1. الكتابة بما هي لقاءُ ثقافات
تنهضُ أعمال خوان غويتيسولو بوَجه عامّ، وأعماله الأدبيّة بوَجه خاصّ، على مَقرُوء شاسع ومُتعدِّد المَرجعيّات، على نحو يَجعلُ الكتابة لديه، إنْ على مُستوى التصور أو على مُستوى الإنجاز، لقاءً خصيباً بين الثقافات. إنّه اللقاءُ الذي يُتيحُ لهذه الثقافات التمازُجَ الفعّال ويُؤمِّنُ لنُصوصها الجوار والحوارَ والتفاعُلَ، ضدّاً على كلّ وَهْم بصَفاء الهُويّة ونقائها. وهو ما يَجعلُ الكتابة مُحتكمة دَوماً، في تأمينها لتفاعُل النصوص، إلى خلفيّة نقديّة لمْ يتنازَل عنها غويتيسولو في أعماله الفكريّة والأدبيّة. لعلّ هذا أيضاً ما يَسمحُ للكتابة، وهي تَنْبَني على هذا اللقاء ذاته، بنَقد ما يَحولُ دُون تحقّقه فعليّاً، ونقدِ ما يُرسِّخُ سوءَ الفَهم بَين أطرافه وما يُكرِّسُ التباعُدَ بين هذه الأطراف. وَفق هذا المعنى، يَبدو أنّ كلَّ ما تستندُ إليه الكتابة في بنائها وتحرصُ على إدماجه في تحقّقها، إنّما تستندُ إليه وتُدمجُه بحسٍّ نقديّ عالٍ، ناجمٍ عن تفاعُل غويتيسولو مع القيَم الكونيّة، ومع النصوص النقديّة والإبداعيّة في آن، ومع القضايا الفكريّة لإشكال علاقة الذات بالآخَر. إشكالٌ شغَل اهتمامَ هذا الكاتب بصُورةٍ بدَت، انطلاقاً من عَوْدِها اللافت في كتاباته ومن استناد التحليل إليها، مَصيريّة لديه.
لخوان غويتيسولو وَعيٌ مَكينٌ بحَيويّة اللقاء المُشار إليه وبامتداداته الفكريّة ورهاناته الرّؤيويّة، قبْل أن تُترجمَهُ، في الحقل الأدبيّ بوَجه خاصّ، مُتطلّباتُ الفِعل الكتابيّ وآلياتُ بنائه، أي قبْل أن يَتحوّلَ هذا اللقاءُ إلى عناصرَ كتابيّة، فلا يظلّ بذلك مَوضوعةً للاستشكال وحَسْب. في ضَوء هذه الإشارة الدّالّة، يَبدو فعلُ الكتابة لدى خوان غويتيسولو كما لو أنّه إدماجٌ للصوت الذاتيّ، برُوح تنشدُ التجديد، ضمنَ أصوات عديدة قادمة من نُصوص مُتباينة ومن ثقافات مُختلفة، ولكن بحرص شَديدٍ وعنيدٍ على تقويض مَركزيّة كلِّ صَوت، حتى ليُمْكنُ تَأوُّلُ هذا التقويض انطلاقاً من إيمان غويتيسولو باستحالة استقامة اللقاء الثقافي والحضاري من داخل أيّ تمركز على الذات
1. هذا التصوّر الفكريّ هو ما يَتحوَّلُ في الفِعل الكتابي الأدبي إلى آليات بنائيّة تجعلُ هذا الفعلَ يتأسّسُ على التداخل، والمَزج، وتعدُّد الأصوات، وتبايُن اللغات، وتفاوُت الإيقاعات. كأنّ غويتيسولو لا يَتصوّرُ الإبداعَ الذاتيّ خارج هذا التعدّد، الذي به تُرسي الذات الكاتبة تجديدَها في الآن ذاته. التجديد، في كتابة غويتيسولو الأدبيّة، يَنهضُ فكريّاً على تقويض التمَركز على الذات ونقد وَهم صفاء الهويّة، ولكن عبْر توَغّل الذات الكاتبة نحو مَجهول اللغة وآفاقها البعيدة، وعبْر طاقةِ توليفٍ لا تستقيمُ ما لم تُوَفّرْ ما تُؤالفُ بَيْنَه، أي ما لمْ تنبَنِ على مُحاوَرَة النصوص- الطروس، وخَلْق النّبرة الخاصّة من داخل هذه المُحاوَرة، بما تتطلّبُهُ من بناء ومن نَسجٍ للعلاقات النصيّة والدلاليّة.
تشهدُ مَوضوعة الذات، بالمَعنى الفكري، تفكيكاً في أعمال غويتيسولو. تفكيكٌ يَرومُ تقويضَ دَعوى صَفاء الذات ونقاء الهُويّة، على نحو يجعلُ الآخَر بانياً لهذه الذات ومُحدِّداً لها، حتى وإن اسْتَسلمَتْ لاستيهاماتها وأحكامها الجاهزة، وتمادَت في تغذية كُرهها لهذا الآخَر الباني لها. الأمرُ ذاتُه، ولكن بمُراعاة ما تتطلّبُهُ الكتابة، يَصدُقُ على «أنا» الكاتب في المُنجَز النصّيّ، وبوَجه خاصّ في المُنجَز الأدبيّ. يَصدقُ على علاقة «أنا» الكاتب بأصواتِ الكتابات والنصوص التي يُدمجُها هذا «الأنا» في كتابته. ضمن هذا السياق، يَتحدّدُ التجديدُ والتوغّلُ في عوالم الكتابة من داخل تشابُك الخيوط الواصلة بين الأنا ونصوص الآخَرين، بمُختلف تشعّبات الوشائج التي تَسِمُ هذا التشابُك. بالصّورَةِ التي تخترقُ أصواتُ الكُتّاب «أنا» الكاتب، وبالصّورَةِ التي بها يَخترقُ صَوتُه أصواتَهُم، تتحدّدُ أناه، وتمتلكُ من داخل هذا اللقاء نَبْرَتها، وتكشفُ الأفقَ الذي بَلغتْه من مجهول اللغة. لهذا الأمْر في الكتابة، بما هو حُضورٌ للأنا في مُنجَزها النصّيّ، صلةٌ وَثيقة بتصوّر غويتيسولو لإشكال العلاقة بين الذات والآخَر في بُعدها الفكريّ.
إنّ للبناء، الذي عليه تنهضُ الكتابة الأدبيّة لدى غويتيسولو، وشائجَ عديدةً ومُتشابكة مع تصوّره لتعايُش الثقافات وتعايُش الحضارات. وهو ما جَسّدَتْه بَعضُ رواياته التي كانت تَنْبَني مُتفاعلةً مع طرُوسها. حتّى الأساس النقديّ والتفكيكيّ، الذي ظلّ غويتيسولو دَوماً يُحصِّنُ به تصوّرَه لهذا التعايُش، يَجدُ أيضاً امتدادَه في آليات بناءِ الكاتب لنُصوصه. نصوصٌ لا يُخطئُ القارئُ بُعدَها النقديّ الذي لا تُفرّطُ فيه، ولكن من داخل أسئلة الأدب، وتحديداً أسئلة الرواية. وهكذا، فإنّ أحدَ النداءات التي يُمْكن أنْ نسمَعَها في كتابة غويتيسولو، ولا سيما في بَعض رواياته، مُتعلّقٌ بالرَّجْع المُتبادَل بين تصوّره للعلاقة بين الثقافات والحضارات وبين المَزيج الذي عليه تقومُ كتابتُهُ وتُسهمُ في نَسْجه في آن. رَنينُ هذا النداء خافتٌ، لأنّه يَنتظرُ تأويلاً يَنطلقُ من عدِّ إعادة الكتابة في نصوص غويتيسولو تجسيداً لرُؤية فكريّة عرَفَت إبداعاتُهُ الأدبية، بوجه خاص، كيف تُحولها إلى عناصرَ بنائية. ومن ثمّ، للقراءة أنْ تشقّ مَدخلاً تأويليّاً لكتابة غويتيسولو الأدبيّة بعَدِّ العناصر، التي عليها تقومُ هذه الكتابة وبها تتحقّق، مِرآةً لتصوّر صاحبها عن اللقاء بين الثقافات.
من العناصر التي تكشف، في هذا السياق، الطاقة الإبداعيّة لدى غويتيسولو قدرته على التوليف بين النصوص الغَيريّة التي يُدمجُها في كتاباته الروائيّة. إدماجٌ يَكشفُ عن آلياتٍ تركيبيّة مَشدودة إلى خلفيّة صامتةٍ تسري في طيّات النص، وفي صناعة نسيجه، وتتفاعلُ مع المعرفة التي يَقتضيها الإبداعُ الروائيّ.
الطاقة الإبداعيّة لدى غويتيسولو غيرُ مُنفصلة عن طريقة التركيب والمَزج وبناء التداخلات، عبْر نُسْغ يَغتذي من حسٍّ نقديّ لا يَقبلُ المُساوَمة. فالكتابة، عند غويتيسولو، تتفاعلُ مع الوقائع ومع التاريخ، لكنّها تَنبني، في الغالب العامّ، فوق نُصوصِ ثقافات عديدة، على نحو يَنطوي على دلالات بَعيدة. دلالاتٌ تعودُ بوَجه رئيس إلى إشكال العلاقة بين الذات والآخر وإلى امتدادات هذه العلاقة في التفاعل الذي تشهدُه النصوص الغيريّة داخل النصّ الشخصيّ.
وعيُ غويتيسولو بالخَصيصة التركيبيّة التي عليها تنبني كتابته الروائيّة هو ما قادهُ إلى التصريح بها داخل هذه الكتابة نفسها. ذلك ما به يَفتتحُ غويتيسولو، مثلاً، روايته الأربعينية، إذ تبدأ الرواية بالقول التالي: «تفترضُ كتابةُ نصٍّ ما وُجودَ شبكةٍ مُرْهَفَةٍ من العلاقات فيما بينَ العُقَيْدات الصّغيرة التي تؤلّفه. كلّ الروافد تصبُّ هناك: فالأحداث الخارجيّة، ومجريات المعيش، والميولات، والأسفار، والصُّدَف حينما تمتزجُ بالقراءات والصور والاستيهامات تُشكّلُ حَشداً اتفاقيّاً، حسب نسق توليفيّ، من التقاطعات والتوافقات وتطابُقات الذاكرة والبَصائر المُباغتة والتيارات المتناوبة2»
تقومُ نصوص غويتيسولو، بناءً على خصيصتها التركيبيّة، على إعادة الكتابة، وتنتسبُ، بما تُضمره من مَقرُوء شاسع، إلى تصوّر كتابي يتأسّسُ على التداخل والمُحاوَرة والتفاعُل بين النصوص الذاتيّة والغيريّة، التي من داخلها تحضرُ الأحداثُ والوقائع. لا حدَّ للطّرُوس التي فوقها تنبَني كتابةُ غويتيسولو. طروسٌ لا تكونُ مُضمَرةً في طيّات النصّ الشخصيّ وحسب، بل كثيراً ما اعتمدَها غويتيسولو على نحو مُباشر، وقامَ بإدماجها وبالتوليف بَينها. يَبدأ الإدماجُ باختيار النصوص- الطروس، التي فوقها تَنبني الكتابة، قبْل أن يَشرَع غويتيسولو في خَلْق جوار بين هذه النصوص- الطروس، وفتْح حوار بَينها يَقومُ على إعادة الكتابة من مَوقع النقد والمُساءلة. صحيح أنّ درجات الارتكاز على الطروس مُتفاوتة في أعمال غويتيسولو الروائيّة، غير أنّ هذا الارتكاز هو أحدُ أسُس تصوّره للكتابة.
تتأسّسُ كتابة غويتيسولو إذاً، شأنها شأن التصور الذي إليه يحتكمُ في فهْم علاقة الذات بالآخر، على إقامة «الحوار – الجوار» بين الثقافات، وبين النصوص، وبين اللغات، برُؤية تقوم على تقويض كلِّ ما يُكرّسُ التباعُد وسوءَ الفهم3، على نحو يَحمي النّسغَ النقديّ الذي عليه تنهضُ هذه الرّؤية. إنّهُ أمرٌ حَيَويّ يَجعلُ الوَعيَ ببناء الكتابة غيرَ مُنفصل عن الرّؤية الفكريّة المُسيِّجة لإشكال العلاقة بين الثقافات. فكما يَنتصرُ غويتيسولو، في هذا الإشكال ذاته، لتعايُش حضاريٍّ وثقافيٍّ يَقومُ على «الحوار- الجوار»، بعيداً عن كلِّ تمركز يَقتاتُ من تمَثلات زائفة بَنتْها الاستيهاماتُ والأحكامُ الجاهزة والصورُ النمطيّة والأعطابُ النفسيّة، يَنتصرُ، في الآن ذاته، لكتابةٍ تُقوّضُ هذه الأعطاب من داخل التفاعُل النصيّ الذي عليه تقوم هذه الكتابة. إنّها تُقوّضُهُ عبْر الآلياتِ التي بها يَتحقّقُ البناءُ النصيّ في احتفائه بحوار النصوص وبتجاوُرها المُتجدّد، المُترتِّب على هذا الحوار، وبتبادُلها للإضاءة.
بهذا المعنى، يُمْكنُ لقراءات مُستقبليّة أن تحفرَ في قوانين الحوار التي أرْساها غويتيسولو في بَعض كتاباته الروائيّة المُستندة إلى طرُوس قادمة من ثقافات عديدة والمُتفاعلة معها. قوانينُ لا يَتوقّفُ استجلاؤها على الرّؤية الفكريّة المُوَجِّهة لها وحسب، بل على الاشتغال باللغة والنفاذ بعيداً في مَجهولها، ونَسْج العلاقات بين النصوص- الطروس، على نحو يَسمحُ بتتبّع الحوار- الجوار في العناصر البنائيّة للكتابة الإبداعيّة. اِشتغالٌ أنجَزَهُ غويتيسولو وهو يَجعلُ الرّؤية الفكريّة لا تصوّراتٍ مُنفتحةً فقط، وإنما أيضاً آليات كتابيّة. وهذا عملٌ دقيق، لأنّه يَمنحُ الأساسَ الفكريّ والنقديّ امتدادَهُ في العناصر البنائيّة الأدبيّة، التي تتخلّقُ في تفاعُل مع هذا الأساس ومع نَسَبها المَكين إلى الإبداع الروائيّ. ذلك أنّ كتابة غويتيسولو ليست فقط انشغالاً بلقاءِ الثقافات وحوارها وبتقويض تَمَركزها. إنّها أيضاً، ولاسيما على مُستوى البناء النصيّ في بَعض الأعمال الروائيّة، إنجازٌ لهذا اللقاء من داخل عناصر الكتابة.
2. حُدود مفهوم الالتزام في
قراءة التجربة الكتابيّة
يقومُ المَسلكُ القرائيّ المُقترَح أعلاه على إعادة القراءة، انسجاماً مع الأساس النقديّ الذي يُعَدُّ السّمة البارزة في كتابة غويتيسولو، على نحو يَدعو إلى تنويع مَواقع القراءة وبَذل الجهد في العُثور على مَواقعَ جديدة. ينهضُ هذا المَسلكُ، كما سبقَ الإلماحُ إلى ذلك، على تهيئة المداخل القرائيّة بغاية تأويل التداخُل النصّي بتشعّباته والمدى الذي بَلغَته اللغة في كتابة غويتيسولو الروائيّة، انطلاقاً من علاقة هذا التداخل وهذا المدى بتصوّر الكاتب الفكريّ لعلاقة الذات بالآخَر. إنّها مَداخلُ تتطلّبُ بناءً دقيقاً. فهي ليست مُعطيات كاشفة عن نَفسها، بل آليات مُضمرَة تتطلّبُ تأويلاً لا يَستقيمُ إلاّ بإعادة القراءة التي عليها راهنَ غويتيسولو. هذه المداخلُ التأويليّة خليقة، إن هي بُنِيَتْ، بتسييجِ أعمال غويتيسولو الروائيّة ضمن رُؤيته الفكريّة، ولكن اعتماداً على آلياتٍ من صَميم العمل الأدبيّ، أي تلك الآليات التي لا تتبدّى إلاّ من الإنصات الدقيق لطريقة غويتيسولو في نسْج المُحاوَرة بين النصوص المُدمَجة في أعماله الروائيّة، ومن الحَفر عن مُوَجِّهات هذه المُحاوَرة استناداً إلى أسئلة تمَسّ إشكالَ اللغة في الأدب، وتمَسّ طرُق البناء النصّي، وتُلامسُ غموضَ المَعنى في هذه الأعمال.
إنّ هذا المَسلك هو أحد المداخل من بين أخرى تُتيحُ إعادةَ القراءة وتأمينَ دوام هذه الإعادة. لقد كان غويتيسولو يَفهمُ العملَ الروائيّ بوَصفه إعادة كتابة لمقروء شاسع، وإلاّ ما كان ليَنحازَ إلى طريقة بناء الكتابة في ألف ليلة وليلة، وإلى طريقة بناء الكتابة في دون كيخوطي، العمل الذي ظلّ غويتيسولو يُمجِّدهُ ويُوليه اهتماماً خاصّاً، ممّا أمْلى عليه إعادةَ قراءَته في فترات مُتباعدة من حياته. لقد كان غويتيسولو يَكتبُ بوَعي تَمكينِ أعماله الروائيّة من الانتساب إلى إعادةِ القراءة. وهو نفسُهُ صرّحَ، في أكثر من مناسبة، برهان كتابته على هذا الانتساب. ليس هذا الرهانُ مُجرّد رغبة ذاتيّة، ولا هو تضمينٌ حَدسي لصورة القارئ المُفترَض في طياّت الكتابة، بل هو إنجازٌ نصّيّ يُهيّئُ له الكاتبُ ما يُحقّقه في مُنجَزه، انطلاقاً من عَمل دقيق على اللغة وعلى طرُق البناء الروائي. انتساب أعمال الكاتب إلى إعادة القراءة ليس إذاً رغبة ذاتيّة مُتاحة للجَميع. إنّه أساساً عملٌ على اللغة وَفق تصوّر خاصّ للقراءة، وذلك بعَدّها إعادةَ قراءةٍ دائمة. غالباً ما تكونُ الأعمالُ المُنتسبة إلى إعادة القراءة مُتولِّدةً أساساً من إعادة الكتابة التي تُمَكّنُها من طبقات لا تتكشّفُ بالقراءة، بل تتطلّبُ إعادة القراءة.
إنّ إعادة الكتابة لا تتعارضُ مع التوغّل في مجهول اللغة. على العكس فهي ما تحقّقه، لأنّ فيها يكون الكاتبُ مُنشغلاً بقول ما لمْ يقُلْهُ أحدٌ بعد، قول الجديد من داخل تفاعُله مع أقوال الآخرين. في هذا السياق، يقول غويتيسولو: «إنّ المشروع الروائيّ كما أفهمُهُ لهو مُغامَرةٌ حقّة: أن نقولَ ما لمْ يَقُلْهُ أحدٌ بَعد، وأن نكتشِفَ للغة إمكانات أخرى: إنّه غزوُ مَناطق لغويّة جديدة (…). إنّ كتابة رواية لهي قفزةٌ نحو المجهول: الوُصول إلى مكان لم يكُن الكاتبُ يَعرفُ بوُجوده قبل شُرُوعه بالكتابة. وعندما يُسيطرُ الكاتبُ على تقنيّة معيّنة، أو يَبلغ نهاية تجربة، فهو عليه أن يَهجُرها ويهبّ للبَحث عن شيء آخَر يجهله4». وهذا أمرٌ بيِّنٌ من انشغال غويتيسولو بسؤال الشكل في كتابته الروائيّة، وحِرصه، في مَساره الروائيّ، على التجديد في الشكل الكتابيّ.
الرهان السابق على إعادة القراءة وعلى بلوغ مناطق لغوية مجهولة هما من الأسُس التي تسمحُ بالارتياب في صلاحيّة قراءة أعمال غويتيسولو في ضَوء مفهوم الالتزام، على الرغم من اقتران اسم هذا الكاتب بالقضايا المَصيريّة، ومن انتصاره المَبدئيّ لحقوق المُهمّشين والمُهاجرين، ومن تصدّيه للاستعمار بمُختلف صُوَره. مع ذلك، يظلُّ مفهوم الالتزام بحَمولته السياسيّة، وبالمعنى الأوّل الذي به عبَر إلى مُقارَبة الكتابات الأدبيّة بوَجه خاصّ، غير قادر على أن يَسَع كلَّ وُجوه تجربة غويتيسولو. كما أنّ هذا المعنى، الذي يقرنُ المفهوم لا باللغة ولا بالبناء النصيّ، بل بالمضامين والقضايا، لم يَصمُد، من ناحية أخرى، أمام تطور نظريّات الأدب التي هيّأتْ لخَلخته وإعادة بنائه، وذلك بجَعله التزاماً، في المقام الأول، بالكتابة وبخصائص أجناسها، وبالمعرفة التي تتطلّبها الكتابة ويتطلّبُها بناؤها.
إنّ الحَمولة الدلاليّة الأولى لمفهوم الالتزام قد تستسهلُ مُقارَبة أعمال غويتيسولو وتحول دون النفاذ إلى قضايا اللغة والشكل في هذه الأعمال. كما أنّ الحمولة ذاتَها لا تتّسعُ لاستيعاب تعقّد الفعل الكتابيّ الأدبيّ، المُراهن على إعادة القراءة والمؤسَّس أيضاً في ضَوئها، وبتوجيه من مَسعى بلوغها. هذا الفعلُ المنذورُ لإعادة القراءة والمَصوغُ استناداً إلى إعادة الكتابة هو فعلٌ يَتحقّقُ بوَصفه عملاً على اللغة، لا يُمكنُ النفاذ إليه من مَوضوعاته وحَسْب، بل من تعدُّد الأصوات فيه، ومن تداخُل النّفَس الشعريّ بالحَكي في العديد من نُصوص غويتيسولو.
إنّ تعدّد الأشكال الكتابيّة التي منها زاولَ غويتيسولو مُقاوَمة فظاعة العالم وبشاعَة الظلم تطرَحُ حَذراً مَنهجيّاً في قراءة الوَشائج بين هذه الأشكال. فقد كتبَ غويتيسولو المقالَ الصحافي، وأنجزَ التحقيقَ المَيداني، كما كتبَ الدراسة الفكرية، والنقد الأدبي، والنصّ الروائي، والنصّ القصصيّ، والسيناريو. وهي أشكالٌ يَضيقُ بَعضُها على مفهوم الالتزام بحَمولته الاختزاليّة، بما يُلزمُ كلَّ مُقارَبة تعوِّلُ عليه بإخضاعهِ للمُراقبة النقديّة التي كانت من صَميم كتابة غويتيسولو.
عُبورُ المُقارَبة من شكل إلى آخَر يَقتضي حَذراً مَنهجيّاً يتحَصّنُ لا بنظريّات الكتابة وحسب، بل أيْضاً باستحضار وَعي غويتيسولو بالاختلاف الذي عليه يقومُ الانتقالُ من شكل إلى آخَر. وهو ما يَجعلُ مفهومَ الالتزام، متى كان ضَروريّاً الاحتفاظ به واعتمادُه في مقارَبة كتابات غويتيسولو، يَتلوّنُ وفق مُتطلّبات الشكل الكتابيّ. فالعملُ الفكريّ، مثلاً، التزامٌ بمُتطلّبات الفكر، أي التزامٌ بخلفيّة معرفيّة، وامتلاكٌ لقدرةٍ على مُحاوَرَة مُفكّرين سابقين أو مُعاصرين ونقدهم5، وامتلاكٌ كذلك لقدرةٍ على المُساءلة والتفكيك والتقويض والبناء. هو ذا الالتزامُ الفكريّ، الذي اضطلع به غويتيسولو في انحياز تامّ إلى تفكيك إشكال العلاقة بين الذات والآخر، انطلاقاً من حرصه على إبراز تصدّع الهُويّة ونقده للاستيهامات التي تجعلُ من الآخَرَ صورةً جامدة6. والعمل الروائيّ لدى غويتيسولو هو أيضاً التزامٌ، لكن ليس بالحمولة الدلاليّة المُستسْهلة للمفهوم. إنّ هذا العمل التزامٌ قبل كلّ شيء، بتقنيات الكتابة السرديّة وبعناصر بنائها، وإلاّ ما الذي يُسَوّغُ شغف غويتيسولو الكبيرَ بنصوص سر?انتس وبالأعمال الروائية الكبرى. هذا الالتزام بَيّنٌ من تطوّر المَسار الروائيّ لديه، الذي بدأه مُنذ خمسينيات القرن الماضي وواصَلهُ بوَعي تجديديّ مَشدود إلى أسئلة اللغة والشكل. الالتزامُ بهذا المعنى لا يستجيبُ لحمولة المفهوم المتداولة، مادام العمل الروائيّ يَبني التزامَهُ من داخل أسئلة الأدب وأسئلة اللغة ومن داخل علاقته بتاريخ الرواية بوَجه خاصّ. الحسّ النقديّ، الذي لازمَ كتابات غويتيسولو، حَيويّ إذاً لا في رؤيته للأشياء وللعالم وحسب، بل في توجيه كلِّ قراءة لأعماله، حتى لا تتمادَى القراءةُ، على مُستوى التأويل، في الانجرار إلى خَلق تماهٍ بين المقال الصحفيّ والكتابة الفكريّة والنقد الأدبيّ والعمل الروائيّ.
بهذا المعنى، يُمْكنُ عدُّ كتابات غويتيسولو الروائيّة، خلافاً لكلِّ استسهال يَمنحُ مفهومَ الالتزام صلاحيّة مُقارَبة الأدب، إسْهاماً في تصدُّع المعنى المُمتلئ لمفهوم الالتزام. تصدّعٌ يَسمحُ لحمُولة المفهوم بالابتعاد عن المعنى الذي قيّدَهُ، لتغدو هذه الحمولة دالّة على التزام بقضايا اللغة الروائيّة، وبمُتطلّبات البناء الأدبيّ. إنّهُ التزامٌ بالكتابة، بما يُمليه من معرفة بنصوص ألف ليلة وليلة، وبرهانات الكتابة لدى سر?انتس، وبعناصر البناء في الأعمال الروائيّة الحديثة والمُعاصرة. التزامٌ جسّدَهُ مَقروءُ غويتيسولو الشاسع، ووضعيّة اللغة في رواياته، كما جسّدَته دراساتُهُ في النقد الأدبيّ، التي كشفَت عن مُتابَعَة حيويّة للتصوّرات النظريّة في النقد والأدب، وفي العلوم الإنسانيّة بوَجه عامّ.
إلى جانب الرّؤية الفكريّة المُسَيِّجة لإشكال العلاقة بين الذات والآخَر، التي هي أحَدُ أسُس لقاء الثقافات والنصوص في بعض أعمال غويتيسولو الروائيّة، ثمّة أيْضاً الوعيُ النقديّ الأدبيّ الذي اعتنَى به غويتيسولو معرفيّاً وكان وراء مُمارَسته للنقد الأدبيّ في بعض دراساته. ذلك أنّ غويتيسولو زاوَج بين الفكر النقديّ والنقد الأدبيّ، موازاةً مع كتابته الروائيّة.
بمُوَازاةِ كتابةِ غويتيسولو لنصوص روائيّة وقصصيّة، أنتجَ فكراً نقديّاً وقارَب أيضاً نصوصاً أدبيّة بخلفيّة نقديّة، كشفَت عن مُتابعته لنظريّات الأدب وعن اطّلاعه على البنيويّة والسميائيات والعلوم الإنسانيّة.
وهكذا، فتجاوُباً مع الارتياب، الذي تمّت مُساءلةُ مفهوم الالتزام في ضَوئه، ومع التشديد على الحدُود الاختزاليّة لحَصْر تجربة غويتيسولو الكتابيّة في هذا المفهوم وإرجاعها إليه، يَبدو من الحَيَويّ، في هذا السياق، الإشارة إلى رأي غويتيسولو بشأن مَسْعى بَعض النقاد إلى اعتماد تيارات، وأساليب، وفترات، لتصنيف تجربة كتابيّة7. لقد عارَضَ غويتيسولو هذا النزوع من مَوقعٍ خَصيب، مَوْقع المعرفة المُضاعَفة، أي المُتحصّلة من الخلفيّة النقديّة ومن التجربة الإبداعيّة في آن. هكذا رأى غويتيسولو أنّ الناقد، الذي سبقَ أنْ أنتجَ نُصوصاً أدبيّة، يَعرفُ «أنّ المَشروع المُتمَثّلَ في تطويق المُؤثّرات وتحديدها لهو عابثٌ تماماً8».
إنّ النصّ الأدبي، وَفق هذه الرؤية النقديّة المُنفتحة يَكتسي أهمّيته، بحسب غويتيسولو، من ارتباطه «بسلسلةٍ واسعة من النماذج العائدة إلى أنواع وحِقب وتقاليد أدبيّة مُختلفة، وكلّما كانت الصِّلات التي تربطهُ بالمكتبة الكونيّة، كما يُعبِّرُ بورخيس Borges مُتعدِّدة ووثيقة، كان عمَلُهُ مُتعدِّداً وثريّاً9». وهو ما يَستشهدُ عليه غويتيسولو بتجارب سر?انتس وسْتيرن وفلوبير وجويس، التي عدَّها، انطلاقاً من نَسبها إلى المكتبة الكونيّة، «أمثلةً ساطعةً على العَجز المُؤسي الذي يقعُ فيه هواة النقد الاختزاليّ10».
اِستناداً إلى هذا التصوّر، يَنضافُ النقد الأدبيّ المُنفتح، الذي تبنّاه غويتيسولو ومارَسهُ، إلى الخصيصة التركيبيّة التي سبقَ التشديد على علاقاتها السّريّة في كتابات غويتيسولو. علاقات يتداخلُ فيها الفكريّ بعناصر تحقّق البناء النصّي في بعض أعماله الروائيّة. فتخصيبُ المُنجَز النصّي بالتراث الكونيّ رُؤيةٌ نقديّة وأدبيّة وفكريّة. إنّ التقاطُع، الذي عليه تقومُ هذه الرؤية، يشهدُ في بعض أعمال غويتيسولو الروائيّة تشابكاً ينتظرُ دراسات لاستجلائه واقتفاء تحقّقاته في البناء النصّي. ويُمكنُ، في هذا السياق، عدّ رواية الأربعينيّة ورواية فضائل الطائر المتوحّد مَتناً مُستجيباً لافتراضات المَوقع القرائيّ الذي بَلوَرَت هذه الورقة بَعضَ مَداخله.
الهوامش
1 . يُعدُّ تقويض هذا التمركز أحدَ الأسسُ التي عليها بنى خوان غويتيسولو تصوّره لعلاقة الذات بالآخر. وهو ما تبدّى من نقده، في الكثير من دراساته، للتمركز الأوروبّي. اُنظر تمثيلاً لا حصراً نقده لتمركز الذات الإسبانية في كتابه: في الاستشراق الإسباني، ترجمة كاظم جهاد، نشر الفنك، الدار البيضاء، المغرب، 1998. في هذا الكتاب كما في كتب غويتيسولو الفكريّة والنقديّة، يأخذ التقويض طابعاً فكريّاً، أما في رواياته، فيتحقّق التقويض انطلاقاً من مُتطلّبات الكتابة الأدبيّة ومن وضعيّة اللغة في هذه الكتابة. في الروايات يَسري التقويض والنقد في عناصر البناء ويتشابكُ معها.
2 . خوان غويتيسولو، الأربعينية، ترجمة إبراهيم الخطيب، تقديم عبد الفتاح كيليطو، نشر الفنك، الدار البيضاء، 1995، ص. 13.
3 . اتّسمَ هذا النقدُ أحياناً بقسوة عنيفة كما في رواية دون خوليان، التي كتبها غويتيسولو في طنجة، وفيها يتماهَى الراوي مع دون خوليان، عازماً هو أيضاً على خيانة مُماثلة لتلك التي قام بها دون خوليان الملك القوطي لمّا أهانه الملك رودريغ باغتصاب ابنته. ذلك أنّ الراوي، الذي يحملُ خلفيّة الكاتب وحنقه، يحلمُ بغزو جديد لإسبانيا يُحرّرها من أوهامها ومن تعصّبها ورَفضها للآخر ومن أحكامها الجاهزة. وهو ما أثارَ رُدوداً مُتباينة على هذه القسوة العنيفة التي بها واجه غويتيسولو إسبانيا، قسوة بلغت حدّ تمنّي غَزو عربي إسلامي جديد. من هذه الرّدود ما اعتبرَ «عنف الكاتب كرهاً للذات واستنكافاً مرَضيّاً من ثقافته الأصليّة»، ومنها ما تأوّل العنفَ من زاوية «الجريمة العاطفيّة» و»التطهير بالنار» على حدّ تعبير ماريو بارغاس يوسا الذي شبّهَ عُنفَ نقد غويتيسولو لإسبانيا «بإطلاقة ناريّة جبريّة يُوَجّهها عاشقٌ غيور لعشيقته الخؤون». اُنظر: خوان غويتيسولو، على وتيرة النوارس، منتخبات سرديّة، اختارها وقدّم لها المؤلّف، ترجمها عن الإسبانية ومهَّد لها كاظم جهاد، دار توبقال، الدار البيضاء، ط1، 1990، ص. 17 و18.
4 . على وتيرة النوارس، مرجع سابق، ص. 33.
5. ذلك ما لم يَكُف عنه غويتيسولو في أكثر من دراسة فكريّة. فأعماله تُحاورُ أسماءَ فكريّة عديدة تتحدّرُ من ثقافات متباينة.
6 . لقد ركّز غويتيسولو في نقده لهذه الصورة الجامدة على الأحكام المُسبقة والأفكار الثابتة التي يَستعملُ في الإشارة إليها لفظ «الكليشيات». انظر على سبيل التمثيل تقديم غويتيسولو للترجمة التي أنجزها كاظم جهاد لكتاب في الاستشراق الإسباني. مرجع سابق.
7 . على وتيرة النوارس، ص. 69.
8 . المرجع السابق، الصفحة ذاتها.
9 . المرجع السابق، ص. 70.
10 . المرجع السابق، الصفحة ذاتها.
خالد بلقاسم