رجاء بنشمسي كاتبة أتت حديثا إلى النشر. صدرت لها لحد الآن الأعمال التالية باللغة الفرنسية: «كلام الليل» (أشعار مرفوقة بلوحات لفريد بلكاهية، (1977)، شروخ الرغبة (١٩٩٩) ، و«مراكش، أنوار المنفى» (2003). شعرها وحكاياتها تغوص عميقا في تربة اللغة والوجود وفكر الذات، إلى درجة تغدو معها قراءة مستمرة في تلافيف الذاكرة ومسام الزمن. تعيش بمراكش بمعية زوجها الفنان العالمي فريد بلكاهية، وتكتب كثيرا عن أعماله الفنية.
المترجم
تتوالى وُريقات الحياة رويدا رويدا. وكلَّ يوم تغيب شمسه يعبِّد المساءُ الطريق فيه إلى أحلامي ورغباتي. تتبخَّر الأسئلة، ثم إنها، كما لو كانت حجاب ظل، تحط علي لتنفث فـي كل لحظة من لحظاتي لغْز اللون. ينبعث عطر الأرض ليخطَّ بجلائه مسالك مسْعاي. فترتسم أمام ناظري صورة للتأمل عبر حرْف أو حفيف جناح أو أنشودة. وبما أنني خليلة الأبدية أتساطع بنورها، وأشعل لهيب الممرات المحفوفة بنار روحي وأبدأ حكايات أشواقي وعشقي. وفجأة، في أطراف أناملي أحس المسرات منسابة في زرقة الأفق، كما اللآلئ الناعمة لسبحتي. أفْرط الضحكات ومعها المحن. أتلمس آلامي وعذاباتي. فيما تشنجاتي الممزوجة بإيقاع وقفات الكتاب تنذرني إلى الآخرة. أستبطن كلية العوالم وأقيم في عتبة كل المعاودات. أضاهي الشمس والنجوم والكواكب، وبعد أن أكون قد تخلصت من رياح الشمال أحتمي بالقبب الكونية من ذاكرة نسْغُها الهواء والماء. وفي تخوم الزمن والتاريخ، تنتثر ذاكرتي بكلماتها وأصواتها في النفوس لتؤسس حلم الأطفال ولياليه الألف ليلة وليلة، وقببه الملونة ذات الأميرات السبعة، ورحلاته القصيَّة، ومحيطاته التي لا ضفاف لها، وأحيانا فقط ذروات وجْده.
تنضح الكتابة على قفا العصور وتمزج نسغي بنسغ العالم. أتقدم في متاهات الزمن حتى الشقوق اللامرئية للأرض، وأتوه في الثنايا النائية لأفق الأساطير والخرافات حيث أمتح أوهامي. ومن الحضارات المنحطة أجدِّد السراب حيث أحط أبطالي وخيالاتي، وشيوخي ورفقاء عشقي وحكمتي.
قبلت بحنان تلك المرأة العجوز التي كانت زوجة عمي. كنت قد بسطت أمامها بتفصيل بواعث زيارتي. قابلتني بالموافقة ليس من غير أن تبحث عما يحفزني في مسعاي، وهي إنما فعلت ذلك بفرحة خفية تأثرت لها كثيرا. كان علي، وحدي وبحرية كاملة، أن ألج العالم الأكثر حميمية لزوجها المتوفى. كنت على علم، وهي التي أسرَّت لي بذلك، أن لا أحد كان يطأ مكتبه ومكتبته، عدا ثلة من أصدقائه قضوا جميعهم نحبهم. وأنا حصلت على إذن بدخولها قصد البحث عن وثيقة نادرة عبارة عن مخطوط قصيدة للشاعر الإيراني نظامي عن أيقونات جناح الأميرات السبع من تخطيط وزخرفة عمي بيده. كان ذلك بلا شك طريقة يحيي بها ذكرى أصوله الفارسية البعيدة. ولجت القبة. جلست وبدأت أتأمل كل تلك المجلدات. ولا أخفيكم أني كنت حيرى لولوج العالم الحميم لشخص بعد موته. وأنا أتأمل السقف المزخرف برسوم نباتية أطلقت العنان لتموجات فكري قبل أن أمر إلى الفعل.
وكما لو كنت جسدا مفتوحا على آثار الزمن، كانت روحي المتشربة بموجة من الصفاء، لا تزال تتذكر تلك العشية الرائقة في تلك المكتبة. في الأخير، وبمحض الصدفة، فتحت كتابا لأعثر بين ثناياه على صورة فوتوغرافية. إنها صورة شخصية رهيبة لامرأة. ربما كان الأمر يتعلق بمريدة معشوقة، أو هو بالتأكيد كذلك. قد لا أحصل أبدا على جواب أكيد. كانت المرأة في مقتبل العمر، لا تتجاوز العشرين ربيعا. وجهها العنبري الذي تحيط به ضفيرتان مسدلتان حالكتا السواد أسَرَ نظري. كانت الصورة قديمة بيد أن نظرة المرأة من الحيوية بحيث جاءتني رغبة محيرة في أن أسدل عليها اسم نادية. فكبار السن من الناس يعتقدون أن الوليد يخرج إلى العالم حاملا اسمه. أكيد، غير أنني أجهل لماذا خطر لي هذا الاسم. نادية. ربما لأن اسمها يوحي بالندى والنداء والعطاء. هذا العطاء الكريم في هذه العشية من الصيف التي، برغم طابعها العادي، أخذت فجأة وجهة رائعة. نادية، الاسم الذي ذكرني في الحقيقة بالندى الذي كان ابن عربي يعتبر نفسه ندَّه. وبما أن الوردة التي تتلألأ عليها الأنوار تمجِّد النهار، فإن نادية عادت في عيني فجأة منتهى القدر. إنه قدر ليس بيدها أو على الأقل لم تختره لنفسها بنفسها، غير أنه يوحِّدنا في ثنايا وحروف مخطوط قديم يبدو أن لا أحد فتحه منذ أمد بعيد. اختلَت الصورة في البرد القارس لمكتبة عائلية أطلقت فيها السنون زنخها وهجرتها ذرية صاحبها متجاهلة نداء الذاكرة الصارخة. وهي محشورة بين الأوراق الصفراء التي لا تفك حروفها ظلت تجهل أن عاشقة متيمة بالعارض والزائل ستحشر بها في قلب مخيلتي. انغمستُ في متاهات النسيان بحثا عن الصورة الهشة والراسخة لأميرة المجهول هذه، التي ثبتتها إلى الأبد عدسة آلة تصوير، والتي أنستني بواعث حضوري في هذا المكان. فالدهشة تصاحب دائما الولوج إلى العالم الحميم لوجه لا نعرفه غير أنه يكون ملكا لنا فعلا، نظرا لتلك العيانية التي تمنحها لنا ظاهرة الصورة الفوتوغرافية.
ليست نظرة نادية السوداء واللازمنية هي التي حيرت كلامي، وإنما الاستحالة التي وجدت فيها نفسي وأنا أصطنع هوية لم تلبث أن غدت لي هوية ضرورية. فبالارتكاز على تلك الصورة، بدأت أستكشف مناطق عتيقة وخصبة بأحلامها. تسللتُ بين الكتب المتناثرة على أرضية المكتبة، حيث كانت اللغتان الفرنسة والعربية تتجاوران في وئام تام. كانت القرون والحضارات تتقاطع. وحين فتحت أحد المجلدات المليئة بالغبار ونتف القصص، كنت قد ولجت باريس، أو على الأقل ذلك ما خلته. لا لم يكن الأمر يتعلق بباريس وإنما بمدينة من مدن فرنسا العتيقة. أتذكر أن فطانتي الأدبية لم تكن لي عونا. ترددت بين نبرة باربي دوريفيلي وهويسمان. غير أن الغلاف الذي لحقه التلف الكبير كان قد خدعني. قرأت مع ذلك بأعلى صوتي. كانت نادية هناك. تابعت قراءتي بغرابة وهدوء قاتل من غير أن تنبس ببنت شفة. تواريت خلف المعنى الذي كان النص يوحي به إلي. أشهرته على صورة درْقة وجعلت منه ساحة كلامي الحقيقية. تواصلت معها بفضل ذلك الجانب الغامض فـيَّ الذي يعتبر، بفعل عادة مؤسفة، أن نصوص الآخرين هي مكانه الخصوصي. كانت الواجهات الساكنة لهذه المدينة التي لن أذكر اسمها تحجب الأنوار الضئيلة التي تصلنا. أجهل ما كان يحدث خلف تلك الأسوار التي كانت من العلو بحيث لا يمكنها إلا أن تخفي حقائق أحْدس، من غير أن أعرف ذلك، أنها سلبية على تطور الأزمنة اللاحقة. بدت لي أحجار البلاط غير ما هي عليه، وقد خلتها عند بداية القراءة ملساء. تابعت شخصية النص واقتربت أكثر من الأسوار. كانت سميكة وسمك أحجارها بدا لي غير قابل أبدا للسَّبْر. استندت إلى الحائط ومددت عنقي، أغلقت عيني وأرهفت السمع. كانت المدينة تدخل في صمت عميق. إلى حدٍّ نخال معه أن حديث الأفلاك هنالك فوق في السماء السوداء، يخصنا بعناية خاصة. ثم فجأة، حين نسيت أني لوحدي، وجدت نفسي أكلم نادية، كما لو أن واقع هذا النص قد منحها الروح على غفلة منا نحن الاثنين. عانقتها بحرارة وقلت لها:
أنصتي، سنسمع بالتأكيد شيئا ما.
ولم أكد أنهي كلامي حتى انبعث صوت رجل ليصاحب برقَّة حميمية السكون، وأسر لنا بما يلي:
«وفعلا، لكي يؤكد الحالم المدهش، الذي أبدع هذه المرأة الشابة، أنها ليست سوى خيال خرج من ريشة وثنية، فإنه لم يشدَّ إلى هذين الكتفين الرقيقين اللذين يستند إليهما جيد هزيل، سوى فستان بلا تاريخ، ينتمي لكل الأزمنة والأمصار… لن أستطيع أن أصف لكما الفتنة الغامضة لكل هذا، فسيطلق علي الناس صفة الجنون».
ثم إن صوتا ينبئ عن شيء من الغضب ويكاد لا يخفي غيرة نسوية مقيتة اخترق هذا السكون، كان هو قد تعامل معه بالكثير من الرقة، وأضاف:
«إذا كانت صورة بسيطة لامرأة تؤثر فيكم على هذا النحو، فما بالكم بما كانت ستفعله صاحبة الصورة لو كان لكم أن عرفتموها؟…» أتذكر أني هنا تعرفت على الراهب في رواية باربي دوريفيلي «الراهب المتزوج».
فكرت أن القدر بالرغم من مظهره اللامبالي والنِزق لا ينسى شيئا، بقدر ما أنه لا يثير الأحداث بمحض الصدفة. تلقيت ذلك كعلامة. وبما أني لم أجرؤ على تذكير نادية بأصولها، التي لا علاقة لها بالصورة وإن كانت مشابهة لها، فقد اقترحت عليها أن نغير المكان. أغلقت كتاب «الراهب المتزوج»، وأخذت الصورة وتحركت بها كما لو كنت أحتمي من عزلة لم أكن أتحمل وقعها الأليم، خاصة وأن الجو كان رهيبا. فتحت كتابا آخر. هل كان بطباعة حجرية أم رسوما ليثوغرافية أم رسوما حفرية؟ كان بالأحرى كتاب رسوم حفرية. مرت عربة خيل. أصخت السمع للوقع البعيد لحوافر الخيل على البلاط. ابتعد الصوت ثم اختفى. أعدت التمعن فأبصرت ببرج. ورغم بساطته وجدته برجا رائعا. ثمة مآثر عمرانية تظهر بروعتها منظور الأفق لتمد اليد خلسة إلى رعونة القدر. كلما تأملت في ذلك البرج المتسامق الشامخ، كلما بدا لي وكأنه يدعو إلى السجود. ومع ذلك فقد كان منغلقا على نفسه ويبدو غير مبال بحرية المارة، الذين غالبا ما يضطرون لكبت رغبتهم في السماء. هل يكون ذلك بسبب التكتُّم؟ ربما كي لا يوقظوا الروح المضطربة للراهب. وربما كان أيضا خوفا من إيقاظ النفس المضطربة للراهب.ففي نهاية المطاف أنا أحترم كل الاحترام حيطتهم وأعترف أنه من العقل التصرف كذلك في الوقت الحاضر. كانت نادية بجانبي مستمرة في صمتها. من أسفل الرسم نطَّ رجل ماشطاً شعره إلى الوراء وألقى نحوها بنظرة قلقة وسكرى عشقا. قررت أن أسميه رحيما. ابتسامة واسعة كانت تضيء وجهه المربع الذي تسمه غمازة خدٍّ عميقة، بحيث تفصح عن تجربته الكبرى مع النساء وتنهداتهن. غرست فيه نادية بصرها بحيث كانت مقلتاها المسمرتان في مقلتيه تحدثان فيه أثرا لا يقاوم.
قلت في نفسي بأن نظرتين عاشقتين تحفزان بالتأكيد الطاقات العاشقة. فالأشخاص الواقعون تحت تأثير الفتنة بشكل لا دواء له يتجهون نحو وجهة أبدية ليتلاقوا حتما في يوم ما.
يهب المجهول على الوجوه. فكأنه الياسمين أوالـمُغازل في السَّمر، يختلج عند مبدأ العينين كما العطر الخفيف، ليرتشف الروح الخصومة للحب. بدا كما لو أنه انزلق على البشرة العنبرية لنادية ليحدد من جديد أطراف قفطانها الموردة بهشاشة. ثم إنه، كما بجرة قلم حادة ونزقة أعاد تدقيق الأطراف الممحوة لبدلة هذا العاشق العرضي، الذي يتمتع بحضور من القوة بحيث يزج ببقية الرسم في ضرب من اللاتوازن الملحوظ. وهذه الخطوات التي يذكرني كبرها بشخصية لشيريكو، تكشف في حركاتها عن شساعة الفضاء. خلت لحظتها حسيا بأنني أشهد فعلا ليس بالسوريالي، فالأمر أبعد من ذلك، وإنما فعل سام تتأصل فيه كل الرغبات. فعل حيث تقوم حواء، وهي تسعى لملاقاة آدم، إلى إعادة تشكيل الوحدة الأولية الأصل. حينها تسمو الإنسانية إلى ما وراء ناموس العدد. إنها تنعمي في هذه اللحظة الأخيرة، لتفنى مصقوعة في جُـماع الأنوار التي تحكم عليها بالتيه اللانهائي على ضفاف اللغة. الممتنع على القول يعانقنا كلنا. صحيح أنه يفرض علينا حدود العقل، لكن من غير أن يحمينا كلية من مخاطر الهلوسة. راقبت من جديد ذلك الرجل، ومن دهشتي الكبرى أدركت أن واقعية صورته، التي تبدو جلية كما في بعض بورتريهات إنغريس، تملأني اضطرابا. خلت للحظة أني أحس بحركة طفيفة. وحتى أتأكد أن الأمر لا يتعلق سوى بوهم بصري عادٍ أبعدت الرسم والصورة واضعة إياهما وجها لوجه الواحدة فوق الأخرى. وحين أدرتهما غمرتي نوع من السكينة جعلتني أتصالح مع التناغم الخفي الذي ينتظم الموجودات في علاقتها بالأشياء والموضوعات. تأملت الصورتين مليا. كانت ابتسامة رحيم تتسع تحت إلحاح نظري لتنساب عذبة ومشحونة بالنور نحو نظرة نادية المتلاشية. كانت المدينة، مدينة النص، مأسورة في المساحيق السميكة غير المنتظمة التي تكبِّر بشكل غريب عينيها، ولذا كانت مغلفة بالضباب بالرغم من أن الفجر لاح وبدأ ينثر تباشير نوره الأولى. تقدمت في خفة. كان معطفها الشبحي يختلط بالبرج الذي لا يزال يغلفه الظلام. كان الأفق منفرجا، يشرع القِشر الداخلية اللامرئية للمجهول والقشر الداخلية الخادعة للكلمات.
شدَّ انتباهي كتاب آخر أقل تَلفا. إنه كتاب لسان الدين ابن الخطيب يتحدث عن مغرب عتيق. مغرب أتخيله أغمر وخلاء. متخلصا من الزمن المشؤوم لحداثة همجية ووقحة. فاس. مكناس. الرباط. مراكش. دوخة التاريخ. شلالات النهار. أوردة المدينة القديمة تتداخل. كائنات تمر مشبعة بتراخ خفيف. ومن النافذة الوحيدة التي أعتقد أنها توجد في المكتبة العجيبة رفعت نظري إلى السماء التي تبدو من «حلقة» البهو. وبدا لي وقتها أن كل سطوح الدور التي تراقبني تتجارى في مسار خِلت لحظة أني أتصور نقطته المركزية. هل هي قوة اللغة أم الخدعة السامية؟ ربما تعلق الأمر بالشيئين معا في الآن نفسه. كان ثمة كائن أسمر يحدق فـيَّ. ملابسه المزرقطة تنصهر في الجدران الوردية المحيطة. مراكش. أريج مسك وصنوبر عبق في الجو. فعلا، كان ثمة امرأة تمسك بمبخرة من الطين ينبعث منها دخان بخور ثمل وحلزوني. كانت المرأة إحدى خدم المنزل. جاءتني بالشاي وهكذا أرجعتني إلى واقع الحال. قلت لها بأني بصدد البحث عن مخطوط، وكأنني بذلك أبرِّر وجودي هناك. فقد أكدت لي زوجة عمي، وهي امرأة تجاوزت الثمانين، أنه يوجد هنا. وهي التي أذنت لي بالتفتيش في المكان. ابتسمت لي الخادمة وأجابت: «أعرف. خذي كامل وقتك». كنت أود أن أسِرَّ لها مقدار الضَّنى الذي يسببه ولوج الفضاءات الحميمة لشخص فارق الحياة. فالغموض الذي ينمُّ عنه هذا الاحتيال والمكر، أو على الأقل ما بدا لي كذلك، أمر لا يمكن تحمله. امتزجت رائحة البَخور برائحة الشاي الدافئة التي صارت منعشة بفعل عبق النعناع والزَّعتر لتغمرني بفرحة تعز على الوصف. ابتسمت لها بدوري لأستدير جهة كتاب ابن الخطيب. وأنا أتصفح الكتاب لم أتذكر المدن وإنما أسماءها. أسرارها. أناشيد حبها. مدائحها لأوليائها الصالحين، حُـماتها. ونادية التي خلقت من كلمات وعلامات، الخارجة من الهلام اللامتحدد للغرفة السوداء لآلة التصوير، تسامت ونحتت لنفسها وجوها جديدة. إنها مصائر جديدة حيث الأصوات المتماوجة في هوج رياح الجنوب ونعومتها تتجه جميعها وتتوحد لتخرجها من صمت مطبق أبدي حتمي. أصوات قريبة. واضحة. هوائية وبلورية. أصوات ينطفئ فيها كل حلم بالكلام مهما كانت براءته.
مكناس. مراكش. بين الصورة وإشراقة الذاكرة. بدت نادية وهي تركز معي لكن من غير أن تتأخر، في هذه المدينة المحفورة في قلب المنفى الباكي. إنه قلب مقتطع من مدينة غرناطة، التي لم يستطع حتى ابن الخطيب، رجل الأدب والدولة والمتصوف الأندلسي المعروف أن يهدئ من روعه في وصفه، الذي جاء مع ذلك دقيقا وصحيحا: «مكناس المدينة المباركة، الخضراء الخصيبة. المدينة ذات الوحل الصعب؛ المحاطة بأوراق الزيتون الفضية»(١). ظل هذا الوجه متجمدا خلف صورة فوتوغرافية، وبعد أن غدا خفيفيا وحيّا بدأ يبتدع لغته. إنها لغة حيث العين وحدها، من غير كلمة أو صوت، تتحدى عنادنا في الرغبة في تسمية الأشياء التي نعرف أنها عصيَّة على التسمية. كان صوتها المتوازن بلا نبر، يفطر بعض فضلات الليل وينشر شكواه في ما قبل نور الفجر. ظللت أتابع مويجات الحكاية الدَّوارة، أو بالأحرى ما كان يدركه منها ذهني. كانت المدينة العتيقة تستفيق رويدا رويدا. وأشباح الأشخاص الملفعة بالظلام تتجه نحو الجوامع. وآذان الفجر ينهي انسياب الصباح. كانت الأرض تلتوي من الداخل، والأجسام الهزيلة تتماوح على هوى الأمكنة المستديرة التي تميز المدينة الإسلامية. وبعيدا عن الدروب التجارية، المحاطة بالحوانيت التي كانت لا تزال مغلقة، أو على الأقل ذلك ما أفترضه بما أن الرؤية كانت ضعيفة، وفي منعطف أحد حوانيت الصياغة التقليدية ودكان جزار، تمعَّنت من جديد في وجه رحيم. كانت عيناه براقتين، وشفتاه مرتعشتين. وشعره الذي غزاه النور أصبح أسود كالحا. كان يتجه نحو السقاية. على يمينه ثمة كتابة تشِم بوابة جامع الحومة وتثير انتباهي: «ممنوع على النصارى». فكرت أن الجنرال ليوطي هو من كان في أصل هذا القرار. ياله من دهاء سياسي. وهكذا غدا الجامع أحد الأماكن النادرة التي ظلت في حمىً من كل دخيل أجنبي. لا شك في أن الأمور أفضل على هذا النحو، هكذا فكرت. وعلى اليسار، في الأسفل قليلا من الرسم تعرفت على دكان بازار حيث من بين العديد من المعروضات نجد القفاطين القديمة. وبحركة من العينين حيّاني تاجر يبدو أقرب إلى الصمت منه إلى الكلام. اخترت من بينها قفاطين من الديباج مصنوعة على الطريقة الفاسية والتطوانية. لبستها تباعا وبدأت أذرع الدكان في كل الاتجاهات. كانت تارة أقصر من قامتي أو أعْرض من جسمي. أما الثوب فكان في حالة جيدة. ومع ذلك فتلك كانت فرصة جديدة لي للتمتع بالقفاطين الجاهزة. كانت رفعة ذوق نساء فاس كما وصفه لسان الدين ابن الخطيب تمتزج لدي بولعي بضروب الحرير والدنتيلا. أخذت الرسم بين يدي وأغلقت الكتاب. وبما أني كنت مفعمة بألغاز الذوق والأناقة التي يحيلني عليها هذا النص من القرن الرابع عشر، فقد عنَّت لي الفرصة مجددا للتأكد من مدى التطابق الذي لا يزال يوجد بين ذوقنا الجمالي والذوق الجمالي للمثال الأعلى الأندلسي. كنت لا أزال ممسكة إمساكا بصورة نادية. ولم يلبث أن ذكَّرني هذا التشبث الغامض بها بحكاية قابيل وهابيل قبل لحظة الدفن. كان علي أن أتركها تركُن إلى نفسها بسلام غير أنني ظللت عاجزة عن ذلك. فهذا البورتريه المحشور بين آلاف الكتب والأفكار العصيَّة، هو في الحقيقة الشيء الوحيد الذي أستطيع امتلاكه الآن في هذا العالم الذي ليس في ملكي والذي أنتمي إليه حتما. وما زلت أقول في نفسي إلى الآن، بأنه من العجيب التجول في مكتبة الآخرين. فجأة أحسست بأن روح المرحوم عمي لن تلبث أن تظهر لي لتعاتبني على التطفُّل على حياته. وبالفعل، أليست الكتب أيضا إحدى الوسائل التي تمكّننا من تتبع المسار الداخلي للناس، بالرغم من أنها قد تخبئ لنا أغرب المفاجآت؟. قلت في نفسي بلا كثير اقتناع بأن علينا إحراق كتبنا قبل أن نموت. فهي في الغالب ما تشي بحياتنا بأكثر مما تفصح عنه رسائلنا أو صورنا. ألقيت من جديد نظرة على وجه تلك التي قرّرتُ من ورائها تسميتها بنادية، والتي أوحى لي في النهاية عجزها عن الدفاع عن نفسها بتقوى ترك روحها تنعم بالسكينة ومعها روح عمي الذي عشقها بالتأكيد، أو على الأقل هذا ما تمنيته له.
تصفحت في عجالة صفوف الكتب وتوجهت نحو مجلدات مسفَّرة متأكدة بفضل حدسي بأن المخطوط الذي أسعى وراءه موجود ثمة. وبالفعل، أمسكته من طرفه المدوَّر شيئا ما في الأعلى وحركته قليلا كي أحرره من الجوار الثقيل لرسالتين، الأولى في الفقه والثانية في النفس. كانت تشبيكات مذهبة منقوشة بالأزرق الإيراني ترسم علامة اللانهائي لكن في وجهة عمودية. وفضلا عن التوريقات التي تحتوي زهورا قرمزية، كانت تداوير حلزونية ذات لون وردي خافت، يتوارى أكثر مما يظهر، تلطِّف السِّفر المزخرف. فتحته فلاحظت الاحتشام الذي توارى به سطوع الألوان كي يسجد أمام الحقيقة الأخيرة، حقيقة الشعر:
«كما بيت الكنز
الذي قاست العين لآلئه
أجمل من مائة معبد من الرسم الصيني
فضاء للجداريات محيرة في روعتها
زخارف دقيقة الرسم
موضوعة على الحيطان الداخلية للقصر:
أيقونات سبع كنَّ عليه مرسومات
مكتملات الصنع
وكل منها مشدودة إلى بقاعها»
تلوت هذه الأبيات بصوت عالٍ متجهة نحو أميرة القصر الفيروزي بعطارد، أي بكلمة أخرى أميرة المغرب:
ويوم الأربعاء تشرق الشمس وتزرق الأرض بالسواد
لشاه العالم المستنير
هذا القفطان الفيروزي ذو التلوين الفكتوري
كانت تلك القبة الفيروزية لسَنا مجده
فذلك اليوم سيكون كلمح البصر
فيما حكايته لن تنتهي.
التحقت بزهرة زوجة عمي. وأنا أرشف معها تلك المشروبات الروحانية حكيت لها حكاية أميرة القبة الزرقاء فيما ظلت هي تقاطعني بين الفينة والأخرى بكلام خدِر عن ذكرى زوجها. قلت لها بأن ذلك كان أحد عيون الأدب العالمي، وقبل أن أرحل قرأت على مسامعها هذا المقطع الأخير:
«الشعب الذي لم يرَ فيه غير ما سواه
لن يرى أبدا غير سواه
في روعته
أما الشعب الذي عرف كيف يرى فيه الباطن
فسيرى فيه تخوم الداخل
في قلب النواة
المعنى والقلب.
ترجمة: فريـــد الزاهــي أكاديمي ومترجم من المغرب