هل ظلمت السياسة توفيق صايغ، أم ظلمه الدين أم كلاهما معاً، أم ظلم نفسه، فهل هو ضحية الانحياز التام إلى المسيحية في شعره، أم ضحية التغريد خارج سرب النضال وخاصة أنه فلسطيني، ابتعد عن القضية؟ أم حياة العابر التي اختارها؟ «مصيفي الفراغ، مشتاي الفزع، وعيشي قطارٌ بينهما صفيرةٌ » وظنّي أن كل هذه العوامل مجتمعة ظلمت هذا الشاعر الذي قرر أن يستعير حياة من زمن مضى وولت أيامه! قرر أن يعيش في قصيدة مع شخصيات مستعارة!
ولد في سوريا وعاش في فلسطين وتعلم في بيروت ومات وحيداً في أمريكا، معلقاً بين السماء والأرض في مصعد بعد أن داهمته أزمة قلبية ودفن في مقبرة الغروب بين مهاجرين، حياة تشبه قصيدة قصيرة مليئة بالمفارقات وأقرب إلى المجاز منها إلى الواقع، حياة تليق بشاعر مثل توفيق صايغ ابن القس البروتستانتي الذي تفتحت عيناه في طبرية والقدس والجليل، فلعب المكان بتاريخه ورموزه المسيحية دور البطولة في حياته وشعره، ودون شك الشاعر الذي ينشأ علي ضفاف بحيرة طبرية التي كانت مسرحاً للمسيح وتلاميذه لابد أن يذهب بعيداً عبر الزمان والمكان، ثم ينتقل إلى إنجلترا وأمريكا، ليتأثر بالشعر الإنجليزى والروح االبروتستانتية .
أسأل نفسي وأنا أقرأ توفيق صايغ كيف كتب هذا الشعر في خمسينات وستينات القرن الماضي حيث الغنائية الشعرية وصخب الوزن وأفراح الإيقاع الصاخب في الموسيقى والمعنى، لقد كتب شعراً يخلو من المد القومي والغنائية في زمن الغناء والقومية وخاصة لشاعر فلسطيني، فجاء شعره صلوات أقرب إلى رؤيا يوحنا اللاهوتي، كأنه يشاهد رؤيا في الدواوين الثلاثة، لكنها رؤيا على الأرض وفي وضح النهار وخاصة في ديوانه الثالث «معلقة توفيق صايغ» يحاكي فيه وقائع الرؤيا ممسكاً بسيف أمه وسيف حبيبته، استعار مفردات يوحنا اللاهوتي وروح الرؤيا مع بناء المعلقة في مزيج نادر، فاللغة أقرب إلى الحلم رغم قسوتها، وثمة إيقاع خاص قادم من القداسة والفلسفة وأيضاً من صهيل الخيل » مستهجن شكلي هنا، وشعري لهم أضحوكة، وحبي احتلام وديني هرطقة» أو يرثي نفسه » أمي خسرتها للموت، و» … » خسرتها للحياة، عدوي الموت عدوتي الحياة . معلق أنا بين موت وحياة : لا بموت أوحياة »
كان يحمل بداخله إحساس النبي صاحب الرسالة، ولكن الرسالة الشعرية على الرغم من مفرداتها المسيحية إلا أنها رسالة مغزاها الإنسان، من خلال لغة تميزت بالجرأة والعمق والتجديد لشاعر سيطرت فكرة الخلاص على شعره، خلاصه الشخصي وفقاً للمفهوم المسيحي، فلم يعبأ بالإتجاهات والأساليب السائدة وقتذاك، وغرق في الروحانيات المسيحية ورموزها وبالتحديد الفداء والخلاص فشعر بأنه ليس سوى قربان! ولم يتوقف الأمر عند التأثر بهذه الرموز أو سيطرة الفلسفة المسيحية على دواوينه الثلاثة أو أدائه دور الضحية، بل ظنّي أنه كان يعيش ويتقمص شخصية المسيح الذي افتدى العالم وكان يعود ألفي عام إلى الوراء، ويعيش معه كل الحكايات والأحداث التي وردت في الأناجيل الأربعة، وعلى الرغم من رحيلة إلى بيروت ثم انجلترا وأمريكا إلا أنه ظل بروحه في فلسطين التي هبط إليها مع أسرته حين كان عمره ثلاث سنوات، إذا كان قد درس التواراة في مطلع شبابه وكتب فيها أبحاثاً وتأثر بها، بالإضافة إلى دراسة وترجمة الأدب الإنجليزي وتشبعه بفكر البروتستانت إلا أن محاولة محاكاة شخصية وحياة يسوع الناصري كان لها الدور الأكبر في حياته وشعره، فثمة توحد بينهما، المسيح الفيلسوف الإنسان والشاعر المسكين الذي يلعب هذا الدور، لذلك لم يتأثر إلا بما يناسب هذه الفكرة، فعلى الرغم من قربه من جماعة شعر ويوسف الخال، كان توفيق صايغ قريباً فقط من خشبة الصليب من ذاته، كان يتجول في عرس قانا الجليل، ويشاهد المسيح وهو يطرد الباعة من الهيكل، وحين قرأت قصائده شعرت أنه عاش زمن الموعظة على الجبل بل وأكل من السمك والأرغفة مع الجموع، وشارك التلاميذ في رفع ماتبقي من الطعام الذي باركه السيد المسيح! لقد شاهد المفلوج يتدلى من السقف والأعمى يحمل سريره ويمشي، وسهر ليلة الصلب متألماً يراقب بطرس وهو ينكر سيده ثلاث مرات ويبكي، ربما عاش كل هذا في الحلم نائماً أو يقظاً، لا أعرف لكنه رأى كل شيء «أنا أيضاً اتّبعْتُه، غذيّتُ قوته بضعفي، أعنته على تحقيق ذاته» ثم يقول أكلت «مع الآكلين ورأيتهم يهللون له وقد شبعوا، يتدحرجون في إثره» وفي هذه القصيدة التي استعار عنوانها من الإنجيل يتمثل الشخصيات التي صنع معها المسيح معجزاته في عرس قانا الجليل «والمياه التي انقلبت خموراً عادت مياهاً على شفتيّ» بل كان الأعمى الذي استرد بصره » والوحل الذي نقى من الوحل عيني برتماوس، جعل عيني تسأمان ما كانتا تتنزهان به.» وكان ابن أرملة ناين الميت الذي أعاد له المسيح الحياة » والنداء الذي أعاد فتى نايين للحياة » بل تمثل شخصية بولس الرسول في رحلته إلى دمشق حين ظهر له المسيح، فتخيل نفسه هو من التقى شاؤول وضمه إلى خاصته، فحين يكتب الشعر كان يهمس لنفسه مملكتي الشعرية ليست من هذا الزمان، بل من ألفي عام مضت! «سلمت يداك يا معرقبي، لمحت إذ بوستُهما، أثر المسامير زال» والأمثلة لا تحصى في شعره، فهل كتب توفيق صايغ شعراً دينياً؟ ربما ظن البعض هذا، لكنني حين أقرأ نصوصه أشعر أنه يطرح أيضاً أسئلة الوجود من خلال اللاهوت المسيحي الذي تأنس فيه الرب وصُلب لمحو خطايا البشر، صار إنساناً ليفتدى الإنسان، وكان صايغ يحاكي هذه الصورة، صورة الرب على الأرض إنساناً يعيش بين البشر، يقدم لهم الخمر والسمك ويشفي أمراضهم ويمنحهم حياة أبدية، وظنّي أن هذا ليس شعراً دينياً بل أسئلة إنسان حائر في هذا الوجود يستفيد من التراث المسيحي، فهو يقول صراحة «ربٌ قديم / تقصد موحاه الأمم / فتحت الكوة أتلصص فألفيتني مُقعداً أجش وكبوت » وعلى الرغم من طغيان هذه الرموز على نصوصه وهذه النزعة الميتافيزيقية في رؤيته للعالم، إلا أنه كتب في ديوانه الأول وفي فترة مبكرة أجمل القصائد التي تنتمي إلى تفاصيل الحياة اليومية » ليلة ارتديت بدلة المواسم، وتزينت وقصصت شعري، وتعشيت في الكوباكابانا، مع رفيقتي، وأصحابي ورفيقاتهم، ثم تمشينا على الكورنيش المعتم، وقلنا للبحر ازبد وطرطش » ويقول فيها » يوم رفعت للمدير استقالتى» و» اغمدت القلم ولففت في الورقة زادي وبوست حبيبتي بدون سونيتة وشتمت البارمان والمدير من غير نار.» وكان من الممكن أن يكمل في هذا الإتجاه لكن الشيء الخفي الذي بداخله كان الأقوى، يقوده عبر الزمن ألفي عام إلى الوراء ليعيش مع الناصري وتلاميذه .
جرجس شكري