ناقد من المغرب .
بداية، لابد من الإشارة إلى أن عمر التجربة القصصية النسائية في المغرب قصير جدا، بحيث لا يتجاوز أربعة عقود من الكتابة والتراكم، منذ بدء هذه التجربة عام 1967، تاريخ صدور أول مجموعة قصصية نسائية لخناتة بنونة، بعنوان «ليسقط الصمت»، بسمات فنية مقبولة إلى حد ما.
ورغم ذلك، تحاول هذه الورقة مقاربة تحولات الكتابة القصصية النسائية الجديدة بالمغرب، انطلاقا من متن قصصي نسائي، في انتمائه إلى تجربة قصصية مغربية جديدة بامتياز، هي تجربة القاصة المغربية ربيعة ريحان تحديدا…
ومن أجل موضعة التجربة القصصية لربيعة ريحان، في إطارها التاريخي والإبداعي والتطوري، فإنه يمكن إقامة تصنيف أولي للمراحل التي مرت بها الكتابة القصصية النسائية في المغرب، عبر تحديدها في ثلاث مراحل أساسية، نرى أنها تؤطر، إلى حد كبير، المسار التطوري العام للكتابة القصصية النسائية بالمغرب:
– مرحلة التجنيس: كما تبلورت قسماتها لدى رائدات الكتابة القصصية في المغرب، عند كل من خناتة بنونة ورفيقة الطبيعة(زينب فهمي). غير أنه في الوقت الذي استمرت فيه القاصة خناتة بنونة في كتابة القصة والرواية، ولو بشكل متقطع، وعبر فترات زمنية متباعدة، حيث كان آخر إصدار قصصي لها عام 2006، بمجموعتها القصصية «الحب الرسمي»، بعد ست مجموعات قصصية سابقة، كانت أولاها مجموعة «ليسقط الصمت» عام 1967، نجد أن القاصة رفيقة الطبيعة قد توارت عن الأنظار، وانقطعت عن كتابة القصة منذ أواخر السبعينيات، مكتفية بإصدار ثلاث مجموعات قصصية، هي «رجل وامرأة»، و«تحت القنطرة»، و«ريح السموم»، وذلك على مدى عقد فقط من الزمن (من 1969 إلى 1979).
لقد مثلت نصوص هذه المرحلة حدثا ثقافيا وأدبيا استثنائيا ي المغرب، نتيجة إقبال المرأة على كتابة القصة بجرأة لافتة، متحدية بذلك الوعي القائم والإرغامات الاجتماعية والذاتية السائدة آنذاك.
وقد هيمن على هذه المرحلة الاتجاه الواقعي، الذي شكلت فيه ثنائية المرأة والرجل، وقضايا الحرية والتحرر، والقضايا الوطنية والاجتماعية، صلب المحكي والتخييل القصصي فيها.
– مرحلة الامتداد والتجديد: وهي الفترة التي شهدت ظهور أصوات نسائية قاصة، مواصلة الرحلة والمغامرة، لكن بمنظورات وأساليب مغايرة ومتطورة، في رصدها، هي أيضا، لقضايا ذاتية ومجتمعية وإنسانية ووجودية، بأبعاد جمالية وكتابية مغايرة، وأوسع نوعا ما من سابقاتها.
ومع جيل هذه المرحلة من القاصات، نلاحظ خفوت الخطاب والصوت الاجتماعيين إلى حد ما، أمام بروز وعي جديد بالكتابة القصصية، وتحول النظرة إلى الواقع، وأيضا أمام هيمنة الصوت والخطاب الذاتي على غيره من الأصوات والخطابات الأخرى، دون أن يعني ذلك أن ثمة قطيعة كلية مع الواقع وتفاعلاته وتحولاته، بقدر ما أن هنالك انفتاحا موازيا على التجربة المجتمعية، في أبعادها الذاتية، المحلية والإنسانية.
ويمكن التمثيل لهذه المرحلة بأسماء قاصات حققن تراكما كميا ونوعيا لافتا في مجال الكتابة القصصية، كربيعة ريحان وزهرة زيراوي ولطيفة باقا، على سبيل المثال فقط لا الحصر، حيث أصدرت القاصة الأولى ست مجموعات قصصية إلى حد الآن، بدءا بمجموعتها القصصية الأولى عام 1994، وصولا إلى آخر مجموعة صدرت لها عام 2006، في حين أصدرت القاصة الثانية أربع مجموعات قصصية، بدءا بمجموعتها القصصية الأولى «الذي كان» عام 1994، وصولا إلى مجموعتها الرابعة «حنين» الصادرة عام 2007، أما القاصة الثالثة، فصدرت لها على امتداد أزيد من عقد من الزمن مجموعتان قصصيتان، هما «ما الذي نفعله؟» عام 1992، و«منذ تلك الحياة» عام 2005.
– مرحلة الكتابة القصصية الشابة: وهي الفترة التي عرفت ظهور جيل جديد من القاصات والقاصين الشباب، في انتمائهم جميعا إلى أعمار متباينة، وإن وحدت بينهم المرحلة الزمنية التي ظهروا فيها، بحيث شكل هذا الجيل الجديد علامة مميزة للمشهد القصصي في المغرب، اعتبارا للعدد المتزايد من الأسماء الجديدة والواعدة من القاصات الشابات، ممن ينتصرن اليوم لكتابة القصة القصيرة، رغم الإغراء الموازي الذي تفرضه اليوم وبقوة موضة كتابة الرواية على عدد من الكاتبات (وحتى الكتاب)، من القاصات والشاعرات على حد سواء، في المغرب وفي أقطار عربية أخرى…
ويمكن الإشارة بخصوص هذه المرحلة الثالثة إلى أكثر من اسم، لقاصات تمكن في وقت وجيز من ترسيخ أقدامهن، وحضورهن الإبداعي في تربة المشهد القصصي في المغرب، بكتاباتهن وبإصداراتهن المتواترة، نستحضر من بينها مجاميع قصصية لفتت إليها أنظار النقاد واهتمام المتتبعين، من قبيل: رجاء الطالبي، مليكة نجيب، لطيفة لبصير، فاطمة بوزيان، الزهرة رميج، وغيرهن… حتى لا أذكر فقط سوى القاصات اللواتي صدر لهن أكثر من مجموعة قصصية، واللائي تمكن أيضا من فرض أسمائهن وكتاباتهن وحضورهن على مستوى التلقي والانتشار، من غير أن نقلل، هنا، من قيمة باقي القاصات الأخريات، سواء في هذه المرحلة أو في المرحلتين السابقتين، ممن يساهمن أيضا في إثراء المشهد القصصي النسائي في المغرب، ولو على مستوى التراكم، رغم الضعف الفني الذي يعتري بعض قصصهن، ورغم محدودية انتشارهن محليا وعربيا…
وقد تميزت هذه المرحلة أيضا بظهور قاصات (وقاصين) ممن يقبلون جميعا وعلى حد سواء، على كتابة القصة القصيرة جدا، بشكل ملحوظ ومتزايد، مع ضرورة الإقرار، هنا، بحدوث تفاوت في القيمة الفنية للإنتاج القصصي لهؤلاء، حيث امتد التجديد والتجريب القصصي لدى جيل هذه المرحلة الثالثة، نحو ركوب مغامرة كتابة القصة القصيرة جدا، مع قاصات يزاوجن بين كتابة القصة القصيرة والقصة القصيرة جدا، من أبرزهن فاطمة بوزيان والزهرة رميج، وأخريات ما زلن يتلمسن طريقهن نحو ركوب هذه المغامرة المحفوفة بالكثير من المزالق، وقد أضحت مغرية لكثير من القاصات والقاصين الشباب في المغرب، ولو عبر مساهمات وكتابات لا تزال محتشمة في معظمها.
وإذا كانت كتابة المرأة في المغرب للقصة القصيرة جدا حديثة نسبيا، فقد تمكن هذا الجنس الأدبي مع ذلك من أن يلفت إليه اهتمام القاصات، وأن يفرض حضوره الإبداعي والنقدي، بما يطرحه من أسئلة ذاتية وراهنة، وخصائص فنية وجمالية، وإن كانت لا تخرج، في عمومها، عن مطارحة قضايا الذات، والمرأة، والأسرة، والطفولة، والمجتمع، والسياسة، وصراع المرأة مع الرجل واصطدامها به، وأيضا صراعها من أجل البقاء، والحب، والخيانة، والانتقاد، وانحطاط القيم المجتمعية، والمحكي الذاتي، والعلاقة الملتبسة للمرأة مع جسدها، سواء كانت إيروتيكية أو علاقة مبنية على الشهوة والافتتان والولع والغواية…
وكثيرا ما يحدث أن تتجاوز كتابة القصة القصيرة جدا مختلف هذه المكونات والتيمات المكرورة، لتنفتح على قضايا الراهن وأثرها على فئات اجتماعية معينة، من قبيل رصدها لظاهرة «العولمة»، بما تولده من مسخ واستلاب، وأيضا انفتاحها على تجلية العوالم الرقمية ومحاورة الشبكة العنكبوتية، بما يولده هذا التفاعل من علاقات إنسانية وغرامية جديدة وملتبسة.
ومن بين ما يميز أيضا هذه الكتابة القصصية النسائية، كونها تتسلح بلغة خاصة، لغة انتقادية للذات وللآخر، بالنظر أيضا لغة رافضة وكاشفة لزيف خطاباتنا وسياساتنا وأوهامنا المزيفة والمتناقضة.
موازاة مع هذا الوضع، يمكن أن نتحدث كذلك عن قاصات مغربيات أخريات، ممن يكتبن باللغة الفرنسية تحديدا، حيث تمكن من أن يشكلن مجموعة كبيرة، بحضورهن الوازن وبنصوصهن القصصية القوية.
هكذا، إذن، وبالنظر إلى التراكم القصصي النسائي المتزايد، سنجد أن سنوات التسعينيات هي التي تشكل البداية الحقيقية لتراكم قصصي نسائي شبه منتظم، بست عشرة مجموعة قصصية، تليها سنوات الألفية الثالثة بأزيد من أربعين مجموعة قصصية إلى حد الآن، في الوقت الذي لم تتجاوز فيه سنوات العقود السابقة (الستينيات والسبعينيات والثمانينيات) عشر مجموعات قصصية نسائية فقط، وذلك بغض النظر عن القيمة الفنية والجمالية لمجموع هذا التراكم القصصي الذي حققته المرأة القاصة في المغرب. وهو ما يعني أن التحول الفعلي الذي حدث في مجال كتابة القصة القصيرة النسائية، قد تم مع بداية تسعينيات القرن الماضي، ليتخذ منحى تصاعديا ومتناميا، كتابة وتراكما، في السنوات التالية (أي بعد ظهور جيل جديد من كتاب وكاتبات القصة القصيرة في المغرب)، من غير أن ننتصر هنا لهذا الجيل أو ذاك، أو لهذه التجربة القصصية أو تلك.
كان لا بد أيضا من الإشارة إلى المناخ الإبداعي العام، الموازي لهذا الظهور الجديد لقاصات ينتمين في معظمهن إلى المرحلة الثالثة، من ذلك ظهور جمعيات ومنتديات ومجموعات بحث، تعنى بالقصة القصيرة في المغرب، بشكل لم يكن مسبوقا من قبل، من مثل «مجموعة البحث في القصة القصيرة بالمغرب»، في نهوضها بتنظيم لقاءات وقراءات وورشات إبداع حول القصة القصيرة، وإصدارها لمجلة متخصصة في القصة القصيرة، إبداعا وبحثا وترجمة، تحت اسم (قاف صاد)، عدا نهوضها بنشر مجاميع قصصية جديدة، تشغل إصدارات المرأة القاصة جزءا مهما منها، حيث تمكنت هذه «المجموعة»، إلى حد الآن، من نشر ثماني مجموعات قصصية نسائية، لكاتبات ينتمين إلى الجيل الجديد، من بينهن قاصات أصبح لهن اليوم حضور لافت في المشهد القصصي الجديد في المغرب.
ومع ذلك، يمكن أن نتوقف عند بعض التجارب القصصية النسائية الجديدة، لقاصات مغربيات أصبح لهن حضور إبداعي وازن ومؤثر، سواء في المشهد القصصي المغربي أو العربي، في ارتماء تجاربهن في أحضان الحداثة والتجريب، بما يفرضه ذلك من بحث عن تيمات ودلالات ومعانٍ جديدة وذات راهنية، ومن تكسير لنمطية البناء القصصي التقليدي، عبر اجتراح طرائق مغايرة في السرد، والتوسل بالجرأة والمكاشفة والانتقاد والبوح والاحتجاج في الكتابة، بكل استقلالية وتحرر في الرؤية، الفردية والجماعية، إلى الذات والآخر والجسد والوجود، بما هي رؤية تحكمها عموما علائق مختلفة، غالبا ما تبدو إشكالية ومتوترة ومعقدة، سواء مع (الآخر)، رجلا كان أو سلطة أو مؤسسة، حيث غالبا ما يهيمن على هذه العلائق غياب التواصل واللاجدوى والارتياب، أو مع (الجسد) و(التابوهات)، في محاولة من الساردة/ القاصة استرداد جانب من إنسانيتها وحريتها وهويتها وكينونتها المتشظية، وسط واقع مأزوم ومتشظ هو أيضا، بما هو واقع تحكمه، في الغالب، علاقات ملتبسة، وأحاسيس هشة، سرعان ما تولد لدى المرأة، كشخصية قصصية، نوعا من الإحساس بالاغتراب والانكسار والدونية، وهو ما يجعلها تلجأ للاستعاضة عن القبول بهذا الوضع إلى الاحتجاج والمقاومة والرفض…
وعموما، يمكن تحديد أهم الخصائص الكتابية والسردية المهيمنة على الفضاء الشكلي والتيماتي للكتابة القصصية النسائية الجديدة، وخصوصا لدى أولئك القاصات ممن ينتمين إلى المرحلتين القصصيتين الثانية والثالثة، كما يلي:
– تكسير الحدود بين الشعري والسردي في الكتابة؛
– المراهنة على التجريب والتجريد، وعلى استحداث أشكال سردية قصصية جديدة؛
– تنويع أزمنة القص وفضاءاته؛
– تنويع ضمائر السرد؛
– تنويع تقنيات الكتابة والسرد لتشمل المفارقة، والسخرية، ولعبة المرايا، والتشظي، والانشطار، والحوار، والوصف، والحلم، والمونولوغ، واللاشعور، والتداعي الحر…؛
– المزاوجة بين القصة القصيرة والقصة القصيرة جدا، داخل نفس المجموعة القصصية؛
– الميل إلى التكثيف والاختزال وتجنب الإطناب؛
– المزاوجة بين السرد المسترسل وتقطيع الحكي؛
– انفتاح القصص على سجلات الكلام اليومي (العامية المغربية)، والتفاعل النصي مع النصوص التراثية؛
– توسيع مفهوم الذكورة، ليشمل اللغة والسرد والفضاءات والدلالات؛
– الانحياز إلى المرأة، وإلى الهم الأنثوي بشكل خاص؛
– الاحتفاء المتزايد بالجسد، وبلغته وصوره؛
– تكسير التابو اللغوي وتذويت الكتابة؛
– الرغبة في الانعتاق من سلطة المكان والهروب منه؛
– الرغبة المتزايدة في التحرر والبوح والاحتجاج؛
– مقاومة الأنا الذكورية وإبراز الموقف من الرجل؛
– الانفتاح على فضاءات ذكورية بامتياز؛
– الاحتماء بالتذكر والنسيان؛
– الاهتمام بالمكون النفسي للمرأة والرجل؛
– الاحتجاج على سلطتي الأب والأم على حد سواء؛
– الإحساس بالاغتراب والتيه؛
– الاحتفاء بالأشياء الحميمة، وبالعوالم الداخلية للمرأة؛
– الاهتمام بالهامشي، وبتفاصيل المعيش واليومي؛
– الاهتمام بالبنية العائلية وبقضايا الأسرة؛
– الاهتمام المتزايد بالطفولة، في أبعادها الأنثوية والذكورية؛
– الرفع من حدة الإحساس بالتوتر والانكسار والقلق والخوف والخيبة والموت؛
– الرفع من درجة البوح والجرأة في التعبير عن الإيروسي والشبقي والإباحي؛
– الانفتاح على العالم الرقمي في الكتابة القصصية؛
– الإقبال على تضمين المكون الفانطاستيكي في الكتابة؛
– استيحاء صورتي المرأة والرجل، في أبعادهما السلبية والإيجابية على حد سواء؛
– المزاوجة بين رصد علاقة المرأة بالمرأة وعلاقة الرجل بالرجل؛
– التكثيف من الأبعاد والأحاسيس الرومانسية والإنسانية في القصة …
وبما أن المرحلة القصصية الثالثة لا تزال ممتدة بقوة وبكثافة في مشهدنا القصصي إلى اليوم، بمثل استمرارية حضور أحد الأصوات القصصية النسائية التي تنتمي إلى المرحلة الأولى (خناتة بنونة)، ولو من خلال إطلالة محتشمة، إلى جانب جيل جديد من القاصات الشابات، ممن يكتسحن اليوم المشهد القصصي في المغرب، وممن جربن أيضا ركوب مغامرة كتابة الرواية، فإن العودة إلى قراءة بعض تجليات المرحلة القصصية الثانية، قد تفرض نفسها أكثر من غيرها، باعتبارها مرحلة يمكن القول إنها تشكل تحولا جماليا فعليا، ومنعطفا جديدا في الكتابة القصصية النسائية في المغرب. وفي اعتقادي أن خير من يمثل هذه المرحلة، هي القاصة المغربية ربيعة ريحان، لاعتبارات مختلفة، يمكن أن نختزل بعضها، على الأقل في النقاط التالية:
– انفراد القاصة ربيعة ريحان بتحقيق تراكم وحضور قصصي مهم ولافت، بإصدارها لسبع مجاميع قصصية على مدى عقد من الزمن، وهي: «ظلال وخلجان»، و«مشارف التيه»، و»شرخ الكلام»، و«مطر المساء»، و«بعض من جنون»، و«أجنحة للحكي»، و«كلام ناقص»، وهو ما يجعل منها اليوم القاصة المغربية الأوفر إنتاجا بين القاصات المغربيات الأخريات، باستثناء القاصة الرائدة خناتة بنونة، بإصدارها، هي كذلك، لسبع مجموعات قصصية، أخذا بعين الاعتبار أن إحدى مجاميعها صدرت في طبعتين، محلية وعربية، بعنوانين مختلفين، وعلى مدى زمني يغطي أربعة عقود، تمتد من أواخر الستينيات إلى أواسط الألفية الثالثة، تخللتها فترة توقف طويلة نسبيا للقاصة خناتة عن كتابة القصة؛
– كون التجربة القصصية لربيعة ريحان، ومنذ بدايتها، قد لفتت إليها أنظار النقاد والباحثين من مختلف الأجيال، بما يعني أن ثمة حضورا قويا للقاصة ربيعة ريحان منذ بداية ظهورها، توجته بحصول مجموعتها القصصية «مطر المساء» على جائزة الإبداع النسائي بالشارقة عام 2000؛
– كون تجربتها القصصية قد تعدت الحدود، ولفتت إليها أنظار كتاب ونقاد عرب، من قبيل الروائي العربي الكبير حنا مينة، هذا الذي كان من بين الأوائل الذين انتبهوا إلى هذا الصوت القصصي الجديد القادم من المغرب، وهو لايزال في بدايات تجربته مع الكتابة، فدبج مقدمة مركزة لمجموعتها القصصية الأولى «ظلال وخلجان»، مبشرا فيها على حد تعبيره «بولادة قاصة رائعة في المغرب العربي كله، ومعها سيكون للقصة العربية القصيرة شأن آخر مع قصص المرأة في الوطن العربي»(1).
كما تمكنت التجربة القصصية لربيعة ريحان من أن تفرض نفسها على نقاد عرب وازنين، سواء في إطار قراءات مونوغرافية لقصصها ولمجاميعها القصصية، أو في سياق قراءات مقارنة، ويكفي أن نذكر من بينهم الناقد والروائي السوري نبيل سليمان… فضلا عن ذلك، حظيت هذه التجربة القصصية باهتمام إعلامي واسع، داخل المغرب وخارجه، بشكل يجعلها اليوم التجربة الأوفر حظا على مستوى المتابعات والحوارات الصحفية والتلفزيونية التي أجريت مع القاصة، هنا وهناك.
كما عرفت بعض قصص ربيعة ريحان طريقها إلى الترجمة إلى لغات أوروبية (الدانماركية والإنجليزية والإسبانية والفرنسية والألمانية)، وحظيت مجموعتان قصصيتان لها بفرصة نشرهما خارج المغرب (في القاهرة ودمشق)، إلى جانب الحضور المميز والممتد للقاصة في الملتقيات والندوات، داخل المغرب وخارجه، بشكل جعل صوتها وتجربتها يخترقان ويتفاعلان مع أصوات وتجارب قصصية نسائية عربية أخرى.
– كون تجربتها القصصية، وهذا اعتبار أساسي، قد حققت نقلة نوعية وجمالية فارقة، سواء على مستوى التيمات وتوليد الدلالات، أو على مستوى طرائق الكتابة وصوغ المتخيل القصصي، بشكل يجعل من هذه التجربة خير من يعبر عن تحولات المشهد القصصي النسائي الجديد في المغرب، وذلك بشكل تستحق معه هذه القاصة أن نقدمها، هنا، باعتبارها صوتا قصصيا نسائيا مغربيا وعربيا جديدا، يعكس بكل جرأة وحضور وإبداعية، جوانب من المسار التطوري للكتابة القصصية النسائية الجديدة في المغرب.
واختيارنا التوقف عند تجرية قصصية نسائية بعينها، لا يعني، هنا، إقصاء لتجارب قصصية نسائية أخرى، ذات حضور مؤثر في المشهد القصصي في المغرب، بأسئلتها وقضاياها المغايرة، وبأساليبها وخطاباتها المتنوعة…
كما أن حصر الحديث عن تحولات القصة القصيرة النسائية في المغرب، من خلال تجربة قصصية بعينها، حققت الكثير من النضج الفني، ومن الحضور المائز، كفيل بتكوين صورة عن طبيعة هذا التحول الذي طال كتابة القصة القصيرة النسائية الجديدة، انطلاقا من شعورنا بتملك التجربة القصصية لربيعة ريحان لمعنى التحدي والتجديد والمغامرة، وتجريب طرائق مختلفة في الحكي، وبناء الأشكال.
ومن شأن قراءة أولى في المجموعات القصصية الست لربيعة ريحان أن تكشف لنا عن مدى الثراء التخييلي الذي يميز هذه التجربة، ومدى تنوع أشكالها السردية وتيماتها ومنظوراتها وطرائق توليدها للدلالات والمعاني، وهو ما يجعلنا أمام تجربة متطورة في الكتابة القصصية، لم تبق، منذ بدايتها، أسيرة أسلوب قصصي معين، ولا وفية لقضايا ذاتية واجتماعية محددة.
وقد لا يعني ذلك أن ربيعة ريحان تكتب خارج ما هو سائد. فمجموعاتها القصصية المنشورة تكشف، إلى حد كبير، عن مدى تفاعلها مع عديد التيمات، التي لا تزال تفرض نفسها وامتدادها وثقلها التخييلي والدلالي، في عدد كبير من المجموعات القصصية العربية الجديدة. غير أن ما يميز تناول قصص ربيعة ريحان لتلك التيمات، مثلا، هو طريقتها الخاصة في تمثلها، وفي تقديمها وصوغها قصصيا، وفي اختيار زوايا رؤيتها للوجود والعالم وتوليد الأشكال، مع ما يرتبط بذلك كله من قضايا ذاتية ومجتمعية وثقافية ومصيرية، ومن أوضاع إنسانية قائمة وممتدة…
ويكفي أن نشير هنا إلى بعض التيمات المهيمنة في قصص ربيعة ريحان، كالطفولة والجسد والذات والمرأة والرجل والتحرر وعالم الذكورة والهامشي والزمن وسؤال الكتابة، وغيرها، لكي نلمس عن كثب مدى التنويع الذي يطبع الفضاء التخييلي لقصصها بشكل عام. كما أنها تيمات تكاد تكون مشتركة في عدد من المجاميع القصصية النسائية في المغرب في انتمائها إلى مراحل زمنية وإبداعية متباينة، قيمة وإنتاجا.
ومن بين ما يميز الكتابة القصصية، كما تتبلور ملامحها لدى القاصة ربيعة ريحان، كونها تفتح أمامنا مجموعة من المداخل والمفاتيح الأولية لقراءتها، واقتحام عوالمها، وتمثل حكاياتها وتيماتها، في محاولة للاقتراب من إدراك إيحاءاتها ودلالاتها.
ومن بين تلك المداخل- العتبات، يكفي أن نتأمل، على سبيل المثال، عناوين بعض القصص المستمدة من مجموعاتها الست: رحيل نورس، حصار، حافة الصمت، أفول، وهم الصورة ووهم الخيال، مشارف التيه، امرأة ورجل، جسارة، بعض من جنون، نوستالجيا، نار الغياب، رحيل، أبهة الاغتراب، لا يشبهني، ذكورة، امرأة ورجل، أجنحة للحكي، أرق، كم أشعر بالدوار، كلام ناقص، لنكتشف جانبا من طبيعة الموضوعات والقضايا والتيمات والأسئلة المختلفة التي تهيمن على التفكير الإبداعي للقاصة ربيعة ريحان، والتي تستوحيها قصصها، في أبعادها الجمالية والدلالية والمرجعية، كالغياب، والجنون، والدوار، والأنوثة، والذكورة، والنوستالجيا، والغياب، والفراق، والفقدان، والاغتراب، والوهم، والتيه، والارتياب، والأرق..، وغيرها من التيمات والهواجس والقضايا التي تؤطر محكيات قصصها، كما تؤطر رؤيتها إلى الذات وتحولاتها، وإلى العالم وتغيراته، دون أن يعني ذلك أن ربيعة ريحان تكتب داخل مباشرية مطلقة، بل تظل قصصها مطبوعة بخاصية الانفلات والتجاوز، نتيجة لما تفرضه مجموعة منها من تمنع على مستوى القراءة الأولى، بما يعني أنها قصص قد لا تمنح نفسها بسهولة ومباشرية لقارئها، من أجل إدراك معنى الحياة والوجود فيها…
الحياة المغربية:
من بين أهم الخاصيات المميزة للكتابة القصصية عند ربيعة ريحان، احتفاؤها الكبير والمتزايد بالنفس المغربي، وبالحياة والذهنية المحلية المغربية، في أبعادها التخييلية والواقعية والتاريخية والجغرافية والاجتماعية والثقافية. غير أنه لا يمكن قراءة ذلك في قصص ربيعة ريحان، باعتباره انغلاقا على بيئة بعينها، بقدر ما يمكن اعتباره وفاء مشتهى من القاصة لأمكنة الطفولة ولشقاواتها، ولبنات بلدها ورجاله ونسائه وأسواقه وحماماته، ولهموم مجتمعها ومشاكله، في اهتمامها اللافت أيضا بالتقاط تفاصيل اليومي، ولكل ما هو سردي فيه، أو من خلال تنويعها لسجلات الكلام والحوار التي تحفل بها نصوص ربيعة ريحان القصصية، بمثل احتفائها أيضا باللغات الاجتماعية الخاصة، تلك التي تؤثث بها القاصة محكيات نصوصها القصصية، وخطابات شخوصها وأصواتها.
وكغيرها من التجارب القصصية النسائية في العالم العربي، نجد للمرأة حضورا لافتا في المجاميع القصصية لربيعة ريحان، في تعدد تلويناتها وحضورها التخييلي والرمزي والدلالي، وفي تنوع صورها ومواقعها الاجتماعية والثقافية (الأم – الطفلة – المراهقة – الجدة – الصحافية – الطالبة – ربة البيت – الكاتبة – العاملة – المتزوجة – المطلقة – الخادمة – المعلمة – الصديقة…).
وأهم ما يميز توظيف تيمة «المرأة» في قصص ربيعة ريحان، كونها تتأسس في خضم وضع اجتماعي معقد، بإكراهاته المعاكسة لطموح المرأة في الانعتاق والتحرر من الموروث والتقاليد، ومن النظرة الدونية التي تلاحقها وتحرمها من أبسط حقوقها في العيش والكرامة والعمل.
وتزاوج قصص ربيعة ريحان في استيحائها لتيمة المرأة، بين الإكراهات الاقتصادية والثقافية التي تكبل انطلاقة المرأة وانعتاقها من التقاليد المجتمعية البالية، وبين الإكراهات الاجتماعية التي لا تزال تلوح بثقلها على المرأة، وخصوصا من حيث طبيعة علاقتها بالرجل، والتي تبدو علاقة مبنية في أغلبها على التسلط والعنف والاستبداد، بما تولده من تأثير نفسي وجسدي على ذات المرأة وأحاسيسها.
موازاة مع ذلك، تضمر البنية العميقة لقصص ربيعة ريحان صورا أخرى لتمرد المرأة ونداءاتها من أجل التحرر والانعتاق، وفضح زيف العلاقات الاجتماعية، في محاولة من هذه المرأة فهم واقعها، أو بالأحرى فهم ذاتها ومحاولة التصالح معها…
الطفولة:
تعتبر تيمة أخرى مهيمنة في قصص ربيعة ريحان، بتلويناتها الزمنية والتذكرية والوجدانية والنوستالجية المختلفة، كما تعتبر من بين القضايا الكبرى التي تسائلها الساردة (والسارد) في قصص الكاتبة، انطلاقا من تكرار العودة إلى استلهام صور هذه المرحلة البيولوجية والزمنية واستيحاء لحظاتها الهاربة باستمرار، عبر توظيف لغة الطفولة ذاتها، في شعريتها، وفي انسيابيتها، وفي استعمالها لضمير المتكلم المهيمن في السرد، إلى جانب ضمائر سردية أخرى موازية…
وإذا كانت مجموعة ربيعة ريحان القصصية «مطر المساء»، قد احتفت بتيمة (المرأة)، في عديد تلويناتها وتجلياتها التخييلية والسردية، فإن مجموعتها «شرخ الكلام» قد احتفت بالطفولة، انطلاقا من توظيف خاص للمحكي الطفولي فيها، فيما يشبه المحكي السيرذاتي، هذا الذي يمتح من الطفولة في إطار بنية حكائية عائلية، يتم تقديمها من منظور طفلة شاهدة على تحولات مرحلة. وعادة ما يرتبط النبش في عالم الطفولة وارتجاجات المراهقة في قصص ربيعة ريحان، بفضاءات وأمكنة مألوفة، في ماضيها وحاضرها، بما هي فضاءات وأمكنة الطفولة والذاكرة والحي القديم، بما تنضح به من لغات وحكايات طرية، وروائح وألوان وشقاوة وانكسار طفوليين. ويكفي أن نشير إلى فضاءي السوق والحمام، كما في مجموعة «أجنحة للحكي»، باعتبارهما فضاءين نادري الاستيحاء في المحكي القصصي النسائي عموما، لكي نلمس مدى العمق التخييلي والدلالي الذي تضفيه القاصة على الطفولة، وسط عوالم تعج بعديد المفاجآت، وبكثير من الاصطدامات.
إلا أن استعادة الساردة لصور الطفولة وملامحها وذكرياتها ومغامراتها وآثارها النفسية، قد لا تبدو استعادة سير ذاتية حالمة، بقدر ما هي استعادة مساءلة، في محاولة لتبديد الدهشة الطفولية تجاه المواقف والأحداث… وفي مقابل اهتمام قصص مجموعة «شرخ الكلام» باستيحاء القضايا الاجتماعية، والتي تحتل (الذات) فيها موقعا مركزيا ودلاليا خاصا، في تصويرها للذات البشرية، ولحالات من الحيرة والقلق والوحدة والشعور بالغربة والاغتراب، دون أن يعني ذلك استسلاما كليا لهذه الذات، أمام مختلف الحالات والأوضاع المعاكسة لرغائبها، بما تضمره أيضا من حالات خوف وإرغامات نفسية وذاتية واجتماعية وحتى سياسية.
وغالبا ما يتم صوغ البناء الدرامي لشخوص قصص ربيعة ريحان، انطلاقا من قدرة القاصة على النفاذ إلى دواخلها ومساراتها وتفاصيلها وأوعائها وأحاسيسها وأوهامها، حيث إن شخوص قصصها هي التي تعكس، في مستوى آخر، صورة الضياع والتناقض والتيه، سواء تعلق الأمر، هنا، بالمرأة التي تبدو القاصة مثقلة بأوجاعها وهمومها وتوتراتها ورغائبها في الحب والعيش، وفي اقتناص لحظات فرح مؤجلة، وهو ما يساعد أيضا على تصعيد اللحظة الإنسانية في قصصها، وخصوصا في مجموعتيها «مشارف التيه» و«أجنحة للحكي»، أو تعلق الأمر بالرجل، هذا الذي يبقى طرفا مؤثرا في محكيات قصص ربيعة ريحان، وفي دلالاتها أيضا، باعتبار ما يعتري مواقفه بشكل عام من تردد وازدواجية في المواقف، وفي المشاعر والأحاسيس، نتيجة تأرجح ذلك كله بين حالتي الحنان والقسوة، وبين الانتصار لقضايا المرأة واللامبالاة. وهي حالات نصادفها أيضا عند الرجل (الغربي) نفسه، كما في قصة «كوبنهاجن»، في مجموعتها القصصية «بعض من جنون».
وتوظيف بعض التيمات بعينها في مجاميع قصصية لربيعة ريحان، لا يعني انفراد كل مجموعة قصصية باستيحاء تيمة مهيمنة فيها، هي التي تشكل بؤرة المحكي، فتداخل التيمات وتشابكها في هذه المجموعة القصصية أو في تلك، يبقى هو السمة المميزة للعالم القصصي لربيعة ريحان، ولغيرها من القاصات العربيات الأخريات. لكن الغاية من ذلك، كانت هي محاولة الاقتراب من عالم قصصي بمضامينه وتيماته، انطلاقا من رصد تجليات هذه التيمة أو تلك، في هذه المجموعة القصصية أو في تلك..
لكن عالم المرأة، يبقى هو الموضوع الأثير لدى القاصة ربيعة ريحان، على مستوى مجاميعها القصصية ككل، ليس فقط لأن الكاتبة امرأة، بل بالنظر لطبيعة الصلة الإبداعية والتأملية والفكرية التي تربط القاصة بالمرأة بشكل عام، في صراعها المرير ضد ثقل الماضي، وضد القيم المزيفة للحاضر، وهو ما يجعل نصوص ربيعة ريحان في مجموعتها «مشارف التيه»، تظهر المرأة فاقدة للثقة في مجتمعها، وفي دعم الرجل لها ولقضيتها، بل إن المرأة نفسها عادة ما تبدو معاكسة لرغائب الأنثى، كتلك الأم التي تعاكس رغبة ابنتها الصغيرة في عدم قبولها الزواج وهي بعد طفلة (قصة «بقعة حمراء» من مجموعة «أجنحة للحكي»)…
وبالنظر إلى أهم خصائص الكتابة القصصية عند ربيعة ريحان، والتي تكاد تميزها، إلى حد ما، عن قاصات مغربيات أخريات، يمكن التوقف على الأقل عند خاصيتين اثنتين، تهيمنان على تفكير القاصة، وتؤطران طرائق كتابتها وصوغها لقصصها:
– الاهتمام اللافت والمتزايد في مرحلة قصصية معينة باللغة، في تلويناتها المختلفة، بشكل لفت إليها، منذ الوهلة الأولى، نظر النقاد والقراء… فبعض مجاميعها القصصية تحفل بجدلية باذخة بين اللغة ومحكياتها، عبر تكثيف لغوي مبهر، باستعاراته المكثفة، وبإحالاته الرمزية، وبتجريديته أيضا، بما هي جدلية تشكل، في نظر القاصة نفسها «عامل إثراء للنص وإضافة جمالية له» (2).
من ناحية أخرى، تتميز بعض قصص ربيعة ريحان باستحضار اللغة الذكورية فيها، عبر اهتمامها المتزايد، في مجموعة من قصصها، بعالم الذكورة، وعبر اللجوء، في أكثر من مرة، إلى الاحتماء بضمير الأنا المذكر في السرد، موازاة مع استحضارها لعوالم الذكورة «باستيهاماتها وانفعالاتها وقلقها»، وبشخوصها الرجالية، وبملامحها الخشنة والقاسية، باعتبارها طريقة مغايرة في السرد القصصي، ربما توخت من خلالها القاصة اللجوء إلى المناورة والمناوشة، عبر التخفي والهروب وراء قناع (أنا المذكر)، وعبر قلب الأدوار بين المرأة ولغة الرجل، بغاية اختراق الأولى للثانية، تجنبا، كما عبرت عن ذلك القاصة من احتمال قراءات ملغومة لمحكيات قصصها ودلالاتها.
وتبقى مجموعتها القصصية «أجنحة للكي»، وكذا مجموعتها القصصية الأخيرة «كلام ناقص»، خير من يمثل هذا التوجه الحداثي في الكتابة القصصية، بما يوازيه من جرأة لدى القاصة ريحان في التعبير بصيغة المذكر عن العوالم الذكورية التي تطفح بها هاتان المجموعتان القصصيتان، بشكل تتكسر معه جوانب من نمطية الحكي عند المرأة في ارتيادها لعالم الذكورة، انطلاقا من تمثلها لجوانب من ذكورية السارد والجسد وتذكير السرد ولغته، بشكل ينقلب معه موقع الأنا الساردة، كما تنقلب معه بعض المفاهيم الجاهزة، من قبيل القول بتكسير مفهوم «الكتابة النسائية»، ومن ثم تكسير مركزية السرد الأنثوي في قصصها…
غير أن ذلك لا يعني أن ثمة انتصارا مهيمنا لضمير المتكلم، في تأنيثه وتذكيره في قصص ربيعة ريحان، بقدر ما هو تنويع مفكر فيه بدقة، في طرائق التعبير والسرد، وفي توليد مزيد من الدلالات وتكثيف إيحاءاتها، وتعديد قراءاتها، خصوصا وأن قصص ربيعة ريحان تحفل أيضا باستخدام لافت للضمائر النحوية الثلاثة، حتى على مستوى المجموعة القصصية الواحدة، كما في مجموعتها القصصية الأولى، فيما يشبه تبادل الأدوار والمواقع بين الضمائر والأصوات، بما يخدم تنوع الرؤية إلى الذات والأشياء والعالم من زوايا ومنظورات مختلفة..
ومن شأن المتتبع للتجربة القصصية لربيعة ريحان في تشكلها العام، أن يلمس عن كثب احتماء خاصا للكاتبة بلغتها القصصية، سواء في دفقها الشعري، أو في التباسها وتجريديتها، مما يحول أحيانا دون تمكن القاصة من الإعلان عن ذلك التمرد والبوح اللذين نحس بهما قابعين في دواخلها، وأيضا دون تمكنها من إظهار مزيد من الجرأة الكافية لتعرية الذات وجروحها، والجسد وندوبه وأحاسيسه المكبوتة، والمسكوت عنه، وهتك ستار حجابه، أو في مباشرية لغتها وواقعيتها، كما في مجاميعها القصصية الأخيرة، بحيث نحس بالكاتبة منجذبة أكثر نحو تحرير لغتها وألفاظها من سطوة الترميز والتجريد، ونحو تسمية الأشياء بمسمياتها..
من هنا، إذن، يمكن القول إن ربيعة ريحان لم تبق وفية للغة قصصية بعينها، فلغتها القصصية عموما يتفاوت توظيفها بين الاستعمال المكثف للغة الشعرية في بداية تجربتها القصصية، وتوظيفها للغة السردية في المرحلة التالية، أي أنها قد زاوجت بين هيمنة الصور والمشاهد والاستعارات المركبة، وهيمنة الحدث وتشبيك العلاقات الإنسانية، في انصهار ذلك كله في لغات قصصية، ترتضيها ربيعة ريحان، وتنتصر لها في نصوص مجموعاتها القصصية السبع.
الهوامش
(1) من تقديم حنا مينة، لمجموعة «ظلال وخلجان»، نشر تانسيفت، ط1، 1994، ص6).
(2) في حوار مع القاصة ربيعة ريحان، في جريدة «الوطن» القطرية، بتاريخ 4 أبريل 2006).