كعادتها في تناول المواضيع كلّها من دون استثناء، تجد السينما الهوليوودية الأمريكية في الصحافة والإعلام مادة درامية مثيرة لصناعة جاذبة لمشاهدين عديدين ولسجالات نقدية متنوّعة، بتوغّلها في شؤون المهنة، أو بتناولها شخصياتٍ فاعلة فيها، ومؤثّرة في الحياة العامة والخاصّة لأناس عاديين، أو ذوي مناصب أساسية في الأنظمة المتنوّعة التي تتحكّم بدول ومدن وأنماط عيش.
في الربع الأخير من العام 2015، تُطلَق العروض الدولية لفيلمين أمريكيين جديدين ينتميان إلى ما يُمكن تسميته بـ«أفلام الصحافة والإعلام»: «سبوتلايت» لتوم ماكارثي (1966)، و«حقيقة» لجيمس فاندربيلت (1975). فيلمان يحرّضان على قراءة هذا النوع من النتاج السينمائيّ، من خلال تحليلهما النقدي.
ـ 1 ـ
لا تنحصر الأفلام المتعلّقة بعالمي الصحافة والإعلام في إطار واحد، كأن تتوقّف عند أصول المهنة وأخلاقياتها وقواعدها وآليات اشتغالاتها فقط؛ أو كأن تروي فصولاً من سِيَر صانعيها وهمومهم المهنية والحياتية العامة والخاصّة. فالأفلام هذه، الروائية الطويلة بشكل خاص، تتناول شتّى الأمور والحكايات، مازجةً ـ في سياقاتها الدرامية والحكائية ـ كيفية الاشتغال بمسائل شخصية لعاملين فيها، من دون التغاضي عن مسارات العمل بحدّ ذاته، أثناء انكباب صحافيين وإعلاميين على مسألة معينة، لها امتداداتها المختلفة في الاجتماع والثقافة والسياسة والاقتصاد والأمن، كما في عوالم الإجرام المتنوّع (مخدّرات، قتل، إرهاب، إلخ.) والقضايا الإنسانية والعلمية المختلفة مثلاً.
بمعنى آخر، تكاد مهنة الصحافة ـ الإعلام تنكشف بكلّيتها في صناعة الفن السابع، إلى جانب سِيَر شخصيات صحافية ـ إعلامية فاعلة ومؤثّرة في المهنة والحياة العامة للمجتمعات المحلية، أي «البيئة الحاضنة» للشخصيات هذه، كما للعالم الأوسع. وهي، إذْ تتوسّل مفردات اللغة البصرية في مقاربتها المهنة وأنماط اشتغالاتها، لا تبتعد عن الجماليات الفنية واللغة السينمائية، فإذا بهذه الجماليات وتلك اللغة تتشاركان معاً في عملية تشييد عمارة سينمائية متكاملة تتمثّل بغالبية واضحة من الأفلام المتينة الصُنعة، التي تثير متعة المُشاهدة، وتحرّض ـ في الوقت نفسه ـ على التأمّل في البناء الفيلمي ومضمونه الدرامي ـ الحكائي، وعلى مناقشتهما وتحليلهما وقراءتهما.
وإذْ يُعتَبر «المواطن كاين» (1941) لأورسون ويلز (1915 ـ 1985) نموذجاً لمقاربة سينمائية لاذعة ومتهكِّمة، من دون تناسي بنيانها الفني والدرامي والجمالي والأدائي المتماسك، لأحد أقطاب الصحافة ـ الإعلام، ولمساراته الحياتية والمهنية والأخلاقية؛ فإنّ «كلّ رجال الرئيس» (1976) لآلان ج. باكولا (1928 ـ 1998) يُصبح، منذ إطلاق عرضه التجاريّ الأول في 7 أبريل 1976، أحد أبرز النتاجات الأمريكية الفاضحة شيئاً من دهاليز السياسة وفسادها ومتاهاتها، عبر مهنة الصحافة المكتوبة، التي «تفضح» قيام رجال الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون (1913 ـ 1994) بوضع أجهزة تنصّت ومراقبة داخل المقرّ العام لـ «الحزب الديمقراطي» الأمريكي، فيما يُعرف بـ «فضيحة ووترغايت» (نسبةً إلى مبنى المقرّ العام هذا).
إثر إطلاق عرضه التجاريّ في الأول من مايو 1941، يتردّد في الأوساط الصحافية والنقدية والثقافية والاجتماعية الأمريكية أن الشخصية الرئيسية في «المواطن كاين» تجسيدٌ سينمائيّ لسيرة رجل الأعمال الأمريكي ويليام راندولف هيرست (1863 ـ 1951)، أحد أقطاب الصحافة المكتوبة؛ بينما يرى البعض فيه انعكاساً لحكاية هاورد هيوز (1905 ـ 1976)، المليونير المنشغل بأعمال سينمائية واختراعات علمية، والمؤثّر في الحياة الإنتاجية لهوليوود. غير أنّ السياق الدرامي لفيلم ويلز يكشف تماهياً لاذعاً بسيرة هيرست، وصخبه الإعلامي والصحافي، ويتوغّل في خفايا الشخصية وعوالمها السرّية، ويُعرّي مساراتها الفضائحية المنفلشة في شؤون العيش والمهنة والحياة الاجتماعية.
أما قضية «كلّ رجال الرئيس»، فتنكشف بفضل جهدٍ يقوم به صحافيان يعملان في الصحيفة اليومية «واشنطن بوست»، هما كارل برنشتاين (داستن هوفمان) وبوب وودوورد (روبرت ريدفورد)، بدءاً من شهر يونيو 1972. جهد يفضح ويُعرّي ويواجه وقائع التنصّت والمراقبة (وما خلفها وفيها ومعها من حقائق تنفلش على سلوك سياسي وعلاقات عامة وغيرها من التفاصيل المشابهة)، ويُساهم في «دفع» الرئيس نيكسون إلى الاستقالة من منصبه، في 9 أغسطس 1974.
ـ 2 ـ
لن يكون «كلّ رجال الرئيس» مجرّد تسجيلٍ سينمائيّ للجهد الفردي للثنائيّ الصحافي هذا، لأنه ـ في سياق متابعته المسار المهنيّ للصحافيين وودوورد وبرنشتاين، وكيفية التنقيب عن أدلة عملية تؤكّد ما يكتبانه ويقولانه ويفضحانه ـ ينصرف إلى تفعيل الجوانب السينمائية برمّتها، تصويراً وإضاءةً وتوليفاً، بالانطلاق ـ أساساً ـ من نصّ سينمائي مكتوب بسلاسة بصرية، تضع الجانب التوثيقي للقصّة الحقيقية في مستوى واحد مع المتخيّل الروائيّ. وهذا، إذْ يضع الفيلم في إطاره السجالي المتكامل ولغته الفنية المتينة البُنية الدرامية، يجعل التمثيل، مع هوفمان (1937) وريدفورد (1936)، نوعاً من «درسٍ أدائي» هو، عملياً، إحدى المحطات الرئيسية في بلورة فعل الأداء التمثيلي في مسيرتهما المهنية اللاحقة.
روبرت ريدفورد نفسه يُشارك في فيلم آخر ينتمي، هو أيضاً، إلى عالم الصحافة ـ الإعلام، أو بالأحرى إلى الإعلام المتلفز: «لقطة قريبة وشخصية» (1996) لجون آفنت (1949)، بالإضافة إلى «حقيقة» فاندربيلت، فيلمه الأخير لغاية الآن في المجال هذا. في الأول (لقطة قريبة وشخصية)، يؤدّي دور مراسل إعلامي يُشرف على التدريبات الأولى لمذيعة جديدة (ميشيل بفايفر، 1958)، فتنشأ بينهما ـ بالإضافة إلى حِرفية المُدرِّب وحماسة المتدرِّبة للمهنة، المُضافة إلى نشاطها وجدّيتها ومثابرتها على اكتساب كلّ مفيدٍ لها لبلورة حضورها المهني ومكانتها الوظيفية ـ أحاسيس رومانسية، قبل أن يسقط قتيلاً أثناء تغطيته المهنية إحدى الحروب في العالم. وفي الثاني (حقيقة)، يُقدِّم شخصية دان راثر (1931)، المذيع الأول لبرنامج «60 دقيقة»، الذي تُنتجه الشبكة التلفزيونية الأمريكية «سي. بي. أس. نيوز»، الذي يُشارك فريق العمل بقيادة المنتجة ماري مابس (كايت بلانشيت، 1969) في كشفهم ـ عشية الانتخابات الرئاسية الأمريكية في العام 2004 ـ فضيحة تهرّب الرئيس جورج دبليو بوش (1946) ـ المُرشّح حينها لدورة رئاسية ثانية ـ من الخدمة العسكرية في بداية شبابه، بفضل علاقات قوية ناشئة بين عائلته ومسؤولين كبار في ولاية «تكساس»، معقل النفوذ الاقتصادي ـ المالي ـ السياسي لعائلة بوش، بينهم قادة في المؤسّسة العسكرية الأمريكية.
في الأفلام الثلاثة تلك، يُقدِّم روبرت ريدفورد ـ كعادته في تأدية أدوار وشخصيات مختلفة، يبلغ الاختلاف بينها أحياناً عديدة حدّ التناقض، فإذا به يصنع من التناقض مفاتيح لبلورة حِرفية التمثيل، واكتشاف كلّ جديد ممكن فيه ـ أداءً يستعين بلغة الجسد، حركة وتعبيراً وتواصلاً، المحصّنة ببراعة الانخراط في ثنائية الجسد والروح للشخصية، إنْ تكن الشخصية هذه حقيقية أو متخيّلة. وعلى الرغم من التنوّع في العملين الصحافي المكتوب والإعلامي التلفزيوني، إلاّ أن حيويته السينمائية نابعةٌ من حِرفية اشتغال تمثيلي مُطعَّمٍ بحراك يساريّ ثقافي منفتح، يتّخذ من القضايا العامة مادة سجالية تتيح له تفكيك بعض الجماد، أو تعرية بعض المبطّن. ومع أن الأفلام الثلاثة منخرطة في أصول المهنة (الصحافة والإعلام)، وفي التنقيب العمودي في القضايا الثلاثة (إحدى القضايا هذه لن تكون مستلّة من واقعة حقيقية، بقدر ما تبقى عامة قد تحصل في أي مكان وزمان، كما في «لقطة قريبة وشخصية»)؛ ومع أن روبرت ريدفورد «بارعٌ» في تأدية أدواره فيها؛ إلاّ أن اشتغاله التمثيلي في «كلّ رجال الرئيس» يبقى الأجمل والأكثر حيوية إبداعية وجمالية فنية، من دون الانتقاص من قدرته الجمالية على التمثيل السوي في الفيلمين الآخرين.
ـ 3 ـ
إذاً، يلتقي «حقيقة» بـ «كلّ رجال الرئيس» عند معالجتهما السينمائية قضيتين حقيقيتين، وعند ارتكاز السيناريو الخاصّ بكل واحد منهما على كتاب يوثّق المسألة، ويُشكّل دافعاً أول وأساسياً لصناعة الفيلم. فـ «كلّ رجال الرئيس» يستند إلى كتاب صادر في العام 1974 بالعنوان نفسه، يؤلّفه الثنائي كارل برنشتاين (1944) وبوب وودوورد (1943)، يُحوّله ويليام غولدمان (1931) إلى سيناريو. و«حقيقة» منطلقٌ من كتاب «حقيقة وواجب: الصحافة، الرئيس، وامتياز السلطة» لماري مابس (1956) نفسها، صادر في العام 2005، علماً أن المخرج جيمس فاندربيلت كاتبُ السيناريو.
يلتقيان أيضاً عند الحساسية السياسية للموضوعين، التي تُعتَبر بمثابة العمود الفقريّ للنصّ السينمائي، والتي تُشكّل الركيزة الدرامية الأولى للبناء الفيلمي. فالسياسة، هنا، نواة حبكة لا تكتفي بنقل وقائع وسرد مضامينها، لأنها تُضيف إلى النقل جمالية الصورة في معاينة أحوال مهنة وأصول اشتغالاتها، وفي مقاربة السياسة ومتاهاتها وفسادها والمصالح الخاصّة بعاملين فيها. كما أنها تروي، وإنْ بشكل خفي، المواجهات القائمة بين المهنة بحدّ ذاتها، والمؤسّسات الفاعلة في السياسة والمجتمع والأمن، من دون تناسي تسليط ضوء على نباهة الصحافي ـ الإعلامي، وانتباهه الدائم لأولوية الحصول على المؤكّد في المعطيات الموجودة بين يديه، ولأصول العمل وأخلاقياته، كما لـ «توقيتٍ» يُناسِب لحظة الإعلان عن الموضوع ـ الفضيحة.
التوقيت هذا (من دون تناسي أولوية الحصول على المؤكَّد، وأصول العمل وأخلاقياته) يظهر في «سبوتلايت» لتوم ماكارثي أيضاً، إذ يؤجّل فريق العمل في قسم «بقعة ضوء» (الترجمة العربية للمفردة الإنجليزية «سبوتلايت»)، في الصحيفة اليومية الأمريكية «بوسطن غلوب»، موعد نشر «القصّة ـ الفضيحة»، عند وقوع جريمة الاعتداء الإرهابيّ على الولايات المتحدّة الأمريكية في 11 سبتمبر 2001 (برجا «المركز العالمي للتجارة» ومبنى الـ«بنتاغون»). فعلى الرغم من أهمية تحقيقاته وفضائحيتها، إلاّ أن فريق «سبوتلايت» يرتأي التأجيل، لأن الاعتداء الإرهابيّ جُرمٌ إنساني بحقّ أناس وبلد ومجتمعات وجاليات، هو الأبرز والأخطر من فضيحة تهزّ المجتمع الكنسيّ والبيئة الحاضنة له في بوسطن أساساً. هذا من دون التقليل من أهمية الفضيحة، إلاّ أنّ الكشف عنها قابلٌ للتأجيل، في ظلّ اعتداء إرهابيّ آنيّ يقتل نحو 3 آلاف مدني بريء، ويُدخل العالم برمّته في صراعات مختلفة. والتوقيت، إذْ ينطبق على مهنيين كثيرين، يؤكّد أن الفيلم السينمائي المعني بالصحافة والإعلام لا يتغاضى عن تفاصيل هي، فعلياً، جوهر العمل ومهنيّته.
لن يكون «سبوتلايت» أقلّ قيمة وأهمية سينمائيتين من «حقيقة»، وإنْ يختلف الموضوعان أحدهما عن الآخر. فمع توم ماكارثي، يكشف الفيلم خفايا قضية حقيقية متعلّقة بفضيحة تحرّش جنسيّ يقوم به رجال دين تابعين للكنيسة الكاثوليكية في بوسطن. التحقيق الصحافي يبدأ في العام 2001، قبل أشهر عديدة على «جريمة 11 سبتمبر». لكن التحرّش حاصلٌ قبل ذلك بأعوام مديدة، علماً أن التحقيق الصحافي لن يتوقّف عند فعل التحرّش بحدّ ذاته فقط، لأنه يكشف «تغاضي» الكنيسة الكاثوليكية عن الجُرم، وحماية رجالها المتّهمين به، علماً أن عددهم يبلغ نحو 80 كاهنًا يعملون في رعيّتها في بوسطن بشكل أساسيّ.
كما في «حقيقة»، كذلك في «سبوتلايت».
ذلك أن اكتشاف الأجهزة العاملة بقيادة الرئيس بوش الابن للمعطيات المؤكَّدة الموجودة لدى فريق «60 دقيقة»، في «حقيقة»، يؤدّي إلى شنّ حملة إعلامية ـ أمنية ـ استخباراتية ـ سياسية متكاملة ضد الفريق عامة، وضد منتجة البرنامج تحديداً؛ ويفضي إلى بدء تحقيق داخلي في الشبكة التلفزيونية مع ماري مابس، ينتهي بغلبة المنتجة، لامتلاكها المؤكَّد والثابت اللذين يُحصّنان حقائق الفضيحة. في حين أن المجتمع الحاضن للكنيسة، بتعاونٍ خفيّ ومبطّن معها، لا يتردّد عن فعل «المستحيل» لمنع نشر الفضيحة في الصحيفة، ويمارس ـ بتوافق غير مباشر مع الكنيسة ـ شتّى أنواع الضغوط الممكنة، وإنْ من دون فائدة تُذكر. أما المختلف بينهما، فكامنٌ في أن «موضوع بوش الابن» حكرٌ على البرنامج، الذي يعمل جاهداً على بثّه علناً من دون تردّد؛ بينما «فضيحة التحرّش» حاضرةٌ في الصحيفة نفسها قبل أعوام، من دون أن ينتبه أحدٌ إلى أهمية استكمالها وكشف ما فيها من معطيات وحقائق. بهذا، يُمكن القول إن «سبوتلايت» يُسلِّط ضوءاً على مسألة «الإهمال المهنيّ»، من دون إدانة أو أحكام مسبقة، علماً أن تفسيراً آخر يُمكن سوقه في المجال هذا، إذ لا يتوانى السيناريو عن «التشديد» على الدور الأساسيّ لمارتن (مارتي) بارون (1954)، رئيس التحرير الجديد لصحيفة «بوسطن غلوب»، اليهودي الديانة (يؤدّي دوره ليف شرايبر، 1967)، الذي يُحرّض على نبش المخفيّ في المسألة.
ـ 4 ـ
وإذْ ترتكز الحبكة الدرامية لـ «حقيقة»، المستلّة من قصص واقعية، على حلقة «بوش الابن» في برنامج «60 دقيقة»، الذي تُنتجه «سي. بي. أس. نيوز» ويُبثّ على شاشة الشبكة التلفزيونية الأمريكية «سي. بي. أس.» منذ العام 1968؛ فإن فيلمين آخرين على الأقلّ ينقلان قصّتين حقيقيتين أيضاً تلعب المحطة نفسها دوراً أساسياً في كشفهما وفضح خفاياهما: «عمتم مساءً، وحظّاً سعيداً» (2005) لجورج كلوني (1961)، و«المُطّلع» (1999) لمايكل مان (1943)، أو ـ بحسب العنوان الإنجليزي الأصلي ـ The Insider، الأكثر تعبيراً عن المضمون الفعليّ للقصّة ـ الفضيحة.
الأول مبنيٌّ على سلسلة حلقات يُنجزها الثنائيّ المذيع ومُقدِّم برنامج «شاهِدْه الآن» إدوارد مورّو (1908 ـ 1965) ـ يؤدّي دوره ديفيد ستراثرن (1949) ـ والمنتج فْرَد فرندلي (1915 ـ 1998) ـ يؤدّي دوره كلوني ـ حول «مطاردة الساحرات»، الوصف المُطلق على حملة السيناتور جوزف مكارثي (1908 ـ 1957) ضد اليسار والشيوعيين في الولايات المتحدّة الأمريكية (تُعرف المرحلة تلك بـ «الحقبة الماكارثية» أيضاً، في خمسينيات القرن الـ 20)، وهو عملٌ يساهم بشدّة في «سقوط» ماكارثي. أما الثاني، وإنْ يبقى داخل استديوهات الشبكة التلفزيونية نفسها، يعيد رسم ملامح المسار المهني للإعلامي لويل برغمان (1945) ـ يؤدّي دوره آل باتشينو (1940) ـ أحد صانعي برنامج «60 دقيقة» أيضاً، ولجيفري ويغاند (1942) ـ يؤدّي دوره راسل كرو (1964) ـ نائب رئيس «قسم الأبحاث والتطوير» في «شركة براون وويليامسون للتدخين»، الذي يكشف، في النصف الأول من تسعينيات القرن الـ 20، حجم الأضرار الصحية للتدخين، بالإضافة إلى فضحه «كذب» الشركة واحتيالها على القانون الأمريكي في صناعة التبغ.
في فيلمه الروائي الطويل الثاني هذا كمخرج، يعتمد جورج كلوني تقنية الأسود والأبيض في تصوير إحدى أقسى المراحل التاريخية في العصر الحديث للولايات المتحدّة الأمريكية، بعد نحو 5 أعوام على نهاية الحرب العالمية الثانية، و«اشتعال» الحرب الباردة بين المعسكرين «الديمقراطيّ الرأسماليّ الغربيّ» و«الاشتراكيّ الشيوعيّ الشرقي». تقنية سينمائية تصوغ وقائع المواجهة الإعلامية اليومية لـ «الحملة الماكارثية»، وتبحث في أساليب العمل ومخاطره، وتتوقّف عند الصراع الآخر بين الإعلام المتلفز والصحافة المكتوبة، من خلال متابعة مقالات نقدية تتناول إعلاميين وبرامجهم المختلفة. وإذْ يبدو كلوني الممثل، في الحقبة تلك، أكثر براعةً في اختيار أدواره والاشتغال عليها؛ فإنه كمخرج يؤكّد، بعد أول إخراج له بعنوان «اعترافات عقل خطر» (2002)، أنه سائرٌ في مهنة يمتلك مفاتيحها ولغتها وتفاصيلها، مستمرّاً في نهجه الإخراجيّ البارع في التقاط أسس البناء الفيلميّ وجوانبه، في Leatherheads (2008) و«منتصف آذار» (2011)، قبل أن تتراجع براعته الإخراجية في «رجال التماثيل» (2014).
«عمتم مساءً، وحظّاً سعيداً» يكاد يبقى داخل الاستديوهات التلفزيونية، على أنّ إطلالاته خارجها قليلةٌ، بعضها يتمّ عبر شاشات صغيرة تتابع «المحاكمات الماكارثية». وهذا يختلف عن طريقة اشتغال مايكل مان في «المُطّلع»، إذ يتلاعب التصوير بالأمكنة المتنوّعة، كي يروي حكاية عالِمٍ يريد كشف بعض المستور خلافاً لعقد العمل الموقّع مع الشركة. الصراع قائمٌ في مستويات عديدة، بدءاً من المحاولات الدؤوبة للويل برغمان لإقناع جيفري ويغاند «المثول» أمام الكاميرا وقول المخفيّ. لكنه صراعٌ مفتوحٌ داخل أروقة العمل، و»نزاهة» المهنة (الإعلام)، خصوصاً بعد ضغوط تُمارَس على الإدارة العليا للشبكة التلفزيونية لمنع بثّ الحلقة.
يتشابه الفيلمان في اختيارهما محطات أساسية في المسارات المهنية للإعلام المتلفز، وإنْ عبر شبكة تلفزيونية واحدة. الواقعي في الحكايتين يتحوّل إلى إضافة نوعية لمعنى المهنة وأصولها، وللعالم المحيط بها وحاجاته المتناقضة والنواة الجوهرية للعمل الإعلامي. أما السينما، فحاضرةٌ ليس فقط في إعادة سرد تفاصيل ومناخات، بل في آليات التصوير والإضاءة والتوليف والموسيقى والتمثيل، إذ يجمع الفيلمان بعض أهمّ ممثلي أمريكا. فبالإضافة إلى كلوني وستراثرن وباتشينو وكرو، هناك ـ في «عمتم مساءً، وحظّاً سعيداً» ـ كلٌّ من روبرت داوني جونيور (1965) وجف دانيالز (1955) وفرانك لانغيلاّ (1938)؛ وكريستوفر بلامر (1929) في «المُطّلع». وهذا، إنْ يُشكّل واجهة الفيلمين، لا يغفل حيوية الممثلين الآخرين في أدوارهم المختلفة.
ـ 5 ـ
فرانك لانغيلاّ يظهر لاحقاً في فيلم «فروست/ نيكسون» (2008) لرون هاورد (1954)، مؤدّياً دور الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون في عزلته ما بعد الرئاسية. قصّة حقيقية أيضاً، تستعيد وقائع لقاء تلفزيوني يُجريه الصحافي البريطاني ديفيد فروست (مايكل شين، 1969) معه في العام 1977. يروي الفيلم المسار الصعب لفروست (1939 ـ 2013)، إذْ تحول تعقيدات كثيرة دون بلوغه مُراده بسهولة، في حين أن الحوار نفسه لم يُقدِّم جوهر المطلوب: الاعتراف بمسؤولية الرئيس عن «فضيحة ووترغايت». غير أن المقابلة تكشف، من بين أمور أخرى، الالتباس الكبير في البناء النفسي ـ الروحي لنيكسون: هل أُصيب بفقدان ذاكرة ما، أو أن الشيخوخة تأكله، أو هو الندم، أو ربما الخبث السياسي المحنّك الذي يستعين به الرئيس لإدارة الحوار المتلفز على طريقته وبقيادته؟
لرون هاورد تجربة سابقة في مجال «أفلام الصحافة والإعلام»، إذْ يُنجز «الجريدة» في العام 1994، مع روبرت دوفال (1931) و.. مايكل كيتون (1951)، المؤدّي دور والتر روبنسون، رئيس قسم «بقعة ضوء» في «بوسطن غلوب»، في «سبوتلايت». في «الجريدة»، يؤدّي شخصية هنري هاكيت (رئيس تحرير «نيويورك صنّ») الذي يواجه كمّاً هائلاً من التحدّيات والمآزق، بين العام (المهنة ومشاكلها) والخاصّ (زوجته وعشيقته وحياته اليومية). والفيلم، المنسوجة حكايته من العوالم المختلفة لمهنة الصحافة وتفاصيلها التي لا تنتهي، يبقى عملاً بسيطاً وجميلاً ومتماسكاً في توغّله داخل أروقة الصحيفة وخفايا عاملين فيها، بالإضافة إلى آليات العمل المهنيّ أيضاً؛ تماماً كـ «أنا أحبّ المشاكل» (1994) لتشارلز شيّا (1941)، مع الثنائي نك نولته (1941) وجوليا روبرتس (1967).
هنا أيضاً لن تكون القصّة حقيقية، بل واقعية. أي أنها لن تستند على أحداثٍ تجري فعلياً في زمنٍ ما، بل تبقى «واقعية»، أي أنها قابلة لأن تحدث في أي مؤسّسة صحافية أو إعلامية: بيتر براكيت (نولته) صحافيّ في «شيكاغو كرونيكل»، يجد نفسه في تنافس «حادّ» (مهنياً، لكن عاطفياً أيضاً) مع سابرينا بيترسن (روبرتس)، العاملة في «غلوب». تنافس معقودٌ على متابعتهما المواضيع والتحقيقات نفسها، قبل أن يجدا نفسيهما في مطاردة خفية لصانعي «نابالم» المستخدم في الحرب الأمريكية في فيتنام.
ـ 6 ـ
النماذج الفيلمية المذكورة في المقالة هذه «عَيِّنة» متواضعة عن كيفية التعاطي السينمائي مع مهنتي الصحافة والإعلام، بالانطلاق من جديد السينما الأمريكية «سبوتلايت» لتوم ماكارثي و«حقيقة» لجيمس فاندربيلت. نماذج تعكس شيئاً جوهرياً من المعاني الأساسية للسينما وللصحافة والإعلام. فالأولى تنكشف على الشاشات الكبيرة بفضل عناوين تمزج جمالية الصورة ولغتها بحيوية المهنتين ومخاطرهما وتحدّيات العاملين فيهما. والمهنتان، إذْ تُقدّمان بعض روايتهما عبر السينما، تساهمان في تفعيل أحد الجوانب الباهرة في الصناعة البصرية: الكشف والتعرية والقول والبوح، تماماً كما يُفترض بالصحافة والإعلام أن يفعلا.
نديم جرجوره