لم يكن المخرج الأسباني الشهير لويس بونيال الذي يحتفل العالم هذا العام بمرور مأنة سنة على ميلاده يحس بميل كبير إلى أمريكا الجنوبية . وكان يقول دائما لأصدقائه:" إذا ما أنا اختفيت ، فابحثوا عني في أي مكان من العالم إلا هناك " .
مع ذلك اقام في المكسيك فترة طويلة خصوصا بين العام 1946 والعام 1961 وهناك أنجز العديد من أحلامه خصوصا فيلم " لوس اولفيداوس " . ( بمعنى المنسيين أو المهملين ) . ويروى بونيال أنه طاف بصحبة أصدقائه, أحيانا وحيدا في " المدن المنسية " ويعني بذلك الضواحي الفقيرة التي تحيط بمكسيكو العاصمة . ومتنكرا في ثيابه بسيطة ، كان يمضي بعض وقتة بين الناس , متأملا ، طارحا الأسئلة، منصتا إلى ما يدور حوله في أحاديث , ومن خلال هذا التجوال في أحياء الفقراء والمنسيين أنجز فيلم " لوس اولفيدا دوس " الذي لاقى شهرة كبيرة لدى المبدعين بالخصوص من أمثال شاجال وكوكتو وبريفير وآخرين كثيرين لدى عرضة في مهرجان كان في ربيع عام 1951 . وكان الشاعر المكسيكي الكبير أوكتافيو باث ( 1914- 1998) حاضرا في تلك الدورة فما كان منه إلا ان قام بحملة واسعة لفائدة فيلم صديقة لويس بونيال الذي كان قد تعرف علية في صيف عام 1937 . وتقدم "نزوى" في هذا الملف الذي اعدته بمناسبة مرور مأئة عام على ميلاد لويس بونيال نصا يتحدث فيه أوكتافيو باث عن علاقته به ، ونصا عن لويس بونيال شاعرا في السينما ، وثلاث رسائل كان قد بعث بها اوكتافيو باث إلى لويس بونيال عند عرض فيلمة "لوس اولفيدا دوس " في مهرجان كان عام 1951 .
أوكتافيو باث: علاقتي بلويس بونيال
يروى اوكتافيو باث لقاءه الاول بالمخرج الكبير لويس بونيال والذي أفضى إلى علاقة صداقة عميقة بين الفنانين ، على النحو التالي:
قد أكون في السابعة عشرة من عمري لما سمعت لاول مرة البعض يتحدثون عن لويس بونيال . كنت أنذاك طالبا في المدرسة الوطنية التحضيرية وكنت قد اكتشفت للتو في واجهة مكتبات " بوروا روبريدو" قرب معهد "سان ايلديفونسو" كتب الأدب الجديد ومجلاته . في واحد من هذه المجلات التي كان يصدرها في مدريد ارنستوخيمينيث كاباييرو واسمها: "الجريدة الادبية " عثرت على مقال حول لويس بونيال وسلفادور دالي مرفقا بمختارات من نصوصهما أو بلوحات لدالي وبصور للفيلمين اللذين أنجزاهما معا ، أعني بذلك "الكلب " الأندلسي و" العصر الذهبي" . الصور أثارتني اكثر من لوحات الرسام الكاتالاني ( نسبة إلى منطقة كاتالانيا الواقعة شمال اسبانيا والتي ينتمي اليها سلفادور دالي):في الصور السينمائية . كان اختلاط الهذيان بالواقع اليومي اكثر نجاعة وتفجرا من فن ,الي المتكلف . سنوات بعد ذلك وتحديدا في صيف 1937 ، في باريس ، تعرفت على لويس بونيال ذات صباح عند مدخل القنصلية الأسبانية التي ذهبت اليها مرفوقا ببابلونيرودا بهدف الحصول على تأشيرة ، اعترضنا . قام نيرودا بتقديم كل واحد منا للأخر وكان لقاء خاطفا . في العام ذاته ، تمكنت من أن أشاهد الفيلمين المشار اليهما أنفا . وكان " العصر الذهبي" بالخصوص بمثابة الاكتشاف بالنسبة لي بالمعنى الدقيق والعميق للكلمة متمثلا في الظهور المباغت لحقيقة مخفية ، مخبأه لكنها حية . والذي اكتشفته هو إن "العصر الذهبي" هو بداخلنا وان له وجه الانفعال .
عقب ذلك بفترة وتحديدا عام 1951 ، ودائما في باريس ، رأيت بونيال عند صديقين هما جاستون وبيتي بوتهول . بعدها التقينا عدة مرات وأحيانا زارني في البيت وهتف لي طالبا مني القيام بمهمة معينة
: تقديم فيلمه الجديد الذي حمل عنوان: " اولفيدادوس " في مهرجان «كان " الذي كان على أهبة الافتتاح . ولأني كنت متحمسا لذلك ، فاني قبلت المهمة دون أي تردد . كنت قد شاهدت الفيلم المذكور خلال عرض خاص برفقة اندرية بروتون وبعض الأصدقاء . وثمة شئ لا بد من ذكره: خلال العرض ، في الناحية الأخرى من القاعة كان هناك جورج سادول وبعض السورياليين القدماء الذين اصبحوا ستالينيين ( نسبة إلى ستالين ) . وفي لحظة ما خلت إن معركة ما سوف تندلع كما هو الحال في فترة الشباب الأولى للسورياليين . تبادلت نظرة مع اليزا بروتون التي كانت تعبر عن قلق معين غير أن كل واحد ظل في مكانة ملتزما الصمت .
واعتقد إن بروتون وتلك المجموعة التقوا لاول مرة منذ القطيعة التي حدثت بينهم سنوات طويلة قبل ذلك . أثارني فيلم بونيال كثيرا . فقد كان يحركة نفس الخيال العنيف ، ونفس الدراية العنيدة التي تميز بها فيلمه السابق "العصر الذهبي" . غير إن السينمائي في هذه المرة ، بلغ من خلال شكل جد دقيق ، تركيزا اكثر. عند انتهاء العرض علق بروتون على الفيلم ممجدا إياه غير غافل من ذكر بعض التحفظ . فبالنسبة له ، يستسلم العمل إلى نفس المنطق الواقعي للحكاية على حساب الشعر أو لكي نستعمل نفس العبارة ، على حساب الخارق والعجائبي . أما بالنسبة لي أنا فقد كنت أرى عكس ذلك ، إذ أن فيلم "لوس اولفيدادوس " فتح الطريق ، ليس أمام تجاوز للسوريالية – هل باستطاعتنا أن نتجاوز شيئا ما في الأدب أو الفن ؟ – ولكن أمام مجال العقدة . أريد أن أقول أن بونيال وجد مخرجا لفن الجمال السوريالي مدمجا في الشكل التقليدي للقصة ، الصور اللاعقلانية التي تنبثق من النصف المعتم للإنسان . ( في ذلك العهد ، كنت أخاطر بنفس هذه المحاولة في مجال الشعر الغنائي ) . هنا ، ربما يكون مجديا أن أشير إلى انه في افضل أعمال بوينال , تبرز ملكة يمكن أن نسميها بالخيال التركيبي . بمعني أخر هناك كل يسنده تركيز . حال وصولي إلى كان ، تحاورت مع المبعوث المكسيكي الأخر.وهو منتج من أهل بولوني يعيش في باريس , فذكر لي انه على علم بتعييني مبعوثا لدي مهرجان كان وأعلمني إن بلادي أرسلت فيلما أخر للمشاركة في المسابقة والحقيقة إن بونيال كان مشاركا في المسابقة بصفة شخصية ، مدعوا من قبل المنظمين الفرنسيين . وأخبرني المنتج أيضا انه شاهد "لوس اولفيدادوس » في باريس وانه دون أن يتنكر لبعض مزاياه الفنية ، فانه يرى انه فيلم باطني ، متحمل ، وفي لحظات معنية هو غير مفهوم .
ومن وجهة نظره ، لن يكون له أي حظ للحصول على أي جائزة . وفي النهاية أضاف بأن هناك موظفين مكسيكيين سامين والعديد من المثقفين والصحفيين يأسفون لعرض فيلم في كان يسئ إلى سمعة المكسيك . هذه النقطة ، للأسف ، كانت صحيحة ، وبونيال يشير اليها في كتابة " فرتي الأخيرة " الذي خصصه لسيرته الذاتية ، ولكن بشيء من التحفظ ومن دون أن يشير إلى أسماء من هاجموه . وسوف أسير على منواله لكن دون أن أؤكد على إن مثقفينا "التقدميين » كانوا يعانون من مرضين معديين: القومية والواقعية الاشتراكية .
الشك الذي أبداه زميلي في البعثة المكسيكية عوض حماس أصدقاء لويس بونيال والمعجبون به . بينهم كان هناك الأسطوري هنري لانجلوا مدير دار السينما في باريس وشابان سورياليان كيرو وروبير بانيانون يصدران مجلة طلائعية اسمها: "عصر السينما" وقد قمنا بزيارة مختلف الفنانين المشهورين الذين يعيشون على الساحل اللازوردي الفرنسي داعين إياهم لمشاهدة الفيلم عند عرضه . وجميعهم تقريبا قبلوا ذلك . وكان الأكثر تحمسا والأشد إعجابا ببونيال والفن الحر هو الرسام شاجال . أما بيكاسو فقد بدا متهربا ، ومترددا . وفي النهاية لم يقبل الدعوة . الأكثر سخاء كان الشاعر جاك بريفير الذي كان يعيش أنذاك في "فانس " بالقرب من مدينة كان . طلبت مقابلته برفقة لانجلوا. أطلعناه على الصعوبات التي نواجهها . وبعد مرور يومين علي ذلك ، أرسل لنا قصيدة تكريما لبونيال فسارعنا نحن بنشرها . واعتقد أن ذلك كان له تأثير على النقاد والصحفيين الذين كانوا حاضرين في المهرجان . كما كتبت انا نصا كمقدمة للفيلم وعنوانه "الشاعر بونيال " ولأننا لم نكن نملك مالا كافيا فإننا قمنا بنسخه .
ويوم العرض قمت بتوديعه في مدخل القاعة . وعقب مرور يومين على ذلك , قامت جريدة باريسية بنشره . وقد كتبت حول فيلم بونيال العديد من المقالات كما أثيرت حوله العديد من التعليقات والنقاشات اللامتناهية . وإذا ما كانت جريدة " لوموند" قد رفعته إلى السماء , فان جريدة "لومانيتية " الناطقة باسم الحزب الشيوعي الفرنسي قد اعتبرته "فيلما سلبيا" كانت "الواقعية الاشتراكية " هي الطاغية في ذلك الوقت لذا كان التشديد على أن القيمة الأساسية للعمل الفني هو لأن تكون له رسالة إيجابية ، وأتذكر نقاشا حاميا مع جورج سادول دار في ساعة متأخرة من الليلة التي أعقبت عرض الفيلم . وقد قال لي سادول إن بونيال قد "فر" من الواقعية الحقيقية وانه يتخبط ، دون أن يفقد موهبته تماما ، في المياه المتعفنة للتشاؤم البورجوازي . وأجبتة بان استعمال فعل "فر" يعكس مفهوما للفن لا يليق إلا برقيب أول في الجيش وان نظرية الااقعية الاشتراكية لا تهدف إلا إلى حجب واقع سوفييتي ليس اشتراكيا بالمرة . البقية جد معروفة . لم يحرز فيلم "لوس اولفيدادوس " الجائزة الكبرى للمهرجان غير أنه دشن المرحلة الإبداعية الكبيرة الثانية في مسيرة لويس بونيال الفنية .
مكسيكو 1982
تمجيدا لفيلم "لوس اولفيدادوس"
ظهور "العصر الذهبي" و "الكلب الاندلسي" يجسدان أول اقتحام للشعر في الفن السينمائي . أعراس الصورة السينمائية مع الصورة الشعرية المبتكرة لواقع جديد ، ستبدو فضائحية ومدمرة . وهكذا كانت بالفعل . والجانب المدمر لأفلام بونيال الأولى يتمثل في العنصر التالي: حالما تلامسها يد الشعر ، نرى إن الأشباح التقليدية (الاجتماعية والأخلاقية والفنية ) والتي يصنع منها واقعنا تنهار. ومن هذه الخرائب تنبثق حقيقة أخرى ، حقيقة الإنسان والرغبة . ويكشف لنا بونيال إن الإنسان المكبل قادر ، إذا ما هو اكتفى بإغماض عينية ، أن يفجر العالم . وهذه الأفلام هي اكثر من أن تكون هجمة وحشية على هذا الواقع المزعوم . إنها الكشف من الواقع الأخر , المهان من قبل الحضارة المعاصرة . إن إنسان "العصر الذهبي " ينام في كل واحد منا وهو لا ينتظر غير مجرد إشارة لكي يستيقظ . وهذه الإشارة ليست غير الحب . وهذا الفيلم هو من المحاولات النادرة للفن الحديث التي ترينا الوجه المرعب للحب وهو في حالة حرية . عتب ذلك بقيل ، أنجز بونيال "ارض بدون خبز" وهو فيلم وثائقي كان أيضا عملا فنيا ممتازا من هذا الجانب . هو، ينسحب الشاعر بونيال ، هو يصمت لكي يدعم الواقع نفسه يتكلم . وإذا ما كانت ثمة أفلام بونيال السوريالية هي صراع الانسان ضد واقع يخنقه ويشوهه ، فإن سمة "أرض بدون خبز" هي اانتصار الموحش لهذا الواقع . وهكذا فان هذا الفيلم الوثائقي هو المكمل الضروري للإبداعات السابقة . فهو يفسرها ويبررها . ومن خلال طرق مختلفة ، يواصل السينمائي صراعه المستميت مع الواقع . هذه بالأحرى . وواقعيته التي هي ضمن أفضل تقليد أسباني – جويا، كيفيدو ، الرواية الغمارية ، فال – انكلان ، بيكاسو – هي صراع بلا أي رحمة ولا شفقة مع الواقع . وفي التحام بهذا الواقع ، هو يسلخة وهو حي . لهذا فان فنه لا يكشف عن أية علاقة مع الأوصاف التي هي تقريبا ذوات نوايا مبيتة ، عاطفية أو جمالية والتي يتفق على تسميتها بالواقع . وعكس ذلك ، كانت اعماله تهدف إلى احداث اقتحام شئ سري ونفيس ، صاف ومرعب يخفيه واقعنا تحديدا. وباستعماله الحلم والشعر ، أو باجتذابه للرسائل الخاصة بالسينما ، ينزل الشاعر بونيال إلى أعماق الإنسان ، في حميميته الأشد تجذرا ، والأكثر نقصا في التعبير عنها .
بعد صمت طويل ، يقدم لنا بونيال اليوم فيلما جديدا: " لوس اولفيدادوس " وإذا ما نحن قارنا هذا العمل بالأفلام القصيرة التي أنجزت مع سلفادور دالي، فإن ما يفاجئنا بالخصوص هو الصرامة التي يقود بها بونيال استبصاراته الأولى حتى حدودها القصوى فمن ناحية يمثل "لوس اولفيدادوس " مرحلة نضج فني. ومن ناحية أخري هو يجر عن يأس اكبر واشد تجذرا: أبواب الحلم تبدو مغلقة والى الأبد. وحده الباب المضرج بالدم يطل مفتوحا . ودون أن يتنكر لتجربته الكبيرة في مرحلة الشباب – غير انه واع بان الزمن يتغير وانه يجعل هذا الواقع الذي كان يدينه في أعماله الاولي اكثر ثقلا – يبني بونيال فيلما يبدو الفعل فيه دقيقا مثل الإوالية ، مهلشا مثل حلم ، عنيدا مثل التقدم الصامت للحمم وحجة "لوس اولفيدادوس" التي هي الطفولة الجانحة تخرج رأسا من وثائق العقوبات الجزائية . وشخصياته تعاصرنا . ولها سن أطفالنا . غير إن " لوس اولفيدادوس " هو أكثر من أن يكون فيلما واقعيا . الحلم والرغبة ، والرعب والصدفة ، الجزء المعتم من الوجود، وكل هذا يجد له مكانا في هذا العمل وثقل الواقع المعرى هو جد شنيع إلى درجة انه ينتهي بان يبدو لنا مستحيلا وغير محتمل . نعم الواقع محتمل . ولانه لا يحتمله فان الإنسان يقتل ويموت ، يحب ويخلق .
أنجز فيلم " لوس اولفيدادوس " باقتصاد فني صارم . ودائما يقابل التكثيف الأشد كثافة انفجار اشد عنفا . انه فيلم لا يحتاج إلى "نجوم " وبنفس الطريقة فان الموسيقى المرافقة له ، تبدو جد متحفظة ولا تزعم أنها تريد إن تسيطر علي الفضاء الذي هو في السينما يعود إلى النظر . وفي النهاية هو يحتقر اللون المحلي . مع ذلك فان إغواءه كان كبيرا أمام مشهد مكسيكي مدهش ، غير إن السينوغرافيا تدير له ظهرها ، متقلصة إلى عراء منفر ، دون أي معنى لكنه شرس لديكور حضري . إن الفضاء العادي والإنساني حيث تدور أحداث المأساة لم يكن بالإمكان اكثر انغلاقا . حياة وموت حفنة من الأطفال مستسلمين لقدرهم ، بين الحيطان الأربعة للإهمال . الحاضرة بكل التضامن بجميع
معاني هذه الكلمة هي غريبة وأجنبية في نفس الوقت . وما نحن نسميه حضارة ليس إلا جدارا و "لا" كبيرة تسد هذا المعبر . هؤلاء الأطفال هم مكسيكيون غير انه باستطاعتهم أن يعيشوا في مكان أخر، في ضاحية من ضواحي أي مدينة كبيرة . وبطريقة ، هم لا يعيشون لا في المكسيك ولا في مكان أخر . انهم المنسيون ، سكان هذه الفضاءات المنسية التي يشكلها كل تكتل سكاني في ضواحيه . عالم منغلق علي ذاته حيث كل الأفعال دائرية أو حيث كل الخطوات تقودنا إلى نقطة الانطلاق . لا أحد يستطيع أن يخرج من هناك . ولا من نفسه – إلا إذا ما اتبع طريق الموت الطويل . والصدفة التي في عوالم أخرى تفتح أبوابا ، هي هنا تخلقها . في " لوس اولفيدادوس " الحضور المتواصل للصدفة يمتلك معنى خاصا ، معنى يمنع من ان الخلطة بالمصير. الصدفة التي تحرك أفعال الشخصية تمثل لنا وكأنها ضرورة كان بالإمكان إلا تكون . لم لا نمنحها اسمها الحقيقي مثلما هو الحال في التراجيديا:يا .. القدر .. انه القدر القديم المحترم الذي يعود لكنه مسلوب من جميع صفاتة الخارقة: حاضرا ، نحن بمواجهة قدر اجتماعي أو سايكولوجي . أو إذا ما نحن استعملنا الصيغة السحرية لعصرنا ، القيمة الثقافية الجديدة ، نحن أمام القدر التاريخي . مع ذلك لا يكفي ان يكون المجتمع والتاريخ أو الظروف معادين للتخصيات . ولكي تحدث الكارثة ، لا بد ان تتطابق هذه الأسباب مع إرادة الرجال . بيدرو يناضل ضد الصدفة ، ضد القدر ( أو ضد العين الشريرة ) الذي تجسده شخصية جايبو. وعندما يجد نفسه محاصرا ، ويشعرانه لا مفر له من ذلك ، هو يتقبله ويواجهه ، ويحول القدر المحتوم الى مصير. وهو يموت . غير أنه يجعل موته شيئا من صنعة هو انه أذن في الاصطدام بين الوعي الإنساني ، والقدر المحتوم الخارجي يوجد جوهر الفعل التراجيدي نفسه . وقد اكتشف بونيال من جديد هذا الاستبهام الأساسي: دون التواطؤ الإنساني لا يكتمل العصير ، والتراجيديا تصبح مستحيلة . والقدر المحتوم يحمل قناع الحرية . وهذه الأخيرة تسير تحت قناع المصير وليس " لوس اولفيدادوس " فيلما وثائقيا . كما انه ليس فيلما يدافع عن قضية ، أو عملا دعائيا أو أخلاقيا .وإذا ما كانت موضوعيته الرائعة لا تعطي دروسا , فانه سيكون من الزيف ان نقدمه كما لو انه فيلم "جمالي" حيث وحدها القيم الفنية تحسب لصالحه ، ابعد من الواقعية (الاجتماعية ، السايكولوجية أو غيرها) ، ينخرط فيلم لويس بونيال في تقليد فن انفعالي شرس , هو في الوقت ذاته مكبوح الجماح وهذياني يطالب سابقيه الأسباني جويا والمكسيكي بوسادا الفنانين اللذين قد يكونان قادا الدعابة السوداء إلى ابعد حدودها . حمم مجمدة . جليد بركاني . وبالرغم من كونية الموضوع ، وغياب اللون المحلي والرصانة القصوى في البناء ، يمتلك "لوس اولفيدادوس " تبره سلالية (بالمعنى الذي تنتسب في ثيران الصراع إلى " طبقة " معينة ) البؤس والاخمال يمكن ان يتجليا في أي مكان من العالم غير ان الانفعال المستميت الذي به يقدمان ينتسب إلى التراث الأسباني الكبير. هذا الشحاذ الأعمى ، لقد كنا لمحناه في رواية غمارية . هؤلاء النسوة ، وهؤلاء السكارى ، وهؤلاء الحمقى , وهؤلاء, المجرمون ، وهؤلاء الأبرياء ، لقد كنا شاهدناهم عند كيفيدو , كما عند جالدو" وكنا التقينا بهم عند سرفانتس وعند فيلاسكينر وعند موريلو الذين رسموا بورتريهات لهم . هذه العصي، عكاكيز العميان ، لقد سمعناها تضرب علي ركح كل المسارح الأسبانية والأطفال والمنسيون واسطورتهم أو تمردهم السلبي وولائهم الانتحاري ولطافتهم التي ترسل بروقا . وحنانهم المفعم بوحشية لذيذة ، واثباتهم الممزق لانفسهم في الموت وللموت أو عبثهم اللامتناهي للمشاركة – حتى ولو تم ذلك عبر الجريمة ، لا يمكن ان يكونوا إلا مكسيكيين . وهكذا فانه في المشهد الحاسم والنهائي في الفيلم – المشهد الحلمي – يبلغ موضوع الام اوجه في الوجبة التي يتناولها الجميع ، أي في الغداء المقدس . ودون ان يبحث عنها ، قد يكون بونيال اكتشف في حلم ابطاله الصور النموذجية للشعب المكسيكي: الآلهة "كواتليكي " والأضحية .
ان موضوع الام ، وهو الموضوع الأكثر تسلطا علي المكسيكيين هو مرتبط ارتباطا حتميا بالأخوة والصداقة حتى الموت . ذلك هما القطبان السريان للفيلم ان عالم "لوس اولفيدادوس " مأهول باليتامى وبالمتوحدين الذين يبحثون عن المشاركة والذين لكي يجدرها ، لا يتراجعون أمام الدم . ان البحث عن "الأخر" في الدنى يشبهنا ، هو الوجه الأخر للبحث عن الام . أو القبول بغيابها النهائي: ان نعرف إننا وحيدون ، ان بيدرو وجايبو ورفاقه يكشفون لنا جميعا عن الطبيعة القصوى للإنسان ، اليتيم أبدا. أما القيمة الأخلاقية لـ "لوس اولفيدادوس " فلا علاقة لها بالدعاية . ذلك ان الفن عندما يكون حرا فانه يكون شهادة ووعيا . وعمل بينويال بكشف لنا ماذا باستطاعة الموهبة الابتكارية والوعي الفني ان يفعلا وان ينجزا عندما لا يتمكن أي شيء أخر, باستثناء حريتهما في ان يملي أو يعرض عليهما توصياته واوامره
– كان – 4 نيسان / إبريل 1951
ثلاث رسائل من اكتافيوباث إلى لوس بونيال
الرسالة الأولى: قبل بضعة أيام من افتتاح مهرجان كان لعالم 1951
عزيزي لويس بونيال:
لقد بدأنا المعركة من اجل "لوس اولفيدادوس " وأنا جد فخور بالنضال من أجلك ومن اجل فيلمك . لقد التقيت بأصدقائك . وجميعهم معك . بريفير ( يقصد الشاعر الفرنسي الكبير جاك بريفير ) يقبلك ، وبيكاسو يحييك . المحخيرن الأذكياء والشبان إلى جانبك . بفضل فيلمك ، أحسست كما لوان الأزمنة البطولية قد عادت . أعددت ندوة "خاصة"، و"حميمية " سوف تنتظم ساعات قليلة قبل عرض "لوس اولفيدادوس " ( يكون ذلك يوم الأحد 8) . ونحن نعول كيرا علي مشاركة بريفير وكوكتو وشاجال وبراونار الخ .. (بالإضافة إلى الصحفيين والنقاد الذين يملكون شيئا في عقولهم وفي قلوبهم أو في أي مكان أخر ) وفي حين إننا لم نطلب منة شيئا ، فان بيكاسو صرح علنا بأنه سوف يحضر عرض الفيلم . وإذ ا لم تمنحك اللجنة الجائزة الكبرى (وهذا ليس مستحيلا) فإننا نفكر في اصدار نشوية أو تصريحات من هم متضامنون معك . وعلى أية حال ، أنا اعتقد "لوس اولفيدادوس" سوف يجازى غير إننا نأمل في ان يحصل على السعفة الذهبية . ( المنافسون الحقيقون لك هم الروس والايطاليون والبريطانيون ) وفي الحالة حتى – غير المحتملة ، المستحيلة قطعا – لفشل الفيلم فإننا سنفوز بانتصار داخل الرأي العام سوف تتحدث وسائل الإعلام – وسوف تتحدث طويلا عن "لوس اولفيدادوس" وإذا ما لم تمنح لنا الجائزة الكبرى أو جائزة الإخراج فإننا متأكدون بأننا سنحصل على جائزة النقد .
لقد كتبت نصا صغيرا وعلى عجل حول عملك . وسوف يتم توزيعه بالفرنسية يوم عرض الفيلم ، أي يوم الأحد 8 نيسان / إبريل واعتقد ان بريفير سوف يقدم لي نصا . ( . . .) انه شئ قليل مقارنة بما تمثله أنت بالنسبة لنا غير إنني لم أجد الوقت الكافي لافعل شيئا افضل . . .أقبلك
الرسالة الثانية:
كان في 11 إبريل / نيسان 1951
لويس بوينال – مكسيكو
العزيز بونيال: أمس عرضنا "لوس اوليفدادوس " مع الجمهور والنقاد اعتقد إننا كسبنا المعركة . أو بالأحرى ، فيلمك هو الذي كسبها . اجهل ان كانت اللجنة سوف تمنحك الجائزة الكبرى غير ان هناك شيئا مؤكدا: الجميع يرى ان "لوس اولفيدادوس " هو افضل فيلم عرض في المهرجان إلى حد هذه الساعة . إذن ، نحن نعتقد اعتقادا جازما ( مع جميع التحفظات والمفاجأة ومناورات اللحظات الأخيرة ) بأنه سوف يجازى .
والآن دعني أسرد عليك باختصار تفاصيل الوقائع "فاتح نيسان (وحالما علمت بأنه مرسل من . قبل الحكومة ) تناقشت مع كارول مفوض الصناعة ( أو الموزعين ، لست ادري ) . وقد اظهر كارول وزوجته كثيرا من الشك . وهما لا يعتقدان فقط في جودة فيلمك ، ولكن فهمت أيضا أنه لا يعجبهما ، ليس من المفيد أن أقول لك باني لم الخ . اعرف انه بعد ثمانية أيام , وأمام رأي الناس الذين يقدرانهم ، سوف يغيرون رأيهم . هذا شئ مؤكد ( . .) . عند وصولي إلى كان في الثالث من الشهر عنيت انه لا الحكومة المكسيكية ولا كارول أعدا تقديما للفيلم "لا نشرية . ولا أي شئ أخر" ولا دعاية أصلا بل ولا حتى استفادة من الإعجاب بك ومن الصداقة لتي تربطك بالعديد من الناس المهمين هنا . وكان أول ما شغلني هو استنهاض الرأي العام ولسعادتي من اليوم ذاته الذي فيه وصلت الي "كان " ، والتقيت مختلف الأصدقاء (صحافيين وسينمائيين ) الذين بطريقه نزيهة ، واعجاب بفنك ، جعلوا من فيلم "لوس اولفيدادوس " فيلم المهرجان . بينهم ، لابد ان اذكر اسم صديقتك سيمون دوبرايل وكيران ( شاب صديق لاندرية بروتون ) ومزيد يربك ولانجلوا (من دار السينما بباريس ) الخ . . وكان أول شئ قمنا به هو زيارة بريفير ( الذي تصرف بطريقة رائعة ) ثم حصلنا على مشاركة كوكتو وشاجان . ( بيكاسو الذي وعدنا بالقدوم ن لم يستطع ان يحضر العرض أو هو لم يرغب في ذلك – هل هي أوامر الحزب ؟) . كما إننا قمنا بتعبئة ما يسميه السياسيون المكسيكيون بـ "المشاهدة " أي الصحفيين والكتبة الخ … وقد أعلن بريفير ان الأمر يتعلق بفيلم كبير وهتف كوكتو عدة مرات إلى الكاتب العام ، طالبا ست بطاقات الخ … واخيرا وقبل أربع وعشرين ساعة ما العرض وادعنا نصا خصصته لفيلمك . إجمالا نحن خلقنا انتظارا. ولابد من الاعتراف بان كارول في الأيام الأخيرة ، "استيقظ " وقام بمباعدتنا . إما منتجك وانسيبنجر ، الذي تقدم في اللحظة الأخيرة ،فان مداخلته كانت ناجعة.
أمس كانت القاعة غاصة بالناس تماما كما هو الحال في الأيام الكبيرة وقد أجلسنا أصدقاءنا في أماكن استراتيجية – غير ان المعركة لم تندلع والفيلم سيطر على الجمهور حتى وان كان بالأكيد قد أغضب البعض: أولئك "المهذبون " ومجموعة من الشيوعيين ( بإمكاني ان أؤكد ذلك شخصيا غير انه قيل لي ان سادول وجد الفيلم "جد سلبي" و" غير جدير بالانفعال " . وقد صفق الجمهور إعجابا ببعض المقاطع: مقطع الحلم ، المشهد الجنسي بين جايبو والام ، مشهد الشاذ جنسيا ويبدو الحوار بين بيدرو وأمه الخ ..وفي النهاية ، تصفيق حار . وخصوصا ، تأثر جميل وعميق خرجنا من هناك ونحن كما يقال متشنجو الحلوق . وكانت هناك لحظة – حين أراد جايبو ان يجتث عيني بيدرو – صفر فيها البعض . غير ان التصفيق كان أقوى . ولا يمكننا ان نتخيل تعليقا أشد تحمسا بالنسبة لبريفير، كان فيلمك أفضل فيلم شاهدته خلال السنوات العشر الماضية واستشهد كوكتو بجوته حين أعلن ان أفضل موسيقي بالنسبة لعصره هو بيتهوفن . "موتزارت ". ساله البعض . فرد هو قائلا: " موتزارت ليس هو الأول وليس الثاني . انه فريد من نوعه . وهو مستقل بذاته " وأكد كوكتو بأنه يستطيع ان يقول الشيء ذاته بالنسبة لبونيال . انه ليس الأول وليس الثاني وإنما هو فريد من نوعه وأعلن شاجال أنه لن يفاجأ بذلك انه يعلم انك فنان كبير . وهذا الصباح سوف تتحاور الإذاعة الفرنسية مع جميع الشخصيات لكي تعرف أرادهم وسوف نرسل لك بتصريحاتهم . وأيضا بالمقالات الصحفية (..)
ملاحظة أخيرة: هل على ان اكرر باني فخور بالنضال من اجل فيلمك "لوس اولفيدادوس " ؟ سوف اكتب لك فيما بعد حتى أمدك ببعض التفاصيل
الرسالة الثالثة
كان 16 إبريل / نيسان 1951
عزيزي بونيال: هنا طي الرسالة قصيدة لبريفير . ارجو أن يتم نشرها هناك . سوف أرسل لك من باريس بالمقالات الصحفية . جميع ما كتب إيجابي تقريبا. ومن دون شك ، كان فيلمك هو الأفضل حتى وان فضلت اللجنة منح الجائزة الكبرى لفيتيرو دي سيكا لفيلمه: "معجزة في ميلانو " ( وهو فيلم رائع ) على أية حالة ، أنا متأكد ( إلا إذا ما نحن تخيلنا تدخلا فظيعا ) من انك سوف تحرز جائزة النقد (التي هي الجائزة الكبرى الأخرى أو جائزة أفضل اخراج ، كان عرض فيلمك انتصارا في حد ذاته .
ما هي التعليقات يا ترى في المكسيك ؟ اجبني ؟ رجاء ( ..) . بريفير، الذي رأيته أمس . سألني عن أخبارك . اكتب له …. سلامي .