في الصبا نبحث دائماً عن اسماء شعرية أو فنية جديدة أو قديمة نتماهى معها إلى درجة الانسحاق. شيء يشبه التعلق الوجداني بالأشخاص أو بالأشياء التي تحيط بنا، حتى لو كانت مستحيلة المنال. من هنا ينبع الدافع الأساسي وراء المغامرة التي قد تقودنا إلى أعالي لم نتخيّل أننا سنصل إليها أبداً، أو نسقط في مهاوٍ سحيقة تمهرُ بقسوتها حياتنا إلى الأبد. هكذا كان افتتاني بالشاعر توفيق صايغ وأنا أستمع إلى أصدقاء مثل عقيل علي وكمال سبتي يتحدثون عنه دون أن أقرأ له شيئاً البتة. كنتُ أسافر إلى مدينة هؤلاء الأصدقاء قاطعاً مسافة مائة كيلو متر لكي نتحدث بشغف عن الشعر والشعراء والتجارب الكبرى في العالم وكأن هؤلاء عشيرتنا وشعراؤها شيوخنا الكبار.
شغفُ الشعر يمسك بأزياقنا ويتحكم بخيالاتنا، ويجعلنا نغامر بالسفر من مدينة إلى أخرى، رغم فقرنا الشديد وانعدام خبرتنا بالسفر والابتعاد. مجرد سماعنا بوجود هذا الكتاب أو ذاك في مكتبة ما، حتى نقرر السفر إلى تلك المدينة حيث توجد المكتبة المعنية.
هكذا وجدتني بعد أيام في البصرة، حيث كانت لقيتي بعض كتب أنسي الحاج، لا كلها، وبعدها يممت وجهتي صاعدا الطريق البري من البصرة إلى بغداد والمحاذي لنهر دجلة، لأتوقف في مدينة العمارة، حيث قيل لي أن مكتبتها العامة تحوي نسخة من «لن» ديوان أنسي الحاج الأول. وهناك قرأت الكتاب خلال جلسة واحدة. وكأني أتممت واجباً. لم أسأل نفسي أبداً، فيما إذا كنتُ قد فهمت شيئاً أم لا! لكن هذا الأمر لم يكن مهما حينها، الأهم أن التقي بغيري من الأشباه، حينها كان شاعر المدينة الملعون اسمه: علي عيدان عبدالله، وكنت قد تراسلت معه من قبل، كان نحيف الجسم، اسمر اللون، طويل القامة، وكمعظم شعراء تلك الفترة يشتغل في التعليم أو شيء من هذا القبيل. ومثل شيخ طريقة، استقبلني بود وكرم، ولم يكن حديثنا بالطبع يدور إلا حول الشعر والشعراء حتى وصلنا إلى توفيق صايغ… حينها أبهرني بمعرفته بتوفيق صايغ وأهداني نسخة من تلك الطبعة الجميلة للـ«قصيدة ك»، تلك كانت غنيمتي الكبرى. قرأت الكتاب مرات ومرات، ليلتها وفيما بعد من الليالي القادمة، انه الشعور بالدهشة لا غير، فلم يكن بمستطاعي حينها أن أرى الشخوص واستنطق الأحداث وأتبيّن العلل. كان الكتاب يبدو وكأنه سديم وأنا تائه ولكني مع هذا أسير. فالوهم هو الذي يدلنا إلى الطريق. وأحيانا تشدّ أزري تلك الهمهمات التي كنت أحاول تسطيرها في الدفاتر ويدي ترتجف.
كان هذا عام 1974، بعد عامين كنا قد قدمنا إلى العاصمة بغداد، تقريباً، جميعناً وإن وصلناها في أوقات مختلفة، أخبرني صديق بأنه استنسخ «معلقة توفيق صايغ» بيده، وكم فرحت حين سمح لي بأن استنسخ أنا نسخة لي من نسخته. وبقيت الدهشةُ ذاتها تتملكني وأنا أقرأ وأعيد القراءة، وكلُّ ما تجلّى لي وكأنه لم يتجلّ شيءٌ، انما هو وهم الشعر وتلك الخيالات التي أراها خلف سطوره دون أن أراها في حياتي.. وكأن توفيق صايغ قادم من عالم بعيد. رواية لا يمكننا تصديق أحداثها ولكنها تجعلنا نحس بالدهشة وبذلك الشعور الغريب من القرب والبعد وكأنه ثمة زجاج يرتفع ما بيننا.
خلال ساعات الظهيرة البغدادية نبقى ندور في شوارعها نفتش في بسطات الكتب المستعملة المنتشرة بكثرة، تقع عيناي على أعداد من مجلة منزوعة الغلاف دائما، وكنتُ أقع على مواضيع مثيرة تشدني، لعل أولها تلك المادة عن الشعر العامي وموضوعاته، وقد لفت نظري أن الباحث استشهد أيضاً بأبيات مكتوبة بالعامية العراقية أعرفها، لكني لم أكن أعرف قائلها وهذه بعض أبياتها:
يبات الكَلب يحسين ملهود
يجمـع بمـدة ويخـزن جبود
سادة وخزاعل عندك جعود
شي تندعي وشي كَلوبها سود
يحسين جيف بثار عبود؟
عكَبـك تظـل زنـودها بنـود
فقد تبيّن لي فيما بعد انها لشاعرة عراقية اسمها «فدعة» عاشت خلال الفترة العثمانية في حوض الفرات.
لم أستطع أن أتبيّن أنها مجلة «حوار» التي أصدرها توفيق صايغ، إلا فيما بعد… حينما رأيت المجلة ذاتها في مكتبة احدى الجامعات الألمانية…
في ألمانيا التي وصلتها بحقيبة يد عام 1980، مخلفاً كلّ شيء ورائي… استطعت أن أتعمق أكثر في شعره وحياته وبل ترجمة بعض شعره إلى الألمانية، صديق عراقي أهداني نسخة من الطبعة الأولى من «معلقة توفيق صايغ»، محمود شريح أنجز كتاباً عن حياته، وأعاد نشر أشعاره وترجماته ورويداً رويداً قد أخذت صورة الشاعر الغامض والوهم تتضح شيئاً فشيئاً. لم يكن ذلك الشغف باطلاً اذن، هكذا كنتُ أقول لنفسي… وفيما كنت أشتغل على مختارات من الشعر العربي الحديث بالألمانية، حتى وجدتني أهدي تلك المختارات إلى توفيق صايغ، الذي كان يشتغل على مشروع مشابه، لكن رحيله المبكر لم يمهله لكي يكمله.
كان الطيب صالح يشيد بتوفيق صايغ، أثناء لقاء لنا بمدينة كولونيا الألمانيا، والمطلع على الرسائل المتبادلة بينهما التي نشرها محمود شريح، يمكنه أن يرى جانب المحرر والناشر والمكتشف للكتاب فيه، وهذه صفات أخرى، قد تبدو غريبة عن ذلك «الشاعر» الذي يخط لهب ألمه وعشقه قصائد ربما لم يحبها أحد، شاعر تم التضحية به وكأنه مارق، فقط لأنه لم يستأنس الفراغ ولا هادن اللغة الطائشة، وامتنع عن الرطانة تعففاً.
كان التماس مع الشعر عنده، بمثابة تناسب وتقارب وكأن قول أبي تمام قصده، وربما قصدنا نحن أيضاً، التلامذة المجهولين، القادمين من قرى بعيدة:
ولو لا خلال سنّها الشعر ما درى
بُناة العُلا من أين تُؤتى المكارمُ
كنتُ اضطررت إلى التخلّي عن «القصيدة ك» وما توفر لديّ من أعداد مجلة «حوار» المنزوعة الغلاف والصفحات الأولى (كانت المجلة مُنعت حينها من دخول السوق العراقية) حينما غادرت إلى فرنسا، وفيما ألمانيا بعد أن استطعت أن أحصل على بعض الطبعات الأولى لكتبه وفيما بعد الطبعات الجديدة، عدتُ وفقدتها وأنا أضطر إلى التخلّي عن مكتبتي في مدينة كولونيا بألمانيا حينما غادرتها عام 2008 إلى بيروت. في صيف عام 2015 كنتُ في القاهرة، بمكتبة مدبولي، حيث كنت أزورها دائما، لمحت في مكتب الصديق محمود مدبولي نسخة مستعملة من الطبعة الأولى من «القصيدة ك»، فأخذت الكتاب بين يدي لكي ألقي نظرة عليه، وحينما انتبه الصديق محمود مدبولي إلى اهتمامي بالكتاب حتى أصرّ أن يهديني تلك النسخة. حينما ورقّت النسخة فيما بعد، وجدت اسم مالكها في الصفحة الأولى: محمد عفيفي مطر.
خالد المعالي