قَبْلَ أَنْ يَصِلُوا بِقَلِيلٍ جَلَسْنَا على رُكْبَةِ البَحْرِ نَغْسِلُ أَيَّامَنَا مِنْ دُخَانِ الحُرُوبِ القَدِيمَةِ…كُنَّا بَعِيدِينَ عَنْ غَدِنَا، فَهُرِعْنَا عُرَاةَ الجُنُوبِ حُفَاةَ القُلُوبِ إلى حُفَرِ المَاءِ نُخْفِي سَفِينَتَنَا الخَائِفَةْ
قِشْرَة الجَوْزِ هذي التي يَخْرُجُ الأَبْيَضُ المُتَوَسِّطُ مِنْ قَلْبِهَا وَهْوَ أَزْرَقُ. هذي التي تَتَرَقْرَقُ في حَلْقِ بَحْرٍ يَغَصُّ بِهَا ثُمَّ يَشْهَقُ، لاَ هِيَ تَطْفُو وَلاَ هِيَ تَغْرَقُ في لَحْظَةٍ وَاقِفَةْ
عِنْدَ نِصْفِ الطَّرِيقِ إلى غَدِنَا…
ثُمَّ لم نَدْرِ كيف شُوِينَا على رَغْوَةِ النَّارِ، مُخْتَرعِينَ أَسَاطِيرَ عَنْ شَعْرِ شَمْشُونَ، عَنْ جُزُرٍ قَادَهَا بَرْبَرُوسُ إلى حَتْفِهَا، عَنْ بَرَاءَةِ سِيبْيُونَ مِنْ ملْحِ قَرْطَاجَ، عَنْ أَنَّ كَالِيغُلاَ كَانَ سَمَّى حِصَانًا لَهُ قُنْصُلاً حِينَ جَاشَتْ بِهِ العَاطِفَةْ…
j h j
قَبْلَ أَنْ يَصِلُوا بِقَلِيلٍ جَلَسْنَا على رُكْبَةِ العَاصِفَةْ
نَتَنَفَّضُ مِثْلَ النَّوَارِسِ مِنْ طُحْلُبِ البَحْرِ…
لَكِنَّهُمْ قَوَّسُوا البَحْرَ وَالبَرَّ…حتّى الشُّعَاعُ الذي يَتَسَلَّلُ
مِنْ جِهَةِ الشَّمْسِ في وَمْضَةٍ خَاطِفَةْ
حَادَ عَنْ يَدِنَا، وَتَقَوَّسَ في يَدِهِمْ مِنْجَلاً
لِحَصَادِ سَنَابِلِ أَحْلاَمِنَا النَّازِفَةْ…
j h j
عَضَّنَا البَحْرُ. لَمْ يَكْتَرِثْ لَحْمُنَا. ضَرَّجُونَا قَرَاصِنَةً وَطَوَاحِينَ. لَمْ ينْتَفِضْ فَحْمُنَا. قَبْلَ أَنْ يَبْطُلَ السِّحْرُ فَاضُوا قَبَاطِنَةً وَقَرَابِينَ. لَمْ يَنْتَبِهْ حُلْمُنَا. نَاحَ خَطْمُ السَّفِينَةِ. لاَحَ السَّلُوقِيُّ يَنْشُجُ في إثْرِهِمْ. أَمَرُونَا بِأَنْ نَحْطِبَ الليْلَ مُنْطَفِئِينَ. وَأَنْ نَشْتَعِلْ
كَيْ يَرَوْا جَيِّدًا أَيْنَ يَخْتَبِئُ الفَجْرُ فِينَا، وَأَيْنَ يَنَامُ الأَمَلْ…
طَقَّ عَظْمُ السَّفِينَةِ في السَّطْحِ. عَضَّتْ عَلَيْنَا الصَّوَاعِقُ فَاحْتَرَفُوا صَقْلَ أَنْيَابِهَا. لَمْ نَكُنْ ذَاهِبِينَ إلى الرِّبْحِ كَيْ تَتَعَشَّى الحَرَائِقُ. هَمَّ السَّلُوقِيُّ بِالنَّبْحِ حتّى إِذَا شَمَّ حُرْقَتنَا بَحَّ. مَالَتْ صَوَارِي السَّفِينَةِ مِنْ عَطَشِ الحُبِّ. لَكِنَّهُمْ حَارَبُونَا بِهَا. لَمْ نَزَلْ
نَتَرَاشَقُ بِالصَّبْرِ. لاَ الفَجْرُ صَحَّ وَلاَ المُدْلَهِمُّ اكْتَمَلْ…
طَقَّ عَظْمُ السَّفِينَةِ مِنْ جِهَةِ القَبْوِ، فَانْتَبَهُوا لِلسَّلُوقِيِّ. لَمْ يَعْوِ لَكِنَّهُمْ خَوَّفُونَا بِهِ. كَلْبُ عِزْرِيلَ قَالُوا، لِنَرْحَلَ بِالخَوْفِ مِنْهُمْ إِلَيْنَا وَمِنَّا إِلَيْهِمْ. وَمِنْ فَوْرِهِمْ حَرَّضُوهُ عَلَيْنَا…وَلَكِنَّهُ ظَلَّ يُقْعِي على ذَيْلِهِ ثَابِتًا كَالجَبَلْ
لَمْ يُبَصْبِصْ لَهُمْ مِثْلَ بَعْضِ ذَوِينَا، وَلَمْ يَمْتَثِلْ…
j h j
قَبْلَ أَنْ يَصِلُوا بِقَلِيلٍ ظَهَرْنَا على ظَهْرِهَا صُدْفَةً، وَكَبُرْنَا على ظَهْرِهَا صُدْفَةً، وَنَذَرْنَا على المَوْتِ أَنْ لاَ نَمُوتَ على ظَهْرِهَا صُدْفَةً…بَيْضَة الجصِّ
هذي التي تَتَفَتَّتُ مِنْ تَحْتِنَا…
ثُمَّ سُرْعَانَ مَا وَصَلُوا…فَنَذَرْنَا على عُمْرِنَا أَنْ نَخُوضَ حُرُوبَ المَوَاقِعِ مُلْتَحِفِينَ بِجَمْرِ الفَواجِعِ، نَحْفَظُ وَرْدَتَهَا وَنُحَصِّنُ قُمْرَتَهَا، وَنَسُدُّ الثُّقُوبَ التي يَزْرَعُونَ على وَجْهِهَا…
لَمْ يَكُنْ مِنْ سِلاَحٍ لَنَا غَيْرُنَا، فَامْتَشَقْنَا أَمَارَاتِ أَسْنَانِنَا في المِيَاهِ. وَلَكِنَّهُمْ نَهَبُوا المَاءَ والملْحَ، والدَّمَ والجُرْحَ، والصَّحْوَ والنَّوْمَ، والغَدَ والأَمْس واليَوْمَ، والغَضَبَ العَامَّ والغَضَبَ المَنْزِلِيَّ، وحتّى الغَبَاءَ الغَبِيَّ الذي كَانَ طَبَّلَ في عُرْسِهِمْ ورقَصْ…
نَهَبُوا مَا غَلاَ نَهَبُوا مَا رُخُصْ
نَهَبُوا مَا حَوَتْهُ الجُيُوبُ وَمَا خَبَّأَتْهُ القُلُوبُ
وَمَا دَنْدَنَتْهُ الأَغَانِي وَمَا وَشْوَشَتْهُ القصَصْ
نَهَبُوا كُلَّ مَا ظَلَّ أَخْضَرَ، حتّى الغُصَصْ
وَهْيَ تُولَدُ في الحلْقِ…لَمْ يَتْرُكُوا فُرْصَةً للفُرَصْ
كَيْ تُؤَاتِيَنَا، فَنَعِيشَ وَلَوْ مَرَّةً أو نَمُوتَ
بَعِيدِينَ عَنْ جَزْرَةٍ في قفَصْ…
j h j
هَلْ جَلَسْنَا؟
جَلَسْنَا نَعُدُّ خَسَارَاتِنا قُرْبَ صَحْنِ السَّلُوقِيِّ: بَحَّارَةٌ أَوْثَقُوا بِالسَّلاَسِلِ أَنْفُسَهُمْ لِلصَّوَارِي. على الجَانِبَيْنِ مَدَافِعُ فَوْهَاتُهَا نَحْوَ رُكَّابِهَا. كَلِمَاتٌ تَدُقُّ على بَعْضِهَا كَالعِصِيِّ. مَنَاظِيرُ عَمْيَاءُ. سَطْلٌ على رَمَدِ النَّارِ. بِضْعُ خَرَائِطَ غَدَّرَهَا الدَّمُ وَالمَاءُ. بَوْصَلَةٌ جَفَّ فيها الشَّمَالُ فَخَرَّتْ على السَّطْحِ تَلْحَسُ ظِلَّ البَلَلْ.
حِيَلٌ لِلبَقَاءِ تُحَاوِلُ أَنْ لاَ تَمُوتَ بِتَرْكِ الحِيَلْ…
j h j
هَلْ هَمَسْنَا؟
هَمَسْنَا بِأَسْمَائِنَا فَاخْتَنَقْنَا. هَمَسْنَا بِأَحْلاَمِنَا فَاحْتَرَقْنَا. الْتَمَسْنَا مَكَانًا لِمَأْسَاتِنَا في كِتَابِ الخَلِيقَةِ ثُمَّ انْشَقَقْنَا عَنِ الكُلِّ، جُغْرَافِيَا وَأَسَاطِيرَ. مَأْسَاتُهُمْ: أَنْ يَسِيبُوا وَأَنْ يَحْلُمُوا وَيخِيبُوا وَيَمْضُوا إلى قَدَرٍ في النِّهَايةِ لاَ يَستجيبُ…وَمَأْسَاتُنَا: أَنْ نَعِيشَ النِّهَايَةَ مُنْذُ البِدَايَةِ، مَوْتًا طَوِيلاً ثَقِيلاً، يُؤجَّلُ حتّى بُلُوغِ الأَجَلْ.
لاَ ضَمِيرَ لِيَشْهَدَ، لاَ شِكْسبِيرَ لِيَحْفَظَنَا في كِتَابِ الأَزَلْ…
j h j
هَلْ غَطَسْنَا؟
غَطَسْنَا؟ وَلَمْ يَظْهَرِ القَاعُ. عَضُّوا عَلَيْنَا قَرَاصِنَةً وَثَعَابِينَ. هَلْ شَبِعُوا؟ لاَ. وَلَكِنَّهُمْ حِينَ لَمْ يَتْرُكُوا في السَّفِينَةِ مَا يُشْتَرَى أَوْ يُبَاعُ اشْتَهَوْا لَحْمَنَا. كُلَّمَا أَكَلُوا مِنْهُ جَاعُوا، وَقَامُوا إلى عَظْمِنَا يَشْحَذُونَ السَّكَاكِين.َ مَاذَا تَبَقَّى لِنَخْسَرَ؟ أَنْ يَأْمُرُونَا احْمِلُوا نَعْشَكُمْ فَنَخِفَّ إلى نَعْشِنَا؟ لاَ حَجَلْ
يَحْرُسُ البَيْضَ في عُشِّنَا. لاَ نُهُودَ تُرَطِّبُ أَشْعَارَنَا لِلغَزَلْ…
j h j
هل يَبِسْنَا؟
يَبِسْنَا طَوِيلاً إلى أَنْ تَيَبَّسَ في رُوحِنَا شَجَرُ الصَّبْرِ، وَالرُّوحُ خَضْرَاءُ. لَكِنَّهُمْ أَطْرَدُونَا مِنَ الخُبْزِ وَالحِبْرِ، وَاحْتَضَرُونَا طَوِيلاً. فَمِتْنَا قَلِيلاً وَعِشْنَا قَلِيلاً، على وَهْمِ أنْ يَرْحَلُوا مِنْ على ظَهْرِنَا. وإذا لم يكن مستحيلاً، على وهم أن يرحلوا مِنْ على ظَهْرِهَا. لَمْ نَمِلْ عَنْ قَصِيدَتِنَا. لَمْ نَمِلْ
عَنْ سَفِينَتِنَا. وَدَعَوْنَا السَّلُوقِيَّ كَيْ نَتَقَاسَمَ خُبْزَ المَلَلْ…
j h j
هَلْ نَعَسْنَا؟
نَعَسْنَا وَلَمْ نُغْمِضِ العَيْنَ. لَكِنَّهُمْ أَغْمَضُونَا سِنِينَ. وحَثُّوا الخُطَى مُتَعَامِينَ، كَيْ يَصِلُوا وَقِحِينَ إلى حَيْثُ يُخْجِلُنا أَنْ نَصِلْ…
j h j
هَلْ يَئِسْنَا؟
يَئِسْنَا إلى آخِرِ اليَأْسِ. يَا كَمْ يَئِسْنَا إلى آخِر اليَأْسِ
لَمْ يَبْقَ في الأُفْقِ إِلاَّ الأَمَلْ…
j h j
عَضَّنَا البَحْرُ. لَمْ يَنْتَبِهْ نَجْمُنَا. كَانَ يَشْوِي على ظَهْرِنَا سَمَكًا، عِنْدَمَا أَصْبَحَ البَحْرُ كَمَّاشَةً بَيْنَ عُكّازِ مُوسَى ومِهْمَازِ خُوفُو وسَاقَيْ هِرَقْلٍ وَنَهْدَيْ أَثِينَا. فَمَزَّقَنَا الصَّبْرُ وَالصَّخْرُ حتّى نَسِينَا حِرَاسَةَ أَوْصَالِنَا. لَمْ نَكُنْ غَيْرَ بَحَّارَةٍ هَارِبِينَ بِأَحْلاَمِ أَطْفَالِنَا. لاَ زَلاَبِيَةٌ لاَ جِرَارُ عَسَلْ
في صَنَادِيقِنَا، لاَ بَطَلْ…
رُبَّمَا يَهْدَأُ البَحْرُ قُلْنَا. وَلَمْ يَهْدَأِ البَحْرُ. لَنْ يَهْدَأَ البَحْرُ إِلاَّ إِذَا ثَارَ فِيناَ. وَلمْ يَخْجَلُوا. لَمْ يَقُولُوا لَنَا كَيْفَ صَارُوا قَرَاصِنةَ البَحْرِ أو كَيْفَ صَارُوا بَرَابِرةَ البَرِّ. لَمْ يَرْحَلُوا. لَمْ تُغِثْنَا الجِهَاتْ
كَيْ نَعِيشَ. وَكِدْنَا نَمُوتُ وَلَكِنَّنَا
لَمْ نَجِدْ غَيْرَ ذَيْلِ السَّلُوقِيِّ حَبْلَ نَجَاةْ…
j h j
مَا الحياةُ إِذَا أََصْبِحَ المَوْتُ نَوْعًا مِنَ الحَلِّ؟
خُذْ يَا سَلُوقِيُّ عَظْمَتَنَا…خُذْ غَنِيمَتَنَا المُشْتَهَاةْ
خُذْ بِثَارَاتِنَا…آخِرُ الأُمْنِيَاتْ
أَنْ نَرَى كَلْبَ عِزْرِيلَ يُنْصِفُنَا مِنْ كِلاَبِ الحَيَاةْ…
(الشروق التونسية 27 يوليو 2010)
مقدمة في العلاقة بين الشعر والسرد:
تبدو علاقة الشعر بالسرد ملتبسة من جهة تاريخية العلاقة بينهما ومن زاوية صلتهما بقضية الأجناس وما دار حولها وفيها من تعديلات وقراءات مختلفة مست الإنشائية الأرسطية القديمة وتبينت معالم الاختلاف مع الحداثة الغربية فقد نشأت القطيعة بين الشعر والسرد في النصف الثاني من القرن 19 في سياق ماعرف بثورة اللغة الشعرية على أيدي كل من بودلير(1821-1867) وملارميه(1898-1942) ورامبو (1854-1891) وصار الكلام على النظام الأجناسي الغنائي/السردي /الملحمي يندرج في إطار النظرية الأدبية الرومنطيقية في ألمانيا خاصة.ويؤكد جيرار جينيت هذا المنحى معتبرا أن القول بأنّ أرسطو هو من حدّد النظام الثلاثي للأجناس هو قول واهم، مشيرا إلى أنّ الرومنطقيين هم من قالوا بذلك ليكسبوا هذا التقسم أصالة ومشروعية (انظر G.Genette Introduction à l’architexte, Ed du Seuil, 1979, P7,8 ,9,43 )
وهكذا فإنّ موقف فصل الشعر عن السرد حمل لواءه كلّ من الرومنطقيين والرمزيين والسرياليين القائلين بفكرة الشعر الصافي الذي لا يتحقق إلاّ بالتخلص من لغة الاستعمال العادي وكل ما يتعلق بها من وصف وتعليق وبهذا أيضا فإنّ ثنائية الشعر والسرد سيعمقها الإنشائيون وسيضع لبناتها الشكلانيون الروس ويعد رومان جاكبسون (1896-1982) الحلقة الأساسية في هذا النهج .
إنّ دور جاكبسون في ربط العلاقة بين اللسانيات والإنشائية بالتركيز على الوظيفة الإنشائية للغة مسألة في غاية الأهمية حيث ان الوظيفة الجمالية للغة في عرفه لا تقتصر على الشعر وإنما تشمل أنماطا أخرى من القول وقد اعتبر في هذا السياق أنّ المعيار اللساني الكفيل بالتعرّف إلى الوظيفة الإنشائية هو النظر في المحور الاختياري والمحور التأليفي. والاختيار يتم على قاعدة التكافؤ والمشابهة والمغايرة والترادف والتضاد والمبدأ الأساس الذي تقوم عليه رؤية جاكبسون هو التفريق بين اللغة والكلام عن طريق خرق الشاعر لنظم اللغة بهذا صار النثر خطابا عاديا وصار الشعر خطابا مختلفا وعلى هذا النهج، نهج التعارض بين الشعر والنثر سار «جون كوهين» الذي درس بنية اللغة الشعرية وقد ميّز كوهين بين الوظيفة الذهنية (التمثيلية) والوظيفة العاطفية (الانفعالية) وتنزع الوظيفة الأولى إلى المطابقة وهي خاصية النثر بينما تنزع الثانية إلى الإيحاء وهي خاصية الشعر
إنّ الشعرعند كوهين مختلف عن النثر بل نقيضه تماما.
بهذا تحتّم ضرورة مراجعة موقف الإنشائية من مسألية الشعر وقد اقتضى ذلك إعادة النظر في مفهوم الشعر وعلاقته بالنثر
ولعل هذا ما فتح الباب أمام تطوير النظرية الأجناسية والقول لاحقا بتداخل الأجناس وتداخلها في ضوء التجارب الإبداعية الجديدة التي كسرت مبدأ الفصل بين الأجناس فصار التفريق بين السرد والسردي والشعر والشعري والدراما والدرامي مسألة في غاية الأهمية من حيث تصنيف نوع الخطاب وتبيان ما ينزع إليه من تداخل أو تكامل دون أن يفقد الجنس الأصلي هويته وخصائصه الجوهرية .
بهذه الروح فهمت أنّ حضور السردي في الشعر مثلما هو حضور الشعري في السرد هو ضرب من ضروب إشباع الخطاب بما فيه من جهة كون اللغة هي القاسم المشترك بين صنوف القول وأنماط التعبير.وبما ليس فيه باعتبار أنّ الأسلوب وحده تحدّده الذات الكاتبة داخل منظومة كتابتها اي بلغة بارط فإن اللغة والأسلوب متصاهرين يشكلان الكتابة .إنّ الكتابة أو ما يصطلح عليه بالنص الجامع حسب جينيت هي المدار الذي عليه تدور قراءتنا لنص القراصنة لآدم فتحي من جهة التركيز على حضور السردي في الشعر التونسي كما ينص عليه عنوان الندوة.
وعلى هذا الأساس فإنّ أهم سؤال شدني في الورقة العلمية وسيكون مناط اشتغالي هو سؤال «كيفية استدعاء الخطاب الشعريُّ السرديَّ واسترفادُ جماليته المخصوصة وإنشائيته المميزة ومن ثمة السؤال عن طرائق اشتغال المكون السردي وهيئات حضوره في نسيج القول الشعريّ؟ ولعلّ هذا ما سيفضي بنا إلى تبيّن الوظائف التي يمكن أن ينهض بها السردُ في تشكيل الخطاب الشعري وصياغة جماليته؟»
إن السؤال عن الكيفية والطرائق يحيلنا على جمالية الخطاب وإنشائيته وآليات اشتغاله. أما سؤال الوظيفة فهومرتبط بمدار التلقي وعوامله الذاتية والموضوعية التي تتشكل معرفيا عبر أنظمة من العلامات قوامها في كل الحالات التأويل .
إن مبدأ تفكيك أي خطاب يقتضي تحديد نوعه وتعيين هويته الخطابية وفي ضوء ذلك يسترفد الباحث منهجه وعادة ما يستعين بأدوات إجرائية واصطلاحية هي من جنس النصوص التي يقرأ أنثرا كانت أم شعرا . فللسرد علمه ومصطلحات بها يختص كالتزمين والتمكين والتفضية والتبئير والشخصية والحدث وما تعلق بهذه المصطلحات من تصنيفات وتنويعات حفلت بها المدونة النقدية تنظيرا وإجراء. وللشعر علمه وإنشائيته وبلاغته التي بها يختص ووسائطه في التخييل والكتابة والانشاد والقراءة والانصات تحدث عنها النقاد القدامى وخصصوا لها المؤلفات ووضعوا للشعرية شرائط ونواميس هي الوزن والتقفية وبلاغة التصوير وأناقة التعبير. واختلف المحدثون في شأنها فمنهم الاتباعيون من جروا على سنن الأقدمين يهتدون بمقولاتهم الصافية وبها يصوغون إبداعهم ومن بينهم من ثار بتأثير من الحداثة وما بعدها على هذه الشروط والمقومات بتفاوت فاخترقوا منظومة الوزن لصالح نسقية الإيقاع وثاروا على شعرية الأغراض لصالح شعرية الأحوال التي تحقق مبدأ المزج بين الذاتي والموضوعي والمجسد والغائب. بل وصل بالبعض منهم إلى هتك أنظمة القول وخرق منظومة الأجناس فصار التسريد قوام الشعر وصار الإيقاع المنثور بديلا من الإيقاع الموزون والمقفى وصارت لغة التفاصيل واليومي من أمارات التحديث الشعري. بذلك كسر الشاعر الحديث الغنائية وأذابها ذوبا في السردية الملحمية تارة والدرامية المسرحية طورا واستند إلى القناع والأسطورة والرمز والمتخيّل .هكذا صار على الناقد قارئ النصوص ان يتسلح بمنهج متعدّد الوظائف تتجاور فيه المصطلحات وتتداخل، يسترفدها من كل علم مخصوص بحثا عن علم شامل بجامع النصّ .
لقد ولى عصر الانغلاق على النص وشروط ابداعه وحدود قراءته وتأويله بعد أن فاق الإبداع حدود الممكنات النقدية وجرها جرا إلى مجالات معرفية وفنون بصرية هي بدورها ما فتئت تتطور قوامها حركة التأسيس والنفي.
بهذا المنجز النظري الذي بُني صرحه لبنة لبنة ترسخت أصول النظرية النقدية الحديثة وصار لزاما على قارئ النص وناقده أن يستضيء بهذا الرصيد.
وعليه فسنحاول الإفادة من هذه المعارف المنهجية بالسعي إلى توظيف بعض أدواتها الإجرائية توظيفا مناسبا، آخذين بعين الاعتبار خصوصية النص الشعري مركزين على كيفية حضور السردي في الشعر في قصيدة القراصنة لآدم فتحي.متخذين من تحليل البنية الخطابية ونظامها العلامي مجالا للتأمل في المكونين التركيبي والدلالي معتبرين أن تنوع البنية حسب غريماس من بنية خطابية قوامها التجلي مرورا ببنية عاملية مجالها تحليل الحالات والتحولات إلى بنية مجردة موغلة في التخفي يتيح لنا مجالا تأويليا ينطلق من النص بوصفه خطابا لسانيا ليشمل محيطه التناصي وأبعاده الثقافية والانتروبولوجية والأنطولوجية.
في قراءة النص:
لما قرأت النص أوّل وهلة دوّخني شعرت أنني كائن مقرصن عليه .انتابني دوار شبيه بدوار بحار خليل حاوي وهو يقطع البحار وقد تاهت عنه منارات الطريق .أعترف كم حيرني هذا النص بحثت له عن بوصلة حتى لا تغيم الجهات عني فلم اظفر إلاّ بالسراب إذ كلما شدني المبنى خفت على المعنى أن يضيع وكلما أمسكت بخيط فكرة خشيت على البكرة أن يأخذها إيقاع الريح.
في عتبة العنوان :
«كلمة القرصنة في اللغة مشتقة من كلمة قرص وجاء في تاج العروس: القرص : القطع. وقال صاحب القاموس المحيط : القرصنة : نعت من القرص. وجاء في لسان العرب : وقطع به قطعاً إذا قطع به الطريق . وفي المعجم الوسيط : القرصان : لص البحر ، والقرصنة : السطو على سفن البحار. أما في الاصطلاح فالقرصنة : هي قطع الطريق على المسافرين من التجار في البحر والاستيلاء على أموالهم وبضائعهم . وورد تعريف القرصنة في «Encyclopaedia Britannic « على أنها سطو مسلح في البحار تقوم به مجموعة من اللصوص دون تفويض من أي سلطة وخارج الحدود المتفق عليها بين الدول. وجاء في الموسوعة الفرنسية «Encyclopaedia Universalis أن كلمة Sarrasins التي تعني قراصنة مشتقة من كلمة Sarracens الموسوعة اليونانية منذ العصر الروماني المتأخر للدلالة على بعض السكان العرب الذين كان لهم احتكاك بالإمبراطورية الرومانية . وفي العصور الوسـطى كانت هذه التسـمية واحدة من الأسماء العديدة التي كانت تطلق في الغرب اللاتيني على المسلمين . واحتفظت الكتابة التاريخية الحديثة بهذا الاصطلاح ليطلق على العرب المســلمين الذين ما أن وصلوا إلى أقصى مدى في الفتوحات الإســلامية في بـلاد الغرب المســيحي خلال القرنين السابع والثامن الميلاديين حتى أخذوا يقاتلون ضد المسيحيين في بلاد مختلفة من الحوض الغربي للبحر المتوسط دون أن ينشئوا مواقع دائمـة.»(1)
القراصنة عنوان عتبة هو بؤرة القصيدة ومحورها فيه ومنه تتوالد المدارات والحركات ذهابا وإيّابا وحضورا وغيابا :نصوص تتناسل من نصوص .شعر يرشح بالسرد .وسرد يرشح بالتاريخ. وتاريخ ملوّن بالأساطير. وأساطير يملؤها المخيال والخيال.نظام من العلامات يمزج الشاعر فيها بين الرمزي والأسطوري والذاتي والواقعي يسرد عليك بوسائط الشعر إيقاعا وتصويرا وتخييلا مشاهد وحادثات وألوان من القرصنة تخالها ضاربة في التاريخ من خلال اللعب على القناع الذي يجعل الذات الشاعرة تتخفى وراء موضوعها وبهذا القناع يتحرك الشاعر في جغرافيا البحار مترحّلا في أزمنة القهر وجبابرته ،منزاحا عن التأريخ ليكون في جوهر التاريخ الراهن تاريخه الشخصي أوّلا كذات تملك رؤية للعالم تتأمّل بوعي خارق الوجود بما هو موجود وتاريخ الوطن الذي ينتمي إليه تونسيا وعربيا وتاريخ الإنسانية المعذبة تحت نير المقاصل والزنازين وجبروت الأباطرة وصولا إلى عصر الامبريالية والاستعمار.
يسبيك النصّ بحكايته التي هي حكايتك وحكايتنا حكاية القرصنة ورمزيتها: القرصنة حين تعشش في تفاصيل الذات والوجود والتاريخ.وتصير نسيجا من أنسجة حياتنا تطاردنا في كياننا الحي وفي وجودنا النابض تهددنا بالموت فنلوذ إليه منه هاربين.لعبة لا يكشفها إلاّ نظام من الترميز يحول الموت إلى مرموز إليه وكلب عزريل بأبعاده الأسطورية إلى رمز حارس الموت سربروس.
إن اختلاط الرامز بالمرموز إليه بالرمز هي المرحلة العليا للانتقال من السرد إلى الشعر حيث ينتقل الشاعر بالرمز المتعين في الذاكرة الأسطورية إلى رمز متعين في إنشائية النص يطول التعبيرات الذاتية وكيفياتها في إنشاء خطاب شعري له خصائص استعارية تتجاوز حدود البلاغة القديمة ويصير الوصف بما هو خاصية سردية للحدث ضربا من التصوير والتخييل يرقى بالشعرية إلى خطابها الأسمى.
ينهض النصّ كما أسلفنا على الحواريات (dialogismes) بالمعنى الباختيني تتصل بالكيان الفني للنص مثلما تتصل بالإيديولوجي الذي لا يعني حمولة مسقطة وإنما هو من صميم التعبير عن موقف جمالي وإنساني من قضايا الإنسان المعاصر ومشكلاته الأنطولوجية وقد أقام الشاعر حوارية مركزية نسج خيوطها من علاقة الذات بالآخر بدءا من البنية الشعرية وصولا إلى الدلالة الثقافية والحضارية والسياسية.ومن خاصية هذه الحوارية التوتّر الذي خلق مبدأ الصراع الدرامي والتواتر الذي شكّل نظام هندسة القصيدة نحوا وتركيببا وإيقاعا. هكذا لعبة النصّ: كشف لعلاقة المغتصِب بالمغتصَب سجال لا يني وصراع لا ينقضي غالب ومغلوب والغلبة لمالك البحر بترسانة من حديد.لا ماضي يسعف المغلوب ولا حاضر منه يقتات ولا مستقبل مأمول، مادام يغط في جمود سحيق يعرش في أقدامه «الطين الموات»(2) فلا حلّ له سوى أن يحرسه كلب عزريل من موت محيق.
قصيدة سفينة كجوز الهند تقطر من دمي ربانها قرصان كلام يسبيك ويرديك قتيل عشق وانت في صحو الصحو أملأ ما تكون. ما دمت من قوم يغويهم الخبز والحشيش والقمر.قصيدة كالعمارة أحكم بانيها ترتيب مقاطعها وجعل خطاباتها تتمازج وتتحاور لها بداية ووسط ونهاية ولها صيغ من القول بعضها ينتمي إلى حكاية الأفعال عن طريق السرد وبعضها الآخر إلى حكاية الأحوال عن طريق الوصف ونوع ثالث منها ينتمي إلى حكاية الأقوال بواسطة الحوار والحوار الذاتي.
في معمار النص وتشكيله.
لا يعني رصد معمار النص-بنائيا وسيميائيا – إلاّ النظر في كيفية توليد التشكلات الخطابية بالتركيز على المسار التصويري والبرنامج السردي بمتابعة الحالات والتحولات . ومن هذه الجهة فالقراصنة نص فائر بالتقاطعات بين الشعري والسردي وبين الرمزي والأسطوري ينتظم داخل بنية حدثية تخضع إلى وظائف زمن ما قبل الوصول وزمن الوصول وزمن استشراف الحدث (حسب منظور بارط). وداخل هذا المسار تنبثق الوظائف السردية الكبرى والمقطوعات السردية الصغرى حسب نظام تقطيعي للقصيد قائم على حركتين: حركة أولى مرتبطة بحدث يسبق وصول القراصنة تتحدد معالمها في النص من قوله « قبل أن يصلوا بقليل جلسنا على ركبة البحر» وحركة ثانية تبدأ بقوله « ثم سرعان ما وصلوا» إلى آخر النصّ. وتنقسم الحركة الأولى بدورها إلى ثلاث مقطوعات نصية هي على التوالي.
1- من قوله قبل أن يصلوا بقليل إلى قوله جاشت به العاصفة
2- من قوله قبل أن يصلوا إلى قوله ولم يمتثل
3- من قوله قبل أن يصلوا إلى قوله «من تحتنا»
أمّا الحركة الثانية فتنقسم بدورها إلى سبع مقطوعات يمكن تبين معالمها الطباعية انطلاقا من الجملة الاستفهامية وعلامتها المميزة هل ( هل جلسنا – هل همسنا – هل غطسنا – هل يبسنا – هل نعسنا – هل يئسنا – هل نعسنا- ..)
ففي مدخل القصيدة: تلعب الجملة اللازمة «قبل أن يصلوا» وظيفة تزمين الحدث «حدث القرصنة» وتمكينه(mise en espace) عن طريق الظرفين الزمني والمكاني «قبل أن» «على ركبة البحر» وتشكل الجملة النواة بتكرارها في المقطوعة الأولى والثانية علامة دلالية على سيرورة الحدث في اتجاه التوتر أي من استراحة المحارب جلسنا على ركبة البحر نغسل أيامنا من دخان الحروب القديمة إلى جلسنا على ركبة العاصفة ايذانا بوصول القراصنة وعن طريق التركيب التلازمي الظرفي قبل أن يصلوا… جلسنا يتشكل حدث التقاطب داخل النظام العلامي للضمائر بين ضمير الغائب الجمع هم نسبة إلى القراصنة وضمير المتكلم الجمع نحن نسبة إلى المتكلم في صيغة الجمع المقرصن عليهم . ومن هذا التجاذب العكسي بين الفاعل والعاجز تتوالد سلسلة الأفعال الدالة على متواليات سردية تصف حالة الهلع التي انتابت النحن» هرعنا ..نخفي سفينتنا
وعلى هذا النسق المعماري تنتظم مقطوعات الوحدة الثانية ذات البنية الاستفهامية التي تفضي إلى بناء سلسلة من الجمل الخبرية تقوم على الأفعال السردية ( جلسنا / همسنا/ غطسنا/يبسنا / نعسنا/ يئسنا/ ).
وإذا كانت هذه الجمل الاستفهامية ذات الطابع الانشائي بلاغة تفضي إلى انتاج الوظيفة الانشائية شعريا فإن الشاعر كثيرا ما يلتجئ إلى تقنية المونولوج التي تكسر وحدها النفس الغنائي لينجلي الدرامي في المقطع الأخير على وجه الخصوص وقد اتشخ بنفس ماساوي بخثا عن خلاص في عالم لا خلاص فيه .
إن مجمل هذه المقطوعات الكبرى منها والصغرى محكومة بنظام جدلي ينهض على تناوب الخبري والإنشائي بلاغيا والسردي والوصفي حيث يتمحض السردي لمتواليات من الأفعال (جلسنا/ هرعنا/عضّنا البحر/عضّت علينا الصواعق…) ويتمحض الوصفي لنشوء شعرية المشهد وانبثاق عالم الصورة بأنواعها البسيطة والمركبة والجزئية والكلية والممسرحة في إطار تأثيث الأحداث تأثيثا ركحيّا . وداخل هذا النسيج المركب يتجلى المسار التاويلي عبر مراحله الثلاث(3) (أعني بها المؤوّلات الثلاثة المباشر أولا والدينامي ثانيا والنهائي ثالثا) ولا ينشأ التأويل هنا إلاّ من نظام الخطاب العلامي بدءا من نظام الضمائر وهيئات تصريفها (ضمير الغائب الجمع مقابل ضمير المتكلم الجمع) مرورا بما تختزنه العلامة من التحام بين مرجعية الأسطوري ومرجعية التاريخي بتوليد المعنى الرمزي في علاقة حميمة بالواقع .
فالقرصنة تحيل على التاريخي بما هي ظاهرة منتجة لمعاني السلب والاستلاب تحفل كتب التاريخ والرحالة بذكر نشاطهم وأصنافهم ومغامراتهم وقدراتهم على ترويع أعتى المماليك والأمصار وتهديد أمن البحار بما يقدمون عليه من حوادث السلب والنهب (4)
إيقاعيا يشكل النص إن شئت شبكة من التداعيات لها مدارات مرسومة جملها الموسيقية تمتد وترتدّ على إيقاع موحد التفعيلة هو الخبب المتدارك ومن هذا الإيقاع المتواتر خلق للنص هندسة مقطعية وللجملة الشعرية بناء وصورة على صفحة من بياض تطول وتغزو فضاء البصر:حركتان أساسيتان تشدّان أطراف القصيدة حركة ذات مقاطع كبرى ثلاثة يسلمك الواحد منها إلى الآخر عن طريق لازمة يتلازم الظرف فيها بالجواب صيغت في أسلوب خبريّ «قبل أن يصلوا بقليل». وما هذه اللازمة إلاّ مفتاح من مفاتيح تسريد الشعر حيث يتداعى الحدث بين حكاية الغائب الجمع [هم] كناية على الآخر المغتصب ومجال حضوره نحويا جملة الظرف المتلازمة وحكاية المتكلم الجمع في صيغة النحن تعبيرا عن هوية مفقودة وذات مقرصنة.
ومن عجيب هذا النص أنك وأنت تبحث عن مفاصله الكبرى لتحدّد وقفاته البنائية والمعنوية والايقاعية لا تستطيع أن تفصل بين هذه المستويات .فالبنية بما هي نسيج علائقي ونظام علامي لا تنشأ تتشكل وتتكون وتتولد وتنخلق من نطف الايقاع ومن نظام التراكيب وبنية الجمل ودلالات الرموز ومضان التاريخ.
وعلى هذا الأساس فإن أنت قرأت النصّ من جهة كونه شعرا استقام لك الأمر ووجدت فيه من مقومات الخطاب الشعري ما يرتضيه النقد للشعر, وإن أنت قرأته من جهة كونه خطابا شعريا مسردا وجدت فيه ما به يستقيم على هذه الهيئة .
إن هذا التداخل بين بنية شعرية متولدة عن السرد وبنية سردية مشحونة بالشعر هو أساس هذه الدراسة ومقصد جوهري من مقاصدها . فقصيدة القراصنة تشتغل داخل ثلاثة مسارات :مسار سردي حدثي ومسار شعري توليدي من جهة المتلفظ في النص ومسار تأويلي من جهة المؤول . ولذلك حري بنا أن ندرس مظاهر تعالق الشعر بالسرد، بالوقوف على ما يحدثه السرد في الشعر و ما به يتلاءم السرد مع الشعر:
2- في تعالق السردي بالشعري
القراصنة : كيفما قلبت هذا النص وقرأته من القصيدة إلى القصة أو من القصة إلى القصيدة تلقاه خطابا مواربا يفصح بقدر ما يرمز ويرمز بقدر ما يفصح. ينوس بك بين تاريخ وذات ووجود ، ظاهره تاريخ يعج بالعنف وسلب حرية الأفراد والجماعات وباطنه ذات في صيغة الجمع منهوبة حريتها ،تختصم مع ذاتها وتاريخها تتسافى وتندغم : صوتان فيها يتكلمان : صوت الباطن الواعي لعله صوت الشاعر المتخفي وراء حجاب السرد ينظم خطابه شعرا حرا موقعا موزونا يعدل بالكلام مجازا ويرسم بالبيان والكناية والألحان صوره (قشرة الجوز هذي التي يخرج الأبيض المتوسط من قلبها وهو أزرق ) (شوينا على رغوة النار ) (جلسنا على ركبة البحر ) وصوت السارد يقص علينا قصة الغزو غزو البحر والكيان بعين الكاميرا ترصد الوقائع عن طريق ازمنة السرد ماضيا(جلسنا ، هرعنا، شوينا..)وعن طريق فعل المضارعة ( تترقرق، تشهق، تطفو، تنتفض..) خطاب محكم البناء مقدودة تصاريفه وتراكيبه وأنغامه ،منسجمة مبانيه ومغانيه . وداخل هذا التناسق البنائي والدلالي سجال لا يني بين الغالب والمغلوب والغائب بالحضور (النحن) والحاضر بالغياب (هم) وبين الطرفين صراع وقتال له بداية ووسط ونهاية يتجلى هادئا أو كالهادئ كما يلوح على سطح الخطاب توترا مضمرا لا يلوح(قبل أن يصلوا جلسنا على ركبة البحر..) فإذا بالتوتر يشتد ويحتد ثم ينفجر وينكشف الاختلال بين النحن المتكلمة يعلوها الهوان ولا ردّ يفعل فيها البحر وهي منه إليه و ويفعل فيها السحر ما دامت تؤمن به ( عضنا البحر..طق عظم السفينة في السطح…) والهم تبيد وتمحق وتقرصن ولا مقاومة لها إلاّ ما استلته الذات من بقايا إرادة صارت مع مرّ الزمان مسلوبة فقبل وصول القراصنة بقليل تستبطن الذات بصوتيها الشعري والسردي وعيها الحقيقي كونها ولدت وكبرت على ظهر السفين صدفة وكونها اختارت بملء كيانها أن لا تموت صدفة «قَبْلَ أَنْ يَصِلُوا بِقَلِيلٍ ظَهَرْنَا على ظَهْرِهَا صُدْفَةً، وَكَبُرْنَا على ظَهْرِهَا صُدْفَةً، وَنَذَرْنَا على المَوْتِ أَنْ لاَ نَمُوتَ على ظَهْرِهَا صُدْفَةً…بَيْضَة الجِصِّ».
لا شيء كالبحر له نكهة الموت ، فيه تموت معلقا بين الدهر يميت الموت وبين الذات تقهر العجز وتقاوم أنياب الموج حتى يكون للموت مذاق البحر .
لا شيء أسمى من أن تخوض وأنت في عجز العجز معركتك الأخيرة قدام الموت بأنفاسك الأخيرة ملتحفا بجمر المواجع تذود عن بيضة الجصّ بالناجذ والأسنان واللسان . لا شيء يرديك في متاهة الهوان ويسبي كيانك غير أداة الاستدراك « لكنهم» يلوّح بها شاعر في مجرى الارادة فيستحيل الصمود عجزا ويغدو النهب فعلا مكرورا:
«وَلَكِنَّهُمْ نَهَبُوا المَاءَ والملْحَ، والدَّمَ والجُرْحَ، والصَّحْوَ والنَّوْمَ، والغَدَ والأَمْس واليَوْمَ، والغَضَبَ العَامَّ والغَضَبَ المَنْزِلِيَّ، وحتّى الغَبَاءَ الغَبِيَّ الذي كَانَ طَبَّلَ في عُرْسِهِمْ ورقَصْ…
نَهَبُوا مَا غَلاَ نَهَبُوا مَا رُخُصْ
نَهَبُوا مَا حَوَتْهُ الجُيُوبُ وَمَا خَبَّأَتْهُ القُلُوبُ
وَمَا دَنْدَنَتْهُ الأَغَانِي وَمَا وَشْوَشَتْهُ القصَصْ
نَهَبُوا كُلَّ مَا ظَلَّ أَخْضَرَ، حتّى الغُصَصْ
وَهْيَ تُولَدُ في الحلْقِ…لَمْ يَتْرُكُوا فُرْصَةً للفُرَصْ
كَيْ تُؤَاتِيَنَا، فَنَعِيشَ وَلَوْ مَرَّةً أو نَمُوتَ
بَعِيدِينَ عَنْ جَزْرَةٍ في قفَصْ… »
لقد طال النهب كل شيء العناصر والأشياء والانفعالات والحالات والأفراح والكآبات والفواجع والمواجع لم يتركوا للشاعر وهو في عز تسريده إلاّ جناسات الملح والجرح والنوم واليوم والجيوب والقلوب ولم يتركوا له وهو في أوج المجاز إلاّ الدمار والخراب والنهب والسلب لم يتركوا له إلا ترانيم الحرب وصلصلة الحروف تقرع الحروف قوافي وأصوات لها وقع أمواس الحلاقة بها الحلق يغصّ (رقص/ رخص/ قصص/ غصص/ فرص/قفص..).
هكذا بنت اللازمات من الجمل توازيا في الخطاب مسردا وموقّعا :مسردا، إذا ما اتبعنا نواميس القصة ومعاييرها كما حدّها Adam (5) وقوامها تسلسل الأحداث وحضور الشخصية وتحقق مبدأ التحول بالإنفصال أو بالاتصال وتنظيم الأحداث عن طريق الحبكة واعتماد مبدأ تركيب الحكاية وفق منطق عليّ سردي بتوفر وضع أولي ووضع نهائي وبينهما يتوخى السارد تأزيم الأحداث ثم تقويمها وحلها.
والواقع وبعيدا عن أي إسقاط نظري فقصيدة القراصنة وهي تحافظ على خصوصيتها الأجناسية بكونها شعرا لا صافيا بالمعنى الذي نظر له البعض تأكيدا للفصل بين الشعر والسرد ولا مهجنا بالمعنى الذي يفقد فيه الجنس الأصلي ملامحه ،تنشئ لخطابها خصائص جمالية جديدة تمتح من مقومات الخطاب السردي بوصفها حكاية يستدعي الشاعر فيها حادثات التاريخ ، (القرصنة) ويضمنها ترميزا الأخبار والأساطير جاعلا الأحداث تتتابع في شكل ملحمي متخذا من الصراع مبدأ بين معسكرين أوقوتين قوة ناهبة وقوة منهوبة في معركة لاتكافؤ فيها جاعلا صورة تحويل المسانيد قائمة على تحول بالانفصال أي من حالة اتصال (جلسنا على ركبة البحر) إلى حالة انفصال متدرج نحو التأزم يئسنا إلى آخر اليأس ثم ينجلي سؤال الوعي في الطور الأخير أفقا لحل ممكن حلّ متعلق بأسئلة الذات قدام الموت «ما الحياة إذا أصبح الموت نوعا من الحلّ؟» وحلّ تستبطنه الذات الجماعية وهي تواجه فعل التاريخ «لن يهدأ البحر إلاّ إذا ثار فينا» هكذا تستند القصيدة إلى منطق سردي متنام وتصير المادة التراثية برموزها وأساطيرها ومتخيلها بدءا بلحظة الملهاة الساخرة حيث «صرنا ونحن نشوى على رغوة النار نخترع الأساطير عن شعر شمشون وعن بربوس يقود الجزر إلى حتفها نتلهى عبثا ببراءة سيبيون من ملح قرطاج وتندر بحكاية كاليغولا وهو يسمي حصانه عضوا في البرلمان». هذا الوعي الزائف بالتاريخ وبإرادة الأفراد والشعوب هو المدخل الحقيقي للهزائم، هزائم تسكن وعينا المريض عبّر عنها نزار قباني أحسن تعبير في قصيدته خبز وحشيش وقمر .وعبر عنها آدم فتحي باتكائه على المرجعية الأسطورية والتاريخية والدينية (عَضَّنَا البَحْرُ. لَمْ يَنْتَبِهْ نَجْمُنَا. كَانَ يَشْوِي على ظَهْرِنَا سَمَكًا، عِنْدَمَا أَصْبَحَ البَحْرُ كَمَّاشَةً بَيْنَ عُكّازِ مُوسَى ومِهْمَازِ خُوفُو وسَاقَيْ هِرَقْلٍ وَنَهْدَيْ أَثِينَا. فَمَزَّقَنَا الصَّبْرُ وَالصَّخْرُ حتّى نَسِينَا حِرَاسَةَ أَوْصَالِنَا.جاعلا منها مصدرا مولدا للوظيفة الانشائية مفجرا لطاقاتها الترميزية بواسطة العدول وتحويل المجاز المرسل إلى حدث استعاري ينقل الشعر من مجاله الرؤيوي (الموقف الايديولوجي) إلى مجال رؤياوي تضيق فيه العبارة وتتسع الإشارة.
هكذا تستبان علاقة السرد بالصورة وعلاقة السرد بالايقاع عن طريق التشكيلات العروضية في حال شعر التفعيلة وعن طريق التناسب بين السلسلة الوزنية والسلسلة النحوية حيث تنشأ الوقفات منفلتة من أسر التقفية بالمفهوم الكلاسيكي: مهما كان نوع هذه الوقفات تامة أو وزنية أو دلالية أو صامتة بيضاء.
هكذا تتموج الجمل تسريدا ولحنا ونحوا علوا ونزولا، كالخبب لا على رمال وإنما على بحار ولا على هودج تخبّ به الرمال في صحراء الصحراء وإنما على سفين البحر تخب به الأمواج نحو حتف محتوم نازلا معناها من نحلة الجرح إلى تفاصيل البحار نازلا مبناها من خطاب سرد إلى خطاب شعر يمتزجان في هيئة ينفسح فيها الشعر للسرد دون أن يتعطل مجراه ويغور السرد في الشعر حتى لا تراه يكسر الغنائية لصالح الملحمية طورا ولصالح الدرامية حين يحتد الصراع وتتعدد الأصوات خفيها وظاهرها وقد يرتد نشيدا كالغناء دون غنائية فائضة.
فكأن الشاعر بهذه المقادير صنع قدر القصيدة لا هائجة هوج الخطباء تحرض جهرا ولامسالمة ترفل في دمقس المعاني ووثير الكلمات ولا مسلّمة بقدر الهزائم ولا منفعلة بسحر الكلام وإنما هي فاعلة تكشف عورة التاريخ بالتاريخ وتميط اللثام عن هزائم الذات والأمة وترمي بنا في السؤال المتاه نختسي موتنا ونبحث عن توكيد ذواتنا فيه.
هكذا يلتئم السرد بالاستعارة والرمز وتتحول أبنية اللغة ومعمارها التركيبي إلى ضرب من ضروب الايقاع تارة عن طريق الترابط بالمشابهة فيكون الشعر وطورا عن طريق الترابط بالجوار فيكون السرد وأخرى بواسطة الترابط بالحوار فتكون الدراما.
فللسرد في القصيدة تحولاته حين ينصهر في الشعر دون أن يتخلى السارد فيه عن وظائفة متنقلا من حكاية الأفعال إلى حكاية الأحوال ، مضطلعا بوظائف التنسيق والتواصل والتعليق . وللشعر سيماؤه حين يصير حدثا له مسار بداية ووسط وأفق وعبر هذا الالتحام يكون الخرق لقانون التسلسل الحدثي والاعراض عن التفاصيل بالاختزال والتكثيف والصمت والبياض ونشدان الايقاع المفضي إلى المعنى لأن الشعر ببساطة لا يحاكي الواقع الموضوعي ولا يستنسخه وإنما يعيد انتاجه بالخلق والتخييل لآنه فن الممكن على الدوام.
3- في التدليل:
أليست القرصنة هنا هي المعنى الرمزي للموت بكل معانيه السياسية والحضارية والثقافية والأنطولوجية والإنسانية حين يصير الموت قناعا متعدّد الوجوه عزرائيل أومستعمرا باغيا أو جلادا منذورا لتعذيب الآخرين وتكميم أفواههم أو حارسا مأجورا أو شرطيا مأمورا يتبع خطاك يحصي أنفاسك ويرقب كلماتك ويحصد حريتك المشتهاة.فلا فرق بين اغتصاب أرض هوّدوها وأمركوها فلسطين والعراق واغتصاب ذات مسخوها وجعلوا أعزة أهلها أذلّة.
هكذا تعلو بك القصيدة من قصة الذات تبوح بخسائرها وترقب املها في ياسها وتبحث عن حياتها في موتها وقصة التاريخ وفجائعه تاريخ محاصر بالقمع مسيج بالموت تأكل العظام فيه و تنهش
“وَلَكِنَّهُمْ حِينَ لَمْ يَتْرُكُوا في السَّفِينَةِ مَا يُشْتَرَى أَوْ يُبَاعُ اشْتَهَوْا لَحْمَنَا. كُلَّمَا أَكَلُوا مِنْهُ جَاعُوا، وَقَامُوا إلى عَظْمِنَا يَشْحَذُونَ السَّكَاكِين.َ”
لكأنّ الموت موتان وما السلوقي إلاّ قناع له :موت يرصدك ويتبع خطاك ينوشك بسهمه الدامي متى شاء ،لا ما شئت وموت مغشوش به يهددك القراصنة لتحتمي بهم من ظلك ومن موتك المحتجب مشبعا بيأسك وذلّك وهوانك. أليست قمة الجدل أو العجب في أن يحمل الرمز حديه مثل السيف أو السلوقي يحرسك ويميت الموت وبه تموت كائنا مغامرا شريفا إذا ماتحوّل هذا الكائن الوديع إلى ذئب مفترس أو كلب عزريل.
لعلّ الشاعر عن طريق خطابه الموازي يضيئ لنا مسالك القراءة بحثا عن المعاني الممكنة الثاوية التي يولدها النصّ فهو القائل : «وهذه القصيدة، كما لاحظتَ وكما هو شأن أغلب نصوصي، تعبير عن لحظة شخصيّة، أساسًا، لكنّها لحظة عربيّة كونيّة أيضًا. وهو تقاطُعٌ لازمٌ بالنسبة إلى وعيي بالكتابة. فلا شيء يهمّني في كلّ ما أكتب إلاّ إذا كان شخصيًّا، بما في ذلك الشأن العامّ. وأجدني عاجزًا تمامًا عن الخوض فنيًّا في أيّ قضيّة مهما علا شأنها، وفي أيّ أمر مهما علا شأنه، إذا لم يصبح جزءًا من لحمي ودمي وهواجسي. لذلك تراني لا أشعر بأيّ تناقض بين الإخلاص إلى الشعر والالتزام. فهما وجهان لعملة واحدة، من هومير إلى رامبو، ومن بودلير إلى سان جون بيرس، ومن إيف بونفوا إلى درويش، كلّ على طريقته وكلّ في مناخه.
من ثمّ فإنّ لحظة القراصنة التي عبّرتُ عنها تعنيني شخصيًّا في ما هي تعبر زمانها ومكانها في الاتّجاهين، في اتّجاه الماضي وفي اتّجاه المستقبل، لتتناول لحظة القرصنة بوصفها من لوازم الشرط الإنسانيّ، كالموت. دون أن تصبح لحظة هلاميّة. أي أنّ صلتها الشخصيّة بي ككاتب للنصّ، تجعلها بالضرورة منطلقة من زمان ومكان معيّنين، كي تتحرّر منّي ومنهما (إذا كانت موفّقة فنيًّا) دون أن تتنكّر لنسبها، أي دون أن يخفى على القارئ الفطن، أنّ اللبنة الأولى في معمار النصّ، تونسيّةُ الطين والوحل والذهب (إن كان) (6).
4- في الترميز: للرموز في القصيدة دلالات وأبعاد تأخذ من دلالة الرمز الأسطوري وسياقاته بطرف وما تنتجه الذات الشاعرة من رموز تتصل بالذات وأوجاعها وموقفها من الحياة بطرف ثان, ولعلّ هذا يصح على رمزي الكلب والسلوقي(7). فقد أضاف للكلب عزريل ملك الموت وشحن هذا المركب الإضافي بدلالة أسطورية تعيدنا إلى رمز سربروس في الأسطورة اليونانية القديمة كناية عن الكلب الذي يحرس مملكة الموت ويقف على بابها وعلى عزريل(8) ملك الموت وقابض الأرواح كما تصفه النصوص الدينية بهذا صار كلب عزريل يشير إلى الموت العام الذي يغتصب الحياة والكائنات والعناصر. بينما جاء رمز السلوقي(9) ليشير إلى الوجه الثاني للكلب أو للموت مخفّفا من هذه الحمولة الماحقة والمفاجئة والعامة مرتبطا بالشاعر صاحبه يتبع خطاه ولا يراه. إن في جعل السلوقي يحمل هذه الدلالة المزدوجة دلالة الأمان والوفاء لتابعه ودلالة المباغتة الكلبية لصاحبه بوصفه رمز الموت المحقق يضفي على القصيدة معنى أنطولوجيا يتجاوز المفردة السياسية أو الحضارية إلى المعطى الذاتي حيث يتحول الموت بصيغته العامة (كلب عزيرل) أو بصيغته الخاصة (السلوقي) إلى لحظة استشعار قصوى لمغامرة الموت والوجود والكيان والعدم واليأس والأمل. مادام السلوقي ينقذنا من موت واهم ليفتح أعيننا على موت حقيقي يطارد الذات آلاء نهارها وليلها . بل يطاردها في الحلم حين تغدو الحياة مجرد حلم واهم يسيجه قراصنة الموت في البحر والبر والجوّ. فكم هم كلاب عزريل من جبابرة قساة ظنوا أن لهم الأبد فقتلوا وشرّدوا وابادوا الزرع والضرع وأحرقوا المدن وحوّلوا الأرض ملحا وسباخا وأسقطوا الدير على رؤوس عبادها. شمشون وكاليغولا ونيرون وفرعون : «ثُمَّ لم نَدْرِ كيف شُوِينَا على رَغْوَةِ النَّارِ، مُخْتَرَعِينَ أَسَاطِيرَ عَنْ شَعْرِ شَمْشُونَ، عَنْ جُزُرٍ قَادَهَا بَرْبَرُوسُ إلى حَتْفِهَا، عَنْ بَرَاءَةِ سِيبْيُونَ مِنْ ملْحِ قَرْطَاجَ، عَنْ أَنَّ كَالِيغُلاَ كَانَ سَمَّى حِصَانًا لَهُ قُنْصُلاً حِينَ جَاشَتْ بِهِ العَاطِفَةْ…»
فلهذه الأسماء التاريخية الرامزة إلى ميثيولوجيا القمع أزمنة موصولة بالبطش والعسف المقيت . هم أبطال جبابرة قساة كتبوا التاريخ بأحرف تراجيدية دموية.
إن تفكيك رموزية القصيدة بالوقوف على مفتاحها التأويلي القرصنة وما تشيعه من دلالات الموت الجاثم بالقوة يجعل المؤوّل يدرك الأبعاد الأنطولوجية للموت بوصفه علامة مفارقة تحمل في دلالاتها الموت القهري في وجه أوّل والموت القدري في وجه ثان: الموت القهري الذي يقرّره القراصنة وينفذونه كما يعنّ لهم وفي هذه الحالة يكون الكائن بمثابة العبد تسلب حريته . فالقرصنة بهذا المعنى هي فعل استلاب الحرية في عالم مسيّج بإرادة القوة.أما الموت القدري وإن كان محتوما يغتصب الحياة فهو لا يسلبك كينونتك ولا حريتك بوصفه ظاهرة بيولوجية تمس كل الكائنات في إطار جدلية الوجود والعدم:
ألم يقل المعري الموت آت والنفوس نفائس كناية عن حتمية الموت وألم يقل طرفة «وإن كنت لا تستطيع دفع منيتي .. فدعني أبادرها بما ملكت يدي» كناية عن إرادة الانسان حين يقرر موته في حياته فيكتسب حريته بهذا القرار . لقد عبر الشاعر بمنتهى الايحاء عن هذه اللعبة التراجيدية بنفس ملحمي لايخلو من درامية الكائن وهو يواجه موته القهري ورمزيته كلب عزرائيل وهو ينتظر موته القدري الذي سيظل يحدق به ويتبعه كظله السلوقي.
واللافت للانتباه أن هذا النظام الرمزي هو حصيلة اشتغال على الأسطورة والتاريخ والواقع وهو محصلة هذا الحوار المتوتر بين الذات وهي تتأمل شرط وجودها والعالم حيث ينصهر المعرفي بالوجودي والذاتي بالموضوعي وتتحول القصيدة إلى شرنقة يصنعها الشاعر ويزينها بخيوط بيانه يموت داخلها واعيا بموته المستعار وقد لبس لبوس الحقيقة المؤكدة، الحقيقة المنشودة التي نظلّ نبحث عنها في الكيان والكون ، في ذواتنا الحية وفي التاريخ . كأن التاريخ بقدر ما يغيم في عين الشاعر فتعلوه غمامة اليأس(10) يتضح بعين المثقف الواعي بجدلية التاريخ القادر على تبين العنف الثوري المقاوم والعنف السلبي الهدام الذي يسلب الشعوب أوطانها ويسلب الأفراد حريتهم في أن يغوصوا في أعماق البحار بحثا عن حرية مرتجاة .
بهذا يتولّد المعنى الأنطلوجي لرمزية القرصنة في علاقة حمية بالذاتي والموضوعي معا ومن خلال التئام التاريخي بالفردي والرمزي بالواقعي داخل عالم مشفّر يعبر الشاعر من خلاله عن قناعاته وتأملاته في الذات والوجود وما وراء الوجود أعني الموت كمفردة وجودية تحيلنا على المأساوي وتجعلنا على مشارف الوعي بحدود هذا الوجود. يقول الشاعر آدم فتحي « وهذه القصيدة، كما لاحظتَ وكما هو شأن أغلب نصوصي، تعبير عن لحظة شخصيّة، أساسًا، لكنّها لحظة عربيّة كونيّة أيضًا. وهو تقاطُعٌ لازمٌ بالنسبة إلى وعيي بالكتابة. فلا شيء يهمّني في كلّ ما أكتب إلاّ إذا كان شخصيًّا، بما في ذلك الشأن العامّ. وأجدني عاجزًا تمامًا عن الخوض فنيًّا في أيّ قضيّة مهما علا شأنها، وفي أيّ أمر مهما علا شأنه، إذا لم يصبح جزءًا من لحمي ودمي وهواجسي. لذلك تراني لا أشعر بأيّ تناقض بين الإخلاص إلى الشعر والالتزام. فهما وجهان لعملة واحدة، من هومير إلى رامبو، ومن بودلير إلى سان جون بيرس، ومن إيف بونفوا إلى درويش، كلّ على طريقته وكلّ في مناخه.
من ثمّ فإنّ لحظة القراصنة التي عبّرتُ عنها تعنيني شخصيًّا في ما هي تعبر زمانها ومكانها في الاتّجاهين، في اتّجاه الماضي وفي اتّجاه المستقبل، لتتناول لحظة القرصنة بوصفها من لوازم الشرط الإنسانيّ، كالموت. دون أن تصبح لحظة هلاميّة. أي أنّ صلتها الشخصيّة بي ككاتب للنصّ، تجعلها بالضرورة منطلقة من زمان ومكان معيّنين، كي تتحرّر منّي ومنهما (إذا كانت موفّقة فنيًّا) دون أن تتنكّر لنسبها، أي دون أن يخفى على القارئ الفطن، أنّ اللبنة الأولى في معمار النصّ، تونسيّةُ الطين والوحل والذهب (إن كان).»(11)
على سبيل الخاتمة:
لم يكن الحديث عن حضور السردي في شعر آدم فتحي من خلال النصّ الشعري المختار إلا من باب التمثيل (Représentation) . ولعلّ تمثيل الجزء في حالة هذا الشاعر لا تفصح إلاّ قليلا عن التجربة الكلية للمبدع المثقّف بأوساعها وأمدائها. ولكنها في عرف كل مشروع بحثي تطرح علينا أسئلة قد تكون أهمّ من الأجوبة إذا أخذنا برأي ياسبرز . وهذا لا يمكن أن يتمّ في عرف الدراسات التحليلية ذات التوجّه السميائي التأويلي إلا بالوقوف على مدونة الكاتب الابداعية ، نثرها وشعرها . فهنا يمكن أن نلتقط الخيط السري الناظم بين خطاب الشعر وخطاب النثر وما دليلنا في ذلك إلا ما اطّلعنا عليه من مظاهر هذا التداخل مجسدا في كتاب الشاعر الموسوم ب «نافخ الزجاج الأعمى ، أيامه وأعماله»(12) حيث تكون للذاكرة وهج سيرة الأعمى الذي يرى ما لا نرى ويستبطن في تداعياته ما يخُتزن في ذاكرة الطفل وفي يوميات الفرد والجماعة خطابا مسردا عليه نفحات شعر تسمو بالرؤيا إلى بلاغة تشكيل شعرية الأقاصي. وفي هذا الكتاب أيضا نجد آثار السلوقي يتقفى خطو الشاعر بحثا عن موت مؤجّل: عود إلى الغائب من النصوص تتصادى وتتناسل من يعضها البعض في هيئة من التناص. ولا غرو إن قلنا هو ضرب من التصعيد لمعنى ما تسبغه الكينونة على الكائن وهي تواجه تناسل المعنى من داخل منظومة الوجود, وهي تبحث في عالم العمى عن نوافذ تفضي إلى ميتافيزيقا العمى حيث يغدو الموت تجربة تخوم إذا أخذنا برأي « جورج باتاي»، تجربة تجعلك تفيق على أسئلة الوجود والعدم: يقول الشاعر « _ لم أر شيئا إلا السلوقي يضرب بخطمه كعبي منذ أكثر من موت ، وظلالا تعوي من نوافذ عمياء. (13) ويقول أيضا « الأشياء الملقاة على قارعة الرائحة ، في انتظار سلوقي يدسّ فيها خطمه، هل تؤنس أحدا في قبره؟.» (14) .
هل بعد هذا القليل من الكثير نبيح لأنفسنا القول : إن تجربة آدم فتحي الإبداعية بمخزونها النضالي والإنساني وحمولتها الفكرية والمعرفية والأدبية والجمالية تتجاوز حدود ما يبدو لنا- نقادا- من جاهز المقولات والتصنيفات؟ أظنّ أنّ الكتابة وحدها بما هي خلق وكشف للعالم والإنسان عن طريق اللغة وإيقاع الحياة تظلّ فوق التصنيف والتنظير والحقيقة . إنّ الكتابة حقيقة تبحث عن حقيقة وواقع دونه الواقع ولسان له ألسنة تماما كما تحدّثنا الأسطورة .
(Endnotes)
1 – سيف شاهين المريخي: القرصنة في الخليج العربي والبحر الأحمر والمحيط الهندي في العصور الإسلامية الأولي، مجلة كلية الآداب، جامعة الاسكندرية ، العدد 58، سنة 2008، ص 149
2 – العبارة لحليل حاوي من قصيدة البحار والدرويش
3 – والذي يلفت انتباهنا في هذا السياق اهتمام غريماس في منهجه السيميائي السردي بالبحث في شكل الدلالة في مختلف الخطابات بحثا عن المعنى الذي ينتج في علاقته بالنص عبر ما يصطلح عليه بالتدليل اي الكيفية التي بها يشتغل المعنى باعتبار النص سيرورة دلالية (Semiosis)، سيرورة يحيل من خلالها الماثول على الموضوع عبر مؤوّل حسب نظرية بورس وهكذا صار الأثر الفني عامة بما في ذلك الأثر الأدبي خاصة ومهما كان جنس إبداعه منجما من العلامات تخزن وجودا حيا وثقافة دالة وإمكانات فسيحة للتأويل توجزها المستويات الدلالية الثلاثة التي خطها بيرس في برنامجه السميائي التأويلي والتي عنى بها المؤوّلات الثلاثة المباشر أولا والدينامي ثانيا والنهائي ثالثا وهي خطة تنتهج مسار الإنتقال من ظاهر العلامات كما تتبدى وشما في ظاهر النص أو الأثر إلى مابه تكون العلامة منظومة تخضع لسيرورة لا متناهية ومسار تأويلي متشابك العلامات والدلالات يتناسل بعضها من بعض ولا يني عن التوليد والإنتاج ليصل القارئ المؤول إلى الدرجة العليا من التأويل الذي تسيجه علاقة الذات بالموضوع وتحدّ من هدير التأويل وانسيابه الحر ما استقر من الأعراف وما ربض من معقولية الفكر فتستقر بذلك السيرورة التأويلية وتربض على موقف دلالي معين.
4 – من الدراسات المفيدة التي يمكن اعتمادها في هذا الصدد دراسة الدكتور سيف شاهين المريخي(القرصنة في الخليج العربي والبحر الأحمر والمحيط الهندي في العصور الإسلامية الأولي، مجلة كلية الآداب، جامعة الاسكندرية ، العدد 58، سنة 2008، ص 149)
5 – Adam(Jean -Michel) : Les texte ;Types et prototypes , ed nathan ,1992 P46
6 – من مراسلة بين الشاعر وصاحب المقال
7 – السلوقيّ كما يعرف نسبة إلى سلوق، وهي أرض أو بلدة اختلف القدامى فقال بعضهم إنّها في اليمن وبعضهم إنّها في أرمينية، وإلى هذا الموقعين نسبوا الكلاب والدروع…ثمّ أصبح السلوقيّ يُطلق على كلب الصيد…
وقد وجدت في كلّ هذه الدلالات (إضافةً إلى القاع الأسطوريّ) مادةً خامًا للإمعان في ما دأبتُ عليه من «أسطرةٍ» خاصّة لبعض الكائنات، والأشخاص، والأشياء، التي أعايشها وأعيش عزلتي في زحمتها.
هكذا حاولتُ اقتراح تسميتي للموت كما أراه، فهو عندي كلبٌ وسلوقيّ…عدوّ وصديق…درعٌ أو كلبٌ حارس وفيّ يحميني من الطمأنينة المُضلِّلة، بل ويدافع عنّي (عنّا؟) ضدّ كلّ موت مغشوش قد يخيفني (يخيفنا؟) للحظة، وقد يستعملُه القراصنة لتخويف ضحاياهم كي يفضّلوا العبوديّة على الحريّة (ولذلك إشارات واضحة في القصيدة)…لكنّه إضافةً إلى ذلك كلبُ صيد يتبعني مثل ظلّي، أرى خطمه حيثما نظرتُ، في كلّ مكان ومن كلّ اتّجاه، كأنّه يريدني أن أراه وأن أعرف أنّي في متناول أنيابه، كأنّه يصبر عليّ لسبب يعرفه وحده، ويرجئ الانقضاض عليّ إلى حين.
8 – أما عزريل فهو أساسًا عزرائيل، ملك الموت. وإذا كانت التسمية الثانية أكثر رواجًا، فإنّ الأولى راجت أيضًا لدى شعراء قريبين يحضرني منهم الآن أحمد شوقي مثلاً، في قصيدته البائية (بِسيفكَ يعلو الحقُّ والحقُّ أغلبُ)حيث يقول: «إِذا طاشَ بَينَ الماءِ وَالصَخرِ سَهمُها/ أَتاها حَديدٌ ما يَطيشُ وَأَسرَبُ/ يُسَدِّدُهُ عِزريلُ في زِيِّ قاذِفٍ/ وَأَيدي المَنايا وَالقَضاءُ المُدَرَّبُ… »
كما لم تغب هذه التسمية عن القدامى، فقالوا عزريل على غرار قولهم جبريل لتسمية جبرائيل. وأذكر في هذا السياق رسالة الملائكة للمعرّي حيث يجري على لسان المتكلّم قوله: «فأقول أمهلني ساعة حتى أخبرك بوزن عزرائيل فأقيم الدليل على إن الهمزة زائدة فيه فيقول الملك هيهات… »
وقد حضر الكلب والسلوقيّ في القصيدة بأكثر من دلالة كلّها على صلة بالموت. هو السلوقيّ (أيّ الصيّاد أو الموت نفسه) حين يخوّفنا به القراصنة كي يطيب لهم المقام فيرفض أن يلعب الدور، ويرفض أن يميتنا بمشيئتهم، وكأنّه يحرّضنا على الانتفاض والمقاومة…
وهو كلب عزريل (أي خادم الموت) حين يُصبح (أو يكاد) أملنا الوحيد في أن يرحل القراصنة عنّا، وقد طاب لهم المقام فوق ظهورنا حتى كدنا لا نرى تحرّرًا لنا منهم إلاّ إذا اختطفهم الموت (وهو ما تشير إليه خاتمة القصيدة…)
9 – الكلب والسلوقيّ قناع الموت في الكثير من قصائدي…دون أن يمنعني ذلك من الإحساس بأنّي أكتُبُ تعبيرًا عن إقبال على الحياة، يرقى إلى مستوى الشبق…شأنه في ذلك شأن اليأس الذي لا أرى غيره طريقًا إلى الأمل. أسمّيه كلبًا كلّما نسبتُه إلى عزريل، أي إلى الموت العامّ. وأسمّيه السلوقيّ كلّما استحضرته في اقترابه منّي وفي مُطاردته لي بشكل شخصيّ.
الأمل هو صمتُ الكلب، كي أظنّ أنّه في غفلة عنّي أو عنّا. واليأس هو نُباح السلوقيّ. هو صوته الذي يوقظني من غفوة «الأمل الضرورة» (أي الأمل مرفوعًا كشعار فضفاض أو كحتميّة لتزييف الواقع، على غرار البطل الضرورة والقائد الضرورة
10 – يقول الشاعر في هذا السياق” إلاّ أنّ جزءًا من هذه الدلالات «يجدني» دون أن أبحث عنه. وهو ما أسميّه «الصدفة المُستدرجة». التي تفاجئ الكاتب شرط أن يستدرجها، شرطَ أن تكون نتيجة لمعمارٍ «مُشتغلٍ عليه»، لا نتيجةَ خبطِ عشواء.
إلاّ أنّ الأرضيّة التاريخيّة (كدتُ أقول السياسيّة) ما كانت لتشغلني عند الكتابة أصلاً، لو لم تكن على صلة بهاجس أنطولوجيّ يشغلني في كلّ لحظة، هو هاجس الموت، بوصفه الوجه الآخر للحياة.
ثمّة لديّ قرف شديد من هذا الأمل المُزيّف، لا يقلّ عن قرفي من اليأس الاستسلاميّ المُصْمَت…ثمة حدس يستبدّ بي في اتّجاه محاورة كلّ ما يحبطني كي أستطيع عبوره…في اتّجاه الاعتراف بكلّ خسائري كي أستطيع الخروج منها…ولا أريد استعمال نون الجماعة هنا على الرغم من أنّها غير بعيدة عن ضمير المتكلّم (لذلك قلت في القصيدة: يئسنا إلى آخر اليأس، لم يبق في الأفق إلاّ الأمل).
11 – من مراسلة شخصية مع الشاعر
12 – آدم فتحي : نافخ الزجاج الأعمى ،منشورات الجمل ، ط1 2011
13 – المرجع نفسه ص 74
14 – المرجع نفسه ص 90
خالد الغريبي
شاعر واكاديمي من تونس