"فلنقتبس حرفا من حرف كما نقتبس نارا من نور"
(النفري)
إن الرؤية المتجددة في تذوق الابعاد المترامية بين عوالم الملك والملكوت هي التعبير الوجداني عن تضاريس الابداع الحر في تمثله حقائق التجربة الصوفية، هي رؤية لا تقف عند حد محدود وتعيد مع ذلك انتاج نفسها في كل ابداع اصيل.
الحرف: اعوجاج الخطوط واستقامة الروح
الحرف هو ليس فقط ميدان المقارنات الممكنة للعقل (المنطقي) والوجد البياني والمعنى (الحدسي)، بل رمز الوجود وعنصر الكون والفساد (الصيرورة والانحلال، التركيب والتحليل) كما في موقف النفري القائل:
حرف لغات وتصريف
وتفرقة وتأليف
وموصول ومقطوع
ومبهم ومعجم
وأشكال وهيئات
وفي موقف آخر:
الحرف ناري
الحرف قدري
الحرف دهري
الحرف خزانة سري
الحرف قادر على أن يكون عنصر اللغات وتصريف الامور وتفوقتها والربط والقطع والابهام والا عجام والأشكال والهيئات استنادا الى أن لكل منها حرفا، أي لكل وجود في الاستعداد
والهيئات حروفه، كما ان لكل لغة حروفها. أن يكون الحرف نارا وقدر المرء ومصيره وخزانة اسراره يعني انه سر المعنى القائم في الكلمة لان الكلمة هي وحدة حروف، ومعناها موقف وعقد ونية يتجلى في ظاهر الكلمة وباطنها (حقيقتها)، من هنا موقف النفري: المعرفة حرف جاء لمعنى فان اعربته بالمعنى الذي جاء له نطقت به. ولا يعني ذلك سوى ضرورة وحدة الظاهر والباطن بالنسبة للمعني المتشكل في الحرف التي وضعها في موقفه:
لا تجمع بين حرفين في قول ولا عقد الا بي
ولا تفرق بين حرفين في قول ولا عقد الا بي
بي يجتمع ما جمعت ويفترق ما فرقت
الزم النفري الروح المبدعة بضرورة تمسكها الدائم بوحدة الظاهر (الجمع بين حرفين) والباطن (العقد) بالحق. إذ بالحق فقط تجتمع حقائق الحروف ومهناها في الكلمة، وفيه تتفوق، أي أن للمواقف المتنوعة في الابداع معانيها حالما ترتبط بالحق وحالما تفترق عنه، وقد حدد ذلك علاقة الصوفي بالحرف، باعتباره عنصر المعاناة المخلصة ونغما في ابداع حقائق الكلمة واسرارها (بواطنها):
فلتقتبس حرفا من حرف
كما تقتس نارا من نور
اخرج باء من باء
واخرج ألفا من ألف
فاقتباس حقيقة الحرف من الحرف هو كاقتباس النار من النور، وهي العملية الأعمق في استخلاص الحقيقة، فالنور من النار هو المجرى الطبيعي لوجود الأشياء، بينما خروج النار من النور يفترض احتراق الأنا في صبرها من أجل تكثيف الحقائق في أشعة الباطن. ومن ثم ليس استخراج الباء من الباء والألف من الألف سوى استخراج النار من النور. بمعنى تكثيف حقائق الباء والألف او المكونات الضرورية والجوهرية للكلمة في كلمة الروح، لهذا طالب بالخروج من الحرف:
يا عبد اخرج من بين الحروف
فاذا جزت الحرف وقفت في الرؤية
واجعل الحرف وراءك والا فلا تفلح !
ان هذا الخروج والتجاوز والسباق هو الذي يجعل المبدع قادرا على السير مع الحروف في مقاصدها ومعانيها المتنوعة باعتبارها حروفا لكلمة الروح:
الحرف يسري حيث القصد
جيم جنة ! وجيم جحيم !
لم يقصد النفري بذلك سوى ان معاني الكلمة في مقاصدها لا في حروفها، أي في تطابق الحس والعقل والحدس فيها، بحيث يجعل منها تعبيرا عن الحقيقة فالأبداع ليس تركيبا للحروف في الكلمة، بل صهر للحروف في المعنى، أي تركيب الكلمة من معاناة المعنى، وقد اعطى ابن عربي لهذه الفكرة أبعادها الحسية والعقلية والذوقية (الملكية والملكوتية والجبروتية) في موقفه من العالم باعتباره كتابا سطورا ومرقوصا ومجهولا، فقد جعل من العالم كتابا ينبغي قراءة كلماته من اجل ادراك معناه، وجعل من المجهول حقيقته الحية لان المجهول يفترض جمع الهمة من أجل اكتشافه، فالسطور (بالتسطير) والمرقوم (بالترقيم) هما وجهان للمجهول. فكما ان المعرفة هي ادراك بين مجهولين، والانسان هو وجود بين طورين كذلك الكلمة هي وجود بين حرف ومعنى، من هنا تأويل ابن عربي تسمية حروف المعجم من عجمتها، وذلك لانها عجمة عن الناظر فيها معناها، فغياب المعنى او عجمة الحروف ينبع، من كونها "أئمة الألفاظ " التي يستحيل بدونها ادراك المعنى، كما يقول ابن عربي:
ان الحروف ائمة الالفاظ شهدت بذلك السـن الحفاظ وتقول لولا فيض وجودي ما بدت عند الكلام حقائق الألفاظ حاول ابن عربي أن يعطي لما اسماه النفري بسريان الحرف حيث القصد أبعادا شاملة في الصيرورة والكينونة، والوجود والابداع، فقد تكلم عن مراتب الحروف والكلمات والعالم كما لو انه اراد تنسيق وترتيب وتنغيم النسبة (العلاقة) بين الحس والعقل والحدس، والبيان والبرهان والعرفان، والطريقة والشريعة والحقيقة، والملك والملكوت والجبروت، والنماذج الاخرى في وحدة لها صعناها الخاص في الكلمة، فقد وجد في (ألم) القرآنية تجليا لثلاثية الملك والملكوت والجبروت، فالألف إشارة الى التوحيد او الواحد (الملكوت) والعيم اشارة للعلك الذي لا يهلك (الوجود) واللام اشارة للواسطة (الجبروت)، فكما يبدأ الميم (الكون والوجود، عالم الملك والشهادة) وجوده من اللام (الواسطة، عالم الجبروت) المرتبط بالألف (عالم الملكوت) كذلك الحال في (ألم)، حيث يربط اللام بين الألف والميم في كل واحد له معناه الخاص، أي معنى النسبة المتجانسة القائمة في كل ابداع.
ووضع ذلك في تأول الوجودي لكلمة الله في حروفها (ا ل ل ا ه) بالشكل الذي جعل منها نموذجا للصيرورة والكينونة، والوجود والإبداع. فالذات الإلهية (الألف) أمرت اللام الأولى الظاهرة (الوجود) بان تمد لام الباطن المدغومة (الملكوت)، والمد هو الواسطة (عالم الجبروت أو الإرادة). بمعنى الانتقال من الألف الجلية والظاهرة (الأولى) الى الألف الباطنة والمدغومة (الثانية) من خلال وحدة (جبروت الإرادة) الظاهر والباطن (الملك والملكوت). وصاغ هذه الفكرة بالشكل التالي: "اللام الملكوتية تتلقى ألف الوحدانية بغير واسطة فتورده على الجزء الجبروتي ليؤديه الى لام الشهادة والملك. فلما حصلت الأولية والأخوية والظاهرية والباطنية، أراد الله – كما قدم الألف أو الذات سنزهة عن الأشكال من كل الوجود بالحروف – أن يجعل الانتهاء نظير الابتداء". واعطى لهذه الكلمة (الله) تأويلها الطرائقي بحيث جعل من حروفها (ا ل ل اه) نموذجا للفنا، والبقاء. وكتب بهذا الصدد يقول " ان الانسان متعلق بالألف (الإلهية) تعلقا اضطراريا، فأظهرته اللام الاولي من العدم، ولما صح ظهوره وانتشر في الوجود وبطل تخلقه بالأسماء أفنته اللام الثانية بشهود الألف (المدغومة أو الغائبة) وتبقى ماء الهوية عند محو العباد". وهي تأويلات لها معناها وقيمتها عند ابن عربي، باعتبارها جزءا من نظام لسان الحال في تعبيره عن حقائق الوجود وتمثلها في القول والعمل من هنا استنتاجه القائل بان من يقرأ (ألم) بالطريقة الأولى فانه سوف يحضر بالكل للكل مع الكل، لهذا طالب المرء بالا يطلب الحق من الخارج ولا من الداخل، بل بنظر الكل في الكل لكي يجد الكل، وذلك لان الدخول والخروج من صفات الحدوث، وفي الحالة الثانية توصل الى ان رؤية (ألم) بعين الفناء والبقاء يؤدي الى ادراك المقام الذي تضمحل فيه أحوال السائرين وتتقدم فيه مقامات السالكين حتى " يفنى من لم يكن ويبقى من لم يزل ". وليس هذا الفناء والبقاء سوى الصيغة المعقولة لوحدة الإلهي والإنساني في الأزل. بمعنى استمرارية وحدتهما في الحرف والكلمة والحقيقة والمعنى، لهذا تكلم عن اشتراك مرتبة الحق (المطلق) ومرتبة الانسان في أن لكليهما ثلاثة حروف، في الإلهي هي الألف والراء واللام (أزل) وفي الانسان هي النون والصاد والضاد (ن ص ض)، والانساني يدخل في الإلهي (الأزلي) ويستمد مقوماته منه، وهو دخول يتجلى في الحرف والكلمة والمعنى، والبيان والبرهان والعرفان، والملك والملكوت والجبروت، ففي الحروف أ+ز+ل= – الأزل. وفي الإنسان أ+ن+س+ا+ن=أنسان, وفي حالة تنقيط الحروف أفقيا فان من الممكن رسمها (أو رؤيتها) بالشكل الذي تندرج فيه حروف الإنسان في حروف الأزل، وهو تلاعب مفتعل في الحروف ورسمها فقط لا في المعنى.
لقد لوى ابن عربي عنق الحروف بالشكل الذي جعلها تصرخ بحقيقة المعنى، ومن خلاله حاول الكشف عن النسبة الذائبة و(الذاتية) في وحدة الحرف والكلمة والمعنى، او الملك والملكوت والجبروت في مثال الإنسان. فالأزل في الحق ظاهر لانه بذاته أزلي، كما يقول ابن عربي، على عكس الإنسان، حيث خفي فيه الأزل فجهل، وهو خفاء يمكن تذليله بالقضاء على جهل الإنسان بحقيقة ذاته. فالإنسان هو عبارة عن وحدة الملك والملكوت والجبروت. وهي وحدة تراتبية في أعماقها، وذلك لاحتواء الملك على ظاهر وباطن، والجبروت على ظاهر (هو باطن الملك) وباطن هو ذاته، واحتواء الملكوت على ظاهر (هو باطن الجبروت)، وباطن هو ذاته، وهو الترابط الذي يكشف عن قيمته ومعناه في تحمس وعقل وتذوق النسبة القائمة فيه وتمثلها في معاناة الحق من خلال بلوغ الوحدة على مثال الإنسان الحق.
ذلك يعني ان اشكالية الظاهر والباطن في الإنسان شبيهة باشكالية المعنى في الحرف والكلمة، أي ان حقيقة كل منهما على قدر تجانس الظاهر والباطن، والحق والمعنى، فكما أن وحدة الانسان والحقيقة تتكون في مجرى معاناة صهر الظاهر والباطن، فكذلك المعنى الحق يتكون من حروف المعاناة المصهورة في الكلمة، فالحروف هي العناصر الجوهرية في تضاريس الإبداع الحر، لأنها توجد في كلمة الروح كما لو انها الضمير والمعنى، كالهاء في قولنا:
تقبل أنت بنفسك الخجل، وبصورتك حمرته
وتقبل انت بنفسك الوجل وبصورتك صفرته.
فالحروف هي ليست فقط عناصر تحتوي على عوالم الملك والملكوت والجبروت، بل وعلى امتزاجها المتنوع (من ملك وملكوت، وجبروت وملكوت وغيرها من النسب). ومن هذا الامتزاج تتكون معاني الكلمات باعتباره ابداعا تتوقف قيمته على كيفية النسب وتركيبها لان الابداع كلمة مثلما نسمي الشخص الواحد منا انسانا كما يقول ابن عربي، فعالم الكلمات ينشأ من عالم الحروف مثلما تنشأ الأجسام من الماء والتراب والنار والهواء، ذلك يعني ان الابداع الحر هو ذاك الذي يصهر نسب الحقائق الحية للملك والملكوت والجبروت يذيبها في تضاريس الإبداع الحر صهر لوحدة البيان والبرهان والعرفان في الكلمة والعبارة.
ب- الكلمة- نطق القلب ومنطق الثقافة
" الحقيقة في الكلمة هي أن تكون كلمة الروح روح الكلمة "
اذا كان الإبداع الحقيقي هو ذاك الذي يصهر نسب الحقائق الحية للملك والملكوت والجبروت في وحدة معقولة، فان الحقيقة المستقلة والمتميزة لهذه الوحدة تتجلى في كتابة المبدعين، وهي كتابة لا تتناهى، ولكل منها أقلامها، كما قال النفري مرة:
كتابة القوة بأقلام القوة
كتابة المعرفة بأقلام المعرفة
وكل كتابة فبأقلامها تسطر!
وهي حقيقة لها معناها العميق في الابداع الصوفي وذلك بسبب تسطيره في الكلمة نطق القلب ومنطق الثقافة او وحدة الحقيقة والمعنى.
فالثقافة تبدع منطقها في الرؤية والفعل. والقلوب تبدع المعاني المتجددة في الرؤية والأفعال. ومن ثم فان الثقافة تبدع في الكلمة نطقها ومنطقها بوصفهما وحدة البيان والبرهان والمصدر يستند اليه الجميع في استمداد المعنى وتجديده، أما التصوف فقد ذوب هذه الوحدة في تجارب الفناء في الحق والبقاء في الحقيقة، وجعل منها أسلوبا لنطق القلب، باعتباره نطق الحقيقة والمعنى. مما اعطى له إمكانية التعبير عنها في الكلمة من خلال وحدة الأبعاد البيانية والبرهانية والعرفانية في الحقيقة، والتعبير عنها في العبارة من خلال وحدة الأبعاد البيانية والبرهانية والعرفانية في المعنى.
ليست وحدة الأبعاد البيانية والبرهانية والعرفانية في الكلمة سوى ما أسميته بصهر نسب الحقائق الحية للملك والملكوت والجبروت في الإبداع الصوفي، فقد جسد التصوف هذه النسب في طرق الشيوخ وتجاربهم باعتبارها تمثلا واعيا ووجدانيا لمنطق الثقافة (الإسلامية). وليست وحدة الشريعة والطريقة والحقيقة، والحس والعقل والذوق، الجسدي والنفسي والروحي، الطبيعي والإنساني والملائكي، وكثير غيرها سوى الصيغ المتنوعة لوحدة الحقيقة والمعنى، والتي نعثر عليها في ابداع المصطلح الصوفي من حيث جمعه أبعاد البيان والبرهان والعرفان، ومن حيث تميز حقيقته وخصوصية معناه، أننا نشر الى جانب المئات من المصطلحات الخاصة بالطريق (الصوفي) في مقاماته وأحواله الكثير الذي يرفد بنية الرؤية الصوفية في مواقفها من قضايا واشكاليات الوجود والروح والعقائد والمعرفة والإنسان، مثل مصطلحات المرأة والتجلي والحلول (في الوجوديات)، وأم الكتاب والعقل الأول والظل الأول والعقاب (في العقليات) والافق المبين والبيت والسفر والموت والآن الدائم والسر (في السلوك الروحي والمعرفي)، وأرائك التوحيد وأئمة السماء والجنة (في العقائد الدينية) والشجرة وظل الإله ولسان الحال وحجة الحق ومرآة الحضرتين (في الإنسان).
فقد وجدوا في (المرآة) الكيان الذي ينعكس فيه الوجود وتشع صور الأشياء والكيان الذي تتوقف نصاعته وصفا" على كيفية صقله، لهذا تكلموا عن " مرآة الكون " إشارة الى الوجود الوحداني المطلق الذي تظهر فيه الأكوان وأوصافها وأحكامها وتختفي بظهورها ما تخفي وجه المرآة بظهور الصور فيها. وتكلموا عن " مرآة الوجود" إشارة ورمزا الى شكل ظهور وتعين الشؤون الباطنة أو حقائق الأشياء، والموجودات استنادا الى أن حقائق الأشياء والموجودات باطنة، بينما تعينها أو تجليها ظاهر. بهذا المعنى فان ظهور أو تعين الشؤون الباطنة هو مرآة لحقائقها.
وتكلموا عن " مرآة الحضرتين " إشارة ورمزا الى الانسان الكامل الذي يجمد في ذاته حركة الإمكان والوجوب، وتكلموا عن " مرآة القلب " إشارة الى نوعية ودرجة تطور المعارف، انطلاقا من انه على قدر صفاء المرآة (القلب) تنعكس صور الأشياء وحقائقها. وعندما تناولوا مصطلح (التجلي) فانهم تكلموا عن " تجل أول " إشارة الى تجلي الذات الإلهية لذاتها، أو الوجود الحق المحض والمطلق ومصدر كل وجود و" تجل ثان " إشارة الى ما أسموه بظهور أعيان الممكنات الثابتة وحقائق الممكنات في علم الله ووحدة العلم والقدرة بالنور الإلهي والرحمة الإلهية، وعندما تناولوا مفهوم (الحلول)، فانهم تكلموا عن "الحلول السرياني"، إشارة الى اتحاد جسمين أحدهما بالآخر كحلول ماء الورد في الورد، و" الحلول الجواري" إشارة الى كون أحد الجسمين ظرفا للآخر كحلول الماء في الكوز.
وأعطوا للعقل في العقليات تسميات متنوعة، فتارة يدعوه (بأم الكتاب) إشارة إلى انه مصدر ولادة العلوم والمعارف، وتارة (بالظل الأول) كناية عن العقل الأول واشارة إلى كونه الظل الأول المترتب على ظهور نور المطلق (الله)، وتارة اسموه (بالقلم) لأن به يجري خط المقادير والعلوم، وتارة (بالعقاب) إشارة الى العقل الأول، هو أعلى وأرفع من أي شيء وجد في عالم القدس. وشبيها بالعقاب الذي هو ارفع صعودا في طيرانه جوا من الطيور الأخرى، وتارة (بالبيضاء) لأنه أول تجليات النور الإلهي، وسمي بالبياض ليقابل سواد الغيب والمجهول لأنه أول موجود يرجح وجوده على عدمه، انطلاقا من أن الوجود بياض والعدم سواد، بحيث جعل ذلك أحد المتصوفة يقول في الفقر " إنه بياض يتبين فيه كل معدوم، وس اد ينعدم فيه كل موجود" قاصدا بذلك فقر الامكان. وتكلموا في القضايا الروحية – المعرفية عن (الأفق المبين) إشارة الى نهاية مقام القلب، وعن (بيت الحكمة) إشارة الى القلب الغارق في الإخلاص، وعن (بيت القدس) إشارة الى القلب الخالص من الاغيار، والحر من قيود الأشياء وعن (البيت المحرم) إشارة الى قلب الإنسان الكامل المتجرد للحق فقط، وعن(السفر)باعتباره يصير القلب نحو الحق ذكرا، وتكلموا فيه عن" السفر الأول" رمزا الى ادراك حقيقة الوحدة من خلال ازالة حجب الكثرة، وهو سفر التجرد من المظاهر والا غيار بقهر النفس وتربية الإررادة من أجل بلوغ الأفق المبين(أو نهاية مقام القلب)." والسفر الثاني" هو سفر الانصاف بصفات الحق والتحقق بها، أو ما أسموه أحيانا بالسير في الحق بالحق مع ما يترتب عليه من إدراك جديد لحقيقة الوحدة."والسفر الثالث "هو السير نحو عين الجمع، أي تذليل الكثرة في الوحدة، وصيرورة الولاية من خلال إزالة التقيد بالضدين (الظاهر والباطن). وأخيرا " السفر الرابع " وهو الرجوع من الحق الى الخلق، وذلك بشهود اندراج الحق في الخلق واضمحلال الخلق في الحق، أي بلوغ مقام البقاء بعد الفناء، والفرق بعد الجمع، وتكلموا عن (الموت) وألوانه. (فالصوت) هو إشارة الى قمع هوى النفس، وإحيائها بالهدى. وهو ألوان، فمنه ما هو "أحمر" إشارة الى مخالفة النفس، ومنه ما هو "أبيض" إشارة إلى ممارسة الجوع لأنه ينور الباطن ويبيض وجه القلب. إذ من ماتت بطنه حييت فطنته، وموت " أخضر" اشارة الى لبس المرقعات التي لا قيمة لها، والخضار صفة القناعة، وموت "اسود" إلى احتمال أذى الخلق، والنظر اليه باعتباره بلاء. وتكلموا في قضايا العقائد (الدينية) عن (أرائك التوحيد) إشارة الى أسماء الذات الإلهية، وذلك لكونها مظاهر الذات او كراسي جلوسها، وتكلموا عن (أئمة السماء) إشارة الى الأسماء الإلهية السبعة، التي أطلقت عليها تقاليد علم الكلام الصفات السبع وهي الحي والعالم والمريد والقادر والسميع والبصير والمتكلم، وتكلموا عن (جنات) عديدة منها "جنة الأفعال " إشارة الى الجنة الصورية الملموسة الحسية باعتبارها ثوابا على أعمال الصالحين، و"جنة الوراثة" إشارة الى جنة الأخلاق المترتبة على متابعة سيرة النبي و"جنة الصفا" إشارة الى الجنة المعنوية القلبية، و"جنة الذات " إشارة إلى مشاهدة ما أسموه بالجمال الاحدي (المطلق)، وتكلموا عن (مبادئ النهايات) إشارة الى فروض العبادات من صلاة وصوم وزكاة وحج بوصفها منازل السالكين طريق الحق، فالصلاة هي الواسطة الحقيقية للوصول الى كمال القرب من الله. والزكاة هي بذل النغمى والروح والجسد بالاخلاص للحق. والصوم هو الامساك عما سوى الحق بالفناء فيه، والحج هو الوصول الى حقيقة المعرفة بالبقاء فيها بعد الفناء في الحق.
وفي الموقف من الإنسان، نظروا الى نموذجه المثالي في (الإنسان الكامل)، والكامل يتجلى تارة في مثال " الشجرة " إشارة إلى جمعه حقائق الإمكان والوجوب كالشجرة أصلها ثابت في الأرض وفروعها في السماء، فأعضاؤه كعروق الشجرة، وحقائقه الروحانية كفروعها، وتجليا الذاتي الدائم كثمارها وتارة أخرى وجدوا فيه " ظل الله " لأنه المتحقق بالحضرة الواحدية، لأنه يعتمد وجوده من وجودها، وتارة وجدوا فيه " لسان الحق" لأنه يتحقق بمظهرية الاسم الالهي المتكلم، وتارة هو "حجة الحق" على الخلق، لأن في وجوده تمثلا وتمثيلا للحق، وتارة هو " مرآة الحضرتين " أي الوجوب والإمكان كما في الشجرة.
كل ذلك يكشف عما في تنوع المصطلح الصوفي من تعبيرية عالية لخلجات الروح، واشتقاق نموذجي في تصويره للاحساس والعقل والحدس، فقد تمثل هذا التعبير والاشتقاق الأبعاد الحسية (المادية والبيانية والجمالية) والعقلية (المجردة) للثقافة الاسلامية في تعاملها مع قضايا الوجود والعقائد والمعرفة والأخلاق والاجتماع والسياسة والانسان.
فالثقافة تبدع تصوراتها وانطباعاتها وأحكامها عن الوجود الطبيعي والماورا طبيعي، عن الروح والجسد، والعقل والمعرفة والاجتماع والسياسة، والإنسان واشكالياته، فيما هو مناصب لتجاربها من قوالب التعبير المتنوعة في اللغة والرمز، والإشارة والعبارة والخط والرسم، والنحت والعمارة، والابداع الحقيقي فيها هو ذاك الذي يعبر عن وحدة تعرجاتها في الاستقامة، بمعنى ايجاد عين الاستقامة في الاعوجاج، كما دعاه" ابن عربي.
وقدم التصوف في موقفه من الكلمة وإبداعها أحد النماذج الرفيعة للثقافة، فالكلمة الصوفية (المصطلح الصوفي)، يعبران في استقامة الروح الخالصة عن اعوجاج الثقافة وانحرافاتها وانكساراتها وتعرجاتها الهائلة في ميادين البيان والبرهان، إننا نعثر فيهما على إخلاص لوحدة الحقيقة والمعنى، من هنا شفافية وحساسية المرآة والمتجليات والحلول السارية والجارية وأم الكتاب والظل والأفق المبين وبيت الحكمة وألوان الموت وأنواع السفر وأئمة السماء وأرائك التوحيد كما لو أن التصوف أراد الكشف عما وراء السريان والجريان والصفاء والظل والأفق والألوان من معان تعبر عن حقيقة الرؤية التي أبدعتها الثقافة في تجارب انتمائها لذاتها وإدراكها لقضايا وجودها التاريخي في ميادين ما وراء الطبيعي والأخلاق والاجتماع.
أعطى التصوف بما في ذلك لأشد الصيغ " تجريدا" التي بلورتها أيضا تقاليد الفقه والكلام وعلوم اللغة ملامح " الحمية " المفرطة وروح " الحلول " المثيرة، أما في الواقع فان حية التصوف وحلوله يعتمدان وجودهما من وجدان التعامل مع قضايا العقائد وغيرها من الأمور؟ بحيث لم يحاصرا أنفسهما في تعابير الكلام عن " هي" (الصفات) " هو" (الله) أو "هي هو" أو "هي لا هو" أو "هي هو ولا هو" وغيرها من الصيغ، بل تحولت إلى (أئمة) متعالية. والا فكيف يمكن للصوفي أن يتربع على " أريكة التوحيد" وهو الذي يسعى لان يكون مع الله بلا علاقة؟! ذلك يعني أن " أرائك التوحيد" هي أسس وجوده الروحي والجسدي التي توحد في حسيتها وجماليتها برهان الثقافة على قيمة ومعنى الارتماء في أحضان الرؤية التوحيدية (الصوفية).
ويجعل ذلك من الكلمة الصوفية مصدرا للرؤية المتجددة، لأنها، تحوي في وجدانية ابداعها خصوصية تكونها في لغة المعاناة الحية للتيربة الفردية، من هنا عنفوان "روح التأويل" الصوفي، شطحاته وتعرجاته في الكلمة، واستقامته في الحقيقة. وهو أمر يستند الى تراث الثقافة الاسلامية نفسها في ابداعها مفاهيم وأساليب الظاهر والباطن والحد والمطلع، غير أن التصوف أعطى لهذه الرباعية " الظاهر والباطن والحد والمطلع" أبعادها العرفانية أو الذوقية الخاصة فيما اسماه
بـ "الحقيقة القرانية ".. وليست الأخيرة سوى حقائق الرؤية الثقافية المتبلورة في ميادين الحس والعقل الإسلاميين. لهذا كان بامكان ابن عربي تقرير فكرته عن أن الإنسان حالما يفنى في الحق فانه يظل موحدا فاعلا ما فعل وقارئا ما قرأ. ذلك يعني إن فعله وتأويله مبني على أساس تجربة الروح الفردانية في اخلاصها للحق. من هنا انهماك الروح الصوفية (وتلقائيتها) في توحيد البيان والبرهان والعرفان في الرؤية باعتبارها صهرا متجددا لنصب الحقائق الحية للملك والملكوت والجبروت. فعندما فسر القشيري القرآن في " اللطائف "، فانه يسعى لكشف "اللطيفة " (السر والمعنى) في الكلمة القرانية. أي تأويلها بشكل يوحد الحقيقة والمعنى في وجدانية الرؤية. فهو يؤول على سبيل المثال الآية القرانية (والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم، لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار)، بصيغة أعطى لها مظهر الوحدة الحية لنسب الحس والعقل والحدس. فقد وجد فيها معنى أن الانسان في أوان القلب ضعيف مختصرا لفهم، ثم يتنكر حتى تزداد بصيرته، فهو كالقمر يصير كاملا ثم يتناقص ويدنو من الشمس قليلا قليلا. وكلما ازداد من المشس دنوا ازداد في نفسه نقصانا حتى يتلاشى. ثم يبعد عن الشمس فلا يزال يتباعد حتى يعود بدرا، شبيه الشمس عارف أبدا في ضياء معرفته، صاحب تمكين غير متلون يشرق من برج سعادته دائما، ولا يأخذه كسوف ولا يستره سحاب، وشبيه القمر انسان تتلون أحواله في تنقله، وأول الآية القرانية (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأهوالهم بان لهم الجنة) بصيغة جعلها تجميدا لتناسب الجسد والنفس والروح، وكتب بهذا الصدد قائلا، بأن النفس هي محل الأنانية، لهذا جعل الله الجنة (القلب) لم في مقابلها، وجعل ثمن القلب أجل من الجنة، وهو ما يخص به الأولياء، وأما القلب فاستأثره قهرا، والقهر في سنة الأحباب أعز من الفضل، وفي معناه انشدوا:
بني الحب على القهر فلو عدل المحبوب يوما لسمج
ليس يتحسر في حكم الهوى عاشق بطلب تأليف الحجج
وفي تأويله للآية (ومما رزقناهم ينفقون) حاول أن يظهر نموذج الوحدة الضرورية بين العلم والعمل والحال في وحدة الشريعة والطريقة والحقيقة. فهو ينطلق من ان انفاق الأموال فرض أو نفل على موجب تفصيل العلم (الفقهي)، في حين أن معنى الإنفاق في الطريق (الصوفي) هو إنفاق النفى في آداب العبودية لله، أما معناه في الحقيقة فهو إنفاق القلوب على دوام مشاهدة الربوبية، فالأوائل ينفقون من حيث الأموال والأواخر من حيث الأحوال. نعثر في هذه الصيغ التأويلية على توحيد وصهر لأبعاد البيان والبرهان والعرفان، أما المعنى الجديد فهو الاشتقاق الممكن من تجارب الروح المبدعة في تأويل التجربة الروحية (المنظومية والعملية) ومن هنا اختلاف تأويلات المتصوفة واقترابهم في المواقف. فقد أول ابن عربي، على سبيل المثال الآية (جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم) بالشكل التالي: الله مهد لهم أرض نفوسهم وبنى عليها سماوات أرواحهم وانزل من تلك السماوات ماء علم توحيد الأفعال فاخرج به من تلك الأرض نبات الاستسلام والأعمال والطاعات والأخلاق الحسنة يرزق قلوبهم من ثمرات الإيقان والأحوال والمقامات. لقد أراد ابن عربي ايجاد النسبة الحية بين الإنسان والكون في مكونات وجوده الأرضية والسماوية، الطبيعية والماورا طبيعية، الجسدية والروحية، وكذلك الأبعاد المتجددة لحقيقة هذه النسب في حالة إدراك معناها الحق، وبهذا المنحى أول كلمات الآية القرانية عن ضرورة الإحسان بذوي القربى واليتامى والمساكين وأبناء السبيل، معتبرا المقصود بذوي القربى أولئك الذين يناسبوننا في الحقيقة بحسب القرب في الاستعداد الأصلي والمشاكلة الروحانية، والمقصود باليتامى، المنقطعون عن نور الروح القدسي الذي هو الأب الحقيقي، بالاحتجاب عنه، وبالمساكين، العاملين الذين لا حال لهم ولا حظ من العلوم والمعارف والحقائق فسكنوا ولم يقدروا على السير، وهم السعداء الصالحون الذين مثالهم جنة الأفعال، وبابن السبيل السالك في طريق الحق والداخل في القربة عن مأوى النفس، الذي لم يصل الى مقام من مقامات أهل الله. أما من ملكت أيمانكم فهم أولئك الذين من صنف ارادتنا وصحبتنا الذين هم عبيدنا كلا بما يناسبه ويليق به من أنواع الإحسان، وإذا كانت حقيقة ذوي القربى تشبه المجردات مما في الملكوت، فان اليتامى يقابلون القوى الروحانية، والمساكين- القوى النفسانية (في الحواس الظاهرة) وابن السبيل- الفكر، وما ملكت ايمانكم – الملكات المكتسبة التي هي مصدر الأفعال الجميلة.
إننا نرى هنا أيضا محاولات جمع نصب الحقائق المكتسبة (من ملكات الحس والقوى النفسانية والفكرية والروحانية) (باعتبارها نصب الحس والعقل والحدس، والبحث فيها عن معنى جديد
للاحسان، باعتباره استنطاقا وجدانيا (قلبيا- صوفيا) لمنطق الثقافة (الإسلامية) في تنوع مواقفها منه (الإحسان). وهو مثال يكشف الى جانب التأويل الصوفي، عن أن قيمة الكلمة وفاعليتها مرتهن بكيفية صهرها نسب الحقائق الحية لعوالم الملك والملكوت والجبروت الثقافية في أتون التجربة الفردية للمبدعين، أي عندما يكون المبدع قادرا على جعل كلمة الروح روح الكلمة.
ج- العبارة: وحدة البيان والبرهان والعرفان
" العبارة حجارة للقصور والقبور"
من الممكن توقع حجم المعاناة المرهقة للروح والجسد، التي جعلت النفري يصرخ من أعماقه يوما قائلا " كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة "! وهي مفارقة لها أبعادها الخاصة في الكيفية التي تبدع بها الروح الصوفية وحدة الحقيقة والمعنى في العبارة، كما في قوله:
رأيت الأبد
ولا عبارة في الأبد!
وهو أمر يجعل الروح المبدعة تتولع في العبارة وتتفنن بها في آن واحد، بحيث تقض مضجعه تراكمها في معاناة الوجدان ووجد المعنى، كما في موقف النفري:
إذا جئتني فألق العبارة وراء ظهرك
وألق المعنى وراء العبارة
وألق الوجد وراء المعنى
مما يطالبه بالتمام في التعبير عما هو موجود وواجب. من هنا تمام التعبير في المدح والذم، والتأييد والاحتجاج، والتمام في الهيجان والسكون (المواقف). أي تطابق ظاهر وباطن الوجدان والمعنى في العبارة. وهو تطابق يشحن العبارة (الصوفية) بالمعنى بفعل احتوائها وحدة البيان والبرهان والعرفان، ويعطي للمعني أعماقه السحيقة بفعل استبطانه عوالم الملك والملكوت والجبروت. فإذا كانت العبارة تتمسك بقواعد اللغة في بيانها، وبقواعد المنطق في برهانها، فان عبارة الصوفية تعبر عن منطق الروح المبدعة في صهرها نصب الحقائق المتراكمة في معاناة وجدانها للمعني.
إن صهر نسب الحقائق المتراكمة في وجدان المعنى هو جوهر الابداع الصوفي، لأنه يذلل بيان اللغة ومنطقها (الجدلي والبرهاني) في عرفان التجربة الفردية، فالجنة والنار على سبيل المثال، باعتبارهما مفاهيم وقيما في اللغة والمنطق أيضا، يحتويان في البيان جمالهما الصوري (التعبيري)، وفي الحياة معناهما الوجودي والأخلاقي، وفي العقائد غايتهما المتسامية كتجل للعدل والقصاص انهما يحتويان على معان متنوعة قابلة للأخذ والرد، والايمان والشك، والبرهان والجدل، بينما يتخذان في العبارة الصوفية هيئة السبيكة الوجدانية لمعاناة الحقيقة والمعنى، كما في المحاورات التي يوردها النفري عن الجنة والنار، ففي الموقف من النار المحاورة التالية:
– قال لي: ما النار؟
– نور من أنوار السطوة.
– ما السطوة؟
– وصف من أوصاف العزة.
– ما العزة؟
– وصف من أوصاف الجبروت.
– ما الجبروت؟
– وصف من أوصاف الكبرياء
– ما الكبرياء؟
– وصف من أوصاف السلطان.
– ما السلطان؟
– وصف من أوصاف العظمة.
– ما العظمة؟
– وصف من أوصاف الذات.
– ما الذات؟
– أنت الله لا اله إلا أنت.
– قلت الحق !
– أنت قولتني.
– لترى بينتي
وفي المواقف من الجنة، المحاورة التالية:
– قال لي:
– ما الجنة؟
– وصف من أوصاف النعيم:
– ما النعيم؟
– وصف من أوصاف اللطف
– ما اللطف؟
– وصف من أوصاف الرحمة.
– ما الرحمة؟
– وصف من أوصاف الكرم.
– ما الكرم؟
– وصف من أوصاف اللطف
– ما اللطف؟
– وصف من أوصاف الود.
– ما الود؟
– وصف من أوصاف الحب.
– ما الحب؟
– وصف من أوصاف الرضا.
– ما الرضا؟
– وصف من أوصاف الاصطفاء.
– ما الاصطفاء؟
– وصف من أوصاف النظر.
– ما النظر؟
– وصف من أوصاف الذات
– ما الذات؟
– أنت الله؟
– قلت الحق.
– أنت قولتني.
– لترى نعمتي.
– مما سبق يبدو واضحا تجاوز الأبعاد الحسية والعقلية، أو البيانية والبرهانية في مفاهيم الجنة والنار الى مداها الذوقي، أي تذويبها جميعا في وحدة الحقيقة والمعنى، لان استخلاص الحقيقة يجري من تراكمها في منطق الإخلاص للحقيقة لا من جدل الخلاف والتضاد والمخاصمة والمحاججة، مما يؤدي الى ابداع المعنى بوصفه وجدانا للمعاناة الفردية، فالجدل هنا هو جدل الروح المخلصة في تتبعها سلسلة المعنى في الحقيقة. فالنار هي ليست كمية او نوعية الاحتراق ولا قوة الخراب والدمار، بل سلسلة السطوة والعزة والجبروت والكبرياء والسلطان والعظمة. وكذلك الحال بالنسبة للجنة، فهي ليست كمية أو نوعية الوداعة والراحة والاطمئنان والهدوء والتلذذ بل سلسلة النعيم واللطف والرحمة والكرم والعطف والود والحب والرضا والاصطفاء، انها سلسلة بلوغ المطلق بالمطلق وسلسلة المعنى في لسان الروح المبدعة، ففي النار نعثر على معنى البينة، وفي الجنة على معنى النعمة باعتبارهما رؤيا، أي الامكانية الدائمة في تعمق الرؤية وتوسع احتوائها بسبب امتداد المعنى من وجدان سلسلة الحقيقة. انها مشحونة بالمعنى لانها توحد عوالم الملك والجبروت والملكوت، أو البيان والبرهان والعرفان باعتبارها سلسلة الوجود المادي والروحي للصوفي، وسلسلة حقائقه ومعانيها، من هنا تجليها في كل وجد وحال وفي كل موقف ومقال. فعندما حبس الشبلي وقتا في المارستان، ودخل عليه جماعة من أصحابه سألهم من هم، فأجابوه بأنهم أحباؤه جاءوه زائرين. عندها أخذ يرميهم بالحجر وهو يقول " يا كذابون! لو كنتم أحبائي لصبرتم على بلائي!". في حين سجد أحد الشيوخ شاكرا بعد أن صب على رأسه طستا من رماد وهو مار في شارع. وعندما قيل له " ما هذه السجدة "؟ أجاب: كنت انتظر ان تصب علي النا. فالاقتصار على الرماد نعمة! ويروى عن ابراهيم الخواص انه رأى مرة وهو في طريق الشام شابة حسن المراعاة، فقال له:
– هل لك في الصحبة؟
– أني اجوع.
– ان جعت جعت معك.
فبقيا هكذا أربعة أيام دون أكل، وفي اليوم الخامس حصلوا على ما حصلوا فقال ابراهيم للشاب:
– هلم !
– اعتقدت اني لا آخذ بواسطة.
– يا غلام دققت.
يا ابراهيم لا تتبهرج! فان الناقد البصير مالك! وأقل التوكل ان ترى عليك موارد الفاقات فلا تسمو نفسك إلا الى من اليه الكفايات.
ويحكى أن رجلا رأى من بعض المحبين لله ما استجهله فيه، فاخبر بذلك معروفا الكرخي، فتبسم وقال " يا أخي ان لله محبين صغارا وكبارا وعقلاه ومجانين، فهذا الذي رأيته من مجانينهم"! ودخل الجنيد مرة على السري السقطي، فرآه متغيرا، فقال له:
– ما لك؟
– دخل علي شاب فسألني عن التوبة فقلت له " أن تنس ذنبك "، فعارضني وقال " بل التوبة ان تنسى توبتك ".
– إن الأمر عندي ما قاله الشاب.
– ولم؟
– لأني إذا كنت في حال الجفاء فنقلني الى حال الوفاء، فذكر الجفاء في حال الصفاء جفاء. عندها سكت السقطي وسكن، وعندما سألوا فتحا الموصلي عن الصدق، فانه ادخل يده في كير الحداد وأخرج المديدة المحماة ووضعها على كفه وقال " هذا هو الصدق "! وحكي عن الجنيد انه قال مرة "رأيت في المنام كأني أتكلم على الناس، فوقف علي مالك فقال: اقرب ما تقرب به المتقربون إلى الله ماذا؟ فأجبته: عمل خفي بميزان وفي"! وعنه أيضا انه قال مرة " رأيت في المنام كأني واقف بين يدي الله، فقال لي: يا أبا القاسم ! من أين لك هذا الكلام الذي تقول؟ فأجبته: لا أقول إلا حقا!
ان هذا العمل الخفي بالميزان الوفي، الذي يتجلى أثره في المواقف والأفعال، كما هوا لحال في أمثلة الصبر والشكر والتوكل والجدل والصدق ما هو إلا ميزان الحقيقة والمعنى المتراكمين في تحسس وعقل وتذوق نصب الوجود (المالك والملكوت والجبروت) وترتيبها في الابداع.
ومن الممكن اتخاذ حكم ابن عطاء السكندري في (الحكم العطائية) نموذجا للعبارة المشحونة بالمعنى. أي تلك التي تتشكل في قواعد ما أسميته بمنطق الروح الصوفية المبدعة، باعتباره منطق الصهر الدائم لنسب الحقائق المتراكمة في المعاناة الوجدانية للمعني، ومنطق توحيد الأبعاد البيانية والبرهانية والعرفانية في العبارة (الحكمة)، فقد صاغ موقفه من الهمة في حكم عديدة منها:
" سوابق الهمم لا تخرق أسرار الأقدار".
وفي الموقف من الأعمال في الحكمة القائلة:" تنوع أجناس الأعمال لتنوع واردات الأحوال".
وان:
"الأعمال صور قاتمة وأرواحها سر الإخلاص فيها". وفي الموقف من العزلة، الحكمة القائلة:
"ادفن وجودك في أرض الخمول، فما نبت (شيء) ما لم يدفن ". وانه:
وانه:
"ما نفع القلب شيء مثل عزلة.
يدخل بها ميدان فكره ".
وفي المواقف من مفارقات الوجود والارادة، الحكمة القائلة: "ما أرادت همة سالك ان تقف عندما كثف لها. إلا ونادته هواتف الحقيقة: الذي تطلبه أمامك! ولا تبرجت ظواهر الممكنات إلا ونادته حقائقها: إنما نحن فتنة فلا تكفر"!
وفي الموقف من الظاهر والباطن، الحكمة القائلة: " من أشرقت بدايته أشرقت نهايته "
وانه:
"ما استودع في غيب السرائر
ظهر في شهادة الظواهر"
وفي الموقف من الوسيلة والغاية، الحكمة القائلة:
"لا ترحل من كون الى كون، فتكون كحمار الرحا
يسير والذي ارتحل اليه هو الذي ارتحل منه
ولكن ارحل من الأكران الى المكون "
وانه:
"ما قل عمل برز من قلب زاهد
ولا كثر عمل برز من قلب راغب "
ان:
"الأنوار مطايا القلوب والأسرار"
وفي الموقف من الصيرورة والديمومة، الحكمة القائلة:
" نعمتان ما خرج موجود عنهما
ولا بد لكل مكون منهما
: نعمة الايجاد ونعمة الإمداد "
ان:
"ورود الإمداد بحسب الاستعداد
وشروق الأنوار على حسب صفات الأسرار"
وفي الموقف من الحق والحقيقة، الحكمة القائلة:
"من عرف الحق شهده في كل شيء
ومن فنى به غاب عن كل شيئين
ومن أحبه لم يؤثر عليه شيئين
ان:
"من اذن له في التعبير
فهمت في مسامع الخلق عباراته
وجليت اليهم اشاراته "
وانه:
"ربما برزت الحقائق مكسوفة الأنوار
اذا لم يؤذن لك فيها بالإظهار"
وفي الموقف من الإنسان، الحكمة القائلة:
"جعلك في العالم المتوسط بين ملكا وملكوته
لعلمك جلالة قدرك بين مخلوقاته
وأنت جوهرة تنطوي عليك أصداف مكوناته"
نعثر في كافة الحكم، مواء ما يتعلق منها بالهمة، والأعمال،
والعزلة ومفارقات الوجود، والظاهر والباطن، والوسيلة والغاية،
والصيرورة والديمومة، والحق والحقيقة، والإنسان واشكالياته على توحيد نموذجي لأبعاد البيان (جمال العبارة) والبرهان (دقتها) والعرفان (جلائها المباشر). وفي الأبعاد كلها نعثر على وحدة الحقيقة والمعنى، ومن ثم امكانية تأويلها المتجدد بمعايير الحس والعقل والحدس، باعتبارها بداية ونهاية الابداع في العبارة.
ميثم الجنابي (كاتب واكاديمي عراقي يقيم في موسكو)