ما يميز رواية تعاطف للكاتب أمير تاج السر أنها رواية شخصيات، تجسد أنماطا مختلفة من الوعي الاجتماعي، يظهر من خلال سلوكها الذي يعكس خاصيتي الثبات والتحول داخل الرواية ما يسهم في تنامي وتطور أحداثها. وإذا كان عنوان الرواية تعاطف الذي يتألف من كلمة واحدة تحمل في بنيتها الدلالية معنى العاطفة، فإن بنيته النحوية كاسم مجرد تجعل دلالته مفتوحة، وهو ما يعكس طبيعة الشخصية المركزية قسم السيد محارب المفتوحة على التفاعل العاطفي مع الكائنات المختلفة بشرا وحيوانات، غرباء وأبناء بلد، بسبب سيطرة نوبات التعاطف الدائمة عليه، ما يجعل هذا العنوان الذي يحيل إلى التمن السردي بمثابة مفتاح تأويلي، يصعب فهمه وإدراك معناه خارج النص الذي يدخل معه في علاقة تبادلية، سيجدها القارئ ماثلة في شخصية بطل الرواية، باعتبارها قيمة إنسانية أصيلة في عالم مختل وغير أصيل من جهة، ومن جهة ثانية لأنها الدافع الذي يحرك أحداث الرواية، ويرسم مساراتها بشكل صاعد وتعاقبي، إضافة إلى دورها في ربط شخصيات هذا العالم الغريب مع بعضها البعض.
تقاطع الدلالات
تتسم شخصية بطل الرواية قسم السيد محارب حارس الأمن في فندق سواري بالثبات نتيجة مشاعر التعاطف الشديدة والدائمة التي تصيبه حيال أي موقف أو حالة غير طبيعية يواجهها الإنسان أو الحيوان، دون أن تحول ممارسة هذا السلوك المتسم بالسمو الأخلاقي أي مشاق أو تضحيات، على الرغم من الواقع الاجتماعي والمعيشي الصعب، ما يجعل سلوك الشخصية منسجما مع هذا السمو، الذي تتميز من خلاله شخصيته بالخصوصية التي تميزه عن بقية شخصيات الرواية، وهو ما يمنحه دوره المحوري في أحداثها.
تحتشد الرواية بشخصيات مختلفة من جنسيات محلية وأجنبية جاءوا من مناطق قريبة وبعيدة لغايات وأهداف مختلفة، ما جعل الرطانة في هذا المكان هي إحدى العلامات الدالة على هذا الوجود الغريب. تتداخل مصائر هذه الشخصيات وتتقاطع في هذا المكان التقليدي، الذي لم ينل نصيبه من الرقي الحضاري كما يتجلى ذلك في صورة فندق سواري على الرغم من النجوم الكثيرة التي يحملها على أكتافه( كانت الشوارع التي يستطيع مشاهدتها من مكانه مزدحمة بنزيف الصباح، طلاب مدارس صاخبين، وموظفين يسيرون بخطى نائمة، ومتسولين وعاطلين وعربات مكدسة، وأبواق متذمرة، ورياضيون يركضون في الأرصفة، وقد تقاطر منهم العرق. تذكرَ حياة الحزبي فتح الله التي دامت طويلا في عربة مماثلة وكيف كان يستنشق الحياة ويستطعمها من خلال نافذة).
إن غرابة هذه الشخصية المحورية لا تنفصل عن غرابة عالمه الذي تتحرك فيه، وتخترقه شخصيات الرواية، حيث يشكل فندق سواري نقطة تقاطع مصائر وعلاقات هذه الشخصيات الرئيسية أو الثانوية مع بعضها البعض، على أن العنصر الحاسم في علاقات التواصل بينها هو شخصية بطل الرواية وما تبديه من ضروب مختلفة من التعاطف معها( الجدة عاقبة التي تتمكن من أكل اللحم بعد ثلاثين عاما- شقيقه المتدرب على طرد الجن- الرجل الإغريقي من الجنس الثالث- الكونتيسة صاحبة بيت المتعة غير الرسمي- المحرر الثقافي المتملق- المغنية سنابل التي ترتبط بعلاقة خاصة مع حاكم مقاطعة إفريقية مغرم بها- حارس الفندق- الإفريقية المسكونة بالجن التي أضاعت اسم وعنوان الشيخ الذي سيطرد الجن الذي يسكنها- ابن بريك الحكاء- الشيخ المزاين صاحب دار المزاين لطرد الجن وتعليم فنونه- الصيني الباحث دون جدوى عن اللذة..).
الشخصيات وتطور السرد
تتفاوت درجات تأثير هذه الشخصيات في تطور أحداث الرواية، لكن ثمة علاقة تظهر بين الدلالة المفتوحة لحالة التعاطف التي تسيطر على شخصية بطل الرواية، وغياب الاسم المحدد للمدينة التي تجري فيها أحداث الرواية وتتحرك شخصياتها، على الرغم من التسميات الخاصة لبعض الأماكن فيها، الأمر الذي يجعل الكاتب يستعيض عن ذلك بوصف تفاصيل المكان لما يحققه ذلك من توليد للمعنى، ويسهم به في الكشف عن العلاقة بينه وبين شخصيات الرواية. وهكذا فإن غرابة هذا العالم الروائي تقابله غرابة شخصياته التي تتقاطع مصائرها فيه، وعلاقاتها مع بعضها البعض في هذا الفضاء السردي الذي يحاول أن يمنح المتخيل سمة واقعية من خلال التركيز على وصف المكان، الممتد بصورة أساسية بين الفندق الذي يعمل بطل الرواية حارسا فيه، والساحة التي يتجمع فيها المطرودون منه، بعد أن يعجزوا عن دفع أجرة الإقامة فيه.
تتولى شخصية السارد العليم سرد أحدث الرواية وتقديم شخصياتها، من خلال وصفها وذلك بهدف إبراز التداخل الغريب الذي فرضه نظام العولمة على هذا المكان المحافظ والنائي، وما تولد عنه من على المستوى الاجتماعي من علاقات تناقض بين المكان والشخصيات الغريبة الوافدة إليه للاستثمار في عالمه البكر، كما يظهر ذلك من خلال شخصيات الإغريقي من الجنس الثالث والصيني الباحث عن اللذة الجسدية في عالم محافظ، والكونتيسة التي تحل مشكلة هذا التناقض بالعمل السري من خلال إنشاء دار المتعة.
تتمثل نقطة التحول في حياة قسم السيد عندما يلتقى بالمرأة الغانية باكار التي جاءت تبحث عن عنوان شيخ أضاعته لطرد الجني الذي تتوهم أنه يسكنها. لقد شكل هذا اللقاء الذي يتم في المكان المخصص للمطرودين من الفندق بعد نفاد مالهم موضوعا أثيرا لنوبة التعاطف التي تداهمه، ولذلك ستكون هذه العلاقة وما ينجم عنها من أحداث في رحلة البحث عن عنوان شيخها الذي أضاعته هي المحرك الأساس لتنامي أحداث الرواية، وما يرافقها من ظهور شخصيات جديدة، وأمكنة جديدة سوف تشكل فضاء المكان الروائي، حيث يتم بناء أحداث الرواية في هذا الحيز المكاني الدال.
تتوزع الرواية على سبعة فصول يحمل كل منها عنوانا خاصا به، يشكل مفتاحا دلاليا لفهم التحولات التي تطرأ على عالم السرد وأحداثه. تظهر وحدة البنية السردية في هذه الرواية من خلال العلاقة التي تنشأ بين فاتحة السرد وخاتمته، حيث تتولى شخصية السارد العليم في هذه العتبة تقديم شخصية بطل الرواية قسم السيد محارب وما تتسم به من نوبات تعاطف، وبين خاتمة السرد التي تصف هذه الشخصية وهي تحاول الهرب من مشاهد هذا العالم القاسي والغريب الذي يفاجئه كل يوم( على دكة المطرودين أمام الكنيسة المهجورة، وهو قادم إلى عمله الصباحي) بعد أن عجز عن مواصلة تعاطفه مع سميتا الغانية، التي تفاجئه هناك بمظهرها البائس والحزين، إضافة إلى اليوناني الذي يحدق بلا كلل في الطريق، لاسيما بعد موت الكونيسة الفاجع له، وغياب المطربة سميتا، وطرد الشيخ المهين لسميتا بعد نفاد مالها، ما جعل الخيارات أمامه معدومة، وبالتالي لا يجد غير الفرار منها وسيلة للهرب من شعوره بالعجز عن التعبير عن تعاطفه وتقديم الدعم لها، أمام اشتداد قسوة الواقع وغياب البدائل الممكنة لمساعدتها للخروج من محنتها. إنها هزيمة العاطفة النبيلة أمام الواقع وتعبير عن سطوة عن العلاقات المادية في عالم يزداد قسوة ويبدو فيها بطل الرواية قسم السيد محاصرا بالعجز عن مواصلة تعاطفه مع كائناته الحزينة.
مفيد نجم*