محمود الرحبي
كاتب عماني
يهتم القاص والرّوائي العماني يونس الأخزمي طوال مسيرته الكتابية بتفاصيل المكان، حيث نتلمس ذاكرة وقّادة في وصفه لعوالم الطفولة المطرحية في العديد من مجاميعه القصصية السابقة، حيث إن يونس من أصحاب قصب السبق في كتابة القصة القصيرة في عُمان، تعود بواكير إصداراته في هذا الجنس إلى أكثر من ثلاثة عقود. في الرواية كذلك اختار الأخزمي المكان بطلا أصيلا ومفرشا وثيرًا لعوالمه. ولتأكيد هذا المنحى يمكن تفحص ثلاثيته الروائية التي تأتي تحت عنوان جامع “بحر العرب” حيث نجدها مبنية على إحداثيات طوبوغرافية حية تتكون من مسافات تلاقي الماء باليابسة، لذلك فإن “البطل المتسلسل” -إن صح التعبير- في هذه الثلاثية هو بحر العرب في جانبه العماني، حيث يتمازج البحر والصحراء ويشكل سحرا خلابا، دعا الكاتب إلى المثابرة على الاقتراب من مكوناته وعناصره الدقيقة واستثمارها سرديا في أكثر من عمل روائي.
تميزت رواية “رأس مدركة” الصادرة هذا العام 2022 عن دار عرب بلندن، بتركيب عوالمها ونقلاتها الزمنية المتداخلة، إلى جانب السلاسة والعذوبة في الوصف؛ وتأتي هذه الرواية خاتمة لمشروعه الجاد ثلاثية بحر العرب، التي بدأت برواية بر الحكمان ثم غبة حشيش، والغبة هي المنخفض بينما الرأس هو المرتفع، وبذلك غطت هذه الرواية -عبر السرد التخييلي المستفيد من التاريخ وأحداثه- مساحة مجهولة عذراء وجديدة عربيا تلتقي فيها مفردات وعوالم البحر والصحراء، وهو ما يمكن تسميته بالتزاوج المستحيل، عبر الجمع بين بيئتين متناقضتين في التكوين الدقيق ولكن متجاورتين، وهو استثمار أدبي لواحدة من العطايا الجغرافية الساحرة للجغرافية العمانية، وما تتميز به الجزر الواقعة على بحر العرب من أسرار وتنوع، رغم أن رواية ” رأس مدركة” رواية أمكنة بالأساس، وهذا ما ذهب إليه مشروع الثلاثية، إلا أنها لم تكن متصحرة في شخصياتها بل هي غاصّة وعامرة بمختلف التفاعلات الواقعية والتاريخية، عبر تتبع راصد لأهم مكامن الثراء الحكائي والطبيعي لهذه الجزر، وما وقع في تاريخها من مقولات وأحداث شكلت مادة سردية ملهمة لكاتبها، مستفيدا كذلك من خلفيته المعرفية المهنية لهذه المناطق -حيث سبق وأن عمل الكاتب في قطاع الزراعة والثروة السمكية والبيئية- لتقارب ولتلمس أدق مفرداتها الثقافية والتكوينية الذي منح الرواية -ولم لا مشروع الثلاثية كاملا- زخما تتمازج فيه الوثيقة بالمتخيل السردي عبر تذويب ذلك المخزون المتعدد والعجائبي في قالب روائي تخيلي ومشوق.
طوفان للمعلومات وتداخل زمني سلس:
في الفصل الأول تتصاعد أصوات نواقيس الكاتدرائية الواقعة على شارع جورج الأعظم في مدينة ليدز البريطانية، وفي الفصل الموالي يرتفع صراخ عتيق بن مسرور هادرا إثر مشاهدته جسدا غارقا أمام الشاطىء. وتحت هذا التقسيم بين فضاءين أحدهما عصري بريطاني ينتمي للألفية الثالثة، والثاني تاريخي ينتمي لعقود متقطعة سابقة، يضبط يونس حبال اللعبة برشاقة ودون ارتباك أو استسلام لتواريخ ومتاهات الزمن. ثم تتلاقى الأزمنة في منتصف الرواية لتمضي متواشجة في إيقاع ثابت حتى النهاية. حين يلتقي ديفيد القادم من بريطانيا ببوعبود صاحب مشروع مزرعة الروبيان، ليكونا شريكين، الأول جاء في إثر أوهام البحث عن كنز تركه زوج جدته “مايكل” تحت أكثر من صخرة من صخور جزر بحر العرب، والثاني يطمح إلى تطوير مزرعة الروبيان. والحكاية الخام تفتح هنا مجالا واسعا للوصف الذي يتكفل بتأجيل تقديم اللغز، أو أنه يقدمه على جرعات زمنية متقطعة مما يؤجج عنصر التشويق في الرواية. هذا الوصف الذي يدلل على جهد بذله الكاتب في تجميع مختلف عناصر الطبيعة البحرية والصحراوية وبدقة متناهية، إلى جانب ضبط تقلبات الرياح ومعرفة مزاجية التحولات الموسمية في تلك المناطق المعزولة؛ هذا الوصف -في بعض مناطقه- يشعل حتى حاسة اللمس لدى القارئ: “رمال الشاطئ سجاد أبيض يمتد في كل مكان، يقطعها في الشرق المحيط الأزرق الهائل الذي يمتد إلى أن يلامس السماء عند انحناء الأرض للأسفل، مياه زرقاء صافية تزغب بأمواج هادئة فوقها، وأعلاها تطير نصف النوارس الموجودة، وتحط عليها بحثا عن فريسة سهلة من أسماك السطح الصغيرة، بينما يحلق النصف الباقي فوق الأحواض المائية بحثا عما يمكن التقاطه من صغار الروبيان ومخلفات المزرعة. وهناك في وسط مصب مياه الأحواض الخارجية للبحر، تقف طيور الفلامنجو وأبو ملعقة في انتظار الظفر بما تحمله تلك المياه مما يستحق الالتهام” الرواية ص 137
إلى جانب تميز الرواية بقدرة في رسم الشخصيات وتقريبها الفيزيقي والنفسي عبر اللغة، من أمثلة ذلك وصف شخصية بوعبود المقبلة على الحياة والمتحدية للمرض، وشخصية وجيه جزيرة “الشويميات” رجل الأعمال البنجالي أبو مريم بهدوئها القلق من المصير المنتظر وصراعها مع المكان الذي اعتبره وطنا طيلة أربعين عاما ولكنه في النهاية تركه مجبرا، والشيخ شالح وتقبله التغيرات العصرية بألم شديد، والحيرة الوجودية لابنه سند، إلى جانب شخصيات أخرى تزخر بها الرواية، وقد وجدت مساحتها من الوصف الخارجي والوجداني، مثل خنفور إمام مسجد رأس مدركة، والإنجليزية صوفيا وعلاقتها الغامضة والملتبسة بزوجها ديفيد الذي كأنما دفعت به إلى المجهول لكي تتزوج زميلا لها في البنك، والجد الأول سهيل الذي أسس الاستيطان في رأس مدركة بعد اختلافه مع ابن عمه، وموهن وكومار مساعدي بوعبود اللذين تتملكهما أحلام واسعة.
تفكيك السردية الأحادية:
ربما من أهم ما يمكن ملاحظته في هذه الرواية التي تقوم على لعبة سردية مشوقة، أن ثمة رسالة مضمرة أراد السارد أن يوصلها ولكن ليس بطريقة مباشرة، إنما بطريقة فنية لاتخضع السردي لأي تصفية حسابية مع التاريخي، إنما تجعله ساحة أنطلوجية ومعرفية للخيال واللغة ورصف ووصف البيئة إلى جانب قول جوانب جديدة من الحقيقة، وهو تفكيك تلك السردية الاستعمارية المتعالية المتعلقة بعدوانية البدو التي روجتها الحامية البريطانية بغرض تبرير سرديتها وتمريرها بل وفرضها حتى على التاريخ. والأمر في هذه الرواية يتعلق بغرق السفينة البريطانية “بارون إنفريدل” “التي اصطدمت بإحدى جزر كوريا موريا في الجنوب الشرقي من عمان” الرواية ص 274، كما تنم الرواية عن المجهود البحثي الكبير السابق للرواية في الوصول إلى هذه الحقيقة المغيبة، لنصل في النهاية إلى خلاصة مفادها أن البدو المتهمين بقتل ركاب القارب المنبثق عن السفينة العالقة، لم يكونوا هم من بدأوا القتال وإطلاق النار، بل كانوا هناك بغرض مساعدة القارب التائه، وبسبب إطلاق النار عليهم من القارب حدث ما حدث. تؤكد ذلك أكثر من فقرة في الرواية، من ضمنها حديث الضابط الإنجليزي في مسقط حين لام الجدة روز على أن زوجها مايكل كان بإمكانه النجاة لو أنه تفاوض مع البدو بدل أن يقرر ومن كان معه إطلاق النار عليهم، لأنه لم يعرف عن بدو الجزر أنهم قتلوا أحدا من قبل، أو حتى أنهم يبدأوون بالقتال، ولكنهم يفعلون ذلك كردة فعل وبالوسائل البدائية التي بحوزتهم، وأن قليلا من المال هدية لهم كان كفيلا بإنهاء المشكلة قبل تفاقمها. حيث إن الرواية تسرد فترة ماضية في عمان في زمن الهيمنة البريطانية على السواحل، ما يؤهل الرواية إلى أن تندرج كذلك في مساق روايات ما بعد الاستعمار نتيجة لهذه الحمولة التاريخية التي تكتنفها، إلى جانب كم المعلومات التاريخية التي توفرها في هذا السياق، وما تعانيه -حتى السلطة الحاكمة يومها- من ضغوطات، حيث إن هذا الزعم الإنجليزي شكل ضغطا على السلطان فيصل بن تركي، الأمر الذي كان من نتيجته إعدام مجموعة من البدو، الذين يعتبرهم الشيخ شالح -إحدى الشخصيات الرئيسة في الرواية- مظلومين وقد تمت مكافأة جميلهم بعكس ما يجب، وهو ما تعرب عنه الفقرة التالية، ضمن حوار للشيخ شالح متحدثا عن جده، وشالح كان طوال فقرات الرواية يكره الإنجليز لسبب غامض بالنسبة لبطل الرواية ديفيد، ولكنه كشف عنه في الصفحات الأخيرة: “عرف جدي أنهم بعدها توقفوا عند رأس الدقم، أعتقد لأن الرياح كانت شديدة جدا في ذلك الصباح، لكنهم كذلك هربوا حين رأوا البدو يهبون لمساعدتهم. كانوا مساكين، غامروا بأرواحهم وسط تلك الرياح القوية، ولذلك فحين وصلوا لرأس جدوفة في جزيرة مصيرة كانوا مرهقين بشدة، فتركهم البدو يرتاحون للصباح كي يقدموا لهم ما توفر من مأكل ومشرب، لكن واحدا منهم وكان يبدو مجنونا أو خائفا، أطلق النار عليهم، فأصاب شيخ الجماعة وثلاثة آخرين فماتوا في الحال، ولم يكن البدو يملكون من سلاح عدا السكاكين، فدخلوا في عراك للحفاظ على حياتهم. مساكين ،جاؤوا لمد يد العون فقوبلوا بالقتل” الرواية ص 289
لم يكن هذا الخطاب يمر دون مساءلة موضوعية، وهذا ما سعت الرواية إلى تفكيكه في العمق، والمتمثّل في الزعم الأحادي الذي راج طويلا، والناتج عن “الخطاب الذي يتفرد بالحقيقة” -حسب ميشيل فوكو في كتابه- “نظام الخطاب” ترجمة محمد سبيلا. لذلك فإن الشيخ شالح يمضي في تبريره -في مكان آخر في الرواية- لما حدث بأن البدو لايقرأون ولايكتبون حتى يرفعوا الظلم عن أنفسهم ويسطروا الحقيقة الغائبة للتاريخ.
لا شك أن الرواية تقبل أكثر من قراءة ومن أكثر من زاوية، وذلك نتيجة لثرائها الواضح وللصبر والمجهود الذي بذله الكاتب، وكذلك نظرا لفنيتها المعتمدة على لعبة سردية شيقة، تؤجل الأحداث وتبرز الوصف قيمة فنية عليا. في هذه الرواية استطاع يونس الأخزمي أن يضفي ما يمكن تسميته بـ “مسك ختام ” لهذه الثلاثية المتميزة، ثلاثية بحر العرب.. وفي انتظار ما تجود به قريحته الخصبة في قادم الأيام من روايات مشغولة بفنية وبصبر.