إي. سانتوش كومار-كاتب وراوائي هندي
ترجمة: فيلابوراتو عبد الكبير-مترجم وكاتب هندي
تحتلّ مدينة “براغ” مكانة بارزة في أعمال ميلان كونديرا. وهي أحد المكوّنات الأربع الرئيسة في إبداعاته: الكاتب كافكا نفسه، عالمه المختنق، قلاع السلطة المرهبة الموجودة في أعماله. الجنس الذي امتنع كافكا من تصويره، بينما أفرط كونديرا في إبرازه في أعماله. أمّا قلاع السلطة فقد ظهرت في عهد كونديرا في شكل الحكومات الشيوعية الموالية للاتحاد السوفيتي.
“براغ” هي مدينة كافكا وهي مدينة كونديرا أيضا. وُلد فيها كافكا، بينما ولد كونديرا في “برنو”، انتقل إلى “براغ” لاحقا يبحث عن لقمة حياته ولدراسة السينما. كلاهما عاش في أرض واحدة في زمنين مختلفين. كتب كافكا باللغة الألمانية بينما كتب كونديرا باللغة التشيكية أوّلا ثم بالفرنسية بعد هجرته إلى باريس. يستمرّ كافكا بحضور قويّ غير مرئيّ في هذه المدينة حتى بعد مضي مائة عام من وفاته. نراه في رسوم وتماثيل في شوارع براغ وعلى ملابس الأطفال ومعروضات جميلة للبيع، كما نرى فنادق ومطاعم ومتاحف وشوارع تحمل اسمه. يوجد أكثر من أربعين متحفا في براغ أحدها باسم كافكا. بيته الذي وُلد فيه ومدرسته التي تعلم فيها والمؤسسات التي اشتغل فيها، كلها الآن جزء من صناعة السياحة الكبيرة. ولكن لا نجد لكونديرا علامات هناك بهذا الكمّ.
المناطق في أعمال كافكا ليس لها أسماء. لكنّ الشخصيات فيها تحمل أسماءً ذات طابع متميّز مثل جوزيف ك جوزيف. أمّا كونديرا فلا يستخدم أبدا في أعماله اسم تشيكوسلوفاكيا. كان يعتقد أنّ الاتحاد الذي تم بين القوميتين المختلفتين في عام 1918 فقط لن يكون له وجود مستديم. كانت تشيك في نظره ثقافة ليس لها وجود في عهد الاحتلال. يمكن لدولة أن تحمل اسم تشيك ولكن هذا الاسم ليست له ميزة قويّة تتناسب واستخدامه في الروايات. ولهذا السبب عندما افتقر إلى استخدام اسم تشيك في أعماله أشار إليها باسم “بوهيميا” إحدى المناطق الموجودة في تشيك.
ظهرت براغ في مخيلة كونديرا كمدينة شرّ. هاجر منها عام 1975 إلى باريس. ولكن ذكرياتها لم تهجره. ولهذا أصبحت براغ أرضية روايته “كائن لا تُحتمل خفته” التي كتبها بعد عقد من هجرته إلى باريس. وفي “الجهل”، روايته الأخرى أيضا نراه يتحدث عن مشاهد تلك المدينة بصورة متكررة، في أحلام مهاجريها، كوابيس تطاردهم عند عودتهم إلى بلادهم الأصليّة، أحلام متنوعة ولكن ذات طابع جماعي يختص بالمهاجرين. وهؤلاء لمّا عادوا إلى مدينتهم في زمن لاحق أصابهم اليأس لأنهم لم يجدوا هناك علامات حياتهم الأولى. لم يعرفوا أن أقاربهم قد ماتوا أو لم يخبرهم أحد عن وفاتهم. فاستدركوا أن الذين هجروا تلك المدينة لم يكونوا أبدا من عالم مَن استقر فيها، مكنسة غير مرئية كنست تماما أرضيات شبابهم جميعا.
يأخذ القطار الذي يخرج من برلين ليصل براغ عاصمة جمهورية تشيك خمس ساعات تقريبا. حين نتجاوز الحدود الألمانية يبدو لنا كأن علامات الترف تختفي عن أعيننا. تظهر الفيلات الجميلة المتواضعة، والقرى الصغيرة التي تتجمع فيها بيوت منفردة، وسيارات عادية، وناس يمرون على الأرصفة ماشين وراكبين على الدراجات الهوائية. نرى نهرا يحمل اسم “إلبه” يتبع القطار إلى مسافة بعيدة من جانب اليسار. من وراء النهر تطلّ صفوف من الجبال الصخرية المعروفة بنفس اسم “إلبه”. ضوء الشمس لا يظهر إلا على رؤوس تلك الجبال، وتحتها تتبعثر ظلالها فوق مياه النهر.
كانت الشمس على وشك الغروب عند وصولي مدينة براغ. محطة القطار المركزية لا تختلف كثيرا عن المحطات في الهند. توجد فيها قطارات مهجورة تنتشر عليها نجوم، وعلى الجُدُر هتافات غير مكتملة، الصورة مجملا تتشابه بقدر كبير مع ما نجد في كلّ بلد نامٍ. لا تُخفِي براغ قِدَمَها مع إبراز علاماتها الكثيرة من الحداثة. معابد شُيِّدت من طرازي “قوطي” وباروك”، وقاعة “فيلهارموني” الموسيقية، وحصن وقصور، ومسارح تُعرض على خشبتها حتى الوقت الحاضر مسرحيات كلاسيكية عالمية، وبروج فلكيّة منذ العصور الوسطى، وتماثيل القديسين والملوك ورجال التاريخ، وشوارع واسعة شهدت مسيرات الجيوش في التاريخ الماضي، ومُربّعات عريضة، وبائعون جوّالون في الشوارع، يدعوننا لشراء موادهم الغذائية، ومطربون على الأرصفة يعزفون ويُغنّون.
كان كافكا -الذي توفِّي قبل خمس سنوات من ولادة كونديرا- هوس كونديرا. تبدو هذه العلامات واضحة ليست في مقالاته وفي روايته “كتاب الضحك والنسيان”. وقد اخترع لفظا جديدا “كافكان” (Kafkan) استخدمه ليشير إلى عالم كافكا بدلا من لفظ “Kafkaesque” الذي يطلق عليه عموما.
يقع متحف كافكا قرب جسر “تشالز”، تُحفظ فيه كتب كافكا ورسائله وأغراضه الشخصية حيث نرى عرض فيلم وثائقي يدور حول حياة كافكا. كما توجد في المتحف صور فوتوغرافية نادرة لكافكا. وفي ساحة المتحف صورة مثيرة وغريبة من تمثالين مصنوعين من النحاس وكأنهما يبولان باستمرار. هذان التمثالان اللذان يُعرفان باسم “برودي” كانا من صنع المعماري “ديفيد سيرني”، صنعهما عام 2004م. والظريف في الأمر أن الإناء الذي يسقط فيه “البول” كان على شكل خريطة جمهورية تشيك. هل يستطيع أحد أن يضحك على التاريخ أكثر من هذا؟
يرى كونديرا أنّ كافكا كان مهتمّا بالفكاهة في كتابته. يُسمّي الإنسان الذي لا يضحك “أيجيلاست” (Agelast). وقد أشار كونديرا في خطابه عند استلام جائزة “يروشليم” إلى أنّ شخصا مثل هذا غير مناسب لرواية. الدعابة السوداء هي الروح التي تسري في إبداعات كافكا. ويقال إن أصدقاءه كانوا جميعا يستغرقون في الضحك حين كان يُملي عليهم روايته “المحاكمة”. كان جوزيف ك لم يرتكب أيّ جريمة، بالرغم عن هذا أُلقي القبض عليه. تعرض لمحاكمة طويلة وسخيفة. لا يدري ما ذنبه. مع هذا بعد سنة قام رجال الأمن باغتياله. حين ذاك كان قد نمى في ذهن جوزيف. ك يقين أنه يستحق العقوبة. وفي رواية دوستويفسكي “الجريمة والعقاب” يرتكب راسكو لينكوف أوّلا الجريمة ثم يليها العقاب. أمّا في قضية جوزيف. ك، فتصدر المحكمة حكمها عليه أوّلا ومن ثم يستشعر خطيئته. يحكي كونديرا حدثين ليشير إلى هذه الحالة. أوّلهما حكاية مهندس تشيكي توجَّه إلى لندن من أجل مهمّات رسمية، في نفس الوقت تتناقل وكالات الأنباء خبرا عن مهندس في لندن يتحدث عن بلاده، لمّا عاد الأول إلى بلده يقرأ هذا الخبر ويحتار، هو يتفكر أن من ذهب إلى لندن ليس إلاّ هو، “هل تحدثتُ عن مسقط رأسي؟” يرتاد الوزارة تلو الوزارة ليُبرِّر موقفه، يعلم الموظفون في الوزارات سلامة موقفه، إلاّ أنّهم ليسوا مستعدين لإصدار بيان ينفي ذلك الخبر. وخوفًا من المراقبة لاذ بالفرار إلى الخارج بطريقة مّا. وهكذا التصق بجريمة أُتّهِم بها. وفي حدث آخر إحدى صديقاته تتعرض لاستجواب من قبل السلطة، ولكن لم يكن لديها استعداد لأن تعترف بجريمتها، بينما الكثير من المتهمين نجوا من العقوبة باعترافهم بالجريمة. فاضطرت لأن تفارق طفلها وأن تقضيَ داخل السجن فترة طويلة. خرجت من السجن بعد انتهاء فترة العقوبة وعاشت مع ابنها الذي أصبح شابّا. ذات يوم غضبت وبكت عندما تأخر ابنها الشاب في استيقاظه من نومه. حين سأل كونديرا الابن لماذا قلقت أمك لسبب تافه مثل هذا كان رده: إن كل ما قالته والدته صحيح وأنّ السبب الحقيقي وراء قلقها هو الخوف على مصلحته، وكذلك خوفها من غطرسته. يقول كونديرا: إنّ ما لم تستطع السلطات الحصول عليه من اعترافات من تلك المرأة حصلت عليه من ابنها.
هذا هو العالم الذي صوّره كافكا الذي فارق الدنيا قبل عقد من تولي هتلر مقاليد الحكم. صدق حدسه فيما حدث من همجية السلطات في القرن العشرين. كان عالَم قصصه مليئا بمخاوف الناس وتوتراتهم النفسية، السياسة ليست موضوعه المباشر، في الوقت ذاته قام بنقل شراهة السلطة الشديدة التي تكمن داخل كلّ إنسان إلى بساط الحكومات الواسع ومؤسساتها الرسمية الأخطبوطية التي تُشدِّد الانضباط على جميع نواحي الحياة. وفي رواية “المسخ” لكافكا نرى غريغور سامسا يبحث عن الطريق إلى أن يحضر مكتبه في الوقت المحدد حتى حين تحول إلى حشرة بشعة هائلة الحجم. يذكر كونديرا أن الروائيين مثل جويس وبروست حين كتبوا عن أشباح في داخلهم أتى كافكا بشبحه الكبير من الخارج. وتلك الوحشية الخالية من المشاعر التي لا تدع أحدًا من قبضتها المحكّمة، يسميها كونديرا التاريخ.
وفي رأي كونديرا أن القلعة في رواية “القلعة” لكافكا إنما هي قصر براغ. يُقرأ كافكا في باريس وبراغ بطريقتين مختلفتين. في باريس يُعتبر أدبه خياليّا، أمّا في براغ فيمتزج به واقع الحياة اليومية. وحضور السلطة هنا لا يخلو مما يسمى الديمقراطية، إنما الفرق أنّ الشعور الواقعيّ ليس مفقودا تماما هناك مثلما كان في براغ.
يقع متحف الشيوعية في مكان ملاصق لوسط المدينة، يُحفظ فيه تاريخ حكام تشيكوسلوفاكيا الذين كانوا دمى في أيدي الاتحاد السوفيتي. وهذا التاريخ يشمل الوثائق المتعلقة بالحكومات التي تبنت تلك الأيديولوجيا التي سادت العالم، وكذلك أدبياتها، ومكائن دعايتها، ورقابتها على المطبوعات، وطرقها لقمع المتمردين، وأرخبيل غولاغ، ومعسكرات العمل القسري في سيبيريا، وطرق المراقبة السريّة، وما تسرب بعد عام 1989 من وثائق تلك المراقبة حتى الإجراءات القمعية التي جرت في ميدان “تيانانمن” في الصين.
يقول “لوديك” إحدى الشخصيات في أولى روايات كونديرا “المزحة” التي كتبها عام 1967 يقول لفتاة مازحا: “التفاؤل أفيون الشعوب، عاش تروتسكي”. فتمّ طرده من الجامعة ومن الحزب كما تمّ نفيه إلى المناجم البعيدة للعمل القسري وإعادة تأهيله. كانت النخبة والمثقفون فريسة شكوك جميع الحكومات الشيوعية في كل عصر. لاحِظْ كيف يُنزَّل طوماس الطبيب الجرّاح في رواية “كائن لا تحتمل خفته” للعمل في تنظيف الشبابيك.
ينقل كونديرا نكتة عن رئيس تشيكوسلوفاكيا أنتونين نوفوتني، ذات مرة قال غاضبًا لعامل أخذ وقتا أكثر مما يحتاج إليه لتصليح باب مكتبه: “ما هذا؟ حتى أنا أستطيع تصليحه خلال دقائق”، فيردّ عليه العامل: صحيح ما قلت سيدي الرئيس، لأنك كنت حدّادا بينما كنت أنا أستاذا في الجامعة”. كان في هذه النكتة حقيقة كبرى ولو تُؤوّل في الوقت الحاضر لكانت خطأ سياسيّا.
في عام 1948 كان ميلان كونديرا عضوا في الحزب الشيوعيّ، وكان إيمانه راسخًا بمبادئه، وقد اعترف بأن الشيوعية قد أعجبته مثلما أعجبت سترافينسكي والسورياليين وبيكاسو. لاحقا خرج من الحزب ثمّ أعيد إليه مرة ثانية. وفي عام 1968 في عصر “ربيع براغ” تمنى أن تحدث تجديدات صحية في الحزب. ولكن ما حدث هو حظر كتبه في تشيكوسلوفاكيا. وفي 2019 فقط أعيد إليه جوازه. وقد وصفه جون أبديك في إحدى مقالاته بأنه (آدم أُخرِج من الفردوس مرارا). وفي نفس الوقت شاع خبر في 2008 يفيد بأنّ كونديرا قد تجسس ضد زميله في الدراسة لصالح الحزب الشيوعيّ، وإن لم يكن هناك دليل ثابت، ما زال تحت ظلال الشكوك، ولكنّ عددا كبيرا من الكتاب المرموقين أمثال ماركوس وغودمير وباموك ونيبول تقدموا بتأييد لكونديرا. ويُذكر هنا الشاعر ياروميل في روايته “الحياة في مكان آخر” الذي يفشي للمخابرات أسرارًا عن شقيق معشوقته.
إن تاريخ القرون الوسطى كان تاريخ الاضطهادات والآلام والقمع، كانت عصورا شهدت على نطاق واسع أساليب عمليات التعذيب المتنوّعة بصورة بشعة. ونجد في متحف التعذيب الذي يقع في منطقة قديمة ببراغ تاريخ أساليب التعذيب المرهبة التي مورست في القرن العشرين، توجد فيه الآلات والعدد المختلفة التي كانت تُستعمل للتعذيب، سلاسل تُستعمل لتمديد جسد الإنسان حتى يتضاعف الألم، وصناديق مثل صناديق الموتى ثُبتت بجوانبها المسامير والإبر، والتي كانت تُغلق على المتهم بعد تنويمه فيها، ومن مهد يهوذا إلى أسِرّة مختلفة، مشاهد مرعبة من الآلات المعروضة في المتحف تُعِّظم العنف. تقول سبينة، وهي إحدى الشخصيات في رواية “كائن لا تُحتمل خفته”: إنّ الجنس يجب أن يكون عنيفا. إن سبينة وطوماس في تلك الرواية شخصيتان شاردتا الذهن تتجوّلان مع خفة الكينونة. أمّا الشخصيتان الأخريان فيها تريسا وفرانز فمختنقتان بثقل الحياة الكبير، هما عبيدا الروح. في شأن تريسا كانت والدتها هي السبب في ذلك، عرضتْ على الجميع في البيت جسدها القبيح إلى حد بذيء. هذه البذاءة في الحقيقة هي رمز للسلطة.
النقاشات الساخنة حول الجنس تأتي باستمرار في روايات كونديرا. ليست خالية أيضا من النقاشات حول كراهية النساء. وعندما اعتقِل بولانسكي في قضية جريمة التحرش الجنسي كان موقفه في صالح بولانسكي. تُذكر المرأة في رواياته أكثر الأحيان كأنها آلة من الآلات. وفي الوقت ذاته نراه يتعامل مع الذَّكر أيضا كفريسة للنظام. وفي “حياة في مكان آخر” تدخل والدة ياروميل إلى غرفته لمراقبته حين كان مشغولا بالجماع. وفي مدينة براغ متحف يُمثِّل سرديات كونديرا هذه. وذلك هو “المتحف الشهواني”. المعلومات عن الجنس مسجلة في هذا المتحف الكائن في وسط المدينة، التجارب الجنسية التي يمارسها الناس منذ قرون، وآلات تُستخدم لهذا الغرض، وتصوير ممارسات الجنس المتنوّعة، والوثائق المتعلقة بها بالأبيض والأسود كلها جزء من هذا المتحف.
صالات الرقص العاري ليست ممنوعة في براغ. تُعرف هذه الصالات باسم “الأنامل الذهبية” (Golden Fingers). وقد زُرت إحدى هذه الصالات. الدخول فيها مجانا، ولكن استعاضة عن ذلك تُباع الخمور بأسعار غالية جدا. تظهر الراقصات على منصة الرقص في ملابس تغطي أجسامهن كاملة ثم يخلعنها قطعة تلو قطعة (Strip teasing)، الرجال الذين يستلقون على الأرض يدعون إليهم الراقصات وعلى جوانب أجسادهم أوراق نقدية، فتقترب الراقصات منهم ويأخذن الأوراق بشفاههن. النساء اللاتي يُقدِّمن الخمور كنّ قد تجاوزن منتصف عمرهن، ومن يعاني من العزلة سينال صداقتهن، صداقتهن فقط في حالة دفع رسومهن.
المكان الأكثر ازدحامًا في براغ هو ميدان “وينسيسلاس”. يَذكر كونديرا هذا الميدان في كتابه “الضحك والنسيان”. حين يصل ميريك الشخصية في ذلك الكتاب (نفس الشخصية التي تقول “إنّ نضال الإنسان ضد السلطة هو نضال الذاكرة ضد النسيان”) إلى الورشة الواقعة في هامش براغ يظن أن أحدا ما يتبعه. حين يُخبر الفنيّ في الورشة عن هذا يرد عليه الثاني: هب أن أحدا ما يتقيأ في وسط المدينة قرب ميدان “وينسيسلاس” إذنْ سيقول له من يتبعه وهو يهزّ رأسه: فهمتُ ماذا تريد”.
حول ميدان وينسيسلاس تنشط تجارة الباعة الجائلين. تحت المظلات الملوّنة انتقلت المطاعم إلى الشارع مع الكراسي والطاولات. وفي الناحية الأخرى انتقلت من الشارع أعمال إنشاء المترو الجديد إلى الميدان على قدم وساق. الأهم من ذلك كله كان التظاهر الكبير في الميدان الذي شاركت فيه جنسيات مختلفة ضد هجوم بوتين على أوكرانيا. يوجد فوق مربع الميدان بوستر يدعو الناس أن يجتمعوا ضد الشرور. هذا يعني أن حياة ميدان وينسيسلاس السياسية لا تزال نشطة. تعرفتُ هناك على “ميقوفا” البولندي و”بيتر” الدنماركي وتم التصوير معهما.
كما سبق ذكره في بداية المقال لم أجد في براغ علامات من روايات كونديرا ولا من الشخصيات التي صوّرها فيها. ولكن الزمان ومدينة براغ اللذين قام بتصويرهما في أعماله لا يزالان يرفرفان في ذاكرتي، ربما قد يأتي تذكار له أيضا بعد رحيله الآن، وقد تحفظ فيه أشياء تتعلق بحياته وإبداعاته، في الحقيقة كان كونديرا يبني تذكارا عظيما لبراغ، المدينة العتيقة، في أعماله الإبداعية ، تصوير الحياة والسياسة في تلك الروائع لن تموت ولن تُنسى.