حينما صعدت الدرجات العشر المضروبة من حجر رملي مقدود، وقفت تحت قوس البوابة الكبيرة، في العتبة تماما حيث امتزجت نداءات التماثيل بظل سقف المعرض وجدرانه وبهوه الأصيل. كانت التماثيل هناك في مدخل الدهشة مصفوفة في قيامتها معلاة الى حيرة العين.
من أين أبدأ ؟ أثمة بداية حقا ؟
المنحوتات كلما تنادي الداخلين وتتنادى، لا بكتلتها وأشكالها وخامتها فحسب، بل بفراغاتها أيضا وبصمتما وغيابها الكبير عن النظر. كأنها لا تدعو الى النظر بل الى الاصغاء. كأنها ليست مقيمة في أشكالها، بل في الاحتمال الذي يجعلها هجرة الى المعنى، حيث الكلام كله تلعثم إزاء الغريب الذي يصعق. لم تكن تدل على شيء آخر غير المتاه.
في معرض كارلوس إيبارا (أ) لا يكون عليك ولا لك أن تتبع مسارا مسطورا تهيئه حيل العرض (تقديم بعض المنحوتات، إرجاء أخري، إبراز ما يملك قوة البرهان، واخفاء ما يجل الرؤية مواربة لا تنفتح كلها إلا الى اللغز). فقد تتولى الى التماثيل كي تراها ثانية وثالثة محاولا ببعض الأقيسة البصرية التي تتيحها ذاكرة العين أن تعيدها الى صفاء الألفة، وتدرك أنك لم ترها من قبل، كأنها تتمثل لك في هيئتها أول مرة، إنها تماثيل هاربة من عين تريد تثبيت المرئي في هوية شكلية لتطمئن الى أنها أثيرة الضوء.
الايقاع والسيولة خصيصتان من خصائمص هذه المنحوتات، لذلك يمنحنا خامها المصوغ فيما يشبه الحيرة بين الاسم والصمت، بين الجرح والسديم إحساسا بالزمن.
«ترى التماثيل»: العبارة هذه، في المعرض هذا تتضمن طباقا شاذا لم ترصده، بلاغة القول ولا قواعد تحريك اللسان في لعب الافصاح – الاضمار. فالتماثيل هذه ليست مرئية، ليست للرؤية، أو بالأحرى ليس للعين المدربة على التثبيت والفرز والتصنف والاقصاء أن تراها، كلها وتحيط بها. والإحالة هنا لا تتعلق بالجزئيات والتفاعيل والخفايا، إذ يمكن الناظر أن يطوف حول التماثيل أو يشرف على هاماتها أو ينحني الى بؤرة سفلي كي يرى شخوصها من تحت. غير أنه في تحوله هذا لن يكون له إلا «اللمح» واللوح (ب). هذه تماثيل لا تشغل إلا حيزا يوهم العين بـ "ضآلة" المرئي، لكنها تفيض عن ذاتها وعن المكان بفراغها الذي يتلقي بالفراغ المحيه فيجذبه وينجذب اليه، هذه الظلمات الصغيرة الحية التي يتهيأ فيها «شيء ما» والتي هي فراغات –أعضاء- ليست عطبا أصاب التماثيل ولا نقصا ذهب بأجراء منها حتى استوت أمامنا بـ "لا كلها"، ليست عاهات تشير الى تفكك المادة وانحلالها واستلامها للفراغ الذي يأكلها. فلا كل لهذه التماثيل إلا بفراغاتها، لذا نراها تخرج من رؤيتنا حينما تعجز عن الفصل بين الفراغين، وحينما ندرك أن الفراغ ذاته مادة للتشكيل، أي فراغ يرى ويعرض ويصاغ ويوقع.
ترى التماثيل، هذا الطباق غير اللغوي أصلا لا يأخذ دلالته الطباقية إلا في سياق هذه الرؤية العجيبة رؤية الفراغ مجسما.
ترى التماثيل لكي تدعوها الى النظر إليك، إذ ليست هذه الرغبة البصرية غير فتنة مضمرة بالذات التي لا تستطيع أن ترى الا عبر وسيط. تقلب البصر كأنما لتقبض على خرصة معلقة في اللغز. لذلك أنت لا تمشي بل تنوس، شجرة من صمت وذكرى في ريح الاغواء، تبحث عن جذورها في الضوء الذي يبقى. لا تنظر من مرقب ثابت. تبدل الأقنعة والمراصد متقربا آثار الحيوان الذي ينزح. المعنى، هنا، هجرة من تمثال الى الحلم، من منحوتة الى ظلها وصداها، من شكل يتكون في فراغ يتكون الى النسيان والتأويل طرائد مبثوثة في نهاية اللغة. لذلك تتشتت الدلالة فتتشتت أنت، ترقص بين التماثيل إذ لم تعد تجيد السيرة وتندفع وترتد كطفل يتعلم أن يطرق أبواب العالم، ثم تصيد ذاتك.
صمت، رؤية إصغاء، هجرة، حلم وحلم فيه، صيد الكائن القابع في أغوارنا المعتمة، الذي به مس من الشمس الأولى، ذي المفاتيح المنسية التي من ضوء – حيرة، مساءلة المعنى وإضاعة المركز: ذلك ما تعلمه منحوتات كارلوس إيبارا وتماثيله، إنها، بعبارة أصدق، تعلم الخوف. فالخائف يبحث دائما عن بداية تقضي الى نهاياته السعيدة. وليس الخوف بداية حرجة تحفز الكائن على تلمس إمكاناته في سياق ما. إنه فقدان البداية والسياق والأفق معا. لذلك يبدو كل شيء، في الخوف، مرتجلا حتى أحكم التدابير.
من أين تبدأ هذه التماثيل لكي يبدأ الاثر الفني، لابد له من نهاية تكمل عزلته وانفصاله عما حوله. غير أن النهاية لا تتمثل بالتوقيع وادراج الأثر في سياق تلق بعد إفراده وإعطائه شكلا وإسما (عنوانا) خاصين يعزلانه ويفضيان به الى غربته بين الآثار والمتلقين، بعيدا عن مبدعه. ذلك أن الانفتالح العمد الذي هو سمة من سمات الحداثة والمنتج الحداثي (1)، والذي ينقل هذا المنتج من أحدية المعنى الى تعدده وتلاشيه (أو استحالته)، لا يلغي نهاية الأثر فحسب، بل يعني كذلك بدايته، ولا يفرض سياق تلق واحدا، بل يخرق كل سياق جاهز من أجل أن يقترح أسيقة محتملة عدبدة، و"يوحي" بها خارجا من مركز اليقين والوضوح والصفاء الاكتنمال وصرامة الجد الى الهوامش المعتمة، حيث نجرب الذرات المتلقية مغامرة الابداع ومتعة اللعب، ويصير حضورها في التلقي جزءا من الأثر ذاته يكمل بنيته ويدعمها.
لا تبدأ هذه التماثيل من المكان (الفضاء) ولا من المادة التي أنشئت منها (رخام، طين،
برونز) ولا من الفكرة الأولى التي حركت المادة في نوم غفلتها وخامها البسيط، ولا من التخطيطان التي قد تكون فخا للشك. إنها تبدأ من الفراغ لا باعتباره نقيض المادة الذي يملأ غيابها (لا مادة)، بل من حيث هو ذاته مادة خام أخري تقبل التشكيل والانشاء في هيئة تجعل الفراغ مرئيا وملموسا.
إن الفراغ الذي يقدم من حيث هو مكون من مكونات المنحوتات ليفضي بنا الى إحساس
لازم بالمفارقة التي يفجرها الجمع بين المادة والفراغ الذي هو عنصر من كينونتها. فاليدان اللتان اشتغلتا بالفراغ (لا المحايد المحيط بالمنحوتات، الذي يمنحها سياق عرض الى يجعلها موضوعان تدرك في حيز ما) وشغلتاه لتستوي المنحوتان، ضاعفتا المادة والفراغ معا حتى صار بإمكاننا أن نتحدث عن فراغ الفراغ ومادة المادة (أو نحت المنحوت) كما نتحدث عن "معنى المعنى"، غير أنه إن كان بوسعنا في التجربة اللسانية أن نعبر من المعنى الى معناه، من سطح لا يسعف ذاكرة تبحث من غور يؤويها، فننعم بلذة تأويل يخولنا "تثبيت معنى الظاهرة السطحي والمجزأ دائما (2) سيتعذر علينا أن نعثر على مسار انتقال من النحت الى نحته، من الفراع الى فراغه، إذ لا يبقى الفضاء مجرد غياب للمادة تعرض فيه مادة "حاضرة" وانما يصير امتدادا لها حتى لنرى التماثيل خارجة بفراغها من أشكالها لتتيه في الفضاء. فلا فاصل بين الفراغين مادام أحدهما يمتزج بالآخر ومن ثم لا فاصل بين التماثيل وفضاء العرض.
يخرج كارلوس إيبارا منحوتاته لكيلا تنتهي ولا تبدأ، لذا تضرب لنا موعدا مع اللغز. تتضماعف المادة بفراغها، تضل العين بين الشكل الفراغ الذي صار مادة أي اتخذ هيئة وشكلا. إن هذه التجاويف في الصددع وإلاثلام والخصاص التي تخترق الكتلة وتمنها أن تكون مصمتة مغلقة مفصولة عن الفراغ، لتجعل للضوء مسارب في صمت المادة وتصبها بالموسيقى. هكذا تعثر العين على ايقاع متلبس فذ، ايقاع يعشق صمت المنحوتات لتتكلم بجراحها وانشطارها كما تعشق عروق الذهب وشذراته ذاكرة الحجارة أو ذاكرة النهر.
تماثيل تستهل العالم بألم كبير، وبرغبة في الافصالح عما يوحدها بالإنسأق في هذا الالم
وعلى الرغم من أن ملامحها تكشف عن طمأنينة مرسومة في سراح النظرة، وانطباق الشفتين، وعافية العضل والجوارح، نتبين أن هذا الهدوء المحمول كل ملامح غير "صافية"، والهش كأنه هبة من مد الظل في ظهيرة، أو صمت البحر بين شهقتين، ليس سوي قناع وهجرة الى ما يخيف. ذلك أن النظرة الأكيدة المخطوفة الطائرة الى أفق آخر وسماء تتكون في شرود العين لتدعونا الى أن نسكنها لنرى منها (من غيابها) ما تراه السماء المحتملة التي هي فراغ، فراغ حد العلامة والمعنى نحل به، نخترفه، ونشطره، نملؤه ونقصيه، لنراها، تري. لنرانا.
مرة أخري نجد أنفسنا في المتاه. فالعين المفتوحة على أفق لا مرئي (لا يراه غيرها) هي ذاتها أفق مبهم واسم آخر للموت. فما الذي لا نستطيع أن نراه "معها" إذا كنا نرى فيها الفراغ؟ هذه الفتنة البصرية بالعين التي لا تري شيئا، أي التي تلقف ذاتها منعكسة في عين الناظرة، أمامها، تجذبنا الى المحل المحظور، محل، الشيء الذي تلحقه وتراه، فحينما نري شخصا ينظر بإمعان وسكينة لا يسعنا إلا أن نسرق منه النظرة باحثين عن الخط الذي يقاطع مسار نظرته عند "الشيء"! المرئي لنأخذ قسطنا من الضوء والشكل، ونشارك في هذا اللقاء السري الذي نطلبه دائما مثقلين بتاريخ أقنعتنا كله. والتجربة تغدو مربكة ومثيرة للولع حينما نفتقد ذلك الشيء، أو لا يكون للعين الناظرة موضوع رؤية محددة تتبع العين انفلاتها إلى غياب النظرة فتغدو عضوا منهوبا موزعا على العالم، لأنها حينئذ، في هذا العمي الشفاف، تستطيع أن تري كل شيء حتى ذاتها، ولا شيء ييسر الرؤية الداخلية ويحققها أكثر من غياب النظرة.
لكن ما الذي يحدث حين ينتهي مسار تلك النظرة الغامضة إلينا نحن؟
لنتصور أننا نجول في رواق تسكنه وتتجاور فيه التماثيل، وبغتة، ازاء النصب، ندرك أننا مرصودون، وأن الاعين التي مررنا بها (حتى وهي شاخصة الى أعلى، أو مشيحة عنا الى جهة لن نبلغها إلا بحدس، أن مطبقة الجفون على تاريخ مبهم هو تاريخ نشأتها وجراحها) تلتقي جميعها في مجال ما من ذاكرتنا، حينئذ سيستيقظ عشب كثير في أهوار جافة وسندرك أننا مدعوون الى متاهات كثيرة مداخلها عيون وأن هذه المأدبة السرية التي يأكل فيها نظر نظرا أخر دون أن يستنفد، تسمى الخوف من المعنى.
نسيان وهادية إزاء هعا نسياق وهادية وما بينهما التماثيل لابداية لها ولا نهاية، ظاهرة
في انبهام الكائن المزدوج الذي تجعله ازدواجيته ظلا وتمنحه حجاب جمال. ما الذي يستطيعه الاثر الفني حينئذ، إذ تترنح ذاكرته في عتمتها ويضيء أفقه بسراب معش؟
إذ لا يبدأ الأثر ولا ينتهي، بنزع- تبعا لتعبير إيكو- الى أن "يتظاهر بذلك " (3).
يتظاهر يتبادأ ويتخاتم (أو يتناهى)، أي إنه يستعير بداية ونهاية محتملتين لا محسوستين يوهم بهما، وإذ يفعل ذلك، إذ لا يكون له حدان، أول وآخر، تتلاشى هويته في الصيرورة، فيتظاهر أيضابالوجود، يتواجد (يتكاون) إنه كائن لم يكن بعد. ألسنا هنا في سياق اغراء واغواء؟
يلزم، لادراك هذه الدعوة المضمرة أن نقف على ميكانزم الاسقاط الذي يحفزها. فالمغري المغوي لا يتظاهر أمام الآخر ولا يقتحم مجال لامبالاته إلا لأنه قد أغري به وأغري من قبل. إنه يريد أن ينقل إليه عدواه، أن يتبادلا المقام، من هنا يمكن أن نفهم احتفاء الآثار الحداثية بالآخر (المتلقي) حتى وهي تطلب عزلتها القصوى، وصمتها الذي تنتهي عنده كل إشارة فليس إلغاء المتلقي، في سياق الانتاج الفني، إلا تزكية لحضوره المهلك المسبق، الشوط الانطلوجي لكل أثر، الذي يمنحه أن يتعدد.
"خذني، طالبني بامكاناتك، أجعل لي منك حديثن يمحوهما غيرك، أصبني بالمعنى. إلعب معي لعبة الموت" ذلك هو نداء الأثر الحداثي. وسواء أكان أدبيا ام موسيقيا ام تشكيليا فإنه بغذي حضوره (الذي هو غياب) من جاذبية الفتنة ويسعى عبرنا الى أن يقيم في مسار اختلاف.
اللاتحديد واللاهوية سمتان لازمتان لمنحوتات إيبارا، لكنهما لا تنحصران بدلالة فضائية. أي إنهما لا تعنيان فحسب أن المنحوتات، بفراغها، بفضله، قد فقدت الحيز والشكل (المكتملين)، بل تعنيان كذلك أن هذه المنحوتات، حتى وهي تحمل اسما (عنوانا) وتوقيعا، لا يعصمها اسمها من التشويش واللبس، ولا ينقذها من الازدواجية إنها كائنات خنثى (اندروجينيه Androgynes)، غولية (ج)، تهجر سماتها البشرية لتلحق الخارق فتستعير منه ما يجعلها كائنات حلمية (او كابوسية) تدعو الى تحويل الرؤية عن شاشة المباشر المألوف الى الشاشات العميقة التي تطويها وتنشرها الأحلام.
هذا الابهام الجنسي، اللاصفاء الخلفي، يفجر لحظات عجاب (فنتاستيك Fantastique ) ويقطع بها سيرورة الرؤية، ويؤهل المنحوتات للخزف المذهل، ويمنحها طاقة "الشاذ" و "المتعدد" و "الاستثنائي" و"الهامشي" و "اللازمي" و"المنفلت" و"البشع-الجميل"، وإذا كان صفاء الهوية شرط المعنى (الواحد) في كل دال، فإن هجنة المنحوتات، هذه الكينونة البرزخية بين بين، إن هي إلا عبور آخر نحو المعتم المدهش الغريب، حيث يغدو الحلم الوسيلة الوحيدة الممكنة للاقامة "في" العالم والاقامة "معه".
"بين بين": ليس في هذه العبارة إيحاد كرونوطوبي (زمني-مكاني)، فهي لا تعني مكانا محددا، ولا محلا ذا سمات وأبعاد. إنها استعارة فضائية لقول ما لم يعرف، قنان لتسمية ما لا اسم له، ذلك أن منحوتات إيبيارا، كائناته العجابية، لا تظهر في مكان ولا ترى في بؤرة. إنه يلزمنا لكي نراها، أن نطبق الأعين على الفراغ، ونلحق أشكالها الطائرة، في بلد الخوف، بلد الأصول، حيث المواد كلها خام واحد منصهر في النور الذي ليس نهار بعد، والظلمة التي ليست ليلا. ولكي نراها يلزم أن نعثر لها على اسم مرجلي اسم آخر غير الذي يسمها في المعرض، والذي يمثل إزاء توقعي إيبارا كطائرين في فجر علامات، فكيف يمكن أن نسمي هذه المخلوقات التي يتنكر بعضها بملامح طوطمية أو بخوذ وأقنعة طقسية تشبه ما كان يتزين به أباطرة الأرض قديما كي تكون لهم سطوة الآلهة فتخلد أسماؤهم بينها.
بيديه، يدي الخيميائي والهدام الكبير، يمزج إيبارا خامات وهويات وعوالم وأجناسا حتى لتأخذ منحوتاته سفة "الظل" و"الشبح"، كأنها ترى في غير مجال الرؤية، في مكان آخر غير زمني، إن الانساني – وهو العنصر الحاضر في كل المنحوتات، ليخرج من قيد الانثروبومورفية (Anthropomorphisme) (د) ليكتسب خصائص وسمات أخرى غير بشرية تحرره من أحديته ووضوحه ومعناه الذي يسبقه فيمازج الحيواني ("المرأة الفرس" التي تذكر بالسنتورات الأسطورية، "طائر" و "الجوكي")، والنباتي ("إنتاش" (Germination) التي تمثل امرأة طالعة من رشيمات نبتة، وقد أخذت تلك الرشيمات حجما وشكلا يوحيان بأعضاء آدمية في عناصر معمارية (حصن، سفينة..))، والمقدس السماوي (الذي هو ثيمة مهيمنة يمكن رصد موتيفاتها وتنويعاتها في جل المنحوتات: الجناح، الازدواجية، اللاتجانس، اليقظة، عمود الكون (هـ) اللاتمايز، سقوط الأعضاء وفراغ الحشا، انبهام الجنس المتعالي..).
إن المنحوتات معظمها عديمة الجنس، لا ذكر ولا أنثى، أو بالأحرى لم يكتمل جنسها بما يفرزها ويمنحها هوية واحدة واضحة ثابتة، ففي الصدور والهامات تتحدد الأنوثة بالنهد والاضلاع في الزور والتراقي البارزة والعضل الهادي المسترخي والهادي الأجيد الأتلع واللبة المطمئنة المحفورة المتدفقة نحو البهو. وتعطي الوجوه ايحاء بحسم جنسي عبر الملامح والتقاسيم والأعضاء (العيون، الشفاه، الأنف، الذقن، الصدغ، والوجنات، الجبينان والجبهة). هذه السمات الخلاقية لا تمنح الأنثى أنوثة كاملة إذ تغيم هويتها باختفاء الفرج وامحائه باعتباره عضوا مميزا لها من الذكر. والذكورة ليس يؤكدها الصدر ذو الثندوتين العبلتين والعضل البريء الموفور المشدود في ذروة البأس، ولا العنق الأغلب الأبتع ذو العصب الناتيء والأوداج المستنفرة. إذ تذوب هذه الذكورة في فراغ التماثيل (الذي هو فراغ هوية) حين تقدم انصافها العليا منتهية بتجاويف تشطرها وتربطها بانفتاح الخارج، أو تختفي بتسطيح يميل بها نحو اللاجنس واللاتحديد ليتحقق انتماؤها الى الهيرمافروديتي (Hermaphrodite) (و) ومن ثم يحصل تعاليها واكتسابها سمات المقدس الذي يشغل جاذبية سرية ليفتن ويربك التأويل ويرعب.
تنهض بعض المنحوتات مبتورة الأيدي، مفرغة الحشا من الجوارح التي بها تثبت الغزائز وتكتب الميول (الغداء، الخوف، الحب،..) ويبدو هذا الاستغناء عن البراهين الأدمية كما لو كان سيرورة تطهير وتصفية يخلص بها الكائن من إسار وضعه الأرضي ليلتحق بكيونوة عليا. إن التخلي عن اليد، العضو الأكثر آدمية لأنه دشن نزوح البشر من الغابات الى اللغة والحرث والمدن، وتجويف الباطن وانفتاحه الى الفراغ والضوء، ليست كلها إلا الصيغة الطقسية والجمالية للاشارة الى الانتقال من الشرط الدنيوي الى رحابة "القدسي" والخلاص من الشيخوخة والخطيئة والموت. تبدو هذه التماثيل، وقد استغنت عن اليد والحشا والفرج (Sex)، كما لو أنها تغادر خصائها الدنيوية لتستعيد كينونتها الأولى حيث تحقق الوحدة والخلود. إن هذه يذكرنا برموز البتر والتقطيع والانقسام التي يمكن العثور عليها في كثير من أساطير الخلق ونشأة العالم، وفي الطقوس الاسرارية (Initiatiques) (ز) المرتبطة بها, والتي تحيل على تعلق البشر بكينونة أصلية قدسية "سقطوا" منها، ولا يمكن استعادتها إلا بموت – ميلاد ثان ينشأ فيه الواحد الكلي الذي تنسجم فيه المتناقضات وتأتلف، والذي ليس ذكرا ولا أنثى، وإنما "كائن كامل" (Etre partalt). فالطقوس تعيد تحيين تلك الكينونة الأصلية الكلية رمزيا.
صورة الكائن الكامل هذه يقدمها لنا ايضا "انجيل توما" باعتبارها مؤشرا على الوصول الى "المملكة" بعد تهافت الحدود بين الأبعاد والجنسين: "حينما تجعلون الاثنين واحدا، وتجعلون الباطن كالظاهر والظاهر كالباطن، والأعلى كالأسفل! وإذا جعلتم الذكر والأنثى في واحد فرد، من أجل ألا يبقى الذكر بعد الذكر ولا تبقى الأنثى، حينئذ تدخلون المملكة" (4). إن الخلاص هنا المعبر عنه بصيغ تقوم على المفارقة، ليس إلا الجزاء الأنسب للتحول الأقصى الذي هو موت، إذ هو عبور من حالة الانشطار والتميز والتعدد الى الائتلاف والعموض والأحدية. وذلك ما يمكن رؤيته" وراء تماثيل إيبارا، في الشاشة المعتمة لظلالها العميقة، حيث تتراقص العلامات حول قنديل المعنى.
تختفي الأيدي كما لو أنها زوائد عضوية تثقل الكائن وتشدد الى مصيره الزمني غير أن هذا القطع (بفتح الطاء) الجميل ليس عاهة تصيب الكينيونة وتؤهلها للنبذ كما لو كانت وسم عقاب يحيق بالآثم، فالكائن هنا لا يفقد عضوا إلا ليستبدل به عضوا اخر اسمى وأقدر على تحقيق الانعتاق. هكذا تعلو مخلوقات إيبارا في "عطبها الايجابي" وفي أطراف أكتافها، عند الإبط، يبرز ما يشبه الجناح، إن لم يكن جناحا مبسوطا، بذا يستحيل "الاستغناء" عن الأيدي نزوعا الى كمال، لأنه يحيل على تحول الاليم الى الطائر (الذي هو الاستثارة الأجمل والأكثر شعرية للملاك) وخروجه من وضعه الدنيوي المنتهي (التاريخي) وتساميه وخلاصه.
إن التسامي والارتباط بـ"الأعلى"، إذ يؤكدان بسقوط الأطراف والأعضاء التي تعوق استعادة الأصول المفقودة، وببروز الجناح، يشار إليهما أيضا بترميز مضاعف يسند الى "اليقظة" (أو النظر الثاقب الذي يخول الذات الناظرة أن تفيض عن ذاتها وتنتشر في العالم). والى "المحور" (الذي ينتأ في هامات التماثيل كأنه امتداد لجماجمها، فيجعلها كائنات لا أرضية).
النوم سقوط لأنه انفصال عن الكينونة الأولى، وخروج من مجال القدسي الى الدنيوي، إنه بصيغة أخرى ابتعاد عن الزمن الأول، زمن الألوهية، واقتحام للتاريخ والتجربة الفردية في الطبيعة. ذلك ما نجده في إحدي أطروحات أحد مراجع الرومانسية الألمانية يعقوب بوهمه (Jakob Boehme) الذي ذهب الى أن سقطة آدم الأولى كانت قد حطت في نومه حين رأى ذاته مغمورا بالعالم، والذى انفصل فيه عن "زوجه السماوية" (5)، ولقد كان من نتائج هذا النوم (الذي يتضمن انفصالا مضاعفا انفصالا عن الذات الالهية وانفصالا عن القرينة، أي أنه انشطار عنيف يفقد الوحدة والكمال) أن برز الفرج ليؤكد الانفصال والسقوط (6).
إن اليقظة التي تدعم نظرا يستوعب اللامرئي، وتطوح العين في فراغها العادل حيث تلقي ذاتها، تجعل التماثيل مشدودة الى ما يتعالى ولا تدركه العين. بذلك تكشف عن رغبة ارتقاء وعودة الى ما قبل النوم". كأن النظرة البعيدة الى اللانهاية، الواثقة كأنها نابعة من تستيقظ هذه التماثيل لترى وتطير. والطيران الذي هو رمز صعود وخلاص واتصال بالأزمنة الأولى، لا تتحقق رمزيته الطقسية إلا في فضاء منفصل عن العالم الدنيوي، أي في فضاء مقدس أصلا بممارسة الطقس فيه (ح). ولكي يكون أي مكان مقدسا يلزم أن يعتبر مركزا للكون كي يتيح اتصال البشر بهما. هذه المركزية يرمز إليها بأشياء كثيرة تجتمع في الدلالة على الصعود: الشجرة الصخرة، عمود القربان، السلم، الحبل… وكلها تعتبر "محور العالم" (Axe du mone)
اذا كانت تماثيل إيبارا لا تقوم على تمجيد المادة وحدها بل تمجد الفراع وتحتفي به من حيث هو أصل ثان جوهري للكينونة، فإننا يلزمنا أن نرى فيها كائنات تتوق الى عالم أصلى ليس الفراغ فيه "لا- مادة" تحتوي مادة بل صيغة أخري لتجلى المادة وإعلانها عن نفسها من هنا يمكن أن ندرك أن دلالة تلك النتوءات السحرية التي تعتلى رؤوس التماثيل. فهي، بيكنونتها المزدوجة التي هي فراغ ومادة معا، تحمل عنصر التسامي والاتصال بين الأرض والسماء ليتقدس الفراغ والمادة معا، أي يتقدس السديم. ماذا تذكرنا، في "الرؤية" المبهمة ببن الحلم والحقيقة، تلك المخلوقات الماثلة بزاءنا بمحاور كونية، واستحضرنا انقسام فضاء العرض حول تلك المحاور، أمكننا أن نتساءل، أفي تجاور هذه المحاور، من حيث هي بحث عن قداسة مفقودة، تنسيب لكل قداسة فوق هذه الأرض؟ أم هي تأكيد لتعدد القدسي وانتشاره في العالم عبر أفراد يحملون وسائطه القوية في ذواتهم المعزولة؟
في هذا النزوح الى "الاخر" وفي توحيد المتناقضات ومطابقتها تنكشف رغبة الاقامة في "لغز الكلية" وتحقيق "الكل- الواحد" كما صاغه الرومانسيون الألمان (وكما تحدث عنه قبلهتم المتصوفة المسلمين)، واختبار امكانيات الكائن ألاصلى قبل أن ينفصل عن ذاته عبر تحولات تسلخه وتنسله من كينونته لتلقي به في كينونات أخرى هي اغتراب متواصل في التاريخ وابتعاد عن الابدية،، لذلك يمكن أن نقرأ تحولات تماثيل ايبارا من حيث هي بحث أركيولوجي عن الكامل أن التطابق المتعارض "بتعبير نيكولاس دي كوزا (7). إن هذد المخلوقات المواربة التي تجمع بين المباشر والمتعالي، الأنثى والذكر، الآدمي والحيواني أو النباتي، البشري والالهي، ليست ظلالها إلا صيغة جمالية لقول أسطورة العود الأبدي ولن يكون مجازفة أن نرى فيها كائنات طقسيه تؤدي شعيرة العبور كي تستعيد الاصول المفقودة لكن هذه المناسك البشرية غير الصاخبة التي تستدعي انصاتا ممزوجا بالنظر المسحور، ليست لتمجد اللازمني على حساب التاريخي الأرضي. إنها إذ ترسم منافذ سماوية، تبقى لها إشارتها الى شروط بشرية، صراخها المعلن في أفق آخر، الذي تقول به انسحاق الانسان وعبثية العالم الحديث وانهياره تحت ركام من الايديولوجيات والقيم والأنساق التي بدلا من أن تسهل إقامة الانسان في الارض نضاعف عزلته وتطوع به في الاستلاب والخوف.
هوذا ايبارا يجبل تماثيله ويرفعها دون نزعة صنمية، فليست أوثانا وليست لها وظيفة لاهوتية، لأن وظيفتها هي التخيللى، الانزلاق الى سحر الرمزي وزمنه الاستثنائي. هذه المنحوتات تستعيد جوهر المادة والشكل ما لايرى، ما لا يعرض إلا بمغامرة روحية في المرئي. لذا تعيد إلينا جوهر الرؤية لنلتقي بالجميل، ذلك الافول الرائع الذي يتواصل تحت بلادة إحساسنا التي نحتال على أنفسنا كثيرا لنسميها "اليومي".
الهوامش:
أ- كارلوس ايبارا (Carlos Ibarra) نحات ورسام إسباني وزع إقامته بين مدريد وطنجة، ازداد بمدريد سنة 1951، التحق بدائرة الفنون الجميلة فدرس الفن التخييلي والرسم، ثم أحرز منحة سنة 1983 من وزارة الثقافة الاسبانية ليطور خبرته مع النحات بينانثيو بلانكو، منذ 1978. عرض أعماله في أهم المعارض الاسبانية ("كرايزلر"، "مايطي مونيوث"، "أدارت"، ميادو"- مدريد، "كريسون" – بلنسية، "سستاغو" – سرقسطة..) والعالمية ("إسمبراك1" – الإكوادور، "بيكاسو"- نيويورك، غوبي"،- فرنسا "أدار"- ألمانيا، فيرونيكا"، "ميتسوكونشي"- اليابان). عرض بطنجة ومراكش والرباط والبيضاء وفاس.
ب- يفرد الثعالبي في فقة اللغة بابا لـ "تفصيل" كيفية النظر وهيئاته في اختلاف أحواله دون أن يحدد هذه الهيئات والأحوال فنعرف إن كانت للناظر أم المنظور أم النظر ذاته. ذلك بأن هذه الأطراف الثلاثة تتداخل في تعاريفه فيأخذ النظر صفة تؤول الى حالة الناظر أو هيئة المنظور. ولم نجد في هذه التسميات ما يحيل على بؤرة الرؤية (فوق تحت، قبل، دير، جانب..) انظر "فقه اللغة وسر العربية، دار الكتاب العلمية، بيروت، بدون ط بدون ت.، الباب 15، الفصل 13، ص 97-99.
1- Umberto Eco, Lóeuvre ouvertem éd. Seuil, 1965. 17et suivantes.
2- Gilles Deleuze, Nietzsche, éd. PUF, coll, Philosophes, 1992, p19.
3- Umberto Eco. op. cit. p 26.
ج- نسبة الى الغول، وإني أستعمل هذه الصفة بالمعنى المراد في القاموس المحيط "من يتلون ألونا من السحرة والجن أو كل ما زال به العقل". انظر باب (غول). والأندروجين هو الانسان الذي يجمع بين خصائص الأنثى والذكر.
د- الأنثروبومورفية صفة ما له هيئة الانسان أو مظهره.
هـ- عمود الكون أو محوره أو مركزه كلها تسميات تحيل على تصور أسطوري للعالم، يقوم على تقسيم المكان (الفضاء) قسمين، مقدس (لازمني تقيم به الآلهة) ودنيويا (زمني يقيم به البشر) والمركز هو الذي يتيح اتصال العالمين وارتقاء البشر الى جوار الآلهة. انظر لتوثيق الاطلاع:
Mircea Eliade, et le profans, ed, Gallimard, 1985, pp, 25et suivantes.
و- الهيرمافروديت في علم النبات، هو كل نبات تملك ازهاره سداة (Etamine) (عضو ذكورة) ووزيما (Pistil) (عضو أنوثة). وفي علم الحيوان، كل حيوان يملك غددا تناسيلية ذكرية وأخرى أنثوية والاسم متحصل من تركيب مزجي لـ "هرمس" (أو عطارد) وأفروديت (أو الزهرة). ففي الأسطورة الاغريقية أن هرمس وأفروديت أنجبا هيرمافروديت فمشجت الآلهة جسده حورية، فتولد كائن ذكر أنثى (خنثى).
ز- لا نريد تفصيل هذه الفكرة هنا لأنها تستلزم معطيات أولى عن مفهوم المكان الأسطوري وتقديس العالم وطقوس التقدير. لتوثيق الاطلاع انظر الفصل المشار اليه من كتاب ميرشيا إيليادي المذكور اعلاه.
4- اورده ميرشيا إيليادي في:
Méphistophéiés et l’androgyne, éd. Gallimard, 1981, p. 152.
5- Ibid. p. 146.
6- Ibid., p. 147
7- Ibid., p. 147et suivantes.
ادريس عيسى (شاعر من المغرب يقيم في جيبوتي)