يحظى تفسير هيدغر لهولدرلين بأهمية كانت كافية لكتابة دراستين بحجم لا بأس به (1). وبسبب التأثير الخارق للشارح، تماما مثلما بسبب الصعوبة الاستثنائية للشاعر المشروح، تطرح هذه القراءات مشكلات متعددة. اذ لابد أن يسأل المرء عن مساهمة هيدغر في مجموع الدراسات عن هولدرلين، ولا بد ان يسأل أيضا ما مكانة هذه التفسيرات في مشروع هيدغر الفلسفي، والى أي حد أثرت في تطوره، وأخيرا يستدعي المنهج التفسيري عند هيدغر نفسه الاهتمام.
ترتبط الاسئلة الثلاثة ببعضها، لكن لا ريب أن السؤال الثالث هو الرابط بين السؤالين الاولين. ويصدر منهج هيدغر التفسيري صدورا مباشرا عن مقدمات فلسفته، ولا يمكن فصله عنها، حتى ان المرء هنا لا يستطيع الحديث عن «منهج» بالمعنى الشكلي للكلمة، بل بالاحري عن فكرة هيدغر في علاقة الفلسفة بالشعر، وأن قيمة مساهمته في الدراسات عن هولدرلين تتحدد بسلامة هذه الفكرة، التي هي فكرة وجودية (انطولوجية)، على وجه التحديد، وليست بالجماليات. فدراسة المنهج، اذن، مدخل ضروري للسؤالين الآخرين، اذ يتجاوز. مداهما قدرة مقالة واحدة.
ولكي نفهم طريقة تلقي دارسي الادب لمقالات هيدغر، لابد أن نضع في حسباننا الظروف الخاصة التي أحاطت بنشر أعمال هولدرلين وتحقيقها، فلقد تنوسي تماما طوال القرن التاسع عشر (ربما ببعض الاستثناءات التي من بينها نيتشه) تجديد الاهتمام بها الذي حصل في أواخر القرن، ولعب فيه دلتاي الدور القائد. ثم تم ايقاظ هذا الانتباه دفعة واحدة، فلم يستغرق اكتشاف هذا العمل الخارق، الذي حصل بين عامي 1800 و1803، وبقي غير منشور في الأغلب وقتا طويلا. فتولى نوربرت فون هيلنغرات اعداد الطبعة النقدية الأولى، التي أكملها بعد وفاته في سنة 1906 سيباس وفون بيغنوت، وظلت موثقة، وقتا طويلا، وهي الطبعة التي يستخدمها هيدغر في شروحه.
والتأثير الكبير الذي مارسه هولدرلين بعد هذه الكشوف، في المانيا اولا، ثم في فرنسا وبريطانيا أمر معروف، بحيث لا يؤخذ اليوم بوصفه أهم علم من اعلام الرومانسية الالمانية فقط، بل ايضا بوصفه واحدا من أعظم شعراء الغرب، بل لعله الشاعر الذي يقترب تفكيره من همومنا بحيث تتخذ رؤيته شكل هاجس نذير، ولهيدغر الحق في ان يطبق على هذا الشاعر نفسه بيته الشعري الغامض، وربما المنحول:
للعلك أوديب عجز واحدة لعلها أدهى
لكننا بعيدون عن معرفة هذا الشاعر الكبير، لانه يمثل العائق الاكبر دون الدقة والوضوح قبل أي شيء. وغزارة الصور وجمالها، وثراء القوافي وتنوعها أمر يفتننا، غير ان هذا الانبهار مصحوب بفكرة وتعبير هما دائما في سبيل البحث عن غاية الدقة ونهاية التدقيق. ومن خلال المحو والمسودات واعادة كتابة الشذرات، يبحث هولدرلين عن تعبير أصفى من سواه وأصوب.
ربما كان الاعتماد على نصوصه المباشرة اكثر اهمية بكثير من سواه. ولكن سرعان ما ظهر قصور طبعة هيلنغرات. وقد عمقت الكشوف الجديدة والمعرفة الاكثر اتساعا بأعماله، الحاجة الى طبعة نقدية جديدة. وهذه مهمة توشك ان تكتمل الآن: فبتوجيه من فردريك بيسنر نشرت ثلاثة اجزاء جديدة مما يسمى بطبعة شتوتجارت الكبرى، كلها معني بشعره ورسائله وترجماته، وتعد احد الانجازات الكبرى للفيلولوجيا العلمية الحديثة. فاستنادا الى اكثر المناهج ثباتا (الدراسة المفصلة للمصادر والمراجع السيرية والتاريخية، والمراجع الداخلية المقارنة، والتفسيرات النحوية، ودراسة القوالب الشكلية… الخ)، كما استنادا الى بعض الاجراءات التقنية الحديثة (دراسة نوع الورق والكتابة، بمعونة رقائق لصور مكبرة للمخطوطات) انتج بيسنر الطبعة النقدية الفريدة، وهي في حالة هولدرلين شيء ضروري وصعب التحقيق في الوقت نفسه.
يلح الناشر على موضوعيته، فلم يكن ليحفل بكتابة مقدمة، وتعليقاته ذات طبيعة معلوماتية خالصة، لان المقصود من عمله يقتصر على توفير مادة لتأويل قادم على اساس وطيد. ومنافع هذا الزهد واضحة، غير ان لهذه المنافع ثمنها، فالتواضع الفيلولوجي الحصيف، الذي يحظر التأويل على نفسه، ما لم تقف الابعاد الموضوعية للعمل على اساس وطيد، يضطر الى مغادرة عدد من القضايا دون ان تحل، ومن بينها بعض القضايا التي تتعلق بمستوى توطيد النص. وفي حالة هولدرلين، يتسع هامش اللاتحدد بصورة خاصة، لان الوضع المادي للمخطوطات كثيرا ما يكون بحيث يستحيل الاختيار بين قراءتين ممكنتين، في المواطن التي يكون فيها التوضيح اكثر ضرورة. ويجد المحقق نفسه ملزما بالاعتماد على المبدأ الذي يتبعه: ففي النتيجة تحاول الفيلولوجيا العلمية العثور على معايير موضوعية وكمية، في حين يحكم هيدغر باسم المنطق الداخلي لشرحه.
واليكم مثالا من بين أمثلة كثيرة، يستشهد «بيدا آليمان» بحالة البيت (39) في ترنيمة “Wie wenn am Feiertage” الذي يقرأه بينسر:
Wenn es [das Lied] der Sonne des Tags und warmer Erd/ Entwachst [حين تطلع الاغنية من شمس النهار والارض الدافئة…]
لكن يبدو ان هولدرلين كتب كلمة entwacht (يوقظ)، بدلا من Entwachst (يطلع)، الامر الذي يعني الى معنى مختلف، لكنه يتفق تماما مع تأويل هيدغر العام لهذه القصيدة. وخلافا لكل من هلينغرات وبينسر، يحتفظ هيدغر بقراءة entwacht (يوقظ)، بينما يشير بينسر الى سبعة امثلة أخرى في أعمال هولدرلين الكاملة، كتب فيها هولدرلين كلمة entwacht بدلا من ent wachst ومن خلال هذا الدليل الكمي يحكم لصالح كلمةentwachst ومن الواضح ان الحكم العقلي بين هذين المعيارين أمر صعب. وللمنهج الكمي بعض الترجيح الايجابي لصالحه، غير ان اختياره النهائي يظل، بالرغم من ذلك، اعتباطيا، اذ ليس من المحتمل ان يكون هولدرلين قد اختار مفرداته على أساس توزيع احصائي. وتعرف الفيلولوجيا هذا جيدا، وتقدم بطريقة نزيهة معقولة: ففي ملاحظة هامشية يصرف المحقق الانتباه الى المشكلة ويبقى السؤال مفتوحا. لكن ما لا ينكر ان المفسر يحق له، بل يجب عليه، اذا كان قادرا على تقديم تأويل مسؤول ومتماسك، ان يحكم استنادا الى ما يستخلصه من تأويل. وهذا في آخر الامر، هو احد اهداف التفسير كله. ويتوقف كل شيء، اذن، على القيمة الفعلية للتأويل.
لكن المسألة ليست بهذه البساطة، ما دام تأويل هيدغر قائما على فكرة ان ما هو شعري يريد ان يؤكد الاستحالة الجوهرية في تطبيق خطاب موضوعي على عمل فني. فهيدغر يقلص دور الفيلولوجيا الى مرتبة ثانوية، بالرغم من انه لا يتردد في الالمام بها كلما دعته الحاجة وهو يعلن انه حر من الالزامات التي فرضتها على نفسها. وقد وجد ان هذا العنف فظيع، وهو كذلك حقا، ولكن يجب ان يكون معلوما انه مستمد من مفهوم هيدغر عن الشعري، الذي يزعم انه استخلصه من فكر هولدرلين. والقبول بهذه الشعرية يعني القبول بنتائجها، وخلافا لـ"ايليس بدبيرغ"، لا يستطيع المرء ان يتابع هيدغر في أقواله الفلسفية، ثم يتنصل منه باسم منهجية تزعم هذه الاقوال انها تتعالى عليها. ولا قيمة للاعتراضات الفيلولوجية الصارمة التي تثيرها ضده، اذ من الواضح عزم هيدغر على مخالفة القوانين الراسخة للدراسة الادبية. فهو يستند الى نص لابد انه يعرف عدم موثوقيته، وينخرط في تحليل مفصل له، محيلا الى تصويبات في مخطوطات، وملاحظات هامشية، وما اشبه، دون ان يتحقق من شروط الضبط، او في الاقل، دون ان يقوم بها على الوجه الاكمل، وهو يعلق على القصائد، كلا بمعزل عن الاخرى، ويعقد المماثلات بينها استنادا الى اطروحته الخاصة فقط، وحين لا تنسجم فقرة ما مع تأويله – وسنرى مثالا على هذه – يكتفي بطرحها جانبا. وهو يتجاهل السياق، ويعزل الابيات او الكلمات عن بعضها لكي يضفي عليها قيمة مطلقة، دون اعتبار لوظيفتها المخصومة في القصيدة التي يقتطفها منها، ويقيم دراسة كاملة عميقة عن كون «الانسان يسكن شعريا» على أساس نص، ربما كان منحولا، ضمنه بينسر تحت عنوان (نسبة ملتبسة). وفي هذه الدراسة نفسها يقتبس، دون شعور بالذنب، وعلى نحو مماثل للاعمال الاخرى، قصيدة عن جنون هولدرلين، قصيدة وقعها هولدرلين وأرخها: "المخلص لك بتواضع، سكاردانيلي 24/ أيار/1748".
ويتجاهل تماما كل القضايا المتعلقة بالتقنية الشعرية، التي كان هولدرلين بالتأكيد يحيطها باهمية بالغة، اذ لا يمكن تفسير عدد من مواطن الشذوذ والغموض في هذه القصائد دون الاشارة اليها. ويمكن للمرء ان يمضي في احصاء حروق هيدغر لقواعد التحليل النصي الاولية. مع ذلك ليست هذه الحروق اعتباطية لغياب الضبط، بل انها تستند الى شعرية تسمح بالاعتباطية، بل تستدعيها، ومن اللازم علينا، ان نعاين هذه الشعرية بايجاز.
هولدرلين، عند هيدغر، هو أعظم الشعراء (شاعر الشعراء) لانه يبين ماهية Wesen الشعر. وتكمن ماهية الشعر في تبيان الباروزيا، او الحضور المطلق للوجود، وبهذا يختلف هولدرلين عن الميتافيزيقيين الذين يرفضهم هيدغر، اذ انهم مخطئون جميعا، الى حد ما في الاقل، وهولدرلين هو الوحيد الذي يستشهد به هيدغر، كما يستشهد المؤمن بنصوص الكتاب المقدس. فليست المسالة مجرد نقد بالمعنى الابستمولوجي للكلمة، فكل مفكر كبير، شأنه شأن هولدرلين، منخرط في الباروزيا، لأن ماهية الباروزيا الا يفلت منها أحد. لكن هناك اختلافا جوهريا بينهما، فحيث يبين هولدرلين حضور الوجود، وتكون كلمة الوجود حاضرة لديه، وهو يعرف ان هذه هي الحالة، يبين الميتافيزيقيون، من ناحية اخري، رغبتهم بحضور الوجود. ولكن ما دامت ماهية الوجود ان يكشف عن نفسه باختفائه فيما ليس هو، فهم لا يستطيعون تسميته ابدا. انهم مخدوعون بحيلة الوجود، وهم أغرار برغم ادعائهم الافراط في العلم، لان ما يسمونه ماهية، ليس سوى الوجود المتنكر، وما يرفضونه بوصفه نفيا للماهية، هو في واقع الامر، الوجه الحقيقي للوجود نفسه. وهم يقولون الحقيقة، ولكن دون ان يعرفوها. وهذه الحقيقة واضحة فقط للميتا – ميتافيزيقي، او ما وراء – وراء الطبيعي (هيدغر) الذي يجد نفسه في موقع قريب من "الفيلسوف" الذي يمتلك اصلا «الروح المطلقة» (في ظاهراتيات الروح لهيغل)، فكما نفذ هيغل الى حركة الوعي وتمكن من شجب اليقين الساذج بالوعي الطبيعي باسم الحقيقة المطلقة للوعي بالذات، نفذ هيدغر الى حركة الوجود، وتمكن من كشف النقاب عن ارادة حضور الوجود، كما يظهر نفسه في الكينونة، باسم باروزيا الوجود. وتتضح هذه الفكرة اتضاحا كاملا، وتتطور بصورة عامة في الضميمة التي أضافها الى مقالته "ما الميتافيزيقا؟"، حيث يقول ان ما تتصوره الميتافيزيقا لا – وجودا هو في واقع الامر، وجود منسي.
من ناحية أخرى يعرف هولدرلين حركة الوجود هذه. ويصفها في مرثية Heimkunft ولا سيما في فقرتين منها:
Was du suchest, es ist nahe begegnet dir schon [ما تبحث عنه، قريب، ماثل أمامك]
وهو بيت يبين الباروزيا والضرورة المتناقضة في وجوب البحث عما يقدم نفسه مباشرة. ويكتمل هذا البيت ويفسر بما يأتي:
Aber das Beste, der Fund, die unter des heiligen Friedens Bogen lieget, er ist Jungen unt Alten gespart ان الاجدي، تلك اللقية، التي تكمن تحت قوس السلام المقدس محفوظة للصغار والكبار).
اذا قرأنا هذا البيت على طريقة هيدغر، فانه يبين ان حركة الوجود خفية منغلقة. والشاعر الذي شهدها وتصورها، شهدها وتصورها اكثر من الميتافيزيقي، لانه شهد الوجود كما هو في حقيقته. انه يجد نفسه في الحضور المطلق للوجود، وقد صكته الصاعقة الهيروقليطية لسطوع الحقيقة، ولذلك لن يسمي كون الوجود يقدم نفسه للميتافيزيقي قناعا خادعا، بل يرده الوجه الحقيقي له:
Jetzt aber tagts! lch harrt und sah es kommen Und was ich sah, des Heilige sei mein Wort. [لكن ها هو النهار ينبثق ! لقد انتظرت ورأيته قادما وما رأيته، ليكن المقدس كلمتي.]
يبين شرح مرثية Heimkunft الطبيعة الغامضة للوجود التي يجب ان نتعرف فيها الاضطراب الخاص، والطبيعة الانجذابية للآنية Daseir في "الوجود والزمان". ويبين شرح ترنيمة « wie wenn am Feirtage… التي انتزعنا منها الابيات السابقة، المصير الناشيء عن الانكشاف: النهاية الوشيكة لليل الخطأ عن طريق عودة دورية لاشراق الحقيقة الاصيل، ذلك الانجذاب الزمني الذي يستأنف انفتاحه على مستقبل تاريخي يفهم على شكل أخروية، ومواءمة قريبة بين المصير والوجود. او بعبارة مختلفة نوعا ما، تبشر بما ستصير اليه طريقة هيدغر فيما بعد، يعيد شرح Andenken صياغة التعليقين السابقين ويجمع بينهما في البيت الاخير:
Was bleibet aber stiften die Dichter [لكن ما يبقى يؤسسه الشعراء]
الذي يرى هايدغر انه يعني: ان الشاعر يؤسس الحضور المباشر للوجود بتسميته.
في البداية يظهر هنا سؤال واحد: لماذا يحتاج هيدغر للاشارة الى هولدرلين ؟ قيل وتكرر القول ان هذه الشروح ليست سوى صياغة لفكره الخاص تستخدم هولدرلين ذريعة لها، او مجرد مرجع مهيب يضفي على ما يؤكده مزيدا من الموثوقية. غير ان هيدغر هو المفكر الذي يستغني عن كل مراجع الموثوقية المتاحة (بطريقة غامضة دون شك، يتوافر خير مثال عليها بمعالجته كانط وهيغل) فلماذا يستبقي هولدرلين على وجه التحديد؟ لا لان هولدرلين شاعر، لاننا نعرف من دراسته عن «رلكه» ان الشعراء ليسوا اقل عرضة "للخطأ" من الميتافيزيقيين. ووفقا لانتهاك "ايليس بدبيرغ" يساوي هيدغر بين ملاك المراثي وزرادشت نيتشه. مع ذلك، يظل «رلكه» الشاعر الاقرب الة هيدغر، اذ يشترك معه في همومه. ويضعنا هذا الشذوذ في طريق تفسير ما.
حين يقرأ المرء آخر شرح على هولدرلين: «يسكن الانسان شعريا»، يفهم لماذا يحتاج هيدغر الى شاهد، الى من يمكنه ان يقول عنه انه سمى الحضور المباشر للوجود. الشاهد هو حل هيدغر للمعضلة التي عذبت الشعراء والمفكرين والمتصوفة: كيف نصون لحظة الحقيقة ونحفظها؟ في رأي هايدغر، لقد نسي جميع الميتافيزيقيين الغربيين من انا كسمندر الى نيتشه، الحقيقة بنسيان الوجود. ولا يزيد المعروف عن الفلسفات الشرقية عما قاله هولدرلين في القصيدة الغامضة «Der Ister» كيف يتأتى لنا تعزيز استذكار الوجود الحقيقي بحيث نعثر على طريق عودتنا له ؟ لابد ان تكون هذه اللقية، هذه الـ Fund في مكان ما، واذا لم تكشف عن نفسها، فكيف سنستطيع الحديث عن حضورها؟ لكن ها هو من يقول لنا انه رأها – وهو هولدرلين – ومن يستطيع فضلا عن ذلك الحديث عنها، وتسميتها، ووصفها، فلقد زار "الوجود" واخبره "الوجود" بأشياء حفظها عنه، وها هو يعيدها على مسمع الملأ. وهيدغر، فيما يتعلق به شخصيا، غير متأكد بما يكفي انه شهد «الوجود» وهو يعرف على اية حال، انه ليس لديه ما يقوله عنه سوى انه يخفي نفسه. لكنه لا يريد التوقف عن الخطاب، ما دام قصده ان يستجمع "الوجود" ويؤسسه بوساطة اللغة. وهو يريد ان يظل مفكرا، لا ان يتحول الى متصوف. يجب ان تظل تجربة الوجود تجربة ممكنة القول.
وفي الحقيقة، فان ما يحفظ ويصان، يوجد في اللغة، اذن لا بد من وجود شخص ما لا غبار على نقائه، يمكنه ان يقول انه سافر، في هذه السكة، وشهد ومضة الاشراق، يكفي شخص واحد، واحد لابد من وجوده. هنا تكون الحقيقة، التي هي حضور الحاضر، قد دخلت في صلب اللغة. فاللغة – أي لغة هولدرلين – هي الحضور المباشر للوجود. مثل هيدغر،. هي ان نحفظ هذه اللغة ونصون «الوجود».
حفظ الوجود وصونه هو الشرح، هو التفكير بهوليدرلين. هذا هو المنهج. يعرف هولدرلين الوجود معرفة مباشرة، ويقوله قولا مباشرا، ولا ينقص الشارح سوى الانصات، العمل هناك وهو نفسه باروزيا، فالوجود يتحدث بلسان هولدرلين، كما تحدث الاله على لسان الرائي كلخاس في الالياذة. حفظ العمل يعني ان ننصت اليه وحسب، بكل ما في وسعنا من انفعال، عارفين انه حقيقي على نحو مطلق وفريد. ويستعير هيدغر صورة شعرية من هولدرلين ليقارن العمل بجرس يجعله الشارح يرن (كلمة الشرح والتأويل في الالمانية Erlauterung تنطوي على الفعل lauten يرن، يدوي، يجلجل)، وهو يجعلنا نصغي لما يتشبت بذاته كليا، كانما يسقط البرد على جرس. ليست القضية اذن، ان تلحم حرية ما بحرية أخرى مثلها، تحاول ان تجد منفذا لها الى الحقيقة، فذلك تأول ونقد، يصح فيه الا تشرب تأول الوجود شائبة، ولا فعل سوى استقبال الوجود وحفظه. اما التأويل فلا يناله سوى الميتافيزيقيين – وحينئذ يتخذ شكل تحليل وجودي، وطهر لا يحظى به الا من كان قادرا على الانصات الى صوت "الوجود". مع هولدرلين، لا يوجد قط اي حوار نقدي. لا شيء في اعماله يخلو عن ان يكون محوا وغموضا وعتمة، يخلو عن ان يريده الوجود نفسه على نحو مطلق وكامل. فقط من يحط بذلك احاطة حقيقية، يستطع ان يكون «محرر» الوجود، ويفرض فواصله التي تصدر عن «ضرورة الفكر نفسه »، وما ابعدنا منا عن الفيلولوجيا العلمية.
يستدعي مثل هذا الموقف المحاكاة السافرة في تجاوزاته الواضحة، ولكنه امر ضروري في داخل الفكر الهايدغري، لان طموح هذا الفكر الا يكتفي بقول الحقيقة فقط، بل انه يحتل مكانة في الباروزيا، وان يسكنها ويقطنها. والشرح الذي هو حفظ للوجود وصون له هو ايضا في التحليل الاخير، الطريقة التي يمكننا من خلالها السكني في «الوجود» الواقعي، بدلا من السكني في مقلوبة. وتؤسس الوحدة المباشرة للكيانات الثلاثة: الوجود والشاعر والآنية الانسانية التي تنصت، بناء يمكننا ان نواصل المكوث فيه. وفي نصوص هيدغر المتأخرة، يمعن الوعد الاسمي الذي
يخفي نفسه وراء مذبح الميتافيزيقا التقليدية في الاعلان عن نفسه جهرا. وما دام الوجود قد أسس نفسه في اللغة في عمل الشاعر (هولدرلين)، فاننا نعد انفسنا، بتفكر هذا العمل، للعيش في حضورا لوجود و«السكنى شعريا على الارض».
حاجة هيدغر الى شاهد، اذن،أمر قابل للفهم. لكن لماذا ينبغي ان يكون هولدرلين ؟ لا ريب ان هناك أسبابا ثانوية ذات طبيعة عاطفية وقومية لايلائه الافضلية. فقد تم تدبر شروح هيدغر مباشرة قبل الحرب العالمية الثانية، وفي أثنائها، وهي ترتبط ارتباطا مباشرا بتأمل مكروب في المصير التاريخي لالمانيا، وهو تأمل يجد له صدى في قصائد هولدرلين "القومية". لكن هذه قضية تنأى بنا عن موضوعنا الاساسي. وهناك سبب آخر أعمق بكثير يبرر هذا الاختيار: وهو ان هولدرلين يقول النقيض تماما لما يجعله هيدغر يقوله. وهذا التأكيد متناقض ظاهريا وحسب. فعل هذا المستوى من الفكر يصعب التمييز بين قضية معينة، وما يشكل نقيضها. وفي واقع الامر، ان تذكر النقيض يعني ان تتحدث عن الشيء نفسه، وان يكن بمعنى مناقض. وان من اكبر الانجازات، في حوار من هذا النوع، ان يتفق المتحاوران على الحديث على الشيء نفسه. حقا يمكن القول ان هيدغر وهولدرلين يتحدثان عن الشيء نفسه، فمهما عاب المرء على شروح هيدغر، تظل اهميتها في كونها أبرزت لب هموم هولدرلين، وهي بهذا تتخطى الدراسات الاخرى. برغم ذلك، فانها تقلب فكره وتعكسه.
يتطلب بيان هذه القضية دراسة مستفيضة لعمل هولدرلين. ولابد ان نكتفي بايجاز بعض العناصر في هذا البيان، اعتمادا في الاساس على الشرح الرئيسي، أعني شرح ترنيمة “Wie senn am Feiertage…” قبل ان نشرع بهذا، لابد ان نؤكد على اهمية هذا السؤال في عموم فلسفة هيدغر، مع هولدرلين، لا يستطيع هيدغر اللجوء الى الغموض الذي يشكل عماد مساهمته الايجابية واستراتيجيته الدفاعية معا: فهو لا يستطيع ان يقول، كما يقول الميتافيزيقيون، انهم يعلنون عن الحقيقي والزائف، وانهم تزداد عظمتهم كلما امعنوا في الخطأ، وانهم كلما زاد قربهم من "الوجود" زاد هوسهم بحركته الاستخفائية. فلكي يتحقق وعد انطولوجيا هيدغر، يجب ان يكون هولدرلين ايكاروس العائد من طيرانه: اي يجب ان يبين بيانا مباشرا وايجابيا حضور الوجود، وامكان حفظه في الزمان ايضا. لقد أسند هيدغر مذهبه كاملا الى امكان هذه التجربة. وربما فسر هذا سبب شعوره، مذعنا لتكتيك قد لا يكون شعوريا، بالحاجة الى الاعتماد على العمل الذي يصرح بانه هو هذه التجربة التي هي، من بين كل التجارب الاخري، محظورة على الانسان بالكامل.
هذه الترنيمة المنقوصة وغير المعنونة التي تبدأ بالبيت:
Wie wenn am Feiertage das Feld zu asehen…
[ما لو في يوم عيد، ترى حقله] (1800) هي واحدة من اشهر قصائد هولدرلين، لقد أثرت بعمق في شعراء من طراز شتيفان غيورغي ورلكه على النصوص، لانها تهتم بالتوتر الذي يولد منه الفعل الشعري، وهي تعبر عن ماهيتها اكثر من أية قصيدة.
يبدأ شرح هيدغر باظهار ان الترنيمة ترى أن الشاعر هو الماثل في حضرة الوجود، وان كلمة «طبيعة» يجب ان تجعلنا نفكر، لا بالطبيعة ما قبل سقراط phusis لانها مفردة أفسدها التراث الميتافيزيقي، بل بالوجود كما يفكر به هولدرلين، وكما هو على حقيقته. ويتأكد هذا التعريف لكلمة (طبيعة) في القطعة التالية:
Denn sie, sie seibst, die alter donn die Zeiten Und uber die Gatter des Abends und Orient ist, Dir Natur…
[لأنها، لأنها، ذاتها، التي هي أقدم من العصور كلها وفوق آلهة الشرق والغرب الطبيعة…]
انه تعريف يجد تكملته في نعوت تصف الطبيعة وفعلها، ولا سيما عبارة: «كلية الحضور على نحو مذهل». ويبرر الوصف التماهي الذي يجريه هيدغر بين الوجود والطبيعة، فمن الواضح انها ليست طبيعة بالمعنى الرعوي، ولا حتى بالمعنى اللاشعوري الذي تختزنه الكلمة في الشذرات الفلسفية لحقبة همبرغ، بل هي ذلك الالمام المباشر (الحضور) لما يكون بمثابة سناد لكل الموجودات، ذلك الذي يسبقها ويجعل من الممكن استحضارها امام الوعي. وما يسمى بحضور الحاضرين، في الجهاز الاصطلاحي لهيدغر، اي الماهية المشتركة للافراد الحاضرين جميعا، هو ما يكون الحضور الكلي للاشياء. انه العطاء المباشر للوجود. الذي هو «مجرد الوجود» عند هيغل، ما دام لم يستحضر في الوعي. ومن المشروع تماما، من منظور هيغلي، ان نشير اليه كمجرد وجود، لانه في ذاته، ليست لديه الامكانية ولا الضرورة، لكي يطور نفسه الى عقل (لوغوس). فحضوره الكلي، اذن، قضية لا مبالاة واستواء اضداد لا يحتاج الفيلسوف عندها الى اللبث في الحنين الى المباشرة الاصلية، التي لا يوجود عندها ما يمكن الافصاح عنه. اما عند هولدرلين، الشاعر، فان هذا الحضور الكلي «مذهل»، لانه الانكشاف المباشر لما يبدو اقرب منشود الى نفسه. السؤال الذي يعذب الشاعر- وهو موضوع القصيدة فعلا- هو: كيف يستطيع الانسان لا ان يتحدث «عن» الوجود وحسب، بل ان يقول الوجود نفسه، والشعر خوض لتجربة هذا السؤال.
هيدغر، اذن، محق في ان يرى في القصيدة بيانا لعلاقة الشاعر بالوجود، وهذا مثال جيد على القيمة العميقة لشروحه. ولكنه يبدأ بتشويه المعنى حين يواصل القول ان الشاعر يصور حضور الحاضر.
ويتجلى كشفه في القطعتين التاليتين:
So stehn sie wneter gustiger Witterung Sie die kein Meister allein, die wunderbar
Allgegenwartig erziehet in leichtem Umfangen Die Machtige, die gattichscharie Natur.
[حرفيا: هكذا يقف تحت سماوات عطرة أولئك الذين بلا معلم واحد، والذين بصورة مذهلة يثقفهم كلي الحضور بضمة من نور الطبيعة القوية، ذات الجمال الالهي] (2)
وايضا:
[لكن ها هو النهار ينبثق ! لقد انتظرت ورأيته قادما وما رأيته، ليكن المقدس كلمتي].
هل تقول لنا القطعة الاول ان الشعراء يقفون تحت سماوات سمحة لانهم يسكنون في حضور الوجود؟ هل تقول لنا ان الشعراء ينتمون للوجود، كما يزعم هيدغر؟ يقول النص ان الوجود (اي الطبيعة) يثقف الشاعر، والطبيعة عند الشاعر حال يرغب في نيلها ومحاكاتها. وهذه المحاكاة ليست المحاكاة الأرسطية mimeesis فالقول هي المحاكاة الرومانسية Bildung اي الانصراف التلقيني من خلال التجربة الشعورية للوجود. هنا من المشروع تماما، بل من الضروري ان نشير الى «هايبريون» الرواية التي كتبها هولدرلين في شبابه، حيث يتحدد معنى كلمة محاكاة Bildung المرادفة لكلمة تثقيف erziehung بوصفها الطريق المنحرفة التي يسلكها الانسان باتجاه الوحدة الاولية للمباشر. ان الشاعر هو الذي يقبل الطبيعة (الوحدة المباشرة للوجود) دليلا له، بدلا من الخنوع لعرف يقبل الانفصال بين الانسان والوجود ويؤيده. قد يفكر المرء هنا بروسو، محاذرا من التأويل المتسم بوحدة الوجود pantheistic فالقول بمعلم ما، لا يعني التماهي معه، او الانتماء اليه، بل يعني ان هناك، وستظل، فجوة لا تردم. على اية حال، لا تقول القطعة لدى هولدرلين ان الشاعر يسكن في الباروزيا، بل تقول انها مبدأ الصيرورة، على نحو ما يكون المطلق المبدأ المحرك لصيرورة الوعي في «ظاهراتيات العقل» عند هيغل.
اما بخصوص القطعة الثانية: «وما رأيته، ليكن المقدس كلمتي»، فيقول هولدرلين انه، وقد هدته الطبيعة، شهد المقدس، لا يقول انه شهد الاله، بل ماهية الالهي، وهو المقدس، الذي يتعالى على الآلهه، كما يتعالى الوجود على الموجودات. قد نوافق هيدغر على اننا معنيون بما يسميه بالوجود. يحظى الشاعر، كميز الوجود المخلص بالايثار منه، لانه يدعوه لشهوده في حضوره الكلي العجيب. لقد صعقه هول هذه الحقيقة، ما دام يعرف القيمة الاسمي لهذه الرؤية التي لا تبدو، وقد ظلت كما هي لدى بقية الفنانين في الشعور الجزلي الزائف، في كامل طاقتها الانفعالية. لكن هولدرلين يعرف ايضا ان شهود الوجود لا يكفي، وان الصعوبة تنشأ بعد تلك اللحظة مباشرة. فقبل ان يظهر الوجود نفسه، يعيش الانسان في حالة توقع، يبقى الذهن متربصا، كلما ازداد التركيز، ازداد دنوا من اللحظة، مفكرا ومبتهلا. بعد ذلك يظهر الوجود نفسا في سطوع النهار، في الحاضر الزماني المطلق. فاذا أمكن لأحد ان يقوله،فسيتأسس، لان للكلمة ديمومة ما، تؤسس اللحظة في حضور مكاني يمكن للانسان ان يسكنه. ذلك هو الهدف الاسمي، وتلك هي رغبة الشاعر الاخيرة، التي تجعل هولدرلين يتبنى نبرة ابتهال:
وما رأيته، ليكن المقدس كلمتي.
انه لا يقول ان المقدس هو (يكون ist) كلمتي. وصيغة الشرط، في الواقع، صيغة تمن [في العربية: لام الأمر هنا للدعاء]، انها تشير الى ابتهال ودعاء، وتؤشر رغبة، ويبين هذان البيتان القصد الشعري الابدي، ولكنهما يبينان بعد ذلك مباشرة، انه لن يزيد عن كونه قصدا. لذلك ليس الشاعر بقادر على تسمية الوجود لانه شهده، بل ان كلمته تبتهل وتصلي من أجل الباروزيا، ولا تؤسسها قط.
لا تؤسس الكلمة الباروزيا، اذ ما ان تنطق الكلمة، حتى تدمر المباشر، وتكتشف انها بدلا من تبيان الوجرا، لا تبين سوى الوساطة. وحضور الوجود، عند الانسان،، دائما في حالة صيرورة، ولا يظهر الوجود بالضرورة الا تحت شكل غير بسيط. تقرر اللغة، في لحظة انجازها القصوى، ان تتوسط بين البعدين اللذين نميزهما في الوجود. وتتوسط بينهما عن طريق محاولة تسميتهما، والامساك بالاختلاف والتناقض بينهما والفصل فيه. لكنها لا تستطيع جمع شملهما
والتوحيد بينهما ثانية، فوحدتهما تدق على الوصف، ولا تقال، لان اللغة نفسها هي التي تظهر هذا التمييز. تريد اللغة، مدفوعة بفتنة الباروزيا، ان تؤسس الحضور المطلق للوجود المباشر، لكنها لا تستطيع الا ان تبتهل او تنازع من أجله، ولن تجده ابدا. يرتاب هيدغر بهذا، معتمدا على
الابيات الآتية:
Und hoch vom Aether bis zum Abgrund nieder Nach vestem Geseze, wie einst, aus heiligem Chaos gezeugt,
Fuhit neu die Begeisterung sich
Die Allerschaffende wieder
تقول الترجمة الحرفية التي تلي تأويل هيدغر العميق لهذه الأبيات:
أعلى من الاثير، ودون الاعماق السفلى
متابعا سنة ثابتة، كمن اجتذب من العماء المقدس
الخالق الكلي مرة اخرى.
يقول هيدغر: "تنكشف ماهية ما يسمى «الوجود» في الكلمة. فبتسميتها هامية الوجود، تفصل الكلمة الجوهري عن اللاجوهري (او المطلق عن العرضي: das Wesen vom Unwesen)
ولأنها تفصل (scheidet ) في صراعهما فهي تقرره (eatscheidet) مع ذلك، يحدث الانفصال ومن وجهة نظر الوجود المباشر، فان اللا -جوهري كله يوجود على جانب الكلمة، ما دامت الكلمة هي التي تفصل ما لا يسمى عما يسمى وتدمره. ولا تكشف الروح (الوجود) عن نفسها بل تشعر بالتجدد وتتصرف مرة أخرى بوصفها هدفا للصيرورة، ولكنها تبدو الحر من اي وقت آخر بصورة صراع. ان التلاعب بالمفردات scheiden – entsecheiden كبيس واضح، اذ بفضل الانفصال الذي تحدثه الكلمة، تمنع الكلمة الصراع من الوصول الى غايته. انها تحول الصراع في ذاتها، وهذا ما يجعل منها وساطة دائمة التجدد. ويبدو هيدغر على شفير التسليم بأن "الطبيعة يجب ان تبقي هذا الانفتاح حيث يلتقي الفانون والخالدون.
ويتشفع الانفتاح في خلق علاقات بين الموجودات الواقعية جميعا. اذ لا يتشكل الواقعي الا من خلال هذه الشفاعة intercession ولذلك فهو شيء موسوط. وهكذا فان الموسوط ليس سوى قوة الوساطة. غير ان الانفتاح نفسه، الذي يسمح بوجود جميع علاقات التبعية والمزامنة، لا يأتي عن وساطة (او شفاعةVermittlung) فالانفتاح نفسه هو المباشر. ولا يستطيع شيء وسيط، الها كان او انسانا، ان يبلغ المباشر مباشرة. ضرورة الوساطة بينة بوضوح. وهذه القطعة شرح مخلص لاحدي شذرات هولدرلين الفلسفية (طبعة هلنغرات، جـ 2، ص 276). ويمضي قائلا: «ان دائم الحضور في الاشياء كلها يجمع الاشياء الحضارة المعزولة كلها، ويتشفع ليسمح لكل شيء بأن يكشف عن نفسه. والحضور الكلي المباشر هو القوة التي تتشفع لكل ما يجب ان يكشف من خلال الشفاعة، أي لكل الاشياء الوسيطة. غير ان المباشر لا يمكن ان يكون موسوطا، فالمباشر على وجه التحديد، هو الشفاعة، أي هو هو الخاصية الوسيطة للوسيط، لانه يسمح بالوساطة في وجوده. و«الطبيعة» هي الوساطة التي تتوسط كل الاشياء، انها «القانون» او "السنة"».
هذه القطعة، التي تشكل نقطة الانعطاف في الايضاح، قطعة متناقضة، فهي تبين ان الوساطة ممكنة بفضل المباشر، الذي هو فاعلها، وفي الحقيقة، يبدو المباشر، في الآن نفسه، بوصفه العنصر الايجابي والمتحرك، ولا يستتبع ذلك القول بأن المباشر، بوصفه الفاعل الوحيد، يجب أن يتماهى بالوساطة نفسها، التي تحدد البنية المتعددة للفعل واذا كان لكلمة وساطة اي معنى، فهو المعنى الذي تتوقف عنده الوساطة، بحيث لا تتماهى بأحد العنصرين في الحضور وتؤدي به الى استبعاد الآخر، فهو بكيان ثالث ينطوي على كليهما. والقول بان المباشر يحتوي على امكان وساطة الوسيط، لانه يسمح بها في وجوده، قول صحيح، ولكن ما لا يصح هو ان نستخلص منه ان المباشر، بالتالي، هو الشفاعة الواسطة.
يمكن القول ان اطروحة هيدغر، تمضي على النحو التالي، اذا صح التماهي الآتي: الشفاعة، التي هي اللغة، هي ايضا المباشر نفسه، والقانون، الذي هو اللغة التي تميز بين الاشياء، هو الشفاعة، اي المباشر او «الوجود» نفسه، اذ ان كل شيء يتوحد على مستوى الوجود. وحين يقول الشاعر القانون، فانه يقول المقدس، الذي يبدو لنا عماء بسبب نسياننا الوجود. ولكن ليس في هذه القصيدة، ولا في اي من كتابات هولدرلين، ما يجيز هذه النتيجة. ربما غير الشاعر من طريقته في تسمية بعدي الوجود، اللذين أطلق عليهما أزواجا من المصطلحات المتعددة: الطبيعة والفن، العمائي والعضوي، الالهي والانساني، السماء والارض، لكنه لم يضطرب عند نقطة ما في معرفته ببنيتها المتناقضة بالضرورة. والبيت:
متابعا سنة ثابتة، كمن اجتذب من العماء المقدس
ينطوي على تلميح مباشر للخلق، باعتباره ما يؤسس، عن طريق "الكلمة"، اذا اخذت بمعنى شبه قانوني (Gesez, zeugen) التمييز بين المقدس (العمائي لانه لا يميز) وبين الوسيط الذي انبعـث (aus gezeugt…) من المقدس، ولذلك لم يعد منه.
اذن، حين يقول الشاعر: القانون، فهو لا يخول: الوجود، بل استحالة تسمية ايما شيء غير الترتيب، المتميز في ماهيته عن الوجود المباشر.
مهما يكن، يخفق التماهي الذي يقترحه هيدغر بين اللغة والمقدس، في تفسير بقية القصيدة: فهو يطل مشتبكا مع السؤال الذي اعتقد انه حله، في الوقت الذي يجب ان يبقى، عند هولدرلين، بلا جواب، اذ لو كان الشاعر قد شهد الوجود مباشرة، اذن فكيف سيسوغه في اللغة ؟، وللسبب نفسه، يضطر هيدغر الى تجاوز ما يدنو من نصف مقطوعة (اسطورة موت سيميلي ومولد ديونيزيوس الذي يصوره هولدرلين تلميحا على طريقة بندار)، ويتجاوزها دون ان يقدم أي مسوغ، فيعاملها وكأنها موضوع رخيص دس هناك اعتباطا. بالمقابل، اذا اتفقنا على كون القصيدة تعبر عن التماهي المنشود بين اللغة والمقدس، اذن، فسيتضح نموها والمصاعب القائمة على نتيجتها. فيقظة الطبيعة، التي سببها الشاعر، ليست الانكشاف المباشر للوجود، بل هي يقظة التاريخ الذي يواصل تقدمه،فالشاعر لا يستطيع ان يقول الوجود، بل يستطيع ان يوقظ فعله غير الفوري، لانه اوغل في تجربة علاقته الوسيطة بالمقدس. انه يفترض القيام بمهمة الانسان الاسمي في ضمان الوساطة، من خلال شخصه، بين الوجود ووعي الوجود، المؤسس قانونا في "الكلمة". وهذا الفعل الاسمي هو ايضا تضحية أسمى، لان ترميم الوجود بالوعي يتحقق بالضرورة على حساب انكار حضوره الكلي الذي لا يقال، واكتساب الآنية، بما لا يقل ضرورة خاصية التناهي، والاغتراب. يعرف الشاعر هذه الضرورة، ولكنها تبدو، لمن لم يبلغوا هذه المرحلة من الوعي، بهيئة الحزن، وعن طريق استبطان الاحزان، يأخذها الشاعر على عاتقا، (يقول المشروع النثري للترنيمة: معاناة أحزان الحياة)، ويضفي عليها من خلال تضحيته الشاملة، التي تتخطى حدود الموت، قيمة مثال وانذار: «قد اغني اغنية العذاب المنذر/ للاغر ار». هنا يستحيل علينا الا نتذكر دراما "امبيد وقلس" التي كبت قبل هذه القصيدة بفترة وجيزة، والتي تحدد الموضوعة التي ستسود في القصائد التاريخية والقومية.
مع ذلك، يبدأ هولدرلين بتلمس آثار توتر جديد. فالموت الداخلي (الذي هو موت وعي طبيعي ينسخه وعي طبيعي أرقي، بالمعنى الذي ترد فيه كلمة «موت» في مقدمة «ظاهراتيات الروح » لهيغل)، يتم التفكير فيه في البداية حزنا انسانيا، لكن التجربة الداخلية لهذا الحزن لا تكفي. لذلك نجد في الصياغة الثانية لهذه القصيدة عبارتي: لم معاناة أحزان الله) و(أحزان المقتدر) بدلا من (معاناة أحزان الحياة). هكذا ترتفع المعاناة الانسانية الى مستوى أعلى وهذا يعني ان هذا الحزن يطو على الفاني، وان الوساطة، كما لم يخف على هيدغر، هي ايضا، وان تكن بصورة لا تكاد تبين لنا، قانون الالهي، المتعلق بحاميته المقدسة. اما بالنسبة الينا فيكمن حزن الوساطة في التناهي، ولا نقدر ان ندركه الا بصورة موت.
وما دمنا في داخل دائرة الوجود الانساني، التي هي ايضا دائرة الكلمة الشعرية، فلا نستطيع ان نفكر بالاحزان الالهية الا بصورة موت للاله. مهمة الشاعر، اذن، ان يستبطن هذا الموت، وان يتنكر في موت الاله. غير ان هذه القضية أوسع بكثير من ان تقوم بها هذه الترنيمة المفردة، التي كان كوجهها النقدي تاريخيا اكثر مما كان دينيا، وستظل مجرد تخطيط، حتى تتولى موقع الصدارة في الترنيمات المسيحية لاحقا. وتمثل قصيدة “Wie wenn am Feiertage” قطعة انتقالية تشير الى الحقبة الجديدة، وتكشف امكانيا هذا الانتقال انه ما من تحول جوهري في بنية الفعل، وان التجربة الدينية، لدى هولدرلين، هي ايضا وساطة.
خلاصة الامر، تقترح هذه الترنيمة تصورا عن الفعل الشعري بوصفه فعلا منفتحا وحرا في جوهره، بوصفه قصدا خالصا مجردا، وابتهالا واعيا وموسوطا يحقق وعيه الذاتي باخفاقه، وهذا باختصار تصور مضاد تماما لتصور هيدغر. وما دام التركيز الشعري باقيا لدى هولدرلين، فان هذا الجانب من المراهنة والتحدي يؤكد نفسه، واذا لم يكن في موضع، ففي الوظائف الوزنية والشكلية الوعرة، التي يفرضها على نفسه. والتي لا يحلها الا حين يبحث عن اوعر منها. وفي الاعمال التي كتبها في فترة جنونه تفسح الوعورة مجالا لبساطة طفولية، لعلها مقرونة بسخرية شفافة بصورة رهيبة. من يجرؤ على القول ما اذا كان هذا الجنون انهيارا عقليا أم طريقة هولدرلين في تجريب الشكية المطلقة الشاملة ؟ ثم أليس من قبيل الجرأة الكبرى اضفاء قوة تمثيلية على هذا الجنون، والقول، كما يقول هيدغر، ان آخر قصيدة كتبها هولدرلين وعد بالسكني في باروزيا الوجود؟
ينبغي ان يكون الشرح على شعر هولدرلين نقديا في الجوهر، اذا اراد الاخلاص لتعريف الشعر عند كاتبه. ومثلما ان هذا الشعر نقدي في تيقناته، فان طبيعته الايهامية ليست ذات قناع. ومن شأن هذا النقد ان يرقى الى مرتبة الحوار، التي نشدها هايدغر مرارا لمفكرين آخرين، وانكرها على هولدرلين. وهذا في واقع الامر، من اكثر ما يؤسف له، لان تأمل هيدغر في الشعر، هو تأمل فيما لا يقال، الامر الذي يستدعي طريقة مناهضة تماما لطريقة هولدرلين. مع ذلك، يمكن ان تشكل المواجهة بين هذين الموقفين المسكنين مركز شعرية سليما.
ان اي منهج تفسيري يجب ان يضع يده في آخر الامر على المشكلة نفسها: وهي كيف نبلور لغة قادرة على الاهتمام بالتوتر القائم بين ما لا يسمى وبين الوسيط. ان ما لا يسمى يتطلب التصاقا مباشرا ومخاضا أعمى وعنيفا يعامل بمثله هيدغر هذه النصوص. في حين تعني الوساطة تفكيرا يميل الى لغة نقدية، تكون منهجية ودقيقة بقدر ما تستطيع، ولكنها غير متلهفة صراحة في استعمال دعاوي اليقين، الذي لن تصله الا في نهاية المطاف. وتمثل الفيلولوجيا، بوصفها حقل سيطرة، وموصومة بالاعتباطية والعلم الزائف على السواء، مستودعا للمعرفة الراسخة، لذلك فالرغبة في ابطالها – وليس واضحا هل ابطالها امر ممكن – بلا قيمة.
وهكذا حين تنفيها نزعة صوفية او علمية على السواء، فإنها ستحظى بفهم متزايد لذاتها، مما سيحفز نمو حركات منهجية في داخل حقل اختصاصها، وهذا ما يعززها في آخر الامر.
ان دراسة «بيدا آليمان» للاسئلة التي مسحناها، تمثل وجهة نظر مناقضة تماما لوجهة نظرنا، ما دام يدعو الى ايجاد تواز، وتجانس بين فكري هيدغر وهولدرلين. ويدافع آليمان عن منظوره بعقل قادر على ابراز أبعاد أصيلة في تأويل هولدرلين، وفي طرح أسئلة نافعة عن الشذرات الفلسفية لحقبة همبورج، والشروح على الترجمات، والترانيم الاخيرة. بالرغم من ان المؤلف يتابع فكر هيدغر، فانه لا يتابعه على نحو صاغر او آلي، بل ينجلي عن مخاض عقلي يكشف عن مشاطرته الشخصية والمستقلة لخطوات الانطولوجيا عند هيدغر.
ودون الدخول في السجال التفسيري، الذي يستوجب ان يكون بالغ التفصيل، ثمة سبب يدعو الى معارضة اطروحة «بيدا آليمان»، لا فيما يتعلق بخلاصتها العامة، بل فيما يتعلق بتطبيقاتها الفلسفية. ان التجانس المزعوم بين هولدرلين وهيدغر يكمن في حركة النقض او القلب (Keher) التي تطرأ على كلا الفكرين، ويفترض ان بنيتها والقصد فيها متشابهان. ينكشف القلب، عند هولدرلين، في انقلاب جذري ينتزعه من فلسفة في المصالحة الى فلسفة في الانفصال الضروري. في حين ان القلب، لدى هيدغر، حركة غامضة للوجود نفسه، برغم ان آليمان يردها، وهو مصيب في ذلك تماما، في المنظور التاريخي الذي يستقي من هذه الحركة، اي تراجعا الى الجانب البعيد في الميتافيزيقا هن اجل تخطي هذه الميتافيزيقا نفسها.
صحيح ان لدى هايدغر نقضا او قلبا، ولكنه ليس القلب الذي يحدث بالطريقة نفسها لدى هولدرلين. يكمن اللبس لدى آليمان في تأويل غير مقبول لموت «امبيد وقلس»، الذي يفهمه بالفاظ تقليدية، عودة الى الشمول Pan غير المتميز، اي الى مصالحة مطلقة. لكن موت «امبيدوقلس»، هو على النقيض من ذلك تماما، «موت» بالمعنى الهيغلي للكلمة. القلب هو قلب الوعي في مقدمة «ظاهراتيات الروح »، لهيغل، اي الانتقال من خلال الوساطة، الى مرحلة أعلى من الوعي، بينما هو في حالة امبيدوقلس وعي تاريخي. ولا يمكن العثور على قلب انطولوجي واحد لدى هولدرلين، بل على فلسفة معيشة لقلب يتكرر،ليست سوى فكرة الصيرورة. وبما ان هناك قلبا او نقضا دائما، فلا وجود لمصالحة أبدا، حتى ولا في أعماله المبكرة. ويجعل القلب من الجهد المضني للتفكير بالالهي مظهره الاخير. لذلك فوصف الحقبة الاخيرة بكونها وساطة الالهي صحيح، لكنه ليسر تعليلا لنشوئها. وبالنتيجة، تتحول حركة القلب او النقض الى ظاهرة مطلقة، ويتم تقديم موقع هولدرلين فيما يسمى بالفلسفة المثالية في ضوء زائف. وبإبرازه فكرة المصالحة سمة أساسية لكل مثالية، يصور آليمان مولدرلين وهيغل وكأنه معني بشيلنغ الشاب، وتدحض الأعمال الكاملة لهيغل، في أكثر مقاصدها جوهرية مثل هذا الوصف، ويؤكد النقد الذي تعرض له بدءا من كيركغارد حتى يومنا هذا، هذه الواقعة، واذا وجدت يوما ما فلسفة للانفصال الضروري، فهي فلسفة هيغل، أما تشبيه فكرة الروح المطلقة بالمصالحة المثالية، فيعني تمهيد الطرق للكبيس. ان فكر هيغل وفكر هولدرلين متوازيان، في هذه المسالة، توازيا ملحوظا، لكن اختلافهما يظل أعمق، ما يتطلب نبرة مختلفة ونداء متميزا الى حد كبير، برغم المشابهة النسبية بين فكريهما، واذا أراد المرء أن ينتفع من هذا الاتفاق الاعجازي تقريبا ليسلط الضوء فعلا على علاقات الفلسفة بالشعر، فالأفضل الا يبدأ بتثبيت اختلافات لا وجرد لها، حين تكون المشابهات أكثر نفعا بكثير.
يصح النقد الذي وجهه مولدرلين وهيغل لتعاليم شيلنغ على «بيدا آليمان» الذي يكشف، في أخر الأمر، استحالة حفظ المباشر وصونه، وبذلك يبتعد عن فكر هيدغر، الذي يكمن أخر جهد له في العودة الى اتحاد أكثر أصالة. ومما يؤسف له، من هذا المنظور، ان آليمان كب دراسته عند هذا المفصل المبكر، في وقت يبدو أن فكر هيدغر يوشك أن يمر بمرحلة قلب جديدة، ولا يريد ان يسلم نفسه لأية دراسة محددة، ومن الواضح تماما، ان فكرة السكني كما تشف عنها نصوص Vorträge مناقضة بالكاهل لذلك الفكر الممزق والمشتبك الذي يكشفه بيدا آليمان لدى هولدرلين المتأخر. والحق ان هيدغر يتجاوز هذه النقطة، ويضمن عمله فترة الجنون، فيراها تنطوي على وعد براحة بال وسلام منشودين. ولا يمكث آليمان إلا قليلا عند الشذرات السابقة للجنون مباشرة، وهي نصوص جعلها العذاب العقلي الذي تستثيره نصوصا ممسوسة مهلوسة، ومن بين أقل النصوص سلاما وراحة بال. والحقيقة أن هولدرلين، لدى آليمان، أقرب بكثير الى هيغل منه الى هيدغر، ولقد سقط آليمان ضحية خطا للنفوذ الذي مارسه هيدغر، فلكي يحافظ على المنظور التاريخي الذي يتطلب أن يظل هيغل مقصرا عن إبطال الميتافيزيقا الغربية، بينما يوغل هولدرلين فيها، شوه آليمان القضية موضوع النقاش، التي يرفض أن يبحث عنها حيث صيغت ببالغ الوضوح.
الاشارات:
1- يحل المؤلف الى نصوص هيدغر عن هولدرلين بالالمانية، وتواريخ نشرها والجدير بالذكر ان لهذه النصوص ثلاث ترجمات – بقدر ما اعلم – اولاها: " في الفلسفة والشعر" ترجمة د. عثمان امين، الدار القومية بالقاهرة، 1962، والثانية، ما نشره فؤاد كامل في كتاب «ما الميتافيزيقا» مراجعة د. عبدالرحمن بدوي، دار الثقافة بمصر، والثالثه: "انشاد المنادي" ترجمة وتلخيص بسام حجار، المركز الثقافي العربي، بيروت، 1994.
2- لا تكشف الترجمة الحرفية عن معنى البيت الثاني. ويمكن اقتراح قراءة أخري تضع كلمة arlein (وحدة) في مقابل Natur (طبيعة):
أولئك الذين لم يعلمهم معلم، إلا الكلي الحضور
على نحو مذهل، بضمة خفيفة.
الطبيعة القوية، الالهية الجمال
اما هيدغر فيقرأ البيت:«اولئك العاجزون عن ان يكونوا معلمي انفسهم تعلمهم الطبيعة». وهذه دون شك قراءة أغنى.
ترجمة: سعيد الغانمي (كاتب وناقد من العراق)