منذ عُرضت الصور المتحركة لأول مرة، في القرن التاسع عشر، على يد الأخوين أوغست ولويس لوميير، كان للسينما دور هام جداً ومؤثر في حياة الناس، وأصبحت تجذب اهتمام الكثيرين. وقد تطورت صناعتها تطوراً ملحوظاً مما زاد من الاهتمام بها وبدورها، وأصبحت منفذا رئيسياً لتوجيه الرسائل والمعلومات وكوسيط ناقل للثقافات والأفكار والرؤى والأطروحات، إضافة إلى توثيق الحياة بكلياتها واستصحاب الماضي ومحاولة إعادة محاكاة التاريخ منذ نشأته الأولى إلى يومنا هذا.
وبسبب سهولة وصول الصورة إلى المتلقي، استخدمتها الاستعمار في القرنين الماضيين، خاصة الاستعمار البريطاني الذي أدخلها إبان حكمه للسودان في محاولة منه لتدعيم حكمه والترويج لإنجازاته. وقد ذُكر أن أول عرضٍ سينمائي في السودان، كان في العام 1911 في مدينة الأُبيض عاصمة إقليم كردفان الذي يقع غرب السودان؛ وذلك احتفالاً بافتتاح خط السكة حديد. وكان العرض عبارة عن فيلم تسجيلي قصير.
لكن كان أول تأسيس للحركة السينمائية السودانية في العام 1949 بإنشاء وحدة أفلام السودان، التي اقتُصر عملها على الأفلام الدعائية والتسجيلية التي تمجد المستعمر، إضافة إلى نشر إصدارة سينمائية نصف شهرية. وكان من أول المنضمين لهذه الوحدة المخرج كمال محمد ابراهيم، الذي أخرج فيلمي «الطفولة المشردة» و«المنكوب»، والمخرج جاد الله جبارة، وهو أول مصور سينمائي سوداني قام بإخراج العديد من الأفلام التسجيلية والروائية. وقد تحولت الوحدة فيما بعد إلى مؤسسة الدولة للسينما، حيث كانت تتبع لوزارة الإعلام والثقافة في العام .1970
في فترة الستينيات والسبعينيات قام جيل من السينمائيين الذين درسوا السينما بالخارج بخلق حراك في المشهد السينمائي السوداني، كان منهم ابراهيم شداد الذي درس في ألمانيا الديمقراطية 1964 وحسين شريف، وسامي الصاوي واللذان تخرجا من معهد لندن للأفلام، والطيب مهدي الذي تخرج من المعهد العالي للسينما بالقاهرة، ومنار الحلو وقد درس السينما في رومانيا، إضافة إلى سليمان محمد ابراهيم والذي درس بمعهد السينما بموسكو. وقد قاموا بتأسيس جماعة الفيلم السوداني في العام 1967 وحاولوا تأسيس سينما تسجيلية جديدة تقوم على الدراسة الأكاديمية والخبرة الفنية، إلا أن محاولتهم اصطدمت بالبيروقراطية في المؤسسة السينمائية، وعزوف الدولة عن الدخول في الإنتاج السينمائي، الذي لم يكن من أولوياتها.
وقد كانت أول محاولة جادة لإنتاج فيلم روائي طويل في العام 1970 في مدينة عطبرة شمال الخرطوم، حين قام المخرج ابراهيم حسين ملاسي وإنتاج استوديو الرشيد مهدي بعمل فيلم «آمال وأحلام». « لكن، على الرغم من أن السينما السودانية بدأت مبكرة جداً، إلا أنه لم يتم إنتاج سوى خمسة أفلام روائية طويلة إضافة إلى فيلم «آمال وأحلام»، فيلمي «تاجوج» و«بركة الشيخ «لجاد الله جبارة، و«رحلة عيون» لأنور هاشم و«يبقى الأمل» لعبدالرحمن محمد عبدالرحمن ومجموعة من الأفلام الروائية القصيرة إضافة إلى عدد كبير من الأفلام التسجيلية والوثائقية والأغنيات المصورة بطريقة سينمائية. وكان يمكن إضافة فيلم «عرس الزين» 1976 للمخرج خالد الصديق إلى هذه الأفلام لو لا أنه من إنتاج وإخراج كويتي.
رغم وجود كل هذه الصعوبات في الإنتاج، إلا أن هنالك عددا مقدرا من الأفلام الروائية والتسجيلية حازت على جوائز مقدرة في مهرجانات عالمية وإقليمية؛ منها على سبيل المثال لا الحصر، فيلم «الضريح» للطيب المهدي الذي فاز بذهبية القاهرة للأفلام القصيرة عام 1977، ونال فيلم «ولكن الأرض تدور» لسليمان محمد ابراهيم ذهبية مهرجان موسكو عام 1979، وحصل فيلم «الجمل» للمخرج ابراهيم شداد على جائزة النقاد في مهرجان كان عام 1986كما نال فيلم «تاجوج» لجاد الله جبارة على عدة جوائز في تسعة مهرجانات دولية وإقليمية في عام 1980.
ولكن مع هذه البدايات المبشرة للسينما السودانية التي يتجاوز عمرها الآن قرنا من الزمان، إلا أنه ثمة ركودا عظيما أدى إلى تراجع الإنتاج السينمائي أو بالأحرى توقفه لفترة طويلة تكاد تقارب العقدين من الزمان، انتهت في العام 1991 بحل مؤسسة السينما التي تتبع للدولة، بعدها حدث فراغ كبير في المشهد السينمائي السوداني، ولم تظهر في تلك الفترة إلا أسماء قليلة درست السينما كالمخرجين عبدالرحمن نجدي، ووجدي كامل . وتراجعت الثقافة السينمائية التي كانت سائدة.
برزت بعد هذا الفراغ الكبير في الآونة الأخيرة مجموعة من الشباب المهمومين والمهتمين بأمر السينما، آلوا على أنفسهم إعادة إحياء الحراك السينمائي في السودان ومواصلة ما بدأه جيل الرواد، من خلال وضع خارطة سينمائية سودانية متميزة، واستكمالاً لجهودهم وتكريماً لهم. ففي العام 2010 وبرعاية من معهد جوتة الألماني بالخرطوم انطلقت أولى الدورات التدريبية حول صناعة الأفلام، مستهدفة تدريب الشباب على أسس صناعة الأفلام. كانت هذه الورشة هي النواة التي قام عليها محترف السودان للأفلام Sudan Film Factory الذي تخرج على يديه مجموعة كبيرة من الشباب. وقد كان هذا حافزاً لآخرين للانخراط في مجال السينما وصناعة الأفلام وإنتاجها روائية/وثائقية – قصيرة/طويلة. ،فتكونت على إثر ذلك مجموعات أخرى عديدة تقوم على التدريب، وتقديم المحاضرات والندوات، وإقامة الورش المختصة بالسينما؛ منها «سينما الشباب» و«غرفة صناعة السينما» وغيرها. ولم يتوقف الأمر عند الشباب فحسب، بل قامت مبادرة لتعليم الأطفال صناعة الأفلام، أسسها مصعب حسونة، أفرزت في دورتها الثانية هذا العام 2016العديد من المواهب الصغيرة.
وبمجهود مقدرا من الأستاذ طلال عفيفي، مؤسس سودان فيلم فاكتوري، أقيم أول مهرجان للسينما المستقلة في السودان في العام 2014 بأيدي وإبداعات الشباب ومجهوداتهم، وقد احتفل المهرجان في دورته الثالثة هذا العام 2016 بإنطلاق وتوزيع جائزة حسين شريف – الفيل الأسود لأفضل فيلم سوداني، حيث فاز فيلم «غربة» لسلوى خليفة وفهد العبيدلي. وجنباً إلى جنب مع مهرجان السودان للسينما المستقلة تقوم جائزة تهارقا الدولية للسينما والفنون، التي تُمنح لأفضل فيلم روائي طويل، وأفضل فيلم روائي قصير، وأفضل مخرج، وأفضل ممثل وممثلة، وأفضل سيناريو، وأفضل موسيقى تصويرية، وأفضل مؤثرات بصرية، وأفضل مونتاج.
أظهرت هذه المهرجانات والفعاليات العديد من الأسماء التي لمع نجمها في الأوساط السينمائية السودانية في فئة الشباب في كل المجالات من إخراج وتصوير ومونتاج وإضاءة وصوت وكتابة سيناريو. وظهرت أسماء عديدة لمخرجين شباب حازت أفلامهم على جوائز داخل وخارج السودان؛ منهم محمد الطريفي، وأمجد أبو العلا، وطارق المكي، وحجوج كوكا، ومزمل نظام الدين وغيرهم.
وبالطبع كان لحواء السودانية نصيب كبير في هذا المجال. فقد كانت حورية حسن حاكم هي أول مخرجة سينمائية سودانية تخرجت من المعهد العالي للفنون المسرحية بالقاهرة 1976، والمخرجة سارة جاد الله التي أخرجت ما يفوق العشرين فيلما وثائقيا. ومن جيل الشباب برزت عدة أسماء تعدت الأربعين اسما منهن – على سبيل المثال لا الحصر – تغريد سنهوري، وعلياء سر الختم، وريم جعفر، ورزان قمر ورزان هاشم، ووئام شوقي، ومهيرة سليم، ومروة زين، وعفراء سعد، وغيرهن.
ومع هذا الكم من الأفلام التي أنتجت في السنوات القليلة الماضية، التي فاقت الستين فيلماً روائياً ووثائقياً طويل/قصير، إلا أن المشهد السينمائي السوداني في واقع الأمر ليس وردياً على الإطلاق، لا تزال هنالك العديد من المعوقات والصعوبات التي تواجه السينمائيين السودانيين من جيل الرواد والشباب على حد سواء، وتحد بالتالي من تطوير صناعة السينما بشكلها الاحترافي المعروف؛ من بينها قلة التمويل، وعدم دعم الدولة، والغياب التام للبنية التحتية للمقومات التي تقوم عليها صناعة السينما، والظروف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي يمر بها السودان. علاوة على أن عدم وجود كلية متخصصة في دراسة السينما يعتبر عائقاً كبيراً، فضلا عن غياب دور عرض سينمائي تستوعب هذا الكم من الإنتاج يمثل في حد ذاته أمراً محبطاً للغاية.
بيد أن تكالب كل هذه المعوقات والظروف غير المواتية على عاتق السينمائيين الشباب في السودان، إلا أن نظرتهم لمستقبل السينما تنطوي على الكثير من التحدي والتصميم والرغبة الأكيدة على المضي قدماً ومواصلة العمل حتى تقوم صناعة سينمائية سودانية محترفة ومتكاملة ترضي طموحهم، وتعكس الثقافة والحياة السودانية الغنية بتنوعها وقصصها المتفردة التي لم تسرد بعدُ.
نهلة محكر*