منذر مصري
لنفترض فرضًا أنه صحيح ذلك التاريخ المكتوب في أسفل هذا التقرير الذي سأرفق لكم صورة منه ما إن أنتهي من هذه المقدمة، إنه في 2014/12/13، طلب مني خالد خليفة، أن أكتب تعريفًا به، أو ترشيحًا، لا أدري ماذا يسمى بدقة، “وحبذا لو تستطيع كتابته باللغتين العربية والإنكليزية” قال لي، يحتاجه لأجل أن يرسله إلى هيئة ثقافية ما، في بلد عربي أو أجنبي، لا أذكر أي بلد بالتحديد، كان يحاول الحصول على منحتها للكتابة! بعدها سافر خالد مرات لا تحصى، إلى بلاد عديدة، ولا أدري ما إذا كان ما كتبته عنه قد ساعده كثيرًا أو قليلًا، إلّا أنه أخبرني وقتها بأنه أحبه لدرجة أنه يفكر في استخدامه كمقدمة لإحدى رواياته المترجمة! الأمر الذي لم يحدث. للأسف! فقد كان خليقًا بأن يحقق لي شهرة ما، لا أمل لي بالوصول إليها ما دمت مصرًا على ألّا أفعل مثله وأكتب رواية! وأحسب الآن رغم أن رحيله الذي فاجأ الجميع، ما عداي، مناسبة بالغة الحزن، إلا أنها ربما الوحيدة المتاحة لي لرفع تقريري هذا…:
إلى من يهمه الأمر
يومًا، لم يسألني خالد خليفة رأيي، وربما لم يسأل أحدًا، فيما إذا راق لي، أو فيما إذا شاهدت فحسب، أيًا من مسلسلاته التلفزيونية الشهيرة، التي لا أحفظ من أسمائها سوى اسم الأول منها: (سيرة آل الجلالي- 2000) ربما لأني شاهدت بالصدفة مشهدًا منه خلال زيارتي لبيت صديق، أو لأنه من إخراج صديق آخر هو هيثم حقي. المسلسل الذي تكفّل -بخبطة واحدة- بنقل خالد من مشروع شاعر محبط وروائي مغمور كبقية مجايليه، إلى شخصية ثقافية معروفة في سوريا، وأيضًا فيما يطلق عليه الوطن العربي الكبير. ذلك أنه من المفترض بي كصديق، لا أن أشارك في متابعتها بذلك الهوس الجماعي الذي انساق له كل من حولي، فهذا مطلب عسير عليّ تلبيته، أنا كاره المسلسلات التلفزيونية حتى المكسيكية منها، بممثلاتها الساحرات والناطقات بلغة عربية فصحى تستدعي الإعجاب، بل فقط أن أشاهد، ولو من باب الفضول، حلقة أو حلقتين لا أكثر من حلقاتها، لكني لم أفعل أبدًا. ذلك لأن خالد يعلم أن مشكلتي معه كانت، بكل بساطة، انحيازي المطلق لعمله كروائي.
منذ (حارس الخديعة) التي أحتفظ بطبعتها الأولى إصدار مجلة ألف /1993/ بغلاف من رسم وتصميم أحمد معلا، إلى الرواية المفضلة لدي التي استغرق خالد دهرًا في كتابتها، حتى صار يضرب بها المثل: (دفاتر القرباط) دار ورد /2000/، والتي حين سئلت عن انطباعي عنها في مقابلة تلفزيونية أجبت، بأن خالد خليفة قد أثبت بها صحة الإشاعة التي تقول إنه ذو أصول قرباطية (غجرية). تبعتها رواية (مديح الكراهية) دار أميسا /2006/ التي يعدها خالد نفسه أم رواياته على الإطلاق. كان على خالد أن يشقّ طريقًا، نصبت عليه الكثير من الحواجز والمخافر والسدود، طريقًا طويلًا وضيقًا وصاعدًا وداميًا، لا أدري إلى أي جلجلة، ربما بدون مبالغة كلامية من أي نوع: الجلجلة السورية الكبرى. فما أن صدرت هذه الملحمة حتى عرف الجميع، المحبّون والكارهون على السواء، المحبّون على كثرتهم، فالسؤال من لا يحبّ (أرنست همنجواي) الرواية السورية؟ والكارهون على قلّتهم، لكنهم لا ريب موجودون، حتّى إني أعرف بعضهم، كما أعرف حقّ المعرفة لماذا يكرهون خالد خليفة، وكم يشقيهم هذا الكره، أنهم أمام واحد من أهم النتاجات الثقافية، وليس الإبداعية فقط، خلال الربع الأول للقرن الحادي والعشرين. الأمر الذي أكدّه الاحتفاء اللافت الذي استقبلت به عربيًا وعالميًا، حين أعيدت طباعتها أكثر من مرة، لتصل إلى القائمة القصيرة لجائزة بوكر العربية /2008/ في دورتها الأولى، وأعتقد شخصيًا لولا وجود رواية (واحة الغروب) للروائي المصري الكبير بهاء طاهر ضمن الروايات المرشحة لفازت بالجائزة، ولكن ما إن صدرت (مديح الكراهية) مترجمة إلى الإنكليزية، حتى اعتبرت واحدة من أفضل /100/ رواية في كل العصور. من يصدّق أن واحدًا منا، يحيا بين ظهرانينا، يستطيع أن يصل إلى شيء كهذا.
كثيرًا ما سألت نفسي ماذا دفع بخالد، كصاحب دار صغيرة ناشئة (أميسا)، لم تصدر سوى /4/ كتب، ثم أغلقت. ثلاثة منها رواياته التي ذكرت، لأن يتكبّد خسارة مادية كبيرة محتّمة، ويطبع لي /1000/ نسخة من مجلد شعري ذي /510/ صفحات!؟ أعلم أنه يحب شعري، وأنه لولاه، لولا شعري، لولا ثلاثية (رأسان على وسادة ضيقة) بالذات، يقول ضاحكًا، لما أبطل كتابة الشعر، ولما أخذ قراره النهائي بالتحول إلى كتابة المسلسلات والروايات. نعم، كثيرًا ما سألت نفسي لماذا؟ ولم أجد جوابًا على سؤالي، سوى رغبته بإقامة عدالة ما، رفع ذلك الجور الذي أصاب شاعرًا من وطنه يحبه ويقدره، منذ مصادرة مجموعتي: (داكن) /1989/، إلى عدم صدور أي كتاب لي في بلدي وبلد خالد، سوريا، وترافق ذلك مع تمزيق قصيدة لي نشرت في مجلة الناقد، والمنع الضمني، غير المعلن، لنشر قصائدي حتى في الصفحات الثقافية التي يشرف عليها، الذين من المفترض أنهم أصدقاؤنا. إلى أن جاء عام /2006/، عندما أصدرت لي دار (أميسا)، دار خالد خليفة: (المجموعات الشعرية الأربع الأولى)، التي، رغم قدمها جميعها، لم يكن قد صدر منها سابقًا سوى مجموعة شعرية واحدة. الأمر الذي جعلني أشعر وكأنه يحدث لي وأنا ميت!
غالبًا ما يذكر في سيرة خالد خليفة الشخصية، أنه بدأ حياته الأدبية شاعرًا، غير أن أحدًا لا يملك أي دليل مادي على ذلك سوى شخص واحد هو منذر مصري. فأنا الصديق الأمين الذي اختاره خالد ليورثه، قبل موته بما يقارب العقدين، يتيمته الشعرية: (كوتر وحيد في كمنجة متروكة)، وأنا من يطمع في بيعها يومًا ما، آملا أنه بعيد كفاية، في إحدى المزادات العالمية لمخطوطات الكتاب الكبار! كما كنت أردد أمامه.. فيضحك!
لم يتوقف خالد عن كتابة المسلسلات، ذلك أنه يحتاجها للعيش، كما عندما قايض واحدًا منها بأول سيارة كان له أن يمتلكها، وكانت (فيات) صغيرة حمراء، ما إن جلس وراء مقودها، في اليوم الأول من استلامه لها، حتى قام بها برحلة طولها /365/ كيلو مترًا، من دمشق إلى اللاذقية. وصل خالد إلى اللاذقية، وجلس في أحد مقاعد الرصيف لكافتيريا البستان، سالمًا! سالمًا ولكن (الفيات) الصغيرة تعرضت لحادث تافه!، فلقد تحطم بسبب اصطدامه بحيوان قفز أمامه فجأة، الطرف الأيمن من مقدمتها، ولم يجد خالد أيّ داع ليخبرنا تفاصيل الحادث. غير أن كتابة الروايات صارت شاغله الشاغل، وبينما سوريا تغوص في واحد من أشد مسلسلاتها الدرامية حزنًا ومأساوية، إذ به يصدر روايته الرابعة: (لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة) دار العين – القاهرة /2013/. ويفوز بجائزة، سيد الرواية العربية بلا منازع، نجيب محفوظ، إضافة إلى وصولها للمرة الثانية للقائمة القصيرة لجائزة بوكر العربية /2014/.
تقريري عن خالد خليفة المرسل إلى فرع فيلات برزة المسبقة الصنع، ولو افتراضيًا، مقابل السماح لي بالاستمرار بشرب الماء وتنشق الهواء والنظر إلى السماء، والسباحة في (فشيفش) طبعًا، كما ترون، ليس سوى شهادة مجروحة. مجروحة بصداقتي لهذا الرجل، وبحبي الشديد لكل ما هو عليه وكل ما يكتبه وكل ما يفعله. حتى عندما أعطي رقم جواله لصديقة تريد التعرف عليه لغرض ما، فيبيض وجهي بحسن استقبالها ووداعها، وبذل ما في وسعه لمساعدتها. يومًا لم يخيب خالد ظنّي في شيء، وبالتأكيد موقفه المبدئي الصريح من الحراك السوري لم يكن مفاجئًا لي، لكني أشك بأني أستطيع أن أكيل له هذا القدر من المديح الشخصي والإبداعي لأنه كذلك. مع أني لا أدري كيف يمكنه، أو يمكن لأيّ منا، أن يكون، في الحالة التي نحن عليها، أكثر صدقًا وأكثر شجاعة! لذا وبكل تجرّد أريد أن أختم تقريري المغرض هذا بشيء لطالما كنت على قناعة كاملة به، ولم يتح لي من قبل فرصة لأقوله، بأن خالد خليفة، مجرد مثال، نعم لا أكثر من مثال، بقدر ما هو نادر، بقدر ما هو حقيقي ويمكن تعميمه على كثير من المبدعين السوريين، لما تستطيع سوريا أن تقدمه للعالم.
ويسرني (الآن يحزنني)، أن أغتنم الفرصة بأن أختم تقريري هذا، بقصائد من مخطوطته الشعرية (كوتر وحيد في كمنجة مقطوعة) التي قدمها لي ذات يوم، منذ ما لا يقل عن /15/سنة قائلًا: هذا لك.. أبطلت الشعر بسببك! قراءتي لقصائدك عن مصطفى عنتابلي جعلتني أحسم أمري بأنه عليّ أن أكون روائيًّا”. أجبته دون أي أثر للجدية: “رائع.. هذا ربما أفضل ما أستطيع فعله لأجلك!” وكنت محقًا، على غير عادتي، وأنقذت خالد من أن يكون شاعرًا:
1 –
ألا يكفيك
أنني بلا ملامح
من كثرة ما لفحتني رياحك
ألا يكفيك
أنني ولدت
مغلقًا يدي الصغيرة
على خاتمك
و
ألا يكفيك
أنني سأموت
وأنت ملاكي الوحيد.
2 –
أقسمْ أمام الجميع
بأنك لن تفتش دفاتري
وتتجسس على خزانة ملابسي
بأنك لن تفضح أسراري
وتبعثر أشياء نسائي
كي أتركك في منزلي
تشرب القهوة وحيدًا
فقط أقسم
كي تعرف
بأنني
ما زلت أصدقك.
3 –
في تلك الغرفة
حذرتك من اللحاق بي
قلت لك
سأصبح غيمة
هززت برأسك
وصافحتني
لم تلحق بي
لكنك سكنتني.
4 –
قد تأتي أول امرأة
وآخر امرأة
وما بينهما
ليبكين ويهتفن باسمك
لن أصدقهن
بأنك لم تمت
فأنت قد هجرتني
فقط لأنني
خنتك ألف مرة.
5 –
كلهم يتحدثون عني
ولا يعرفني
أحد
سواك.
6 –
لست وحيدة
ذهبت وتركت لك
الورود.
7 –
ألم يكن موعد موتك
مساء
لماذا كذبت
وتركتني
آتيك
بالورود صباحًا.
8 –
رجل
امرأة
وآخرون
الرجل صامت
خانه الكلام
المرأة صامتة
خانها الكلام
الآخرون يثرثرون
في الحب والذكريات
رجل وامرأة فقط
يقولان كل شيء
دون أي كلمة
يخونان الآخرين.
9 –
تغيرت رائحة البيت
ثيابي ستبقى في الخزانة
دون حراك
كجثة معلقة في الهواء
لن يبقى للطاولة أي معنى
سأنسحب من ذاكرة المخدات
ستبقى أسراري أسرارًا
كل ما كنت أريده منكم
ستخالفونه
لمجرد
أنني رجل ميت.
10 –
تعبت روحي
وما تعبت أقدام المشيعين
ما تعبت أكفهم
لم تسمعوا أنيني
لم تشموا روائح مللي
تمهلوا قليلًا
عند مفترق بيتها
بحجة أنكم تريدون تغيير كفني المبلل
استريحوا
علها تغافلكم
وتندس بجانبي
تضربني على أرنبة أنفي
وتقول لي:
“هكذا أحبك
ممددًا على الأرض
وميتًا.
11 –
بيتي أغرقه الندم
ثيابي سكنتها روائح الأعداء
وكل ما فيّ تلاشى
مسيرك إليّ عبث
جسدك المدمى بعثرته الريح
فمن يعيدني إلى المسرات
ويمنحني صمتًا ملونًا
وندمًا جديدًا.