صدوق نور الدين
كاتب مغربي
«لماذا لا تكون كرة القدم موضوعا للفن والأدب» محمود درويش
1/
يأتي كتاب “بيليه أم مارادونا؟ الإجابة ميسي.” (كتاب نزوى: 59/يوليو 2023)، للروائي والقاص والناقد العماني سليمان المعمري، ليضيء جانبا من العلاقة التي تصل بين الأدب والرياضة، وبالتحديد كرة القدم. والواقع أن هذه الإضاءة تتميز بفرادتها، حيث يتأتى من خلالها سرد واقع الذات في علاقتها بالرياضة. بمعنى آخر، إن الذات لا تحتفي بسيرتها وفق المتداول وإنما -بالتحديد- فيما يرتبط باللعب. من ثم تبني تاريخ علاقتها بكرة القدم، وكأن المتلقي يعاين أو يشاهد بالفعل مقابلة رياضية. ولا يرتبط البناء بالذات وحسب، وإنما الفضاء الذي توجد فيه بالحضور والفعل، وكأن الأمر يتعلق بسيرتين: سيرة سليمان المعمري، وسيرة عُمان في علاقتها بكرة القدم. وهما سيرتان متداخلتان يصعب الفصل بينهما. فالذات الموضوع، والموضوع الذات.
2/
أ –
جاءت بنية الكتاب /السيرة مقسمة بذكاء كبير ووعي دقيق بآليات وميكانيزمات الكتابة السردية إلى: الدخول إلى الملعب حيث مهد بعتبة عالم الحيوان الإنجليزي ديزموند موريس، والخروج من الملعب التي ضمت عتبة لاعب كرة القدم والمدرب الأسكتلندي بيل شانكلي. فالمتلقي يجد ذاته أمام بداية ونهاية. ذلك أن الدخول، بمثابة الشروع في القراءة والخروج، إنهاء لعملية القراءة. ما بين الدخول والخروج يفرض نص الكتاب/ المقابلة نفسه. المقابلة التي تقرأ تفاصيلها، وكأني بها تعاين بالمشاهدة. فعلى مستوى الدخول كما الخروج تظل العين حاضرة، اللهم أن الكتاب يصاغ من طرف مؤلف مفرد، حيث يحق التقديم، التأخير، الحذف، القراءة وإعادة القراءة في خلوة وعزلة، بينما تفرض الجماعة في المقابلة قوة حضورها. فالذاتي يترجم الجمعي ويقوله.
ب –
على أن تفريع التقسيم السابق، توسيع لمساحة المعنى المنتج، حيث تتشكل بنية التشعب التي تشاهد في المقابلة وتقرأ ضمن الكتاب/ السيرة. فالدخول إلى الملعب يشمل (قبل المباراة وصافرة البداية)، ثم الشوط الأول الذي يعكس تأملات في الساحرة، فالشوط الثاني الأطول، وضمنه يؤرخ لبدايات التعرف على أبرز الأسماء التي طبعت تاريخ كرة القدم عالميا وعربيا، وهو توثيق يتحقق وفق رؤية الأديب غير المتخصص في الشأن الرياضي. لنتأمل حكاية التعرف على “بيليه”:
“في أوائل الثمانينيات، عندما كنت في المدرسة الابتدائية، سمعت أحد الأطفال يروي قصة عجيبة في معرض إعجابه بهذا اللاعب الفذ، مختصرها أنه في إحدى المباريات نال فريقه ضربة جزاء، وكان عليه هو أن يسددها في مرمى الفريق الخصم لأنه أهم وأفضل لاعب في الفريق. وبالفعل، سدد اللاعب الكرة وأحرز الهدف، لكن تسديدته من فرط قوتها اخترقت بطن حارس المرمى وخرجت من ظهره.” (ص/57)
وحكاية تذكر بـ”مارادونا”:
” تلح علي بشدة وأنا أحاول استيعاب رحيل مارادونا عبارة أنطون تشيخوف عن أن “أولى علامات الشيخوخة أن تتحول من إنسان يحلم إلى إنسان يتذكر”. ها أنا أؤرخ لبداية شيخوختي المبجلة في 25 نوفمبر 2020، تاريخ رحيل هذا اللاعب الفذ الذي قلما يمكن أن يتكرر بسهولة، في زمن أصبحت فيه كرة القدم -مثل أي أمر آخر- شيئا يمكن أن يبنى كعمارة أو يخطط له كمؤامرة، ويمكن أن يصنع فيه لاعب جيد بمعادلات هندسية قابلة للتحقق، تؤمن أن الموهبة تشكل كالصلصال لا توهب من السماء.” (ص/63)
وأيضا حكاية “زين الدين زيدان”:
” كان يفترض أن يكون يوم التاسع من يوليو 2006 من أسعد أيام الفرنسيين التي لن ينسوها عبر عقود من الزمن، لو أن منتخبهم فاز بكأس العالم في ذلك اليوم. لكن، لم يفز، وخسر بضربات الترجيح أمام المنتخب الإيطالي، فخاب أمل الفرنسيين. غير أنه سيحدث في اليوم نفسه حدث أكثر أهمية من فوز إيطاليا بالمونديال، يتعلق بنجم الكرة الفرنسي زين الدين زيدان قائد المنتخب الفرنسي في هذه المباراة، وهو الحدث الذي مازال العالم يتذكره إلى اليوم، وعندما أقول العالم لا أبالغ، إنها “نطحة زيدان”. (ص/89)
تبدو هذه الحكايات على أهميتها في تاريخ رياضة كرة القدم، أشبه بوحدات حكائية مستقلة ومتكاملة على امتداد بنية الكتاب/ السيرة. وتلعب الذاكرة دورها على مستوى الاستحضار، خاصة فيما يتعلق بزمن الطفولة أو ما يرتبط بتقدم الزمن خاصة إذا ما ألمحت لكون ما يسم الاستحضار، توافر المعلومة الرياضية بالتركيز على تاريخيتها. فالأمر لا يتعلق بتخييل الواقع وإنما التثبيت الدقيق للحدث الرياضي كما تُدُوول، علما أن تداوله قد يكون أشبه بالغرائبي، أو أن الحدث يقترن باللحظة السياسية أو الواقعة الرياضية التي يقف من خلفها اسم علم رياضي. واللافت أن سليمان المعمري لا يغيّب الخاصة الأدبية عما يعد خطابا أدبيا. ويبرز ذلك في كيفية الصوغ اللغوي والترتيب الزمني وفق ما سنراه، إلى توظيف الشاهد الأدبي الثقافي الذي يجلو صورة المثقف الملم، والعارف بطريقة تصريف المعلومة، ومقامات ذلك.
وينغلق الكتاب/ السيرة على الإشارة للوقت بدل الضائع، ثم الخروج من الملعب، إيذانا بنهاية المقابلة، وبالتالي ختم القراءة.
ج –
ألمحت إلى مكون الزمن، ومسألة الترتيب. فالكتاب/ السيرة يمتد زمنيا من 1986، دون الغفل عن الإشارة الزمنية المرتبطة بكأس الخليج السابعة 1984، وإلى غاية 2023، حيث تستوقفنا الإشارة إلى الحادثة التالية:
“هل يمكن للاعب كرة القدم أن يسجل هدفا وهو جالس في مقاعد البدلاء واضعا رجلا على رجل؟ قبل أن تتسرع بقول: “مستحيل” أجيب: ” نعم. ممكن.” بل هذا ما حدث بالفعل يوم السبت 4 فبراير 2023 م في حادثة غريبة وقعت في دوري كرة القدم الإسباني، ويمكن إسقاطها على كثير مما يجري في حياتنا.” (ص/ 127)
أكتفي بالتركيز على الإشارة الزمنية. فالمكون يبدأ من “كنت الولد الصغير”وإلى” ها أنا أؤرخ لبداية شيخوختي المبجلة”. إذ التلقي يتأطر وفق ترتيب تصاعدي دقيق، وهو ما يسهم من ناحية في كتابةٍ الذاتُ جزء من تاريخها، ومن أخرى -كما سلف- التوثيق لمرحلة من رياضة كرة القدم، حيث يصبح/ سيصبح هذا الكتاب مرجعيا في عملية تدوين أقوى اللحظات التي عرفتها اللعبة، علما أن هذه العملية تتطلب جهدا وكفاءة وصبرا على البحث والمتابعة والتنقيب. وأود التلميح في هذا السياق إلى ما أقدم عليه سليمان المعمري من حيث ذكره في مواقع مختلفة من الكتاب إلى أهم ما كتب عالميا عن لعبة كرة القدم: “كرة القدم في الشمس والظل” لإدواردو غاليانو، “ميسي: تمارين على الأسلوب” للروائي الإسباني جوردي بونتي، “كرة القدم: الحياة على الطريقة البرازيلية” للصحافي البريطاني إليكس ببلوس، رواية “باغندا” للتونسي شكري المبخوت. وأضيف أيضا رواية “الفريق” لعبد الله العروي التي تمثل الجزء الثالث من رباعيته: “الغربة”، “الفريق” و”أوراق”. وأما سينمائيا، فيذكر المؤلف فيلم “الحريف” لمخرجه محمد خان.
3/
أشير فيما مضى إلى أن فعل التخييل في هذا الكتاب/ السيرة شبه منعدم، على تباين واختلاف مع ما يطالعنا في جنسي القصة والرواية. ذلك أن السيرة -كما مر- توثيق لوقائع وأحداث حقيقية. التوثيق الذي يثبت بذكر السنة أو الشهر والسنة. وفي حالة كهذه، يحضر الواقعي المضاد للدخول في عملية التخييل، وبالتالي فعل ممارسته، خاصة وأن مجال الكتابة يترتب انطلاقا من حقل رياضي وليس من محفل أدبي خالص. فالتلقي أمام وقائع وتواريخ حقيقية يحق التأكد منها. بمعنى آخر، أن المعنى المنتج يرتبط بالحقيقة كما بالصدق.
يقود ما أكدنا عليه، إلى إثارة مسألة الصوغ اللغوي. إذ المستوى المعتمد كتابة يتضاءل فيه الوصف، ويراهن على الحكي إذا ما أشرت لكون أغلب المقالات المشكلة لبنية الكتاب تتسم بطابعها الصحافي، أو أنها تقع في المسافة بين الصحافي/ الأدبي. ولذلك بدت أشبه بالاعترافات:
“لا أذكر متى بدأ حبي لكرة القدم بالضبط، ولكني أؤرخ ذلك بسنة مونديال 1986م في المكسيك عندما كان عمري اثني عشر عاما.” (ص/13)
“سأعترف بشيء يتخذه البعض -ومنهم شقيقي يوسف- مأخذا علي، وهو أن مهارة اللاعب هي التي تجتذبني وتحفزني على تشجيع ناديه أو منتخبه، وأحيانا كليهما.” (ص/ 19)
“لو طلب مني أن أستلهم سيرة حياة لاعب في قصة أو رواية فلن أختار إلا غلام خميس، اللاعب العماني الأشهر الذي نسميه “مارادونا عُمان”، والذي ذكرت قبل قليل أنه أهداني أول فرحة كروية في حياتي وأنا طفل عندما أحرز هدفا في مرمى الإمارات.” (ص/ 25)
وتتفرد المقالة الأخيرة من الكتابة/ السيرة: “صخرة سيزيف التي تحولت إلى كرة”، بقوة دلالتها السياسية المتمثلة في الدعوة إلى اللحمة العربية، فإذا كانت كرة القدم والموسيقى على السواء -برأي سليمان المعمري- توحد الشعوب العربية، فلم تخفق السياسات في إرساء وحدة عربية تؤسس لنهضة متكاملة على كافة المستويات.
4/
يبقى كتاب “بيليه أم مارادونا؟ الإجابة ميسي” تجربة متميزة في كتابة تاريخ كرة القدم تأسيسا من العلاقة الذاتية التي ربطها المؤلف وهذه الرياضة. فالكتاب في الجوهر يوازي بين سيرتين كما مضى: كتابة تاريخ كرة القدم عالميا وعربيا، وتاريخ الذات في جزء منها بعيدا عن التدوين الشمولي. ويحق انطلاقا من هذا، القول بكونه يتسم بفرادته التي تجعل منه مرجعا للعديد من الأحداث الرياضية والمؤلفات التي كتبت في هذا المجال.