكيف، محاولا كعادته أن يوقفني عن شرب الكحول، ذلك الشيء المقزز، الذي يتسبب في البدانة، والمحرم أيضا في القرآن. قال إنني لو تركت له نفسي، فسيجعلني في ثلاثة أشهر في خير حال. بقليل من العمل كل يوم في مزرعته يمكن أن أصبح رجلا جديدا. وأشرق صوته وهو يتكلم عن مزرعته.
قال بول: إننا لم نزل بعيدين قليلا عن مزرعة مرابط، وذلك هو المكان الذي كنا نقصده، وهو المفاجأة الصغيرة التي كانت في ذهن بول لنا. مضينا بالسيارة لزهاء ساعة ونصف الساعة، وأبطأنا عند الحاجز الشرطي التالي، وثمة أشير لنا قبل أن نتوقف تماما. تبادل بول ومرابط نظرات متوترة، وتيقنت من نظراتهما المتوترة أنهما يحملان الكيف وأن الحظ حالفنا فلم توقفنا الشرطة للتفتيش.
قال بول: “الشرطة غير معنية بنا”. ومع ذلك، ظل التوتر باديا عليهما إلى أن اقترح بول القيام بانعطافة بسيطة قبل الوصول إلى المزرعة. وأيَّد مرابط الانعطاف تمام التأييد.
انتقلنا إلى طريق ترابي أضيق وظللنا فيه لنحو خمس أو ست دقائق ثم أوقفنا السيارة عند أرض معشوشبة. طلبا منا الانتظار للحظة، وخرجا من السيارة فسارا قليلا ثم توقفا عند شجرة. جذبا بعض الأغصان ثم سارعا راجعين إلى السيارة. أعرف أنني أردت أن أضحك، أما دولي فلم تتمالك نفسها وتعالت قهقتها. لكنني أعتقد أنهما كانا مشغولين عن ملاحظة ذلك إذ جلسا يحشوان سيجارتين مفرغتين بالكيف الذي أتيا به من كيس كانا قد أخفياه في الشجرة. أخذا يدخنان لدقائق قليلة مسترخيين، وهما يثرثران ويبتسمان. وسرعان ما تلاشى توترهما، وصارا سعيدين.
رجعنا إلى الطريق الرئيس ومنه إلى مدق ترابي مضى بنا إلى مرتفع من الأرض. تهلل وجه مرابط. كنا أخيرا قد وصلنا إلى مزرعته. لم أر فيها من زراعة، أو بيت، أو بناء من أي نوع، وما من حيوانات داجنة أو برية، ليس سوى حقل باتساع ستة ملاعب تنس خضراء ينتهي عند خور. وبالطبع لم يكن هناك شيء بعد كما قال مرابط شارحا، لكن تلك لم تكن غير البداية، وسوف يتوسع فور أن يتوافر له المال لشراء الأرض المجاورة لأرضه، وقد كانت متاحة ـ لكن من يدري إلى متى؟
سدَّد إليَّ بول نظرة حازمة، لم يبد في ذلك الوقت أن لها أي معنى يمكن أن أفهمه. مضينا وراء مرابط جميعا باتجاه الخور وثمة عند الحافة كان ما يشبه كومة عصي وغصون. في الواقع كانت معوجة، رديئة البنيان، رأيت فيها رجلا ضخما جالسا، شبه نائم. أو ربما كان مسطولا من الكيف أو يتأمل الغيمة الوحيدة السارحة أعلاه في الفجوات الشاسعة بالسقف. زحف خارجا بعدما حياه مرابط، ووقف طويل القامة للغاية، أنيقا في جلبابه الطويل الأصفر، يتجاوز بأربع بوصات على الأقل قامتي أنا البالغة ست أقدام وبوصتين، منحنيا مرات احتراما للمجموعة.
كان حارس المزرعة، حسبما أوضح بول، وهو مكلف بجانب مراعاة الأرض والسقيفة بأن يرعى ماعزا كانت ترعى آنذاك في الخور من تحتنا. بدا مرابط مستاء من الرجل فانتحى به جانبا ليؤنبه على الماعز الضالة وعلى ما لا نعرف من أمور أخرى. لنومه في أثناء عمله مثلما قال بول. لكن سرعان ما بدا أن الاثنين أصلحا ما بينهما ونزل الرجل إلى الخور لاستعادة الماعز.
قال مرابط: “إنه غبي كبير”.
قال بول على سبيل الاقتراح “ستكون فكرة طيبة لو دفعت للرجل بين الحين والآخر. فلعله حينئذ ينام أقل في وقت العمل”. كان مرابط يدفع للحارس أربعة عشر دولارا في الشهر لإدارة الأرض، وكان يدين له برواتب سابقة كما قال بول. قال مرابط إنه بالطبع سوف يدفع له، ولكن الرجل يعيش في الأرض فعلا بالمجان “ومع أمثال هؤلاء” كما قال بصوت خافت “يجب ألا تعطيهم الكثير مرة واحدة”. وأخذني من ذراعي فقادني بعيدا إلى شجرة معوجة على حافة الخور المتهالكة.
قال مشيرا إلى الأرض الواقعة من وراء الخور: “هناك أرض خالية، رخيصة، بأربعة آلاف دولار فقط”.
سألته “هل ستشتريها يا مرابط؟”
قال: “طبعا” فاردًا ذراعه مشيرا إلى الأرض “وحينئذ تكون لدي كل هذه المزرعة”.
كانت المشكلة هي المال. أو عدم توافر المال لديه. أما بول فلديه. فهل أطلب من بول نيابة عنه، وأشرح لبول القيمة التي ستكون للأرض عند إصلاحها وتكاثر الماعز فيها. اللهم إلا إذا كنت أنا، طبعا، مستعدا لإقراضه المال، على أن يرده في غضون سنوات قليلة فور أن تدر المزرعة أرباحها. اعتذرت بأنني لا أمتلك المال. وبالفعل لم أكن أمتلكه، ولا أمتلك حتى ألفين أو ألفا أو خمسمائة. ولكنني كنت لأقرضها له، غير متوقع ألا أستردها أبدا، من أجل الفرحة الواضحة بحجم أرضه المحتمل، أو هي أنانية أرضه. كنت سعيدا للغاية من أجله، في واقع الأمر، حتى إنني بعد لحظات قلائل انتحيت ببول جانبا وطلبت منه أن يقرض مرابط أو يعطيه المال وحسب.
“لم لا يا بول؟ فكر في مدى فرحته بذلك”.
قال بول: “إنه لا يفهم هذه الأمور. لا يفهم فكرة رأس المال والدخل”.
لم ألح على بول. كان فيلم (السماء الواقية) لبرتولوتشي لم ينفذ بعد، وبرغم أن قصص بول القصيرة قد أعيد طبعها، فإنه لم يكن قد تلقى، حسبما قال لي، أي نقود من الناشر، لا من المقدم ولا من المبيعات.
في الربيع التالي كتبت إلى بول من باريس أسأله عما يحب أن أحضره إليه معي حينما أرجع إلى طنجة. فردَّ علي ببطاقة بريدية كتب فيها: “رقائق الذرة من كيلوجز”.
تذكرت أنه حكى لي عن مدى صعوبة الحصول على رقائق الذرة الأمريكية تلك، وقد كان من قبل يشتريها من سوق أوروبية صغيرة في طنجة، لكنها صناعة ألمانية ولا علاقة لمذاقها من قريب أو بعيد بالتي كان يحبها. ذهبت إلى فوشون بالقرب من مادلين واشتريت له صندوقين كبيرين، سافرت بهما من الولايات المتحدة، وحملتهما معي إلى طنجة في يونيو، في الصيف الثاني الذي قمنا فيه بالتدريس معا.
وربما لأنه فرح كثيرا، فقد حدث في وقت لاحق من ذلك الشهر، بعد انتهاء مهامنا التدريسية، أن اصطحبني بول لنسمع موسيقيا يعزف موسيقى الترانس على مزمار من القصب في بيت أصدقاء قدامى لبول، هم رجل فرنسي محتضر وزوجته.
كان السائق الذي يستعين به بول مغربيا ذا ساقين شديدتي الطول يقصر عنهما جلبابه فلا يتجاوز كاحليه. مضت بنا السيارة إلى الجبل القديم حيث كان الأوربيون الأثرياء في أيام الكولونيالية الخالية يقيمون حفلاتهم دونما انقطاع في فيلاتهم. صففنا السيارة على جانب الطريق الترابي وسرنا إلى المنزل. توقف بول ليشير إلى كوخ صغير استأجره ذات يوم. كان يقع على حافة جرف مواجه للبحر المتوسط، فكانت السماء من شباكه تمتزج بالبحر في شسوع أزرق ممتد. قال “في ذلك الكوخ كتبت ’عاليا فوق العالم’”.
“آه، هذا لأن الكوخ شديد الارتفاع فوق الجبل؟”
قال مبتسما: “لا. بل بسبب (تلألئي تلألئي أيتها النجمة. يا من لا أعرف ماذا تكونين. يا عالية فوق العالم)” [وهذه أبيات أغنية شهيرة من أغاني رأس السنة]. كنت قد رأيته يدخن الكيف لكنني لم أره قط منتشيا، ربما لأن النشوة كانت حالته الطبيعية، فهو هادئ وعال ومرتفع عن العالم.
سرنا قدما إلى أن قابلنا مضيفتنا، وهي امرأة في أواخر الخمسينيات، مضت بنا إلى حلقة من ستة جالسين على ربوة تقع على بعد ياردات قليلات من البيت. كانت حزينة لا تكاد تقوى على الكلام. سألت بول بالإنجليزية: “كيف لأحد أن يتجاوز هذه الخسارة؟ كيف تجاوزتها أنت، في حالة جين؟” فلم يرد بول على الفور. أمسك ذراعها ثم قال أخيرا “ننجو”.
كان زوجها المحتضر راقدا في برج من الصخر والزجاج يبلغ ارتفاعه قرابة اثني عشر قدما على حافة الجرف مواجها البحر المتوسط. فتحت زوجته شباكا لتنسرب إليه الموسيقى، وتحل عليه السكينة، إضافة إلى المورفين، في احتضاره. متربعا على العشب، عزف الموسيقي على مزماره الخشبي السميك. وما أغرب أن أخذ كل شيء عدا الموسيقى، بعد هنيهات، في التلاشي. حتى أنا، تلاشيت إلى أن صرت أثيرا بلا جسد، ولم يبق من الدنيا بأسرها غير صوت خشبي خافت.
لا أعرف كم طال الوقت قبل أن يمسكني بول من ذراعي. قادني مبتعدا عن نطاق الاستماع. كان قد رأى جفنيَّ يختلجان، ينفتحان ويغمضان، وقال إنه علم أنني كنت في طريقي إلى مكان أعمق من النوم الطبيعي، مكان رهيب، قد لا أرجع منه ثانية إن أنا ذهبت إليه. ربما كان عليه أن يتركني أمضي إلى هناك لأعرف ذلك الذي كان يعنيه. رجع بي إلى السيارة المنتظرة، فانطلقت بنا. بقينا صامتين طوال الطريق. ثم لما اقتربنا من فندقي قال في حزن: “أريد خمس سنوات أخرى، أو حتى ثلاثا”.
قلت “بالطبع يا بول، ستعيش إلى الأبد”.
الهوامش
* فريدريك توتن، روائي وقاص أمريكي، صدر له خمس روايات، منها (تن تن في العالم الجديد)، وله أيضا كتاب سيَري بعنوان (حياة شبابي) ومجموعتان قصصيتان، وشارك في كتابة فيلم (Possession).
– نشر هذا النص في مجلة ذي باريس رفيو
https://www.theparisreview.org/blog/2023/11/21/paul-bowles-in-tangier/#more-166096