فادي أبو ديب
باحث سوري
في دراستها لنصوص «ترابها زعفران» للمؤلف المصري إدوار الخراط (1926-2015) تذكر الناقدة ماجدة النويهي في تعليقها على أسلوب الخراط في النصوص المذكورة أنّه «يتحرّك… جيئة وذهابًا بين توصيفات تبدو واقعية ونوبات شبه حلمية وقريبة من الهلوسة، مستخدمًا لغة مراوغة ومتحديًا التعيين الزمني»1. وفي كتابه «مخلوقات الأشواق الطائرة ومحطة السكة الحديد» يظهر هذا الأسلوب مجددًا2؛ فالنصوص المندرجة تحت هذا العنوان هي مزيج من تقنيات سردية متعددة تجعل العمل من دون شكل واضح وأقرب إلى العمل المفتوح، كما تشير النويهي بالاستناد إلى إلياس خوري وإدوارد سعيد3. ويورد حيدر حيدر اسم الخراط ضمن قائمة روّاد ما يسميه «الرواية العربية الجديدة»، التي من إحدى سماتها أنها «تنزع من خلال بنيتها ولغتها وكثافتها، إلى خلق مستويات متفاوتة، تاركة المجال مفتوحًا لأكثر من احتمال وتأويل وإمكان، إلى حد بعيد، من إطار الخط المباشر والمستقيم والمنطق، داخلة في إطار الحياة السرية واللامعقولة أحيانًا، في عالم تهريجي لا يخضع للمنطق والمعقول.»4 ويرتبط ما يقوله حيدر عن «الرواية العربية الجديدة» بنقده لرواية «عصر النهضة» العربي وواقعيتها الوهمية. إحدى أهم الخصائص التي يشير حيدر إليها في الرواية الجديدة هي الزمن النفسي للشخصية الروائية الذي لا يتوافق مع الزمن الخارجي5. وهذه السمة تشكل سمة هامة من سمات أسلوب الخراط، كما سيتبين خلال هذا البحث من خلال استكشاف السمات (شبه) الحلمية التي تجعل الزمن مختلفًا عن زمن العالم المرجعيّ، والتي تجعله أيضًا لا يسير بشكل خطّيّ.
وهكذا يمكن القول إنّ نصوص الخراط ليست مجرد خيال سرديّ fiction فحسب، بل هي نوع خاص من هذا الخيال الذي يستعمل تقنيات معينة تجعله يحتوي على خيال شبه حلميّ. وسيدرس هذا البحث هذه التقنيات التي تجعل النص عند الخراط يولّد مثل هذا الانطباع التخيّليّ الحالم عند القارئ، وذلك بالاعتماد على جوانب من نظرية استجابة القارئ عند الناقد الألماني فولفغانغ إيزر، وبشكل خاص مفهومه عن ثنائية «التخييلي والتخيّليّ» من جهة ومفهومه عن الفجوة ودوره خلال فعل القراءة. ومن اللافت أنّ إيزر يساوي بين المعنى المزدوج [وهذا لا يعني وجود احتمال معنيين فقط] للنص الأدبي الخيالي [وبالتالي القدرة على توليد التخيّل] وبنية الحلم، إلا أن الفرق بينهما هو أنّ الحالم مقيّد بعالم الأحلام بينما تكون عملية التخييل أكثر وعيًا وقدرة على التحكم بالحدود6. وفي نصوص الخراط كثير من المقاطع التي تبرز خواص (شبه) حلمية يبدو فيها البطل أسير خيالاته وتصوراته بكل ما يرافق ذلك من تغريب وذعر أو ظهور ثيمات حلمية مشهورة مثل عدم القدرة على الصراخ أو تجاوز حد معين من الحركة أو تكرار يخلخل الزمن أو تداخلات مكانية وتحولات في المشاهد. ومن الجدير ذكره أنّه لا يمكن الحديث عن حدود واضحة بين ما هو حلميّ وشبه حلميّ إلا بمقدار ما يبيّن السياق أنّ البطل يدرك، ولو بعد حين، حقيقة تصوراته ونوبات الهلوسة التي تصيبه. ومن ناحية أخرى، فإنّ المقاطع من زاوية نظر القارئ هي دائمًا شبه حلمية كونها بطبيعة الحال تُقرأ في حالة اليقظة.
ويعتمد الخرّاط على استخدام أطوار من سيرته الذاتية في عدد كبير من الأعمال التي تتخذ من الإسكندرية والأماكن الأخرى التي عرفها في طفولته مسرحًا للتخييل والابتكار. يلاحظ القارئ هذا الأمر في أعمال من قبيل «رامة والتنين» (1980) و«ترابها زعفران» (1985) و«يا بنات إسكندرية» (1990) وحجارة بوبيلو (1992) وأعمال أخرى، بالإضافة إلى عمله «محطة السكة الحديد» موضع البحث7. ويؤكّد الخراط على العلاقة الوثيقة بين كتابته والهموم العامة، ولكنه ينبّه في الوقت عينه إلى أنّ توجهاته هذه «لا تستغرقها هذه الهمومُ اليوميّة، لا تنظر في هذه الهموم اليوميّة إلى جانبها العَرَضيّ أو الزائل بل تحاول الكتابة أن تضمَّن في اليوميّ ما هو قادرٌ على تحدّي الزمن أو العابر، ما هو يطمح أن يبقى.»8 هذه الإضاءة من الخرّاط نفسه على مشروعه الأدبيّ ومنهجيته تكشف، من بين أمور عديدة، عن رغبة في الوصول إلى القارئ مهما كان الزمن الذي يعيش فيه، فالبقاء الذي يطمح إليه الخرّاط هو بقاء لما يمكن لأيّ قارئ في أيّ زمان كان أن يحاكيه ويختبره ويتفاعل معه. ويمكن القول إنّ هذه القدرة على البقاء تُوَفِّر على العمل الفني والقارئ في آن واحد الحاجة إلى شروح مطوّلة عن خلفية النصّ ومؤلّفه. أي يصبح مكتفيًا ذاتيًا. ومن منظور نظرية إيزر عن استجابة القارئ يظهر نصّ الخراط بوصفه النصّ الذي ينطبق عليه بأفضل كيفية مفهوما إيزر عن التخييلي والتخيّليّ، بوصفهما علاقة النصّ بقارئه، ومن حيث جوهرية دور هذا القارئ (الضمنيّ) في بناء النصّ. حول هذا يصرّح الخرّاط مخاطبًا قارئه مباشرةً:
ليس العمل الفنيّ متْنًا بحاجةٍ إلى شروح ولا يمكن أن يكون، ما لم يكتفِ بذاته فكأنه لا ضرورة له. ربما كانت أعمالي كلّها تتطلّب من قارئها ما لم يَعْتَدْه هذا القارئ، تتطلب منه مشاركةً فعّالةً في عملية الخلق نفسها. عمليّة القراءة إذن هي عمليّة الكتابة. الإمكانيات متعدّدة أمام القارئ، هذا ما يُسمّى بالغموض، وما أعتبره أنا في غاية الوضوح. الإمكانيات مفتوحة ولا حدود لها، تستطيع أنت أيها القارئ أن تعيد كتابة هذا النصّ في حدود ما أمامك وهي حدود واسعة9.
وهكذا فإنّ «الحساسية الجديدة» التي كان الخرّاط قد نظّر لها قبل بضع سنوات من هذا العمل لا تتضمّن أشكالًا سرديّة غير مألوفة في الكتابة العربية فحسب، بل تشتمل أيضًا على نظرة جديدة للعلاقة بين المؤلّف والنصّ والقارئ. وبالتالي لا يكون التجديد على مستوى الأسلوب فقط، بل على مستوى الرؤيا التي تقود العملية الإبداعية. هذه الرؤيا تفترض أنّه «لا يجب أن تكون هناك أي مساحة بين الكاتب والقارئ، وأن يكون هناك توحّد بين القارئ والكاتب، وأن يكون القارئ هو نفسه الكاتب، بحيث يشارك في عملية الخلق مع الكاتب.» 10
وتشكّل عملية الخلق هذه، كما سيظهر جليًّا في سياق هذه الدراسة، صُلب عملية التخيّل التي تتولّد من فعل القراءة، ونتيجة أكيدة لوجود عناصر التخييل في النصّ. والقارئ بالنسبة إلى الخرّاط ليس مجرّد مشارك في عملية خلق النصّ بل تبريرًا لهذا النصّ ومؤلّفه، حيث يصرّح: «إذا قرأني قارئ واحد، وأحْسَن قراءتي، ففي هذا تبرير لوجودي.11» ومن الضروريّ في هذا السياق لفت الانتباه إلى أنّ الخرّاط لا يعني بهذا أنّ الكاتب يفكّر في قارئه لحظة الكتابة أو أنّه يقوم ما بوسعه لجعل فعل القراءة أسهل وأكثر سلاسةً، فهذا الانشغال بالقارئ يعيق في نظره عملية الخلق الفنّيّ12. يؤكّد الخرّاط، من ناحية أخرى أنّ القراءة والتلقّي الفنّي ليسا أمرين يولدان مع الإنسان بالفطرة بل يحتاجان إلى المران والتدريب والتواضع، ومع ذلك فهو مقتنع بأنّ نصّه الأدبيّ قادر على الوصول ضمن حدود معيّنة إلى القارئ العاديّ غير المدرَّب13.
فما هو دور تقنيات التخييل، بحسب الناقد الألماني فولفغانغ إيزر، الموجودة في النصوص الثلاثة الأولى من مجموعة «محطة السكة الحديد» لإدوار الخراط، في تكوّن عالم التخيّل (شبه) الحلميّ لدى القارئ؟
ولأجل الإجابة عن هذا السؤال سنقوم بتوظيف مفهومي التخييلي the fictive والتخيليّ imaginary the عند الناقد الألماني فولفغانغ إيزر Wolfgang Iser وتقنيات التخييل التي يذكرها إيزر في سبيل شرح العناصر التي يقوم عليها نصّ الخراط14. حيث سيتم عرض ملخّص للمفهومين المذكورين كما يردان، بشكل رئيس، في كتاب إيزر المعنون (بالإنكليزية) The Fictive and the Imaginary: Charting Literary Anthropology (التخييليّ والتخيليّ: تخطيط الأنثروبولوجيا الأدبية15)، ومن ثم ستتم دراسة النصوص الخمسة المشكلة للجزء الأخير من كتاب الخراط «مخلوقات الأشواق الطائرة ومحطة السكة الحديد»، وهو جزء مؤلف من خمسة نصوص سردية يسرد كل منها مشهدًا أو مجموعة مشاهد داخل القطار المتجه المنطلق على سكة الحديد وداخل المحطة نفسها- ستتم دراسة ثلاثة من هذه النصوص من خلال قراءتها بشكل لصيق close reading، مع التركيز على التقنيات التخييلية ودورها في نشوء العناصر التخيّلية في النصوص. ليس الغرض من هذا البحث تفسير نصوص الخرّاط بالصورة المثلى أو تقديم التأويل الأكثر احتمالية، بل تبيان كيفية نشوء العالم التخيّليّ عند القارئ، بناء على العناصر التخييلية في النص، وما قد يتطلّبه من أجل فهم أوسع وأعمق للنصّ بشكل عام. بمعنى آخر، يركّز هذا البحث على التقنيات الذهنية عند القارئ أكثر من تركيزه على الإحاطة بجميع عناصر مقطع أو مشهد ما وتقديم إجابة نهائية حول المعنى، وهذا يعني أنّ التركيز قائم على كيفية تحريض «الممكن التخيّليّ» imaginary potential، بحسب تعبير إيزر، عند القارئ بفعل تقنية التخييل المستعملة بشكل واعٍ في النص16.
ومن ناحية القارئ الذي نفترضه هنا فهو «القارئ الضمنيّ» the implied reader الذي يشرح إيزر بأنّه «يقف في موقف يمكن له فيه أن يجمع المعنى الذي أرشدته رؤى النص إليه، وهو أمر ينبغي على القارئ في بعض الحالات أن يركّبه بناءً على التصوّر الذهنيّ، وحيث «المضمون الفعلي لهذه الصور الذهنية [التي توجدها بنية النص] يتلون برصيد التجارب الموجود بالفعل لدى القارئ الذي هو بمثابة خلفية مرجعية يمكن من خلالها إدراك غير المألوف وتشغيله.»17 وبالمختصر، فإنّ الدراسة تفترض قارئًا لديه حدّ معقول من الخبرات الشخصية والمعرفية والعلمية المختلفة، بحيث يكون ممتلكًا للعديد من الأدوات التي تمكنه من التوغّل في النص واكتشافه.
ومن الجدير ذكره بخصوص النصوص موضع الدراسة في هذا البحث أنّ كتّاني يسمّيها «قصة ذات خمس نسخ18»، ولكن نسخة دار الآداب التي يستعملها كتّاني لا تشير صراحة إلى أن الكتاب هو مجموعة قصص قصيرة، ولذلك سيلتزم هذا البحث بتسمية نصّ/فصل الأكثر حيادية للدلالة على هذه النصوص، وخاصة أنّ هناك دراسة واحدة على الأقل، وهي دراسة أوستل المشار إليها سابقًا، تشير صراحة إلى الخلط الذي يلاحظه القارئ عند الخراط بين القصة وفنون ووسائط أخرى19. وفي الواقع فقد تناول الخرّاط الجنس الأدبيّ لهذا العمل بالذات، شارحًا بأنّ «’محطة السكة الحديد‘ نوع من الكتابة أسميته رواية، يتجاوز المعنى التقليديّ للرواية. في الحقيقية هي فصول ليس فيها نموّ الحبكة التقليديّة كما في الروايات، وإنما فيها نوع آخر من النموّ، ليس للحبكة الدراميّة بل للخبرة نفسها، وليس على نمط العُقدة وحلّها بل على نحْوِ التعمّق في خبرة ما، واكتشاف مزيد من جوانبها عبر الزمن.20»
التخييلي والتخيليّ عند إيزر
في مستهلّ عمله «التخييليّ والتخيليّ» يؤكّد إيزر بأنّ هذين المفهومين عصيّان على التعيين بشكل تجاوزيّ، أي بشكل تجريديّ، بل يمكن فقط التيقّن منهما سياقيًا21. ويؤكد في مكان آخر أنه لا يمكن أنّ التخيليّ يقاوم التعريف بشكل كبير22. ويقوم تصوّر إيزر في الأساس على نبذ التصور الأقدم عن ثنائية الخيال fiction والواقع reality ليُحِلّ محلّه ثالوث الواقعيّ والتخييليّ والتخيليّ، حيث ينشأ النص من تفاعل هذه العناصر الثلاثة23.
التخييليّ The Fictive:
في استهلال عمله المذكور يصرّح إيزر بأنّه يفهم التخييليّ بوصفه «نمط وعي تشغيليًا يشقّ طرقًا ضمن النسخ الموجودة من العالم. وبهذه الطريقة يصبح التخييليّ فعلًا من أفعال تخطّي الحدود، الذي، مع ذلك، يُبقي ما تم تجاوزه ضمن حيّز الرؤية. وكنتيجة لذلك فإنّ التخييليّ يفتت العالم المرجعيّ وفي نفس الوقت يضاعفه.24» وهذا يعني أنّ التخييل ورغم أنّه لا ينقل صورة العالم الخارجيّ كما هو إلا أنه في نفس الوقت يعززه عبر عدد من العمليات، وهي الانتقاء selection والجمع combination والكشف عن الذات بوصفه خيالًا self-disclosure أو ما يعبَّر عنه بالكأنّيّة as-if.
ونتيجة لما تقوم به عملية تأليف النص من انتقاء عناصر معينة من العالم الخارجي دون غيرها وجمعها مع بعضها بطريقة معينة تجعل العالم النصي وكأنّه العالم الخارجي، يرى إيزر بأنّ في النص عالمين، بحيث «[العالم] النصّي لا يعني ما يقوله و[العالم] التجريبيّ يصبح مجازًا. والحضور التزامنيّ لهذين العالمين سببه أنّ كلًا منهما يجعل الآخر غير حقيقيّ؛ فالعالم النصيّ يخسر وظيفته التأشيرية، والعالم التجريبيّ يخسر موضوعيته26» ويضيف إيزر بأنّ أفعال التخييل هذه، من انتقاء وجمع ووظيفة كأنّيّة، يكشف من خلالها النصّ عن عنصر التخييل فيه، وهي تؤسس لبنية صانعة للازدواج doubling structure «تخلق مساحة اللعب عن طريق التمسّك بكل ما تم تخطيه، وبذلك تجعله شريكًا في لعبة الحركات المضادة؛ فكل تخطٍّ يُضاعف الفرق الذي يشكّل مساحة اللعب.»27 كما يؤكّد إيزر بأنّه «لا يجب فهم التخييلي على أنّه تعريف للّعب play بل إنه يعمل بالأحرى كواسطة لجعل التخيليّ متوفّرًا للاختبار… من دون السماح له بإغراق الذهن على طريقة الحلم أو الهلوسات.28» ففعل التخييل إذن ليس لعبًا في عالم الخيال المفتوح والهوامات المنفلتة من كل قيد، بل هو وسيلة لجعل العنصر التخيليّ في النص قابلًا للاختبار بواسطة القارئ. وهنا يظهر مفهوم الفجوة gap على صلة وثيقة بالتخييل، وعنها يشرح إيزر:
إن الفجوات، وهي عدم التناظر الأساسي بين النص والقارئ، هي ما ينشئ [فعل] التواصل ضمن عملية القراءة؛ الافتقار إلى حالة مشتركة وإطار مرجعيّ مشترك متوافق مع الحالة العَرَضية و»اللا-شيء» الذي يخلق التفاعل بين الأشخاص. إن عدم التناظر، والعَرَضية، و»اللا-شيء»- هذه كلها أشكال مختلفة للفراغ الخلّاق غير المحدَّد الذي يكمن في أساس كافة عمليات التفاعل29.
ويشرح زولتان شواب نظرة إيزر بالقول إنّ الفجوة لا تعني بالضرورة افتقارًا للتفاصيل، ولكن نقصًا في تقييم العلاقات بين الأشخاص أو وجهات النظر أو الأشياء، أو حتى نقض قيمة ما من دون توضيح السبب أو تقديم تعليل30. وبالمختصر، يمكن القول إنّ الفجوة هي كل ما يتطلب من القارئ اكتشافًا أو حلًّا أو إجابة أو حتى طرح سؤال إضافي لفهم ما يقدمه النص. ومن البديهيّ أن تكون هذه العملية، نظريًا على الأقل، غير نهائية ومن دون قواعد مسبقة. وهذا الفهم للفجوة يحمل صدىً لما ينقله حازم القرطاجني عن الفارابي حين يقول إنّ «الغرض المقصود بالأقاويل المخيّلة أن ينهض السامع نحو فعل الشيء الذي خيّل له فيه أمر ما من طلب له أو هرب عنه»، وهذا الانفعال من طرف القارئ يكون «سواء صدّق لما يخيّل إليه من ذلك أم لا كان الأمر في الحقيقة على ما خيّل له أو لم يكن.»31
التخيليّ The Imaginary:
يتمتع التخيليّ بعلاقة تفاعلية مع التخييليّ؛ فالتخييليّ «يعتمد على التخيليّ لكي يحقق الثمر الكامل مما استهدفه. وفي نفس الوقت، يظهر بأنّ التخييليّ يقدّم ظروفًا مثالية لتفعيل التخيليّ.»32 ومن ناحية أولى فإنّ فتح مساحة للّعب يجعل التخييلي يجبر التخيليّ على أخذ هيئة ما وفي نفس الوقت يؤمن له الوسط الملائم للظهور؛ ومن ناحية أخرى «يرسم التخييلي ضمن النصّ حدودًا ثم يخترقها لكي يسبغ على التخيليّ تلك الدرجة من الملموسية الضرورية كي تجعله مؤثّرًا؛ والأثر هو أن يحرّض حاجة القارئ إلى إغلاق الحَدَث وبذلك أن يسيطر على اختباره للمتخيَّل.33» هذا الحدث الذي يغلقه القارئ ينشأ في الأساس من تخطّي الحدود، وبذلك يكون مفتوح النهاية ومؤسسًا لتوتّر في النص يتطلب حلًّا، حيث لا يمكن لهذا الحلّ بالظهور إلا إذا عنى هذا الحدث للقارئ شيئًا ما34. ويضيف إيزر بأنّ «التخيليّ يكشف عن نفسه بوصفه الأرومة المولّدة للنص.35» وهذا يعني أنّ التخيليّ هو ما يجعل النص ممكنًا من حيث كونه كيانًا أدبيًا ذا معنى بالنسبة للقارئ. وهكذا فالعنصر التخييليّ هو مجموع الأفعال التي يتشكّل منها النصّ والعلاقات بين عناصره، في حين أنّ التخيليّ أقرب للمادة الذهنية التي تتشكل في ذهن القارئ وصولًا لتشكيل انطباعات تشكّل الأحرف الأولى للمعنى. وبمعنى آخر يمكن القول إنّ التخيّلي عند إيزر ما هو إلا «موقع التخييل من النفس» عند القرطاجني، حيث إن العناصر التخييلية وأثرها تقع كلها في إطار عملية التخييل36.
مناقشة نصوص الخرّاط
النص الأول
يبدأ النص بتصوير قطار مليء بالركّاب يتحرك نحو هدفه في الإسكندرية. ينزل البطل، الذي يتحدث عنه الراوي بصيغة الغائب، من القطار وهو ينظر إلى محيطه. يتوجه نحو سلم النفق الأرضي المؤدي إلى ساحة المحطة. هنا يبدأ حدس البطل بإخباره بأنّ هذا النفق لا يفضي إلى باب بل إلى رصيف آخر من أرصفة المحطة36: «يحسّ أنه يدخل إلى عالم آخر هادئ..38.» ما يقوله الراوي في تصويره لحركة البطل يهيئ للقارئ الجوّ لاستقبال ما هو غير متوقع، فهو يحرّض القارئ على تصوّر هذا العالم ’الآخر الهادئ‘ غير المحدّد، لا بل وهو يخبره بأنه ’آخر‘ و’هادئ‘، مما يعني أنّ العالم المرجعيّ مزدحم وحافل بالضجيج. وكأن الأمر يصبح بالنسبة إلى القارئ نوعًا من الدعوة إلى الدخول إلى حلم يقظة. هذا الدخول إلى العالم الآخر أو هذا الحلم يتبعه سريعًا شيء ما يحصل «فجأة». إنّ إضافة مفردة «وفجأة»، ورغم أنها من المفروض أن تدلّ على المفاجأة، إلا أنها في الحقيقة تمهّد الطريق للقارئ كي لا تكون مفاجأته كاملة في الانتقال من عالم اعتياديّ إلى عالم سحريّ، فهي بمثابة تسريب لنصف المشهد الحادث قبل حدوثه: «وفجأة امتلأ عليه هذا العالم، في فراغه.»39 يمكن النظر إلى هذا التمهيد غير المقصود باستعمال مفردة «فجأة» وكأنه ردم للفجوة التي كان من الممكن أن تتشكل نتيجة حصول حدث غير متوقع يفاجئ القارئ على حين غرّة، ولكنه يشكل في نفس الوقت فجوة أخرى نتيجة الدور الذي تلعبه كلمة «فجأة» في إثبات الانتقال من مناخ إلى مناخ آخر يجعل القارئ بحاجة إلى إعادة توجيه خياله والاستعداد لاستقبال صنف آخر من الصور؛ فهناك بحسب مصطلحات إيزر عدم تناظر ونوع من الفراغ المليء بالإمكانيات الذي يولّده الانتقال الذي تمهده المفردة الدالة على المفاجأة من العالم الهادئ المنسرح إلى العالم الذي يحتوي حضورًا متربصًا بالبطل، وتزداد هذه الفجوة اتساعًا مع الخيارات المنتقاة التي توقع البطل والقارئ في متاهة الحيرة؛ فالبطل يشعر بحضور يرصده من الخلف، من أعلى السلم الذي ينزل عليه، وهو لا يجرؤ على الالتفات: «أحس شيئًا وراءه، خطوة خفيفة مسترقة، نغمة، نفحة هواء، لا يدري.»40 الخطوة، النغمة، ونفحة الهواء، كل منها يمكن أن يولّد انطباعًا يتخذ عند القارئ جهة مختلفة تمامًا عن الأخرى؛ بين المرعب، والعذب، والطبيعي، على سبيل التكهن والاحتمال، مما يسمح للعالم التخيّلي بالتشكّل وفق عدد من الظلال المختلفة الألوان والحبلى بالدلالات. يتناوب الاعتياديّ والغرائبيّ في هذا المشهد، فلا يكاد البطل يتعرف على ما حوله في المحطة من عناصر عادية مستقاة من العالم الحقيقيّ لمحطة القطار حتى ينسحق تحت طغيان الغريب والهائل والمخيف؛ فها هو يشاهد ما يتبدّى له ككائن خرافيّ؛ فقد بدأ يتلمس شيئًا مختلطًا ملاصقًا، كائنًا فيه من البشر شيء، لولا أنه أكثر من كائن بشريّ. تسقط عليه من المصباح حزمة مخروطة ساطعة من نور لا يرحم، وقد اختلطت فيه الأذرع بالأكتاف، تحيط ببعضها البعض، وضاعت فيها رأسان، في امتزاج غامض المعالم… وهو يتجه إليه كالمأخوذ، كأنه يطيع مصيره في هذا النفق الساطع تحت الأرض تتجاوب فيه أصداء ليست من العالم وإن كانت توحي بمعناه الخفي41.
إن الجمع بين كل هذه العناصر الطبيعية من العالم المرجعي وفوق الطبيعية وفوق البشرية تؤكّد ما يصفه إيزر حول وظيفة الأفعال التخييلية في السرد، حيث ينتقي الكاتب عناصره من الواقع ولكنه يموضعها بحيث تصبح علاقتها ببعضها غير مألوفة ضمن نطاق العالم المرجعي، فتؤدي بالتالي إلى خلق الجوّ أو العالم التخيّليّ imaginary عند القارئ. والقارئ الذي يتتبع هنا هذا «الكائن» الذي «فيه من البشر شيء، لولا أنه أكثر من كائن بشري» سيتجه على الأرجح نحو تذكّر عالم الرؤى الأسطورية أو حتى الدينية؛ فما هو الكائن الذي يشبه البشر ولكنه فوقهم؟ كما أنّ تعزيز الكاتب لهذه الصورة من خلال إضافة عنصر الإضاءة الباهرة التي تجعل أعضاء الكائن تبدو مختلطة غير قابلة للتمييز إلى درجة ظهور رأسين له يجعل القارئ يتوغّل نحو عالم الرؤى عدا أنّ الاتجاه الآن يبدأ بالانزياح من عالم الكائنات المباركة إلى عالم المسوخ. ومع ذلك فإنّ بطل المشهد يتجه نحو هذه الرؤية/ الرؤيا مشدوهًا تاركًا خلفه العالم الواقعي (المرجعي).
وهكذا فعناصر المكان الواقعي مثل الرصيف، والنفق، والسلّم، وما هو موجود في المحطة بشكل عام، التي تتبين من خلال حركة البطل بينها، تجعل المكان ’وكأنه المحطة‘ وليس المحطة نفسها، لأنّ القارئ يستطيع التمييز أنّ هذه العلاقة بين العناصر لا يصادفها عادة في محطة عادية للسكك الحديدية. إنّ مفردات وعبارات مثل «المأخوذ» و»كأنه يطيع مصيره» و»أصداء ليست من العالم» و»معناه الخفي» تجعل المشهد مفتوحًا على احتمالات لا ينطق بها النص؛ فما هي هذه الأصداء الغريبة؟ وكيف تكون من غير هذا العالم؟ بأي معنى وشكل وصورة؟ ما طبيعة هذا الخفاء الذي يوحي بمعنى ما؟ كل هذه المفردات والعبارات المنتقاة والمجموعة معًا تشكّل عناصر تخييلية تكشف عن نفسها بوضوح على أنها من طبيعة فوق واقعية تجعل النص حدثًا مفتوحًا ينتظر إغلاقًا، أي حلًّا من نوع ما، ينجزه خيال القارئ. هذا الخيال إذن جزء رئيس من ديناميكية النصّ الذي لا يكتمل من دونه. فالنصّ لا يقدّم معادلة رياضية تنتظر قارئًا يأخذها كما هي ليطبقها في تجربة علمية معينة، بل ينتظر قارئًا يجعل النص المفتوح، المليء بالفجوات كما سيتبيّن أدناه، يجد لنفسه شكلًا أكثر اكتمالًا ودلالة.
ولكن البطل يكتشف بعد لحظات أنّ ما يراه ليس كائنًا خرافيًا بل طفلة في أحضان حمّال نحيل42. وهكذا فلا يكاد البطل يدخل في الحالة الغرائبية أو الحُلميّة حتى ينبثق الواقع مجددًا شارحًا له ما يرى. وهذه العودة السردية من ’العالم الآخر‘ إلى عالم أكثر شبهًا بالعالم المرجعيّ هي تمامًا ما يجعل النصّ مختلفًا عن الحلم؛ ففي الحلم قلّما يعرف النائم أنّه يحلم فيكون بمثابة أحد عناصر المنام وليس قارئًا ينشئ عالمه التخيّليّ عبر التفاعل الإرادي مع العناصر والأفعال التخييلية في النصّ المكتوب43. ولكن هذا الشرح لا ينال من غرائبية النصّ وخياليته، لأنّ الفجوة التخييلية المتشكلة جرّاء هذا الانتقال إلى الحالة العجائبية والعودة منها ستؤدي بالقارئ إلى الانتقال من السؤال عن طبيعة المشهد الخرافيّ الذي اعتقد البطل أنه يراه إلى التساؤل حول البطل نفسه: لماذا يرى البطل ما يراه؟ ما هو معنى هذه الرؤية بالنسبة إلى الحالة النفسية والعقلية للبطل؟ وما الذي ينتظره إذن بعد الذي حصل له عند هذه النقطة من سير الأحداث؟ فعالم البطل متداخل العناصر والحالات، وبدلًا من الانتقال بين عالمين بشكل واضح، كما في المفصل المشار إليه أعلاه حين حدث شيء ما «فجأة»، تبدو باقي المشاهد وكأنّ الواقع نفسه فيها محقون بما يميّع صلابته؛ فبعد المواجهة مع الكائن شبه الخرافيّ الذي يتبدى أخيرًا طفلةً في أحضان أبيها، يبدأ البطل بالهرب من عمّال المحطة الذين يريدون التحقق من تذكرته، فيندفع عائدًا إلى بهو المحطة التي تتحول إلى مساحة مطاطة تمتد نحو أبعاد غير مدركة وهو يجري محاولًا الهرب من العيون المتربّصة به: «وهذه الحمى من الجري لا تنتهي، وقدماه المندفعتان أبدًا إلى الأمام… وهو يتعثر، ولكنه يطير في جريه، كأن هذا الحجر الذي يكاد يتعثر به قد تطاير تحت قدميه فجأة، ولم يعد فيه عائق ما، كأنه قد اخترقه دون عناء. ويصل أخيرًا… ويمسك بالسور الحديدي القصير… ويتعلق بحاجزه الرقيق المهتز، يتعلق به كأنه لن يفلته قط… لكنه لن يستطيع أن يتجاوز هذا السور…»44
إنّ الجري الذي لا ينتهي، والطيران خلال الجري، والاندفاع الذي يبدو غير قابل للتوقف، وزوال العوائق، والشعور بالخفة وانعدام العناء أو ’كأنّ‘ بعض هذه الأمور تحدث -كما يؤكد الكاتب- بالإضافة إلى مشهد الوصول إلى نقطة ميتة تبدو الحركة بعدها مشلولة؛ كل هذه عبارات وتصويرات تدفع بالقارئ إلى الشكّ في ارتباطها بالعالم المرجعيّ الذي أخذ منه الكاتب العناصر الأصلية المكونة لقصته؛ كما أنّ الحجر الذي كأنه يتطاير فجأة تحت قدميه (كما ورد في الشاهد السابق)، واليدان كأنهما لن تُفلِتا السور، والعوائق التي تزول والأخرى التي تظهر شالّة للحركة، هي عناصر من المرجّح أن تدفع القارئ إلى تشكيل تخيّل شبه حلميّ ليتمكّن من ملاحقة المشهد الذي تتجمّع فيه هذه العناصر السردية وتتفاعل مشكّلة عملية التخييل؛ فمن الثيمات المشتركة في الأحلام على سبيل المثال المشي الذي يشبه الطيران والعناصر التي تحضر وتختفي وتتحول فجأة وظهور العوائق التي تمارس تأثيرات تشلّ الحركة. وفي هذا المشهد بالذات يمكن للقارئ أن يتذكر أيضًا ما يختبره في المنامات من صعوبة في فتح الفم أو صعوبة في تحريك الأرجل أو حتى عدم القدرة على الانتصاب والمشي على طرفين بدل المشي على أربعة أطراف، وهي كلها اختبارات للشلل غير المفسَّر بمانع منطقي يمكن أن تدفع القارئ إلى البحث في فكرة «اللاوعي الجمعي» التي تحيل أيضًا إلى السَّلَف الحيواني للجنس البشري؛ فهل الإنسان يعيد من خلال الأحلام اختبار عصور ما قبل القدرة على النطق والانتصاب على طرفين؟ هذه المشاهد السردية تدفع القارئ بقوة نحو تخيّل أو استذكار هذا النوع من المنامات.45
ولكن في نهاية هذا المشهد تحديدًا يتعرّض النص إلى انقطاع من دون أي مقدمات أو مؤشرات نصية واضحة؛ فخلال مشهد الهروب الذي يكاد ينجح ولكنه، كمشهد في كابوس، لا يفعل46، يعود النص إلى البداية من دون أن يتضح ذلك فورًا: «وأحس القطار يصفر وقد وصل من رحلة بعيدة…»47، إلا بعد أن يتبيّن للقارئ أن البطل نفسه موجود داخل القطار المتجه نحو المحطة: «وهو يتعلق بيد أمه ينزل من القطار في زحمة الناس.»48 وهنا يبدأ الذعر مجددًا، ولكن لسبب مختلف تمامًا هذه المرة: «لقد ضاع، تاه، وهو لا يجد أمه إلى جانبه49.» ويلاحظ ياسين كتّاني ورود هذه الانقطاعات والعودة إلى تكرار مشهد سابق في دراسته لبعض نصوص «ترابها زعفران» لإدوار الخراط، مبينًا أنه في مقاطع كهذه «يتم تكرار الحدث عينه أكثر من مرة وغالبًا ما يتم حذف النتيجة؛ فهو يقتطع الحدث، وتختفي الشخصية ولكنها تعاود الظهور في حالات مختلفة، ويتم كشف الالتباس بعد أن نكون قد فقدنا الأمل تقريبًا في فهم ما حصل.»50
إن ظهور بنية التخيليّ the imaginary هنا ليس أمرًا ناجمًا عن مجرّد وصف المحطة وهي تتحول إلى مساحة هائلة غير مدركة الأبعاد، بل ناشئ أيضًا عن حدث الانقطاع هذا وعن جمع مشهدين لا ينتميان زمنيًا وأحداثًا إلى بعضهما البعض، حيث يختفي البطل الهارب ليعود مرة أخرى في مشهد آخر في نفس القطار، ولكن هذه المرة طفلًا مع أمه. هذا الانقطاع يجعل النص يبدو للقارئ وكأنه تتابع ذكريات أو منامات يراها البطل في ذهنه أو أحلامه من دون تتابع منطقيّ، فالمشهد الأول ينتهي بالذعر الذي سببته الملاحقة التي افترض البطل أنه يتعرض إليها، بينما ينتهي الثاني بحالة من الهلع التي أصابته طفلًا يعتقد أنه ضاع من أمه. والتكرار هنا لا ينتهي بنتيجة نهائية واضحة. في هذا الموضع يظهر مفهوم ’الفجوة‘ gap التي يلاحظها إيزر خلال فحصه لفعل القراءة واضحًا للغاية، بحيث يبقى أمر ردمها بطريقة ما عائدًا إلى القارئ. وهذا بالضبط ما يؤكده محمد حمد ومحمود قبحة في اقتراحهما لنمط جديد من الفجوات النصية، وهو «الدائرية» circularity، فيلاحظان أنه حين تنتهي القصة حيث تبدأ فإن هذا يعني شيئًا ما للقارئ الذي يجب عليه أن يفتح الدائرة المغلقة51. وفي عملية الانقطاع التي يمكن ملاحظتها في نص الخراط تتحقق هذه الدائرية قبل الوصول إلى نهاية النص.
وفي العموم تظهر العناصر الواقعية في هذا الفصل الأول مغموسة في مناخ حلميّ، حيث الزمن رجراج يتقدم ويعود من دون قاعدة مسبقة، ثم يقفز إلى موقع مختلف كليًا. هذا الاستعمال للزمن السرديّ يمثّل أفضل تمثيل ما يسميه الخرّاط بالحساسية الجديدة، التي تختلف عن الحساسية التقليدية أو القديمة في تقنياتها وهي «كسر الترتيب السّرديّ الاطراديّ، فكّ العقدة التقليدية، الغوص إلى الدّاخل لا التعلّق بالظاهر، تحطيم سلسلة الزمن السّائر في خطّ مستقيم… توسيع دلالة ’الواقع‘ لكي يعود إليها الحلم والأسطورة والشّعر.52» ويتفق هذا التوصيف مع ما يشير إليه حيدر حيدر باسم الزمن النفسي للإنسان الذي يجب أن يتمثل في «الرواية العربية الجديدة» حيث يعبر النفس البشرية، وهي في لحظة واحدة، انكسار وانقطاع وانعطافات، تراجع أو تقدم في الزمن. إنك تفكر وتتصور وترى على شاشة الذاكرة في لحظة واحدة، أزمانًا ووقائع وأحداثًا تترى كالوميض، بين الحاضر والماضي وأشواق [الخطأ من المصدر] المستقبل التي تأتيك على شكل أحلام يقظة. إن الوقائع لا تتتالى في سياقها المنطقي الذي ولدت فيه ونمت عبر الطفولة والمراهقة والشباب والكهولة… وفي مجال العمل الروائي ليس الرياضي أو الفيزيائي أو الفيلسوف هو الذي يعمل. إنه الفنان المسكون بالجنون والشياطين والعشق والعصاب والرغبات والحس البدائي بولادة العالم.53
هذا الفهم للعمل الروائي ينطبق كليًا على النصوص السردية عند الخرّاط؛ ففي حالة المشهد في محطة السكة الحديد، وإذ كان المكان واحدًا، وهو محطة القطار في مدينة الإسكندرية، إلا أن الأحداث الجارية غير مرتبة زمنيًا ولا تسير كلها بشكل أفقيّ متقدّم يوافق الزمن الموضوعي؛ فحتى مع استثناء العناصر غير المعقولة، كالكائنات الخرافية والأبعاد الهائلة للمساحات والأمكنة، اختار الكاتب، كأي كاتب قصصيّ أو روائيّ، عناصر أخرى من الواقع، ولكنه جمع بينها بصورة تلقي ظلالًا من الشكّ على طبيعة الزمان والمكان، وتترك من خلال علاقة هذه العناصر ببعضها البعض فجوات كبيرة تحتّم على القارئ أن يتعامل معها كأحداث أو استعصاءات تتطلّب تدخّلًا تخيّليًّا.
النص الثاني
يبدأ هذا النص بطريقة تجعل القارئ يشعر بأنّ الكاتب يعيده إلى بداية النص (الفصل) الأول لإعادة سرد الأحداث للمرة الثالثة، بعد المرة الثانية التي أثارها الانقطاع المذكور سابقًا؛ فالعبارة الافتتاحية: «كانت دقات القطار الرتيبة قد أتخمت نفسه» هي تكرار شبه حرفيّ لافتتاحية الفصل الأول: «كانت خبطات القطار المنتظمة الرتيبة قد أتخمت نفسه54، بدقاتها المستمرة.»55 ولكن القطار الذي كان في السابق يتقدم «في عزم لن يقف أمامه شيء» يتحول الآن إلى كائن مختلف فحركته الآن تقودها «قوة غير عقلية.»56 إنّ الجمع بين القطار المتحرك من جهة و(احتمال) وجود قوة ما ذات طبيعة غير عقلية، من جهة أخرى، تجعل المشهد كله يتحول إلى ما يشبه مراقبة كائن شبه حيوانيّ، أو بالأحرى، خرافيّ من صنف ما. ومن السخرية أن تؤدّي عبارة «غير عقلية» إلى عكس دلالتها الأصلية؛ فكما حدث مع مفردة «فجأة» في النص السابق، تبدو إضافة هذه العبارة ضمن سياق لم يكن ليوحي بوجود أي قوة عقلية في الآلة عملًا يؤدي إلى جعل القارئ يفكر في سبب الإضافة؛ فالقوة غير العقلية قد تنسب إلى وحش من نوع ما أو إلى جمهور هائج أو إلى كائن خرافي يراه في المنام. وحين تتصف الآلة التي يقودها سائق قطار يتحكم في مسارها واتجاهها ولا يتحكم في هيئتها وصوتها ورتابة حركتها الآلية- حين تتصف بعدم العقلية تبدأ صورتها بوصفها جمادًا بالانحسار مقابل صورة خيالية أخرى لا يصرّح بها النص، ولكنها ذات طبيعة خرافية، والأهم من ذلك أنها شخصانية؛ فانعدام العقلانية لا يؤدي بالضرورة معنى عدم الشخصانية. وهكذا يصبح القطار ذا سمة شخصانية، وإن كانت مجهولة الطابع، يتكفّل خيال القارئ في منحها طبيعة معينة ضمن سياق تركيبه للصورة الكلية للأحداث المتتابعة التي قد تكون «عقل الطبيعة» أو «طاقة الكون» أو طاقة هادفة من أي نوع كان.
هذا الانطباع المحتمل أن يتركه الوصف عند القارئ يتعزّز جرّاء حركات التدفق والارتطام التي يستخدمها المؤلف لوصف تقدم القطار: «دفقات من كتل الصوت الصلبة ترتطم بأجسام الصخور الناعمة الرملية»، كما أنّ العربة متحدة بالصوت الذي ينعجن في لحمها ويدفعها إلى الأمام57. إنّ العامل التخييلي في هذا التصوير ينشأ من اجتماع ما لا يجتمع في الواقع؛ فالصوت ذو كتلة صلبة قابلة لترتطم بأجسام الصخور، والصوت مادة قابلة للانعجان بعربة ذات لحم. إنّ الصلابة والملمس اللحميّ المفترض لهذه الآلة السائرة تعيد التأكيد على ’حيوانية‘ القطار الذي تقوده «قوة غير عقلية»، وتمنحها حياة تقترب من حياة متعضّية حيّة يمكن أن يدرك القارئ ما يشبهها في العالم الطبيعانيّ. هذا الاجتماع لما لا يجتمع في الواقع المحسوس هو الذي يحسّن «موقع التخييل من النفس» بحسب تعبير حازم القرطاجني، حيث «يترامى [التخييل] بالكلام إلى أنحاء من التعجيب، فيقوى بذلك تأثّر النفس لمقتضى الكلام.58» ويستطرد القرطاجني فيشرح، فيما يتعلّق بالشعر، أنّ «التعجيب يكون باستبداع ما يثيره الشاعر من لطائف الكلام… كالتهدي إلى ما يقلّ التهدّي إليه من سبب للشيء تخفى سببيته، أو غاية له، أو شاهد عليه، أو شبيه له أو معاند، وكالجمع بين مفترقين من جهة لطيفة قد انتسب بها أحدهما إلى الآخر، وغير ذلك من الوجوه التي من شان النفس أن تستغربها.59»
وبالانتقال إلى نهاية هذا النص/الفصل يبدأ الواقع بعناصره الاعتيادية بالتراجع لمصلحة المناخ العجائبيّ أو الحلميّ، وذلك ابتداءً من الفقرة التالية: «وارتفعت يده إلى جيبه الداخلي إلى جانب صدره، ثم توقفت لحظة، وقد سطع الرعب في نفسه، وأنار العالم كله بنور وحشي خاطف، ثم انطفأ فجأة.60» ولكن الرعب يستمرّ حتى بعد انطفائه المزعوم ويتخذ أبعادًا قصوى حين يكتشف البطل أنّه أضاع «الخاتم» أو دبلة الخطوبة كما يبدو من النصّ61. والمشهد يعبّر عن هذا الرعب باستخدام تكرار الكلمات أثناء حركة البحث المحموم: «وقد بدأ الجنون يزحف ويستأثر… لن يجده. يعرف. ضاع. لا لا.. في الحقيبة؟…لا.. لا شيء.. لا شيء… هذا كل شيء. ولكن الخاتم. الخاتم. فقده. ضاع منه. فقد.62» التكرار الهَوَسيّ للكلمات والعبارات يشي بما يشبه نوبة هلع في اليقظة أو في كابوس. ومع انطلاق البطل للبحث عن مفقوده يعود المشهد الأول من هذا الفصل إلى البروز وتكتسب سكة القطار نوعًا من الحضور الشخصاني غير الطبيعي؛ فقضبان السكة الفارغة، حتى خلال الليل، «اكتسبت قوة مصقولة مشحونة بطاقة كامنة من اقتران العجلات الضخمة معها، ودورانها عليها، وازدواجها بها، والخطوط الحديدية الملتصقة بالأرض، الذاهبة على وجهها إلى أبعاد سحيقة تخرج بها من الزمن أيضًا، تشتبك بتراب الأرض وتدفن نفسها فيه، في عناق أخطبوطي محكم لا إفلات [الخطأ من المصدر] من قبضة حبه.»63
يكشف هذا النص عن نفسه أيضًا بوصفه خيالًا fiction من جهة، ويؤكد على أنّه ’كأنه‘ المكان، ولكنه يتجاوزه مع الأبعاد السحيقة التي تخرج بالسكة من الزمن أيضًا. ومع اتجاه هذا الفصل نحو نهايته تتعاظم عملية التخييل، حين تبدأ العناصر المرجعية الآتية من العالم الواقعي تدخل في علاقات بين بعضها تؤدّي إلى الابتعاد أكثر عن العالم المرجعي واكتساب صيغة شبه حلمية؛ فالفجوة التي تؤدي إليها عملية جمع العناصر تتسع وتتطلب من القارئ استعمال خياله بطريقة لا تؤدي فقط إلى تخيُّل العالم المرجعي بصورة جديدة، كما في كل أنواع السرد حتى الواقعية منها، وإنما تتطلب أيضًا تخيّل هذا العالم بشكل سحريّ أو خرافيّ؛ فالبطل يندفع مذعورًا لكي يبحث عن الخاتم الضائع، ثم يسقط على الأرض، وبعد ذلك:
وعندما عاد إليه الوعي، بعد خطفة زمن لا تكاد يحسب لها حساب، وجد نفسه في هذا العالم السفلي، بين حائطين شاهقين من أرصفة محطة، على جانبيه، وهو في النفق المفتوح بينهما، كل شيء حاد، وقاطع وشديد الوضوح. ولكنه لم يعرفه من قبل قط… لكن وجهه… مدفون في طيات شيء كاللحم البارد الرخيص، مألوف وحميم وبشع يهز قلبه بقشعريرة مثلوجة، لا يراه، وراحتا يديه تقعان على عضلات جسم مبتورة ومكتنزة كأنها تنبض، في برودة ممتصة، وتصد الحس تلصق به وتشله وتميته64.
في هذا المقطع، تبدأ الفجوة الناجمة عن جمع العناصر المكانية التي اختارها الكاتب من تصوير أرصفة المحطة ذات حائطين شاهقين بالاتساع. ولا بدّ أنّ القارئ سيشعر هنا بأنّ الكاتب يُدخِل إلى العالم المرجعي عناصرَ غير معقولة وأنّ علاقات العناصر المرجعية لا توافق العالم الحقيقي. يؤكّد الراوي هذا الشعور من خلال تثبيت حقيقة أنّ البطل لم يعرف من قبل قط ما يرى الآن. أما الأشلاء التي يكتشف البطل أنه غارق بها فتجعل العالم التخيّليّ يبدأ بالانفصال بشكل أكبر عن العالم المرجعيّ (الواقعيّ)؛ فالنص يصل هنا إلى مرحلة أبعد في التخييل، جامعًا عناصر العالم المرجعيّ في المحطة باستطالاته التخييلية (الحائطان الشاهقان للرصيف) مع عناصر تنتمي عادة إلى مكان آخر من عالم الواقع: مسرح جريمة أو انفجار، أو مشرحة، أو ساحة معركة، أو مشهد دهس مركبة لإنسان. وتتموضع كل هذه العناصر في مكان واحد هو محطة السكة الحديد أثناء الليل. وبسبب هذه الطريقة في جمع العناصر، يكشف النص عن كأنّيته؛ فهو على علاقة بالعالم الواقعي ولكنه ليس هو تمامًا. وفي هذه الحالة تحديدًا يبدو المشهد قريبًا من أجواء الأحلام، وخاصة مع استمرار التفاعل مع مشهد الأشلاء خلال الصفحات القليلة المتبقية حتى نهاية الفصل.
ويتجلّى ظهور العنصر التخيّليّ the imaginary في هذا المقطع من خلال العالم الذهني الذي يبنيه القارئ والأسئلة التي تتولد خلال عملية القارئ ومحاولة جعل النص ذا دلالة: فلماذا يرى البطل ما يراه؟ ما الذي تعنيه هذه الرؤى؟ هل هي كناية عن عناصر موجودة في العالم الواقعي ولا يرغب المؤلف في ذكرها أم أن الأمر يدل على حالة نفسية تجتاح البطل وتدلّ على مرض ما؟ بمعنى آخر، يمكن للقارئ، نتيجة لنشوء العالم التخيليّ، أن يفهم النص بوصفه دلالة على عناصر موجودة في العالم الواقعي أو بوصفه دلالة على العالم النفسي للبطل وحالته العقلية، بالإضافة إلى خيارات أخرى ممكنة.
النص الثالث
لا تختلف لغة النص الثالث عن النصين السابقين بشكل جوهريّ؛ فاللغة التخييلية تستمرّ في منح القارئ قدرة على التخيّل شبه الحلميّ، حيث يفتتح الكاتب نصّه كما يأتي: «أرصفة السكة الحديد تمتد، متينة ومظلمة، متجاورة بلا نهاية. عريضة وخالية…أسأل نفسي لماذا هذا الخواء في هذا العالم الذي ليس لي غيره ولا أعرف كيف أخرج منه. لا أعرف أين الباب. أعرف أنه لا بد أن يكون هناك، ولكني لا أعرف طريقًا إليه، أي طريق.65» يكشف نصّ الخراط في المقطع التالي مباشرة عن ’كأنّيّته‘، وهكذا يمكن أن يكتشف القارئ وعي الراوي، أو على الأقل شكّه، بما يرى ويشعر: «كأنني خرجت من تحت سقف المحطة الزجاجي العالي، وكأن أمي وأخواتي البنات الأصغر مني قد خلت منهن المحطة، وتركنني وحدي. أتلفت حواليّ، تحت ضغط اللهفة المحكوم الهادئ، ولا أرى سور المحطة من وراء الأرصفة المتكررة، رصيفًا بعد رصيف، على يميني وعلى شمالي، بلا آخر.»66 هذا التركيز على ’كأنّيّة‘ التيهان في مكان ما من جهة، الذي يذكّر، ولكن بصورة أهدأ وأكثر اختصارًا، بنهاية النص الأول من «محطة السكة الحديد»، والتأكيد على لا نهائية المكان وتغيّر شكله عن المألوف (أي كأنه المكان ولكن ليس تمامًا)، من جهة أخرى، يؤدّيان بالقارئ إلى تخيّل حالة حُلمية، أي الدخول في جوّ شبه حُلميّ.
ما يعزّز هذا الجو ’الكأنّيّ‘ as-if في بداية هذا النص هو الانتقالات ’غير المبرّرة‘ في تفاصيل المشهد. وعدم التبرير هنا يعني عدم تهيئة منطق سير الأحداث للقارئ في نصّ يُفتَرَض أنّه يصوّر حركة أشخاص في مكان مستمدّ من الواقع؛ فبعد جولة بصرية قصيرة في محتويات محيطه، ينتقل الراوي فورًا إلى القول: «يجب عليّ أن أجد الشباك الذي أقطع منه تذكرتي. شبابيك التذاكر حواليّ… ليس فيها وجه، ليس فيها أمل… والساعات الكبيرة المدورة الوجوه ممسوحة ليس فيها عقارب، ولا أجد من أسأله.»67 وعلى ما يبدو فالطفل الذي كان يتلفت باحثًا عن أمه وأخواته ليس هو نفسه الذي يبحث عن شباك تذاكر ليحجز تذكرة؛ فالأول في الغاب طفل أو صبيّ صغير، بينما الثاني أقرب إلى أن يكون يافعًا شبّ عن الطوق وامتلك عنصر الاستقلالية وأصبح يحجز بنفسه التذاكر.
وكما يقول إيزر فإنّ هذه ’الكأنّيّة‘ «تفتح [مساحة أخرى] بين العالم الموضوعي وتحويله إلى مجاز يدلّ على ما يبقى ليس مقولًا.»68 فعناصر النصّ التي تشير صراحةً («وكأنّ…») أو ضمنًا إلى تخييلية المشاهد تخلق هذه المساحة التي تسمح للقارئ بالدخول في عالمه التخيّليّ the imaginary الخاص، الناشئة بين معرفته بالواقع الذي استُمدّت منه عناصر المشهد من ناحية، وخيالية الأحداث وكيفية تراكب وتجاور العناصر النصّية مع بعضها، من ناحية أخرى، التي تحوّله إلى دلالة sign على عناصر تشكّل عالمًا لا يحتويه النصّ المكتوب ولكن عملية التخيّل عند القارئ هي التي تخلقه أو، بالأحرى، تسعى في اتجاهه69. ويكرّر النصّ هذه النقلة الفجائية ’غير المبرّرة‘ من وجهة نظر منطقية؛ فأبو الراوي يظهر فجأة بعد حين: «كان أبي قابضًا على يدي بقوة، ونحن نخرج في الزحام، وأشم الرائحة الحريفة من معطفه وسجائره ورجولته…»70
وبالانتقال إلى نهاية هذا النص يظهر مشهد الصعود على سلالم، وهو عنصر يمكن أن يفتح مجالًا للتحليل النفسي. ورغم أنّ هذا المشهد، الذي يظهر أيضًا في «ترابها زعفران»، ليس جديدًا تمامًا، إذا ما قورن بمشهد النزول على سلم نفق المحطة في النص الأول، إلا أنّ الجديد في هذا المشهد هو حركة الصعود من جهة، والشعور الذي يولّده النصّ بأنّ الحركة على السلالم ليست حركة عادية، كما في النص الأول؛ فالراوي يقول هنا: «أعرف أنني لا أستطيع النزول، أنني لا يمكن أن أنزل الآن، وأنني أصعد إلى هذا الوجه بسمرته الصافية، وموج عينيه، إلى هذا الجسم الناعم الراسخ الذي سيبقى معي إلى يوم موتي، وأنه لا يمكن أن يفصل بيني وبينها شيء.»71
يلاحظ القارئ في هذا المقطع عدة أشياء تجعل العملية التخيلية تفضي إلى ’حلميّة‘ المشهد: تكرار الراوي لمعرفته بعدم قدرته على النزول بعد الآن يؤكّد الحالة، ولكنه أيضًا قد يشير إما إلى نوع من التكرار الوسواسي الخائف لشخص يحلم أو إلى قرار عقليّ يفضي إلى مرحلة جديدة يدخلها البطل وبالتالي يشير إلى مجازية المشهد. ما يؤكّد الناحية المجازية هو تكملة المقطع؛ فالراوي لا يصعد الآن على سلم يفضي إلى مكان فيزيائي معيّن بل نحو وجه ونحو جسم سيبقى معه حتى الموت. ومشهد السلم الذي بدأ فيزيائيًا: «على حافة بناء شاهق… أصعد السلالم الخارجية المنحوتة خارج البرج، من غير سياج، كتلًا صغيرة ضيقة وعرة… من حجر أبيض ثقيل الملمس تحت قدمي»72 ينتقل إلى حالة مجازية تمامًا. ويلاحظ شاكر عبد الحميد أنّ «هذا المشهد يبدو وكأنه يرتبط بحالة ما من الحب أو العلاقة الانسانية الأبدية…»73، وهذا ما يولّد عند القارئ الحاجة إلى ردم الفجوة التي يشير إليها إيزر، وهي في هذه الحالة متولّدة نتيجة الشرخ غير المفسّر ضمن النصّ بين الصعود الفيزيائي على السلالم ونظيره المجازيّ.
إنّ ردم هذه الفجوة، الذي يُفضي بالتأكيد إلى خلق العالم التخيّليّ عند القارئ، يتطلب أيضًا وجود جانب معرفيّ عنده، وهذا لا يعني أنّ هذا الجانب المعرفيّ معيَّن بدقّة بالضرورة. وليس هدف البحث هنا تقديم تأويل محدد للنص، بل دراسة تقنية التخييل fictionalizing/fictionalization الناجمة عن العناصر التخييلية fictive وكيفية ظهور العناصر التخيّليّة imaginary عند القارئ. وفي هذه الحالة فإنّه من المتوقع أن يسأل القارئ وهو يتقدم في النص عن مدى فيزيائية هذا الصعود على السلالم، قبل أن يبدأ السياق بالإشارة إلى حالة مجازية صرفة لا تقبل الفهم الحرفيّ الفيزيائي؛ فالجمع combination بين حالتين غير متوافقتين ضمن إطار مشهديّ واحد يولّد الفجوة التي تدفع إلى السؤال المشار إليه آنفًا ويؤدي إلى كشف النصّ ليس عن خياليته fictionality فحسب، وهو الأمر الذي لا يحتاج إلى هذا الشرخ الواضح بين العالم المرجعي وعالم النص، بل إلى سحريّته أو حلميّته، مما يتطلب من القارئ أن يسأل عن معنى هذا الصعود المجازي. ونتيجة لذلك، ولردم هذه الفجوة وإكمال عناصر العالم التخيّليّ، قد يحتاج القارئ، على سبيل المثال، إلى مراجعة ما تقوله بعض تيارات علم النفس بخصوص معنى السلالم في المخيّلة والأحلام، صعودًا أو هبوطًا، وهذا يضيف إلى المعنى المجازي وصورته التخيلية المتولّدة عند القارئ بعدًا معرفيًا نظريًا يحتاجه من أجل فهم أعمق للنصّ؛ فثيمة السلالم على سبيل المقال ذات دلالة حاسمة في علم النفس التحليلي، والقارئ المطّلع سيتجه فورًا نحو صورة النزول إلى أعمق أغوار النفس كما تُلاحظ عند يونغ، التي تشكّل بالنسبة إلى هذا النص موضع الدراسة صورة معاكسة لثيمة الصعود، وبالتالي محاولة فهم هذه الصورة في ضوء تلك74.
يجد القارئ سندًا لهذا التوجّه في إشارة الخرّاط إلى أنّ القصة العربية الجديدة باتت حافلة «[بـ]عوالم أو أكوان خاصّة لم تظهر إلّا قريبًا…عالم الحلم أو أكوان اللاّشعور [أي اللاوعي] أو تلك المنطقة الّتي تقع مباشرة تحت الوعي»، وهي ما «لم يكن يمسّها روّاد القصّة القصيرة في ذلك الوقت [قبل ظهور الحساسية الجديدة أو الكتابة الجديدة، بحسب تسمية الخرّاط]75.» ويعيد الخراط التأكيد على هذا التوجه، الذي لا شكّ سوف يجعل القارئ المطّلع ميالًا إلى تطبيقه على أعمال الخرّاط نفسه، لافتًا النظر إلى أنّه «بالنّسبة للمناطق أو السّاحات الأخرى الّتي لم تكد تمسّها القصّة التقليديّة انفتحت عوالم أو أكوان ما تحت الوعي؛ أصبح للحلم سطوة وأصبح للّاوعيّ [الخطأ من المصدر] سيادةُ تعقُّل، وأمكن أن يوجد الداخل جنبًا إلى جنب مع الظاهر وأن يكون الصحو موازيًا للحلم76.» وفي الواقع فإنّ الخراط نفسه يستعمل مبادئ التحليل النفسي وعلم النفس التحليلي عند كلّ من فرويد ويونغ حين يتناول على سبيل المثال نماذج الشخصيات في روايات نجيب محفوظ وفق مفاهيم نفسانية من قبيل «الهو» و»الأنا الأعلى» و»الشيخ الحكيم» و»الأرض الأم»77. كما أنّه يشير مثلًا إلى نموذج «الطفل الأبديّ» Puer Aeternus عند معالجته بعضًا من روايات إبراهيم عبد القادر المازني، مفضّلًا التفسير النفسي لشخصية «إبراهيم الكاتب» وللأحداث الرئيسة على التفسير الاجتماعي الواقعي78.
وفي سياق هذه الدراسة يظهر كيف كان الصحو الذي تمثله عناصر العالم المرجعيّ موازية للحلم (أو شبه الحلم) الذي تمثّله العناصر فوق الطبيعية وفوق البشرية، مما يكوّن العالم التخيّلي عند القارئ ليس بوصفه إعادة تشكيل للعالم المرجعي بعلاقات جديدة بين عناصره فحسب، وإنما يفتح في العالم المرجعي نوافذ حلميّة وشبه حلميّة لا تنتمي إليه وتحقق من خلاله نقلة نوعية على مستوى الاختبار القرائيّ. وبالإضافة إلى ما سبق، فمن المرجَّح أن يدفع هذا المشهدُ القارئَ إلى تذكّر مشاهد مماثلة عند نفس المؤلف، كما في «ترابها زعفران»، وبالتالي تدخل هذه العناصر المعرفية في حال توفّرها ضمن بناء العالم التخيّليّ الذي يُشيَّد عند القارئ.
خاتمة
قامت هذه الدراسة بالبحث في مفهومي «التخييلي» the fictive و»التخيّليّ» the imaginary كما يشرحهما الناقد الألماني فولفغانغ إيزر ضمن بعض نصوص الجزء المعنون «محطة السكة الحديد» (طبعة دار الآداب، 1990) للروائي المصري إدوار الخرّاط. وقد ركّزت الدراسة على بداية ونهاية كل من النصوص الثلاثة الأولى من هذا الجزء، وبيّنت طريقة عمل الأفعال التخييلية عند إيزر، وهي الانتقاء selection والجمع combination وكشف النص عن سمته الخيالية أو كأنّيّته، من خلال توليدها للفجوات التي تُسهِم في نشوء العالم التخيّليّ عند القارئ. وفي نصوص الخراط موضع الدراسة لاحظت الدراسة أنّ الأفعال التخييلية الناجمة عن العلاقة بين عناصر نصه تخلق عبر عملية التخيّل عند القارئ عوالم (شبه) حلميّة، وذلك بسبب طريقته في انتقاء وجمع عناصر نصه السرديّ، من حيث اعتماده على انتقاء عناصر فوق طبيعية وفوق بشرية لا تنتمي إلى العالم المرجعيّ على الإطلاق؛ فعملية التخييل الحاصلة جرّاء طريقة الخرّاط في السرد لا تكتفي بتغيير علاقات العناصر العادية المنتقاة من العالم المرجعي، بحيث تختلف عن علاقاتها الطبيعية وصفاتها الزمانية والمكانية في ذلك العالم، بل إنها تقوم أيضًا على جمع عناصر من هذا العالم مع عناصر سحريّة أو عجائبية فوق طبيعية. وهذا ما يجعل القارئ (الذي افترضت الدراسة أنه «القارئ الضمنيّ»the implied reader) مضطرًا إلى اللجوء إلى خبرات شخصية ومعرفية أخرى لإنشاء عالمه التخيّليّ وردم الفجوات الناجمة عن أفعال التخييل في النصّ.
الهوامش
Magda al-Nowaihi, “Memory and Imagination in Edwar al-Kharrat’s ‘Turabuha Za‘faran’,” Journal of Arabic Literature 25, no. 1 (Mar., 1994): 34.
إدوار الخرّاط، مخلوقات الأشواق الطائرة ومحطة السكة الحديد، ط1 (بيروت: دار الآداب، 1990).
Al-Nowaihi, 34–5n1.
حيدر حيدر، أوراق المنفى: شهادات عن أحوال زماننا، ط1 (بيروت: دار أمواج للطباعة والنشر، 1993)، 68. ومن اللافت أنّه في كتاب الخراط الصادر في نفس العام يسمّي الأخير حيدر أيضًا بوصفه من أعلام “الحساسية الجديدة” في الكتابة العربية في اثنين من تياراتها الخمسة المقترحة، هما “التيار الداخلي” أو “العضوي” أو “تيار التورُّط” من جهة والتيار “الواقعي السحريّ” من جهة أخرى. ينظر إدوار الخراط، الحساسية الجديدة: مقالات في الظاهرة القصصية، ط1 (بيروت: دار الآداب، 1993)، 18، 19.
المرجع السابق، 62.
See Wolfgang Iser, “Fictionalizing: The Anthropological Dimension of Literary Fictions,” New Literary History 21, no. 4 (Autumn, 1990): 943–4, 948.
للمزيد عن علاقة “ترابها زعفران” بالسيرة الذاتية ينظر إدوار الخراط، مراودة المستحيل: حوار مع الذات والآخرين، ط1 (عمّان: دار أزمنة للنشر والتوزيع، 1997)، 18–19.
المرجع السابق، 15.
المرجع السابق، 17.
المرجع السابق، 33.
المرجع السابق، 35.
ينظر المرجع السابق.
ينظر المرجع السابق.
تُرجِم هذا العمل لإيزر بعنوان “التخييلي والخياليّ”، كما ترد في موقع مؤسسة “مؤمنون بلا حدود” ترجمة المصطلح الفرنسي L’imaginaire المقابل للمصطلح الإنكليزي The Imaginary والألماني Das Imaginäre إلى “المتخيَّل”، أي بوصفه اسم مفعول يرتبط “بمعاني الوهم والظنّ والشبه أو المحاكاة. والتخيليّة ’هي القوّة التي تتصرّف في الصور المحسوسة والمعاني الجزئيّة المنتزعة منها وتصرّفها فيها بالتركيب تارة والتفصيل أخرى‘ (الجرجاني، 2004، ص 167).” ولكن اسم المفعول العربي المذكور يقابل اسم المفعول الإنكليزي The Imagined والفرنسي L’imaginé والاسم في اللغات الثلاث، الفرنسية والإنكليزية والألمانية، لا يأتي بصيغة اسم المفعول، بل بصيغة صفة على شاكلة Arbitrary بمعنى “عشوائيّ” و Literary بمعنى “أدبيّ”. ويشرح قاموس كولينز أن اللاحقة -ary تأتي أولًا بمعنى “المتعلق بـ” أو “المنتمي إلى”، وهي بالتالي أقرب إلى أسلوب النسب في اللغة العربية، وتأتي ثانيًا بطريقة تشكل فيها أسماء وليس صفات. وهذا يعني أنها لا تأتي بصيغة اسم فاعل أو مفعول participle. ومع أنه من الممكن ترجمة المصطلح إلى “الخياليّ” كما في الترجمة العربية للكتاب، والمذكورة آنفًا، إلا أنّ “الخياليّ” يعبر بشكل أفضل، وبشكل خاص في السياق الأدبيّ، عن مصطلح fictional، كما حين يقال “شخصية خيالية” للتعبير عن fictional character. وهكذا فإنّ مصطلح Imaginary أقرب إلى كلمة “تخيليّ” منه إلى أي كلمة أخرى متعلقة بالتخيّل والخيال، كونه منسوبًا إلى المخيلة أو التخيليّة Imagination بسبب اللاحقة -ary. كما تترجم كثير من المراجع العربية في الرياضيات مفهوم The Imaginary numbers إلى “الأعداد التخيّلية”.
ينظر فولفغانغ إيزر، التخييلي والخيالي من منظور الأنطروبولوجية الأدبية، ترجمة وتقديم: حميد لحمداني والجلالي الكدية (الدار البيضاء: مطبعة النجاح الجديدة، 1998).
ينظر “المتخيَّل (L’imaginaire)،” مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث، تم النشر في 2 آب، 2016، تم الوصول في 9 أيار، 2023، https://www.mominoun.com/articles/%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%AA%D8%AE%D9%8A%D9%84-imaginaire-4202
“-ary,” Collins Dictionary, https://www.collinsdictionary.com/dictionary/english/ary.
Wolfgang Iser, The Fictive and the Imaginary: Charting Literary Anthropology (Baltimore & London: The Johns Hopkins University Press, 1993).
ينظر:
Richard van Oort, “The Use of Fiction in Literary and Generative Anthropology: An Interview with Wolfgang Iser,” Anthropoetics 3, no. 2 (1997–1998), https://anthropoetics.ucla.edu/ap0302/iser_int/.
فولفجانج إيسّر، فعل القراءة: نظرية في الاستجابة الجمالية، ترجمة عبد الوهاب علوب (القاهرة: المشروع القومي للترجمة)، 43.
Yaseen Kittani, “Dreams, Imagination and the Ends of Chapters in the Alexandrian Texts,” Al-Majma‘, no. 16 (2021): 389.
صدرت “محطة السكة الحديد” أيضًا على شكل “رواية”، كما في إدوار الخراط، محطة السكة الحديد (القاهرة: مهرجان القراءة للجميع- مكتبة الأسرة، 2004). وتلفت النويهي الانتباه إلى أنّ الخراط يتفادى في “ترابها زعفران” على سبيل المثال مصطلح “رواية” أو “قصة قصيرة” ويفضل عليهما مصطلح “نصّ/نصوص”، وبالمثل لا تذكر طبعة دار الآداب التي نشرت نصوص “محطة السكة الحديد” (1990) ضمن طبعة تحتوي على نصوص أخرى أن الكتاب عبارة عن مجموعة قصص، وليس من الواضح إذا ما كانت قد صدرت لوحدها في كتاب منفصل عن دار الآداب عام 1990 كما يرد عند كتّاني. وهكذا لن يتعامل هذا البحث مع هذا الجزء من الكتاب على أنه مجموعة قصص، وبالتالي لن يتبنى رؤية كتاني بأنّ النصوص الخمسة تشكّل قصة واحدة بخمس نسخ. ينظر أيضًا الخرّاط، مراودة المستحيل، 15–16.
الخراط، مراودة المستحيل، 16.
Iser, The Fictive and the Imaginary, xiv.
المرجع السابق، 171.
المرجع السابق، 1.
المرجع السابق، xiv–xv.
المرجع السابق، 4. ينظر أيضًا ص 229.
المرجع السابق، 229.
المرجع السابق.
Iser, The Fictive and the Imaginary, 224–5.
Iser, The Act of Reading, 167.
Zoltan Schwab, “Mind the Gap: The Impact of Wolfgang Iser’s Reader-Response Criticism on Biblical Studies- A Critical Assessment,” Literature & Theology 17, no. 2 (June 2003): 174.
أبو الحسن حازم القرطاجني، منهاج البلغاء وسراج الأدباء، تقديم وتحقيق محمد الحبيب ابن الخوجة، ط3 (بيروت: دار الغرب الإسلامي، 1986)، 86.
Iser, The Fictive and the Imaginary, 230.
المرجع السابق، 17.
المرجع السابق.
المرجع السابق، 21.
ينظر القرطاجني، 90.
الخراط، مخلوقات الأشواق الطائرة ومحطة السكة الحديد، 87. (من الآن فصاعدًا سيشار إلى العمل بالأحرف “م س ح” فقط).
المرجع السابق، 88.
المرجع السابق.
المرجع السابق.
المرجع السابق، 89.
المرجع السابق، 90.
ينظر على سبيل المثال
Iser, The Fictive and the Imaginary, xiii, 84–5, 184, 199.
الخراط، م س ح، 92.
ينظر:
C. G. Jung, The Collected Works of C. G. Jung, Vol. 5, Symbols of Transformation: An Analysis of the Prelude to a Case of Schizophrenia. trans. R. F. C. Hull (Princeton, NJ: Princeton University Press, 1990), 176.
الخراط، م س ح، 92.
المرجع السابق، 93.
المرجع السابق.
المرجع السابق.
Kittani, “Dreams, Imagination and the Ends of Chapters in the Alexandrian Texts,” 517.
Mohammad Hamad and Mahmoud Kabha, “The System of Gaps and Alerting the Reader in Modern Arabic Literature,” IAFOR Journal of Literature & Librarianship 9, no. 1 (July 2020): 65–6.
الخراط، الحساسية الجديدة، 11–12.
حيدر، 62–63.
الخراط، م س ح، 95.
المرجع السابق، 84.
المرجع السابق، 95.
المرجع السابق.
القرطاجني، 90.
المرجع السابق.
الخراط، م س ح، 105.
المرجع السابق، 97.
المرجع السابق، 105.
المرجع السابق، 105–106.
المرجع السابق، 108.
الخراط، م س ح، 111.
المرجع السابق.
المرجع السابق، 112.
Iser, The Fictive and the Imaginary, 229.
ينظر المرجع السابق، 2.
الخراط، م س ح، 113.
المرجع السابق، 127.
المرجع السابق، 126–127.
شاكر عبد الحميد، “رمزية السلم والثعبان في عالم إدوار الخراط،” مجلة نزوى، العدد 8 (أكتوبر 1996): 115.
ينظر:
C. G. Jung, Memories, Dreams, Reflections (Stellar Books, 2013), 158–9.
الخراط، الحساسية الجديدة، 340.
المرجع السابق، 341.
ينظر المرجع السابق، 50–51.
ينظر المرجع السابق، 67–68. للمزيد عن فكرة الطفل الأبدي في علم النفس التحليلي ينظر:
Marie-Louise von Franz, The Problem of the Puer Aeternus, 3rd ed. (Toronto, Canada: Inner City Books, 2000).
ينظر عبد الحميد، 115.