لا تنقري في الروح ياصبية
لا تنقري في الروح……..
يقولون كان حارس الغابة البعيدة يعلق قنديله على الأشجار، ويصلي في ليالي العتمة والريح….تعالي … تعالي….
ويقولون.. كان يبرّحُ به الشوقُ والوجدُ يضنيه
فيشعل في كوخه العود والندّ .. ويتماهى في حضرة الحبيب على ترتيل عبد الباسط وأناشيد الميلاد، وعلى وقع القياثر يروحُ يرقص رقصه الكيانيّ ، فيضرب الأرض بقدميه حتى تهتزّ من تحته الأرض فتتطاول وتتطاول ، ويرجّ بيديه السماء فتنخفض وتدنو حتى تعانق الأرض ، ثم يروح يصلي رقصا ، ويرقص دمعاً وشجواَ ، حتى ينزل المطر أياما ، فيأخذه الحال ، فلا يعرف الليل من النهار ، ويشفّ حتى يصبح مثل رقاق المزاهرٍ .. فيتهاوى سكران مثل ورق الخريف الساقط.
لا تنقري في الروح ياصيبة
عيناك نقار الخشب
تنقران في الجسد والخلايا
وأنا ملوّعٌ و مذعور
شجري مستفردٌ في العراء
وأفقي مسيحٌ بردان
نجومي متعتعةٌ بالغصصِ
وأنت تحسبينها عناقيد
سمائي حبالٌ بالية
وأيامي متخمةٌ بالرمال
وأنت تطلقين أسراب البجع
وأنت تستفزين الهواء
وترسلين البحيرات إلى ما وراء الأفق
لا تنقري في الروح ياصبية
فضاء ناياتٍ وشمسٌ مبتلةٌ
صدفةٌ بيضاءُ وقلبان شاردان
رحلةٌ مسروقةٌ من الزمان
إلى مدينةٍ نائيةٍ وغرفةٍ بعيدة
فما الذي ينتظر الكواكبَ الوحيدة
وفارسَ الزمان
وهو يؤوب من معسكرٍ غريبٍ
مستوحشاً مستطلعاً بردان ؟
– عمتما ظهيرة يا أيها المتوجان بالغيوم
* عمتَ صحة صديقنا…
– تُرى وجدتما صعوبةً حتى وصلتما؟
* كيف ترى وقد وجدنا الباب مردوداً لنا !
– عمتما ظهيرةً وعمتما……
و رندل الخبيئ في جنائن الخيال
ومابين رعشةٍ ولهفتين
ودهشةٍ وكلمتين
ثلاثةُ فناجين ويدان مرتبكتان
وقبلة مخطوفةٌ مستدرَكة
أشعلها الحنين في شفاه طفلةٍ صبيّة
هوت على فمي كنجمةٍ
ففزّ طائري المحبوس من عقاله
واشتعل المكانُ بالكواكب المغرّدة
وفي ليل لا يشبهه ليل ، ونهار ٍ لا يشبهه نهار يظل الحارس يرقص ويبكي مبرّحاً ، فينزل المطر سبعة أيام ديمةً ورخاءً وشآبيب، فيروح يصلي على جمار القلب .. ويكتب على اضواء الروح حتى لا يعود يحسّ بجسده ، ولا يعرف ليلاً من نهار ، فيتحول إلى فرس ٍ بيضاء تشبّ في الأفق .. وتصهل في الجهات .. فتسمعها القارة كلّها … فيضيئ الناس لها الشموعَ، ويبتهلون إلى الله بالدعاء، وينذرون النذور والأضحيات كرمى لها، فيبدأ المطر بالتوقف وئيداً وئيداَ .
وفي أيام الصحوّ ينزل الحارس إلى المدينة قاصداً حواريها الضيّقةَ فيتزود بالورد والموسيقى .. ويبتاع كتب القديسين والشعراء .. ثمّ يرجع آفلاً عند منتصف الليل محّملاً بالكنوز
أنت بزقزقات الأنثى
وأنا بالتطلع المحبوس
أنت بعينيك الآسرتين
وأنا بقلبيَ الخافق
لا تنقري في الروح ياصبية
صباحٌ راعشٌ وصورٌ على الجدار
ملائكٌ رماديةٌ وسفرجلٌ فوّاح
كتبٌ وموسيقى لشعراءَ وحالمين
مارسيل برسمه العالي
خوليو بشلال النداء
كونشيرتو الغيتار يغتلي
وايرين باباس تناغي
ألف عاشق بعصفه
تركوا أفراسهم ويمموا قلبي
قلبي ….
لا تنقري في الروح ياصبية
ونحن إذ نهيّئ الأحوالَ للسفر
الصديقُ يرتب حقيبته الفارغة
أنت تدفعين المركب السكران
وأنا أسدل ستائر السؤال
على قهوةٍ وقبلةٍ وهال
الطريق إلى دمشقَ طويلةٌ
والمطر عاصفٌ ورمّاح
الربا برقصها العاري
وأنا أطلقُ البروقَ والرعدَ
أعقدُ زفافَ الجبال على النجوم
وأكتب في ورق الغيب
تفاحَ الشعر والكمأ
السائق يصوّب المرآة
وأفعى الطريق تترامى بكنزها
وأنت بلهفة الحاني
والشاعر بالدم والحكاية
فيروز بحدائها:
«ياطير في برد وشتي»
«هونيك في شجرة ورا النبع العتيق»
وأنت تمسحين غبش الروح
وأنت تبلسمين الجراح
والصديق المركون إلى نفسه
يسرح في النوم والعتمة
– أشعلها …. أشعلها
– لا تتركيه أيتها الصبية
مطرٌ في الاشتعال
مطرٌ في نجمة المحال
مطٌر في انتعاش الحنايا
مطرٌ في اللمى والسؤال
مطرٌ في اندياح الأماني الفريدة
مطرٌ في انهمار القصيدة
مطرٌ أوحدٌ فتّان
يهيمُ بين لهفةٍ من فلفلٍ وطفلةٍ صبيّة
عطرها يجنُ صبوةً لعطرها
لوهجٍ مشتهى وشهوةٍ مُدام
لقدّها البستان في هبوبه
العامر بالأنهار منذ جنّةٍ وشام
لا تنقري في الروح ياصبيّة
ويحكون أنّه ما بين ساعةٍ وساعةٍ من الجنون والوجد والقراءة كان يعاوده الهيام فيفيض غناءً وأسى .. ويرقّ يرقّ حتى يعودَ المطرُ فيهطلُ سبعة أيام أخرى، تعقبها ليلةٌ يقالُ لها الزمهرير تضيئُ بلا شمسٍ و بلا قمر..
في تلك الليلة كانت تشرقُ صبيةُ الأعمار ..
فتضيئُ الأفقَ فوق ضيائهِ .. وتسري على رؤوس الشجر بدراً في اكتماله.. ثم تدخلُ عليه خلسةً بهيّةً جنيّةً شهية.. فتملأ كوخَهُ بالغمام وتأخذه من غشيتهِ تمسح له الجراح .. وتدهن له بالبلسم والآس .. وبعد أن يصحو قليلاً قليلاً ، تشعل خياله بالرؤى والصور..ثم تنهض به معانقةً .. فتدور معه دورةً ودورة ثم تتركه ، وتعود تأخذه كأوّلٍ في عناق الحبيب للحبيب فيتوهجان معاً ، ويرقصان حتى يصيرا مثل دارةِ الشمس،ثم يرقصان حتى يذوبا في جسدٍ وبهاء، فيأخذهما العشقُ بأفلاكه ومنازله فيحلقان في سماء.. ويسبحانِ في أكوانٍ لا تشبه الأكوان
وما هي إلا صبوةٌ وصبوةٌ يهجعان بعدها على عرشِ المُلك.. فيعصفُ عليها باللؤلؤ والمرجان .. وتحمل منه بالشموس الحسان.
مطرٌ في يباس الحاسةِ والوجع
مطرٌ في النسغ والعروق
مطر مستمطرٌ في البال
ألف هجمةٍ لقصفه
و ألف ألف بُنّةٍ و نكهةٍ وهال
يعود بالزمان لأصله
ويصل الأسماء بالأشياء
مطرٌ كالخطف كالحياة كالجنون والشتاء
مطرٌ كالشمس والميلاد والقدر
مطرٌ كالهمس وهو يشتهى
يا إله …. ترفّق به
خلّهِ خلّهِ
في ألقِ الحروفِ والشعرِ والسؤال
ردّه لأوّلٍ وخلّهِ
في دهشةِ النوالِ يانعاً
وأنت .. أيتها الصبيةُ العنيدة
لا تنقري في الروح
لا تنقري فتبدأ القصيدة كأولٍ
ويبدأ الخيال
من مطر وغرفةٍ وقبلةٍ جديدة
في غابةٍ بعيدة
ومع أول دغشات الفجر ، تنهض منسلّةً إلى مدارها الذي جاءت منه ، تاركةً في كوخه العطرَ والسحرَ وبعضَ ثمارٍ تشبه تفاح الذهب .. تملأ المكان بفوحها .. وتحمل في طعمها تنهداتِ اللوعة والفتنة .. ومن يومها أطلق عليها اسم «السفرجاء» ومن يومها سكنت نكهتُها روحَهُ وقصائدهُ ، ومن يومها أصبح كل اسمٍ يُسمّى فهو اسمها ، وكل امرأةٍ يُكنِّي بها فهي هي.
الشاعر يرسل القصيدة
وأنت بسلةِ النجوم
فضاؤك فاتنٌ وإكليل
وأنا عاشقٌ مجنون
لا تنقري في الروح ياصبيّة
يقولون.. ومازال الحارسُ يعلّقُ قناديلهُ على أشجارِ الغابة ويصلي في العتمةِ والريح ، ومازال على رقصهِ وجنونهِ فرساً بيضاءَ تصهلُ فتسمعها القارةُ :
تعالي تعالي أيتها الصبية النبيّة
يا إمامة العصف والريحان
تعالي تعالي.
حسان عزت
شاعر من سورية