كيف صعد بنا النص الروائي ( الغيمة الرصاصية ) عموديا.. وذلك عبر تكويناته التي أعادت توزيع الملفوظ ودلالاته من خلال الهدم والبناء، ومن خلال اضافة الحلم وتشخيص النص واللغة …؟
يغامر الشاعر ( علي الدميني) في نصه الروائي، فيجعل سلطة النص تقبض على عالمها وعلى مبدعها وعلى قارئها. واللافت في هذه التجربة ، هو ذاك الفضاء الحلمي لذي ظهر كوحدة دلالية تحت لغة الرواية ..، الفضاء المشخص بشكل اشاراتي، كونه الشخصية الوحيدة المتحررة من النص والمتحركة ضمن احتمالاتها المتفردة التي أخذت فيما بعد شنوصا مختلفة أهمها النص كشخصية عائمة .
وما بين الشخصيتين اللامرئيتين (الفضاء الحلمي/النص ) انشطرت (أنا) الرواية الى (علي / سهل الجبلي ) كانقسام يجد منعطفاته في شخصية :
* (عزة ) : الجزء المنتظر من رواية لم تكتمل .
* (نورة ) : الجزء الظاهر من الجزء المنتظر.
*( مريم ) : التداخل التواصلي لكل من عزة ونورة .
ارتكزت الرواية على أسلوب فني غير عادي جاور نفسه وحاورها عبر المتون والذاكرة .. وكأنه يبتكر ألواحه الطينية من تلك الرموز المتضادة ليس من أجل التناقض وحده ، بل ، لكي تحقق ما وراء الصراع رغبة منها في تنمية الفعل الدراماتيكي للدلائل المبنية على متصالحات منسجمة تتخاصم في الجسد المكتوب لتتواءم في الجسد اللامكتوب .. وهذا ما أضمرته فصول (عتمة المصابيح ) وتدرجاتها المنسولة بين (وهج الذاكرة ) وبين السر ديات المتقاطعة النابهة من أعماق (سهل الجبلي / زوجته /علي ) والمنعكسة على اللحظات الداخلية والموضوعية الموصوفة بتقنية مازجة للمكانية الواقعية (البنك : كمكان عمل الروائي، محطة أم سالم . الكويت ، العراق ، الدمام ..) بالمكانية المتخيلة (وادي الينابيع ، وقراه ، وطبيعته ، وقلعته ، ومياهه و…).
وها هي (عزة ) تخرج من النص .. لا … لتدل أهل وادي الينابيع الى مكان السد، بل ، لتنسل من مسودات قصة الدميني الى حياته الخاصة ، ثم لتمارس حياتها الأخرى في الأمكنة الموضوعية ، ولتعيش وجدانياتها وتحولات اللحظة غير المقيدة بالقدر الذي يرسمه لها الكاتب .
وأيضا (مسعود الهمداني ) الشخصية التي لم يكمل المؤلف مساراتها في كراسه ، تتمرد عليه لتخط تفاصيل تحركها.. فتعتقل الروائي الى (وادي الينابيع ) حابكة فراغاتها مع اللامتوقع الظاهر عن طريق (كيس نوره وجرارها وخرزة الجدات الزرقاء).
من بوتقة الغرابة تلك ، ينسج النص بنياته ، تاركا للقاريء آثار الاكتشاف المتعامدة ، والموغرة في البحث عن التراث ، تلك الذاكرة الجمعية المحمولة على اللغة الحاملة لأبعاد الحياة الخارجية بصعدها الاجتماعية ، والسياسية ، والثقافية ، والتكنولوجية ، والتي يطرح من خلالها (الدميني) موقفه من الحداثة والحرب والموت والحب واللغة .. وكأنه يحفر في طبقات النفس والروح والنص ، أحوال الغائم من الواقع .. موضحا بصحرة حادة ما يعانيه مجتمعنا العربي من تفتت وانحسار وانكسار على صعيد الوعي الكلي ، بعامة ، وعلى صعيد الوعي الثقافي بخاصة .
وهكذا تشتبك الأحداث في بؤرة الابدال النازحة بالكاتب والقاريء بين الواقع والنص ، اشتباكا يفرز في بياضاته سوادا آخر قابلا للقراءة الاختلافا نية .. وكأن (الدميني) يحشد الأزمنة (الماضية /الحاضرة / الآتية / النصية ) في لحظة الحذف والتدوين . اللحظة التي شكلت التوترات الأخرى الناتجة عن البنى، وشحنتها بطاقة تتسع في الفضاء والمكان والزمان واللغة .. فهي تدخل زوجة الروائي الى النص لتكون زوجة أحد الشخوص ، وتجعل من (سهل الجبلي ) يرى قبره وجثته وانبعاثه وهو في (الغيمة الرصاصية ) . (الغيمة ) كرمز مكثف بدلالات المطر والانغماس في أبد الأرض والبذور والتراث ، و(الرصاصية ) كصفة اكتسبت لونا يحمل المتناقضين :
– الاشعاع القادم من الشمس.
– الرصاص الذي بزف الموت.
كأن (علي الدميني) يمارس سطوته على أسطورته الخاصة التي امتازت بطاقة ابداعية تضيف لثقافتنا العربية منعطفا روائيا باهيا استند على شعرية السرد: مشهديا، جمليا ، حسيا، ازاحيا.. وكل ذلك ضمن تركيبية متماوجة جذرها الذاكرة العربية المكونة انتماء بيئيا انطلق منه الدميني ، وهدمه الى الذاكرة الذاتية ربناه على الذاكرة النصية فكان الجذر الآخر للذات الكاتبة _ المكتوبة – الجذر الذي يتخذ تعرجات مجاله واتصاله وانساقه وفقا لزاوية الرؤيا المنحرفة والمحزونة في القاريء نفسه والذي سيكتشف أن هناك صيغة متداخلة بين ثلاثة نصوص روائية شكلت أخيرا الرواية الحاملة للعنوان (الغيمة الرصاصية ) ،وهذه النصوص الثلاثة هي:
1 – نص عزه والسد، النص – البذره الذي لم مين داخل الكراسة الموضوعة فى درج الكاتب ، ومسار هذا النص فصاعدي ميدا من دواخل الروائي ليستمر فى دواخل الموضوعبة.
2- نص الزنزانة ، نص الوقائع والزمن الخارجي المبتديء من عوامل الخارج ليستمر فى الذات.
3- نص وادي الينابيع وتحولاته المتصاعدة نحو غرة ، والهابطة الى نص الزنزانة .
كأن النص الثالث هنا يمثل العالم الأرضي في الأسطورة ،وحركته المتمثلة بالصعود تتجه الى العالم العلوي، وحركته الأخرى المتمثلة بالهبوط تتجه الى العالم السفلي .. وهذا التوازن بحركتي الصعود والهبوط منح الدرامية الروائية لاثباتا ينقطع لتتصل النصوص ، ويتصل لينقطع الامكان … وهذا هو تقني ناور المبدع على انسجامه محولا جوانبه المحيطة الى مرموزات مركزية ولامركزية في ذات اللحظة الابداعية .
وعلى هذا القناص الداخلي انبنى المنحنى اللاخطي وكسر أفقية الاعتياد للمستويين : المضموني والظاهراتي لكنه ظل محافظا على الوظائف الثلاث للنص وفقا لـ (هاليداي):
1 – الوظيفة التجريبية: ldentional التي تبرز مضمون الاستعمال الدائرة حوله اللغة كبعدين :
أولهما ذاك المتعلق بتمثيل التجربة التي يعيشها المتكلم في سياق ثقافي واجتماعي معين ، وهذا ما عكسته (الذات الروائية ) من خلال تجزينها على الشخوص الأخرى، وتنصيفها بين (سهل الجبلي ) و(علي ).
وثانيهما ذاك البعد المنطقي الذي يتم عبره التعبير عن علاقات منطقية مجردة والتي منها تشتق التجربة بشكل ضمني ، وهذا ما تناغمت فيه الرواية المتلامعة بين أشكال الدلالات وظلالها المنتجة للسياق . من ذلك ما أتى تحت عنوان (ملحق من أوراق نورة .( ص 213)
2- الوطيفة التواصلية (Interpersonal) المتصلة بالبعد الاجتماعي (بين الأشخاص ) لوظائف اللغة التعبيرية . وفيها يتم تحديد زاوية المتكلم ووضعه وأحكامه وتشفيره لدور علاقته في المقام وحوافز قوله لشي ء ما، في علاقته مع مخاطبة سواء كان هذا المخاطب شخصية داخل النص أم خارجه (القاريء). وهذا ما انبنت عليه الشخصية الغائبة الحاضرة (عزة ) التي انطلق منها هذا البعد لينفتح في المونولوج والديالوج المرافق لباقي الشخصيات .
3- الوظيفة النصية (Textual) المتضمنة للاصول التي تتركب منها اللغة لابداع النص كوحدة دلالية ، ليصبح هذا النص منشغلا من خلال موضوع ، ومنسجما في علاقته مع ذاته ، وفي سياق المقام الذي وظف فيه . وهذا ما أظهرته فنية رواية (الغيمة الرصاصية ) التي تضمنت تناما داخليا لثلاثة نصوص منغلقة من الاتصال الواضح ، الى ذاك الاتصال الضمني الماكث في النسيج العميق من النص ، والظاهر كانقطاعات عمودية محبوكة بالايحاء والاحتمال والنضج الفني..
للتوسع في الوظائف راجع (انفتاح النص الروائي) سعيد يقطين ص 17 (ط 1) المركز الثقافي العربي (1989).
* الغيمة الرصاصية رواية للشاعر علي الدميني ط ا/ دار الكنوز الأدبية 1998م عدد الصفحات (248).
غالية خوجة (شاعرة من سوريا)