ظروف كتابة القصيدة:
لعبت احداث حرب الخليج الثانية 1991م، دورا مهما في بلورة رؤى كثيرة عند اكثر من مثقف عربي. فلقد انشق الواقع الثقافي العربي في اكثر من اتجاه، الامر الذي كشف معه تجليات الموقف القومي وتناقضاته في اكثر من بلد، وبالتالي اصبر "الموقف الذاتي" الفردي بشكل خاص، علامة دالة على الموقف التاريخي للمبدع، واتساق هذا الموقف من الحالة الواهنة، الخاضعة بتجلياتها الى الموقف السياسي الرسمي في هذا البلد او ذاك، وهذا مما زاد الطين بلة فراكم المعاناة، واصبحت مركبة في قلق الشاعر وروحه، لذلك انطوت هذه التراكمات داخل النفى، وراحت تعتلي في ذات الشاعر، حافرة لها اخاديد حادة في الذاكرة، وضاغطة بشكل حاد على وعي المبدع، بحيث انها اصبحت حالة آسرة، لا يمكن الفكاك منها الا بالافصاح عنها، ومهما كانت النتائج، وبغية تحويل هذه المعاناة والمكابرة الى ابداع ثقافي، لابد من اختيار لحظة مناسبة، وحالة نفسية ارقي من تلك الحالة التي ولدت تراكم القصيدة، وهو ما ادركه عبدالقادر الحصني بحسه المرهف، وثقا فته الواسعة، ومعر فته الجيدة بأسرار بلاغة الشعر، وعوالم المرسل من القصيا، ناهيك عن صبره الطويل وأناة باله الاطول، فلقد مرت على حالة "تخمر" تلك القصيدة اكثر من ثماني سنوات، أقول هذا لاني على صلة وثيقة بالشاعر، وملازمه بشكل شبه يومي، عندما كنت بدمشق، ولم يسر لي منها بشي ء، حتى ساعة خروجي من دمشق عام 1993م، ومن هنا تحديدا، احصر الفترة الزمنية لولادة هذه القصيدة.
العناصر المؤثرة في كتابة القصيدة:
كما أشرت، بأن الشاعر ذو حس مرهف، ومتابع جيد لحركة الثقافة العربية، وتحديدا في مجال الشعر العربي، فهو مطلع بشكل واسع على التراث العربي- الاسلامي، ومتأثر بالادب الصوفي، لا سيما أدب النفري، وابن عربي، الى حد بعيد، ناهيك عن المامه بحركة التجديد الشعري في العصر العباسي، والعصر الحديث اضافة الى سعاصرته للتيارات الثقافية، بكل تلاوينها، وله موقف واضر من "حركة الحداثة الشعرية"، ثم انه يدرك – بشكل معرفي- التلاعبات السياسية والايديولوجية، وقد ابتعد عنها، وانحاز للا بداع الشعري، بشكل لا لس فيه، وعندما انكشفت اسرار السياسة الامريكية في حرب الخليج، وسقطت ورقة التوت عن عورة رواد- العالم الجديد- وسحب هذا الشرخ أذياله على حركة الثقافة العربية المعاصرة، فقمعت اصوات الحرية، وظل التاريخ العربي "مركونا" على رف النسيان، لكن هناك قلة قليلة من المثقفين العرب ادركوا سر الحالة، وانتبهوا الى حركة التاريخ، وقلبوا صفحاته على اكثر من وجه، وعرفوا معنى ان تكون – بغداد أو دمشق او القاهرة المعزية – شاهدة أبد الدهر على وجود أمة وحضارة، ومن هذه الزاوية تحديدا كان التأثير الارضه في مؤثرات القصيدة.
ولا يخلو الامر – من حيث تأثيراته – على مواقف بعض الادباء في تلك الاحداث مسار وعي الشاعر والقصيدة بآن معا، وعبدالقادر الحصني يدرك ذلك جيدا، وقد انعكس هذا الامر فيما بين سطور القصيدة.
كما أن المكان – هو الآخر- يحظى بنصيب واضح من تأثيراته في بنية القصيدة وتداعياتها وزمن اطلاقها ولحظة التفجير. فهوامش الحالة تشير الى ان القصيدة ألقيت في مهرجان المربد الشعري الرابع عشر، في بغداد في 24/11- 1/12/1998م، والمتتبع لمهرجانات المربد الشعري – تاريخيا- يدرك الدلالة الرمزية للمكان، وفي نفس الوقت يعلم خصوصية تلك القصائد والمطولات التي تنشد هناك، فالتوقيت، والمكان، لعبا دورا هاما في المؤثر الايجابي في لحظة اطلاق القصيدة – وعلى حد علمي- ان الشاعر لم يلقها- قبل المربد- في مكان آخر. فقد اراد ان تكون تلك المطولة في ذلك المكان تحديدا، ومنها يحدو الركب للانشاد في أماكن اخرى.
تحليل بنية القصيدة:
ينطلق الشاعر عبدالقادر الحصني في قصياته تلك، من رؤية تاريخية، ذات بعد اسطوري، رابطا اسم بغداد بأساورها التاريخية، ومن ثم يلصق الاسم بـ "طائر الفينيق" الذي لا يمكن ان يختفي، وان مات – مؤقتا- حيث انه ينطلق من الرماد بقوة أشد، وتحليق أعلى، ومن هذه الرؤية الاسطورية اراد عبدالقادر الحصني القول بأن بغداد الحضارة، وبغداد الثقافة، وبغداد التاريخ، هي كطائر الفينيق، يستحيل قتله او اخفاؤه عن أعين الناس، فهو كامن في الاسارير النفسية، وخالد في الرؤى، ومتسرمد في الاحاسيس.
ومن التسمية جاء وزن القصيدة، حيث يجنح الشاعر عبدالقادر الحصني الى "اوزان الشعر الحر" كي تبقى مايات القصيدة مفتوحة في كل الآفاق، ويظل يدور في ضجيج تلك القصيدة، دون ان يخرج من سياقاتها الوزنية، ودون ان يقيد رؤاه بقيد الوزن الواحد، الامر الذي قد يضعف من شاعريته، ومدارات خيالاته، او بنية سفردته في سياق الجملة الشعرية، لذلك اختار الوزن الذي يستجيب لهواه ويسمح لانطلاقاته، دون ان يؤثر ذلك في موضوعة المعاني ودلالاتها الرمزية، ورابطا ذلك في نسيج متوال ومتصاعد مع حركة الايقاع الشعري، مفتتحا الكلام بفعل الحركة "اطوي" ومستندا على حرف "الدال" في ارتكاز فني، يظهر فيه – صنعة الشعر- في كل مقطع شعري.
يقسم عبدالقادر الحصني، قصيدته "طائر الفينيق" الى خمسة مقاطع شعرية، تحمل خصر رؤى، تنسجم بدلالاتها الرمزية مع الواقع العربي الارهن، منظورا اليه من زاوية تاريخية، ومتحدثا عنه بألغاز واحاجي يفهمها القارئ النبيه، حيث الاشارة افصح من العبارة، يقول في المقطع الاول:
"أطوي درج الليل… واصعد نحو نجومي
بخطي يهديها قلب من فيفيق
ينهد".
"أطوي درج الليل… واصعد" تستوقفك هذه العبارة الشعرية بكناياتها ودلالاتها، "فدرج الليل" هو الظلام الحالك المحيط بسماء بغداد – اكثر من غيرها- والذي يعني ابعادا كثيرة في الدلالة الرمزية، وبالتالي، تشكل عملية الاختراق للحصار الليلي، رؤية فكرية وفنية، متجاوزة حلكة الليل، نحو أفق أعلى، ملئ بضياء مشع تختزن في طياتها احلاما كبرى. فالمجاز في هذه الجملة الشعرية يفصح عن ذلك، بالاستناد لبقية المقطع الشعري "وأصعد نحو نجومي" ففعل الصعود، هو تجاوز للحالة الواهنة، وبالتالي السير نحو هدف هو "النجوم". وهذا السرى الليلي، المحفوف بالمخاطر ينطلق واثقا من ان "مركبة السير" طائر الفينيق، تسير دون وجل او خوف، رغم التعب والتنهد، حيث ان صورة هذا الطائر الاسطوري، يضفي الشاعر عليها جمالا ابهي عندما يقول:
"مفترعا بجناحيه الابعاد،
قدماه موشاتان بظل سماء
وقوادمه مكحول ما يتداخل منها في الليل
ويطلع من غرته غار
في هيئة شمس تبزغ ملء عيوني"
ورسم الصورة والتحليق للطائر بهذا الشكل، هو شكل بغداد الذي يرده الشاعر ويريده، بل يحلم به اكثر، كي يبقى بسطوته المعهودة عبر التاريخ.
"مفترعا بجناحيه الابعاد"
ورغم هالة الخوف هذه، الا انه يظل أجمل برؤيا الشاعر، حيث يريد ان تكون "قدماه موشاتان بظل سماء"، بمعنى ان هذه السطوة والجبروت، لا يصح ان تكون قائمة، فوشي الأقدام بظل السماء، هو حالة السلام والصفاء، ذات الزرقة الآسرة، الخالية من الحروب، لذلك جاءت اسقاطات الرغبة هذه بأن يكون شكل الطائر بالصورة التي رسمها الشاعر "يطلع من غرته غار"، علامة النصر، ويتحول هذا "الغار" الى هيئة "شمس" تملأ كل العيون، وليس عيون الشاعر وحده. في لجة الصورة الشعرية المنداحة من خيال الشاعر ورؤياه، تنساب حالة من "الوعي الذاتي" للفرد والمجتمع، يتحدث عنها الشاعر بلهجة خطاب مبطن، يحمل في طياته رؤى سياسية، يتجسد ذلك في المفردات التالية: "هذا ما يحسبه الجبناء جحيما يعروني… الخ" والشاعر أراد، بل صار موقفه متعاطفا مع الحالة، لا سيما وانه شهد نيران الغارات الأمريكية على بغداد، فالموقف الشعري هنا، افصح عن ذاته، بشكل سياسي، اضعف الصورة الشعرية في بنية المقطع الأول من القصيدة، لانه دخل في شبه مباشرة، واعتقد ان حالة الدخول هذه، تعللها الحالة الجاثمة على صدر الشاعر في تلك الفترة، ومن ثم هي حالة الدفق الأول للشعور الذاتي، وعلاماته الاولي لتكوين القصيدة.
في المقطع الثاني من القصيدة، يفور الشاعر بعيدا في اعماق التاريخ ليصل الى ربط محكم بين حالة – الدمار- والنهوض الاسطوري، مستندا الى التراكم الحضاري الذي شهدته بلاد الرافدين، ليؤكد استحالة إحالة طائر الفينيق الى دمار او فناء، مشبها طائر الفينيق هنا بالشعب العراقي ذاته، وليس بغداد وحدها، فهو ينتقل من حالة الصعود الاولى "نحو النجوم" الى حالة الهبوط الاولي، والتي انطلق منها الصعود الأول، الا وهي "الالواح السومرية" بمعنى انه لا يمكن لحالة تحليق في سماء العلا دون مركز حضاري، يسمح لهذه الحالة بالديمومة والبقاء، ولذلك يكرر الشاعر الاستهلال الشعري في كل مطلع، لتوكيد حالة الصعود، وبشاعرية ارق، وصورة أوضح، مع الحفاظ على نسيج البنية ووحدة الايقاع الشعري، فهو يقول:
"أطوي درج الليل واصعد
أحمل بين يدي جذاذات من ألواحي
مسطور فيها آلهة
تسـع الكــون
وعمق جراحـي"
الصعود – هنا – في المقطع الثاني، كان بـ "جذاذات" من الألواح السومرية، وليس بكل الالواح، اقتصرت على ذكر "الآلهة الاولي" للبشرية، لأن هذه الجذاذات "تسع الكون" وتسع عمق الجراح الذي عدناه هذا الشعب من الويلات عبر تاريخا الطويل، والشاعر هنا أراد الافصاح عن أن مركز الحضارة البشرية، عندما يضرب بآلة تدميرية، هذا يعني ان الحضارة كلها مهددة، لاسيما حضارة الشرق الأوسط، على اعتبار ان العالم كله يعرف ان "التاريخ يبدأ بسومر"، وعندما يضرب مهد تلك الحضارة، فان البربرية الغربية، ذات الوشم الامريكي، هي المرشحة للصعود؟! ولذلك أراد الشاعر ان يعلن عن هذه الحقيقة، وأثبت القرينة في ذلك من خلال وجه التناقض الحضاري القائم بين الحضارة البابلية "أم الحضارات" وبين الحضارة الامريكية المدمرة للحضارات، وهذا ما يجليه التساؤل في المقطع الثاني:
"من قبلي، من وجدان الموت
استخلص حلم خلود الانسان
ومن اشترع العدل،
ولما دنسه الظلم
تطهر بالطوفان"
البيت الأول يحيلنا الى مسألة "خلود الانسان" والكلمة الاولي لهذا الخلود، وأولى صحائف هذا الخلود انه "حلم جلجامش" في ملحمته البابلية الخالدة، ورحلة البحث وراء الخلود بعد مقتل "انكيدو". ترى أتعلم حضارة أمريكا طلاسم ملحمة جلجامش؟! هذا السؤال هو ما اخفته عبارة الشاعر وأراد دحض الادعاء الامريكي بحمايته لحقوق الانسان، من خلال التساؤل الثاني:
"من اشترع العدل"؟!
ومسألة "العدل" هذه قانونيا، وتاريخيا، وحضاريا، اوجدها اهل بابل بالعراق، منذ القدم، قبل حوالي (3500 سنة ق.م)، ودونها بأقدم المدونات الحضارية في "مسلة حمورابي" الشهيرة. وعملية ايرادها بالنص الشعري، هي شاهد ادانة تاريخي ضد من يتقولون بأنهم "اهل العدالة" وأسبق بالزهور، وبغية اقرار حالة العدالة واسبقيتها التاريخية، فان الشاعر يورد توكيدا هاما، من التاريخ ايضا – هو مسألة "الطوفان" ويوظفه ابداعيا داعما تلك الحالة في المنظور الحضاري.
"ولما دنسه الظلم… تطهر بالطوفان"
وبغية فهم الحالة الحضارية لشعب العراق فان الشاعر ينطلق بتضاعيف النص الشعري، مسقطا- بشكل واع – تأكيدات الاحداث التي مر بها هذا الشعب على تلك البقعة الارضية المسمدة "أرض الرافدين" كي يقول، ان الحضارة انبثقت من هنا:
"هذه آيات دمائي
كنت أريد لها ان تمضي
في جنبات الارض
مواكب فرسان، وشقائق نعمان
تفصح عنها الاعياد"
فالأحداث الداعية المتكررة في تاريخ العراق، ينظرها الشاعر بزاوية جمالية، وبلغة شعرية شفيقة، مستخدما- المجاز- لخدمة النص الشعري- وظيفيا- فأنهار الدهاء جعلها "آيات" ومواكب فرسان، تنتشر كاوراد البردية الحمراء المسمدة "شقائق النعمان" ثم يستطرد الشاعر بأحلامه ناطقا باسم العراق، وموظفا تداعيات الحلم للمستقبل، كجزء من تنبؤ الشاعر، بعد ان يستحضر احداث الماضي.
"كنت أريد الحرية للأنهار
ونخلا تخطب ود ذوائبه الامجاد
كنت اريد بلادا تسع الحلم
اذا كانت تسع الحلم بلاد"
وقبل ان ينهي الشاعر احلامه ورؤاه، يطلق تساؤلا عنيفا، معريا الواقع بذلك التساؤل، نازعا عنه كل قيد، يقول:
"هذه رؤياي،
وهذا ما كنت أريد
فماذا كان يريد الأوغاد"؟!
في المقطع الثالث، تهدأ عاصفة الشاعر بعض الشيء ويميل الى الدعة، جاعلا من حالة "العتاب" حالة للتساؤل مع الذات بنفسر درجة الحلم، وبنرجسية أعلى، يستمد مشر وعيتها من التراث الذاتي للأرض والتاريخ ولثقافة الشاعر نفسه:
"أطوي درج الليل واصعد
قدري ابعد
قدامي أهوال
أعرف اني منها حين أموت سأولد"
الموت والولادة هنا، هي الثنائية المدركة بوعي الشاعر، والمترابطة في نسيج الرؤية مع المقطع الاول، ضمن أبعاده الاسطورية، كي يبقى الشاعر محافظا على وحدة المعنى في المضمون، وقد لجأ الشاعر عبدالقادر الحصني الى توظيف مفردات التراث العربي في بنية نصه الشعري، دون ان يحدث أي شرخ في نسيج قصياته من الناحية الفنية، ومحافظا على سبك المفردات في قالبها المطلوب، ومن ناحية المعنى، ظل كذلك متابعا لوحدة افكاره، فمن جدلية الموت والحياة يرسم للطبيعة منطلقا شعريا أخاذا، يقول:
"لا تبتكروا للبرق مراثي
غير هطول الأمطار
ولا تنتشلوا جسدي من بين سنابك هذا الليل الحالك
الا بالأقمار"
فالصورة المتولدة من اسرار الطبيعة يمازجها الشاعر بخياله، ويتناص فيها بالمعنى مع قول الشاعر العراقي "أحمد الصافي النجفي" حين يقول:
لا تزجوني بقبر… فانني
أبغض السجن ولو بعد مماتي
ولكن الصورة الشعرية عند عبدالقادر الحصني أصفى وأجمل، والمعاني خدمت الفكرة، ولكن بقية المقطع الشعري، يدخل فيها اسقاطات الحالة العربية، سياسيا، فهي تلح على وعي الشاعر وتضغط على قريحته، فلا يفلت منها- والنص اغلبه يحمل هذا الهاجس – وبغية تجاوز هذا المطب السياسي، يلجأ الشاعر الى "المونولوج الداخلي" مستخدما التراث الشعري العربي، ليمازج بين حالتين، بين حالة وعيه المعاصر- ضمن الواقع المعاش – وحالة الشعراء الجاهليين الذين سبقوه وعانوا مثله، من ذلك الرجع الاجتماعي، يقول:
"أنا فارسكم وأخوكم
أعدو معكم لو عوديتم
أقسم لو حزب الأمر
بأن ينهض من تحت رمادي الجمر
وان أستند الى الرمح المغروس بظهري
من افعال أياديكم
كي أحميكم
وأرى نفسي فيكم"
فضمن هذا الحوار المشبوب بالتساؤلات، يجعل عبدالقادر الحصني نصه الشعري مفتوحا على كل الاتجاهات، ويسمح للتأويل والمؤول بأن يقرأه بأكثر من مستوى، وهذه الحالة، قد توهم القارئ وتغريه بأن الشاعر يتكلم باسم "نظام سياسي معين" ولكن نهاية المقطع الشعري تنفي هذا الاحتمال التأويلي، فالصورة والفكرة تؤكدان على وحدة البعد الاجتماعي في منظوره التاريخي، وتؤكد حضور البعد القومي في وعي الشاعر وعمق القراءة للنص تؤكد بأن المتكلم عنه والمغيب، هو العراق شعبا وحضارة. في بدايات اللامنتهى في تخيل العربي لامجاده التاريخية، ينطلق المقطع الشعري الرابع من اصرار الشاعر- ضمن حالة المفكر به والمغيب – ليؤكد حضور العراق – جغرافيا واجتماعيا- وضمن خصوصية الانتماء القبلي في تشكيل الأرومة العراقية، تبرز تلك العزة للوجود، متكئة على تراث متراكم لمواقف كثيرة، مستمدة من هذا التراث أحقية الوجود، وبامتياز تاريخي، تقول بداية المقطع الرابع:
"أطوي درج الليل وأصعد
لا يثنيني هول عن رؤياي
ودربي
شأني ان ارفع صرحي، في زمن يتداعى
وأراهن… حين تدور شمول العزة
أن يشرب نخبي"
قراءة هادئة لهذا الاستهلال فرصة لأن يتأمل خفايا مضامين المفردات، حيث تبرز حالة الاصرار على المضي قدما في تحقيق رؤى طامحة للعلا، لا تثنيها الاهوال، لان الهدف المبتغى في تلك الرؤية، اكبر من أي هول، لا سيما وان زمن اللحظة القادمة في النص، يؤكد حالة التداعي والانهيار رغم ان الشاعر يدرك بأن هذا الزمن – حالة عارضة – حيث يستند في ذلك على رؤية تخترق الراهن صوب بوصلة الاتجاه المستقبلي، حيث يتنبأ الشاعر بصيرورة لحظة اكثر اشراقا من لحظة التداعي تلك، هي لحظة "شراب نخب الانتصار" وعلى أساس هذه الرؤية يؤكد الشاعر حضور- العراق، وقت ذاك – حيث يقول:
"أراهن… حين تدور شمول العزة
أن يشرب نخبي"
فسبق الرؤية هنا، توكيد جازم بحلول تلك اللحظة – لحظة الانتصار للعوب – وهذه الرؤية، بتقديرنا، يستنبطها الشاعر من تحليلاته للوا قع العربي، اضافة الى عمق ثقافته حيث ان في هذه الرؤية بعضا من إسقاطات الصوفية، الذين قالوا: "ما لاح ثبت" فالتأسيس للفكرة من هنا يأتي، وعلى اساس العزة والوثوق بالانتصار القادم، يؤكد الشاعر، في النصف الثاني من المقطع الرابع، بأن العراق لا ولن يسمح بمرابطة خيول الاعداء في جنوبه او شماله، ولن يصبح "نخيل البصرة" مربط خيل الاعداء، رغم تفرده بمقاومة الاعداء:
"لن يربط نخل "البصرة" خيل الاعداء
وها أنذا منفرد كالسيف"
وعملية "التفرد" هنا، حقيقة واقعة في المنظور السياسي العربي بالنسبة للعراق، والصورة الشعرية للمشبه به (السيف) تعني انه لم يثلم بعد، وما زالت قوته كامنة فيه. وهذه الصورة الفريدة، استنبطها الشاعر عبدالقادر الحصني من قولة "عمرو بن معد يكرب الزبيدي"
ذهب الذين أحبهم وبقيت مثل السيف فردا
وبغية تكثيف الحالة الوجدانية للعراق، فان الشاعر يستحضر شوامخ الدلالات التاريخية، من أسماء ورموز وحواضر واحداث ووقائع، رابطا اياها بلحظة التاريغ المعاصرة، ليدين بالاولي الثانية، ومن ثم يعلن صرخة الرفض لما هو قائم في الوجدان العربي، نتيجة التخلي عن ثوابت الماضي، كنشيد لا زال يخامر المخيلة العربية، يقول:
(الا أبلغ "سيف الدولة" حزني
ومرارة ان يحدث ان ألقاه
ولا ألقى "حلب".. ولا "المتنبي)
هنا – الاسقاط التاريخي- واضح الدلالة والادانة (سيف الدولة والمتنبي) والعلاقة التاريخية القائمة بينهما. ومرامي الشاعر عبدالقادر الحصني في هذا الإسقاط، أكثر عمقا وبعدا، لتجسيد حالة الشعور القومي، اضافة الى انه اراد ان يدين "الشعراء والأدباء" من خلال شخصية ثقافية هامة، تلبسها هو في هذه اللحظة، هي شخصية المتنبي، وخاطب الزعماء العرب بشخصية (سيف الدولة)، وليس جزافا ان يختار "سيف الدولة الحمداني والمتنبي" بل هو اسقاط موظف بدراية وحنكة وبعد مرمى لشاعر يعرف هدفه، حيث انه ادان لحظة الصمت العربي المعاصرة – ثقافة وسياسة – وهي تشاهد ما يحل بالعراق، لذلك ادان هذه اللحظة بصراحة اللفظ لا بمرمزاته، قال:
"ما أطول هذا الليل العربي
وأنفــد صبـــري
حين يكون الصبر مخاضا
ينتظر الميلاد"
ولحظة انتظار "الميلاد" هي الحلم الذي يلهب به الشاعر، بل يسارع في انضاجه، من خلال تحفيز ذاكرة المتلقي العربي، سياسيا كان أم ثقافيا، ليشر هو بطول "هذا الليل العربي" ويعزف – بنفس الوقت – على وتر "العربي لا ينام على ضيم".
×××
× في المقطع الخامس والاخير من مطولته، ينطلق عبدالقادر الحصني من مسألة "التفاخر العربي" كمفهوم سيكولوجي، ثقافي، ساهم وما يزال يساهم في بنية الشخصية العربية، بل يمكن القول، انه من الثوابت في وعي الانسان العربي، ومن هذا الثابت العام، يعرج صوب "الثابت الخاص" في الشخصية العراقية، ناظرا اليها من زاوية بدء الحضارة البابلية، وصولا الى لحظة السقوط العربي المعاصرة، ليؤكد القرادة والتفرد في ذلك "التفاخر" المبني على أسس التاريخ يقول:
"أطوي درج الليل وأصعد
زاقورات عالية، وجنائن علقها أهلي
بين الأرض وبين الله
جنات من اعناب ونخيل،
لن تظمأ… وهي شفاه
تتصبى ما في الغيم من الأمواه"
مسألة الصعود دائما قائمة في وعي الشاعر وهو يتحدث بقصياته عن شعب العراق، ومحورية الصعود، هي الثابت المطلق في تصوراته لهذا الكيان الرافدي، والقصيدة تنطلق في محورية الرؤيا من بدء التكوين وتسطيرها في الألواح السومرية، وحتى تعرج المسارات وانكسارها- راهنا- الا ان الشاعر يرفض هذا الانكسار ويعود به – للتجاوز- الى أوابد التاريخ القديم، كشاهد حضاري قائم، يرفض ويدين لحظة السقوط الواهنة، باعتبار ان تعاقب الأحداث والدهور، لم يمح حضارة هذا الشعب، ومن هنا تحديدا، كان تعريج الشاعر على الخصوصية العراقية، لا سيما وهو يستحضر- بهذا التوكيد- حضارة "الأكاديين" سكنة بابل الذين بنوا "الزقورات والمعابد والجنائن المعلقة" وقائدهم – سرجون الاكادي- ذاك الذي أتى باليهود سبايا من أورشليم الى بابل، ليجعلهم عبيدا لأهل بابل، ولذلك يقول الحصني:
"وجنائن علقها أهلي… بين الأرض وبين الله"
ومن هذه المنطلقات التاريخية القديمة الى حالة العراق الواهنة، ينطلق الشاعر على الدوام من اشراقات أهل بابل، ليؤكد تواصلية التاريخ عندهم، فالراهن القائم لحظة عابرة، ولذلك يومئ الشاعر الى الافق المتلألئ المضاء بآلاف المصابيح:
"من شرفاتي تتلامح آلاف الأنجم
عارية… الا من أشباه غلائل
تقطر ضوءا، من بياض وسواد
مثل الجنيات أراها،،، تنقلب الى مدن في عيني
تحاول أن توقعني في شبك مما يتماوج
بين مريد ومراد"
وحتى لحظات الشك الأخيرة، والتي يتوقعها الشاعر، والتي قد تحاول الايقاع به، بين ترغيب وترهيب، يفرزها بعمق وادراك، حيث ان حالة "التماوج" هي موقف "انتهازي" وقد يكون غير مدرك عند بعض "المريدين" ولكنه مدرك عند اصحاب الارادة السياسية، فهو "مراد" لذلك ينتبه الشاعر وينبه – بنفس الوقت – الى تلك الألاعيب، بحس يدرك الفارق بين الألفاظ وخبايا الكلمات ومضمراتها، ويسوغ ذلك بجملة بلاغية رائعة من الجناس.
وعندما يدرك الشاعر هدفه المقصود بالعبارة تلك، ينطلق الى تحليقه الدائم نحو الصعود، متخذا من رمز "بغداد" احجية مفهومة المراد، ليدلل بها على معنى الخلود لتلك المدينة، فيقول في اتمامة المقطع الخامس:
"لكني أطوي درج الليل وأصعد
أصعد… حتى لا أنجم أعلى
من بغداد"
كم هي موفقة تلك القفلة التي أنهى بها الشاعر الحصني قصياته، والغريب في الأمر انه لم يسمها "بغداد" رغم ان سياق القصيدة ومعانيها ومضمراتها ورموزها ودلالاتها، تشير الى ذلك. وبتقديرنا، انه اراد ان يتجاوز لحظة المباشرة، من جهة، ومن جهة ثانية اراد الا تؤول قصيدته في المدح، بل تركها تحكي عن حالة تفرد مطلق، أي خصوصية، وبالتالي، كان احكام النسيج الفني للقصيدة، يرتضي بكل طواعية حرف "الدال" ليتم شكل البناء الذي بدأه في أول الكلام.
ـــــــــــــ
نشر الزميل – عبدالقادر الحصني- قصيدته "طائر الفينيق" في مجلة "المعرفة" السورية، العدد/428/ أيار – مايو- 1999م – ونظرا لمعرفتي الوثيقة والقريبة بظروف كتابة هذه القصيدة، رأيت من الواجب تسليط الضوء عليها من بعض الجوانب، خدمة للقصيدة من جهة، ومن جهة ثانية، معرفة ابعاد رؤية الشاعر ورؤاه في تلك السيمفونية الجميلة..
خيرالله سعيد (كاتب عراقي يقيم في موسكو)