ها أنذا آتٍ إليك كل يوم، وأرقد على قبرك لساعات طويلة دون أن أعير الموتى حولنا أي اهتمام ..نعم.. أنا لم أراعِ حرمتهم ومشاعرهم، أصارحك أنك
أنت الوحيد الذي يفهمني في هذه البقعة من هذا الكون الفسيح .
أنا لا أعرف منذ متى حصل ذلك بالضبط؟! لكن كل ما أعلمه أنني لا أدري ساعتها إن كنتُ يقظا أم نشوانا وأنا اقترب منك غارقاً في سكر نفسي حتى النخاع،هل كان ذلك ليلا أم نهاراً؟..ربما نشوتي هي التي دفعتني للجلوس بجانبك قبل أن أحتكم لذاتي .
أعلم أنه عندما جئت إليك، كانت قدماي قد ساقتني إلى هنا وفق ما تصوره عقلي في تلك اللحظة..لقد انتظرتك كثيرا ؛ كي تخرج لي كعادة الليالي الماضية وأنا أعرف أنك لن تنبس بكلمة واحدة كما هي عادتك أيضا ..
نع .نع.نعم أنا أتحداك أن تكلمني هذه الليلة ولو لمرة واحدة .. ألم أقل لكَ أني أتحداك ..نعم أتحداك.. أنت جبان.. بل ستون جبان ! لا عليك من كل هذا ولا تزعل ..
ماذا قلت ؟ أنت تريدني أن أبكي .. وأبكي أكثر من اللازم.. لن أبكي.. ولكن قو . قو .قلي .. لماذا طالت عمامتك هذه المرة أكثر من المعتاد؟ كما إني أراها ناصعة البياض!
أنظر إنها طويلة جدا!وكم هي جميلة أيضا !لماذا يلبسونكم الأبيض دائما! ..هل أنتم كذلك .. إنها غطت جسدك الأسمر النحيل،دون أن يظهر منه شيئ سوى عيناك اللتين تشبهان عينا قط بري وهو يتلصص طريدته في ليل حالك .
يا إلهي! لماذا أنت أصلع .. أين ذهب شعرك ؟.. دعني أضحك .. ها أنذا أضحك .. أضحك كثيرا .. أني أتمرغ ضحكا من منظرك هذا .
إنه الآن أشبه بقاع قدر فخاري قديم .. لماذا تقول بأنك لا تهتم !ماذا قلت؟ تريدني أن أنفعل بكلامك هذا أليس كذلك؟
اسمع إني أنفعل الآن ..بل أغتاظ بشدة ..سوف يعلو صوتي ها هو يعلو الآن .. ألا ترى نَفَسي المتلاحق .. أعصابي تشتد وتتوتر.. أعرف أن كلامي هذا لا يهمك، ولكن قل لي لماذا أنت متخشب هكذا، وكأنك قطعة خشب ساج قديم سقطت من حصن أثري ؟ لماذا ساقاك يميلان للسواد؟ لماذا أنت نحيل جدا؟ هكذا طبعكم أنتم الأموات تخيفون الأحياء في الوهلة الأولى فقط لكنكم لا تؤثرون فيهم أكثر من تلك اللحظات .هل تصدق ؟ لقد رأيتهم يضحكون عندما رجعوا من المقبرة ! وكأنهم دفنوا فأرا وقد ارتاحوا من عناء كبير بعدما تخلصوا منه .
هيا اجبني .. لماذا لا تجيب ؟..ولماذا لا تحرك سوى عينيك الجاحظتين تلك ؟! أووف.. أنا في غاية الغضب منك ! أنظر أني أنشج الآن ..ماذا تقول أنت لا تعرف ؟حسناً.. سأقول لك.. لا لشيء سوى أنك لا تجب عن أسئلتي ! انتظر .. انتظر.. لقد أرعبني طول أظافر قدميك التي هي أشبه بمخالب نسر كبير، بسطهما في الهواء لينقض على فريسته !لقد ضربتني بها على مقدمة رأسي ليلة البارحة في منتصف الجبين عند خروجك من قبرك هذا ..أنظر ..مازال الدم يسيل من جبيني حتى الآن .
لحظة.. لقد قررت أن أغضب منك، لذا لا أهتم لزعلك .. حسنا .. أنت تجيب هذه المرة ولكن بصوت أجش؟ماذا تقول؟ إني أسمعك.
سأعيد عليك ما قلته لي ؟ إني أزعجتكم كثيرا هذا اليوم ببرازي القذر، وملابسي المتسخة، وان كل جيراننا هم متذمرون مني، وغير راضين عن تصرفاتي ..لكن لماذا تسألني متى سأترككم ترقدون دون أن أزعجكم .. أعرف أني قد أقلق سكينتكم الأبدية لأيام طوال وأن أبقى عظما في حلقومكم إلى أن يصرفنا القدر كيفما يشاء..لكن قبل أن تعلق على كلامي انظر إلى ملابسي المبتلة بالبول.
أعلم أنك لن تستحملني كثيرا هذه المرة وكما هو معتاد منك ذلك دائما ..لكنك تعرف إني لا أجد مكان أرتاح إليه غير هذا المكان ..إنه لا يوجد لدي أصدقاء ممن يسيرون حمقى هناك حفاة الأقدام خلف تلك الشجرة اليابسة يملأون الحانات وجيوبهم فارغة،وهم يتضورون جوعا، يضعون ذرات الملح على حواف علبهم الخضراء ليخفوا بها مرارة شرابهم لكنهم لا يستسيغونه كثيرا.. أنظر.. ما أكثرهم! ..آاااه كم أكره هؤلاء الأحياء.. لا لشيء سوى أنهم يأكلون بقايا فتات الخبز اليابس، ويدعون أنه طازج ! كما أنهم يحلفون كثيرا دون أن يصدقوا.. أنا أكره سحنات وجوههم العجفاء .
لا أعرف لماذا لا يحلقون ذقونهم عند كل صباح ؟!.. إنهم يتحاملون على أنفسهم أكثر من اللازم في كل يوم تشرق فيه الشمس ..ينظرون إلى المرآة ؛ ليحدثوا فيها شرخا يلتئم بمجرد ما يخفون وجوههم عنها ..آااه كم بكت المرايا كثيرا لحالهم عند كل صباح..دعني أتنهد قليلا .. إني أتنهد الآن.. انتظر..انتظر .. سوف أبكي..
لا عليك ..لا تنزعج ..عليك أن تكون متسامحا وبشكل كبيرا جدا،كما يقولون لنا ذلك دائما في كل خطاباتهم.. ولكن قل لي : ألم تقل لي أنت ليلة البارحة أنهم يراقبونني باشمئزاز؟..أوه.. إني أتذكر ذلك جيدا.. إننا مازلنا في ليلة البارحة .ولكن هل نسيت أنت أنهم مازالوا يراقبونني ..وأنهم يضعون نظارات سوداء غير مرئية لعيونهم !ربما يخفون بها بقايا سكرهم، لكي لا تعرف الفئران ذلك .
لا يهم.. لايهم.. دعهم، أنا أعرف أنهم لا يأتون هنا إلا لتخفيف بطونهم مما يحملونه من بقايا أشياء، ليريحوا بذلك قلوبهم القذرة قبل أن تتعفن ..لكن قل لي لماذا يقلبون إناء طعامنا ويسكبونه على ناره في كل مرة يمرون من هنا ؟هل تتذكر ..كم ضحكت أنا كثيرا عندما دسوا أيديهم في القدر وهو مازال يغدق على نار أشعلناها منذ زمن، ولم تنم إلا قليلا وفي فترات متباعدة ..هل تتذكر ذلك ؟ماذا؟ تقول أنك لا تتذكر!.
أنا أتذكر ذلك جيدا عندما كانوا يأتون إلى هنا يبحثون عن ضالتهم.. وعندما لم يجدوا شيئا رموه على أجسادنا؟..يومها ضحكت أنت أيضا .. لقد سمعتك .. خاصة عندما زممت أنا شفتي وأخرجت منهما ضراطا متواصلا هكذا.. بوووب ..بوووب ..مما جعلهم يستشيطون غضبا وقد ركلوني بأرجلهم كثيرا حتى أخرجت ما في بطني عبر اتجاهين .لا تنكر ذلك لقد سمعتك تقهقه كثيرا وأنت تنظر إلي .
دعني أتذكر الموقف .. بل دعني أضحك .. إني أضحك ..هههههه ..ههههه ..ولكن قل لي من نصبهم ولاة علينا وأن وحدهم فقط يعرفون ما يسرنا وما يضرنا ؟وما يجب أن نفعل وما يجب أن نترك ؟ بل لماذا يظنون أنفسهم ملائكة تمشي على الأرض !وإنها دائما لا تخطئ بل تصيب !
لماذا علي أن أضع على عيني خِلقة داكنة وأسير خلفهم سير الخرفان وفق ما يشتهون دون أن أعترض ! ماذا تقول ؟ علي أن أغلق فمي وأن أرضى بكسرة خبز مهما كان نوعها؟
نعم .. أعرف أن القناعة كنز ..هكذا سمعتها وحفظتها كثيرا من طابور الصباح في المدرسة الابتدائية.. ماذا! أنت لا تعرف؟ انأ اعلم أنك تريدني أن أبكي ..لحظة سوف أرفع صوتي..أقول لك لن أبكيييييييييي..لديك حق سوف أبكي ولكن ليس طويلا هذه المرة كما تتوقع .. لكن قبل ذلك انتظر سوف أملأ كأسي أولاً .
حسنا سأصارحك بما يجول في خاطري الآن .ربما هذه الكأس هي من أنساني سُعاد..انتظر لحظة.. إني أسمع سعاد من الداخل تقول لي لا تملأه!..صه .ص .صه.. إنها تطلب مني أن أكف عن إفراغ القنينة من محتواها كما أفعل كل يوم ..تقول إنها سوف تغضب مني ولن تكلمني مرة أخرى .
لماذا هذا يا سعاد؟لم تقولين ذلك! ألا تعرفين أنك نجمتي في الحياة،ألا تتذكرين عندما كنا نسترق السمع قرب سكة العابرين، قبيل ظهور غبش الفجر وقبل أن ينهض الحاقدون من غفلة نومهم، يومها كنا نصلي بقدم واحدة ويد واحدة، وقد بلغنا الرشد في ساعة متأخرة من الليل .. كان القمر يختفي خجلا منا تحت السحاب، ولم يكن له إلا وجه واحد،وكان إبطك يومها حليقا معطراً.. كان البحر لا يتجاوز ركبتيك إلا بقليل ..كنا نخاف أن ينزل القرصان أسفل السفينة ويقسم الشط لنصفين ..كنا نرى نصف الحقيقة ونبحث بأيدينا عن النصف الآخر ..كم أتذكر يومها بأنكِ ضحكتِ أنت كثر مما ينبغي حتى سقط لؤلؤ الغوص من بين شفتيك..كنا نظن أن الأرض تدور وتدور ونحن نعد النجوم ونتابع سفر الثريا أثناء تحولها من مكان إلى آخر ..كان ذلك في تواريخ وأيام لا نعلمها..كل ما كنا نعلمه بأن ذلك يبدأ منذ أول الشهر حتى نهايته مرورا بكل فصول السنة .. ألا تتذكرين يومها لم نترك أثراً على الرمل ولم نترك شيئا يغضب الله .
ماذا قلت ؟ ألا تعرف سعاد؟هكذا أنت دائما لا تعرف إلا نفسك؟لحظة.. سأخبرك عن سوعا .عا .عا .د .إنها لا تسكن هنا الآن ..سعاد هذه.. أحبها.. نعم أحبها .. كانت هي الوحيدة التي تُقبلّ جبيني قبيل شروق الشمس ..نعم هي من أضاءت لي ظلام السماء ليلة اختفاء القمر ..علني أتذكر ذلك الآن.. أتـ .ذ .ذ.كر .. .كنت أهرب منها خجلاً في بعض الأوقات عندما كانت تلاعب طير الكناري أسفل بستان بيتنا، وأنا أقطف حبات الجوز المعلقة على عودها..لكنها كانت تمانع من سجود الورد عند أطراف قدمينا …
أتذكر جيدا عندما كانت تبدأ معركتي معها كل يوم قبل أن نلتقي .. كانت تبدأ من على السرير الخشبي فوق سطح منزلنا .. كنت أضرب عصفوري بيدي اليسرى ضربا سريعا غير مبرح إلى أن تنطلق منه ألعاب نارية، قاذفة زخات تشبه حبيبات الخرز، وكأنها قد تساقطت من عقد صناعي،عندها فقط يسكن جسدي ليصبح كتمثال كرتوني أو كلعبة نفذت بطاريتها وقد نفذت بطارياتها.
لقد تَرَكتني .. وبرحيلها اغتالت عصفور الفرح النائم في صدري . لحظة..سوف أبكي الآن.. سوف أقف على رجلي .. انظر إني أقف! لاتخف لن أقع هذه المرة ..أوووف.. لا تخف أنا وقعت بعيدا عنك .. لحظة سوف أضحك كثيرا هذه المرة .. هههههه هاء . هاء. ههههه ..سوف أغني .. أغ .غ.ني.. عصفوري را.را.رايح .. ع.ع. عصفوري جاي..عصفوري .ح.حامل.. س .س. كر وشاي .
انتظر إنهم ما زالوا يراقبونني ..بل ما زالوا يخفون أعينهم خلف تلك النظارات السوداء الداكنة ..لحظة لحظة لا تجب.. دعني أضحك أولاً ..لن أضحك كثيرا هذه المرة أعدك بأنها ستكون الأخيرة ..لن أكررها ..ماذا قلت؟ اع .اع. اعد علي ما قلت؟ ماذا؟ ..ما هذا السائل الأبيض الذي أشربه إنه ماء الكولونيا.. ماذا تقول ! ألا تعرفه.. نعم.. أعرف أنه عطر رخيص لذلك أنا أشربه..ماذا تقول ؟.. سيقتلني وأموت! لماذا تقول ذلك ؟ أنت لا تعرف فائدته ! أنا سأخبرك ..اسمع إنه الوحيد القادر على أن ينسيني الحياة .. و إغلاق فمي كي لا أتكلم وأذكر عوراتهم.. ألا ترى أنه وحده من يتركني أسير ملتحفا بظل الجدران وحيدا، وأن أختبئ في هذه المقبرة مغلقا أذناي عما يدور في الخارج ..لا تقاطعني! دعني أواصل الحديث.. اسمع.. لا يهم ذلك إن كان بطنك ممتلئا .. كل ما يشغلهم إذا ما بقيت حتى مطلع الشمس علي أن أدعو لهم بالخير والعافية وأن أرقم أذنيّ بأصابعي كما يفعل المؤذنون .
أنت هكذا تدعو علي بالموت دائما..لماذا تقول ذلك !ولكن قل لي بربك ؟!..هل كان هذا الشراب هو السبب لمجيئكم جميعا إلى هنا في هذه المقبرة المرتفعة ؟بل لماذا اختاروا لكم هذا المكان الملاصق لهذه القلعة الكبيرة ؟
أجبني إن كنت تستطيع ذلك ؟ لا عليك.. أنا لا أنتظر منك الرد .. فأنا أعرف الإجابة بنفسي ..انتظرني دعني أعدل من جلستي أولا ..اسمع.. أقول لك أنا أعرف..
أعرف الغُناء ما رأيك أسمعك أغاني قديمة..سواح وأنا ماشي ليالي.. سواح ..س أء سواا ..أوووه ..أسف لا تزعل نسيت أنك لا تحب الأغاني المصرية.. ماذا تقول ؟ أنت لا تحب الأغاني كلها؟ ماذا ؟ لأنهم قالوا لك أن ذلك حرام ! لكن أنا أحبها ولا يهمني.. اسمع..اسمع ..(غلط يا ناس ..تصحووني ..وأنا نايم .. وتقولوا لي تعال أس.. سمع.. وكيف اسمع وأنا نايم)..
لا تزعل سوف أكف عن الغناء ولكن…. دعني أملي كأسي أولا.
هل تصدق أني رأيت ليلة البارحة حلما مزعجاً أرّقني جدا ومازالت ملامحه تخيم على ذاكرتي .. إنه حلم غريب فعلا !ماذا تقول؟ تريدني أن أحكيه بكل تفاصيله!.. إذن اسمع ..ولكن لا تقاطعني هذه المرة حتى أنتهي من سرده لك. تصور أني رأيت فيما يرى النائم بأننا تبادلنا الأدوار!.. و رأيت أني مسجى مكانك، بعدما ابتلعتني الأرض عنوة إلى الأعماق، وكأني قد انخرطتُ عبر أنبوب حلزوني طويل،سقطتُ بقوة عند نهاية الأنبوب على مؤخرتي، داخل أرض مبلولة بالماء لكنني لم أختلط مع تربتها كثيرا ..لقد وجدت نفسي مكبلاً ومربوط اليدين والرجلين ..كان الظلام دامساً إذ خيم على المكان .. وكان لا يوجد سوى فتحة صغيرة لا يدخل منها سوى ضوء خافت جدا على شكل بقع صغيرة تتحرك في خطوط مستقيمة، وكأنها تطارد لاعبات باليه وهن يرقصن على مسرح معلق أعلى بحيرة كبيرة خضراء ..قمت متثاقلا ورأسي زكم خوفا وتساؤلات ..رأيت منشار حديد ولم أتوانَ في الذهاب باتجاهه ..
كان لي طوق نجاة أول، قطعت به القيود التي أسرتني وما إن تمكنت من ذلك إلا وقد هربت مسرعا في كل الاتجاهات ..كنت أحاول تلافي الجدران وهي تلتحم مع بعضها البعض في جهة وتنفرد في جهة أخرى، محدثة بذلك دويا قويا،وكأن زلزالا أحل بمدينة قديمة، كانت الأشياء تتساقط، وكان التراب يمطر من كل جانب، وكأن ذلك في ليلة عاصفة .
كنت أتنقل بين الزقاق والدهاليز بخفة ورشاقة وكأني غزال بريّ يهرب من أمام ذئاب تجري خلفه .. شاهدت طيوراً سوداء تلاحقني لها منقار أصفر طويل على شكل مخلب يقودها طائر ضخم أشبه بتنين كبير ..زدت في سرعتي بخطوات كبيرة إلى أن وجدت المكان الذي كنتَ ترقد عليه،وكان خط سمك مطبوعا عليه بحبر أزرق كبير..سعيد خلفان البضواني .. كان مغطى بالحشيش الأخضر، حينها جلست مضطجعا على جانبي الأيسر وقد اختفيت بداخله بينما كنت أخرج رأسي بين الفينة والأخرى لأشاهد ما الذي يحدث بالخارج .
تصور لقد رأيتهم يبحثون عني في كل مكان! ومازالوا يضعون النظارات السوداء على أعينهم وقد كان الواحد منهم يحمل عصى خيزران، ويتهدد ويتوعد ..وكأن الأرض ملك يمينه ..استمر الحال إلى أن يئسوا من الوصول إليّ، تجمعوا بعدها دفعة واحدة ونطقوا بصوت واحد،يجب أن نعثر عليه بأي حال من الأحوال،ثم ذابوا، كنتُ قد حبستُ أنفاسي طويلا،وقد جمدت مكاني دون حراك ..وانأ أردد بصوت منخفض ..( أبول عليهم وأسكر .. وسأبول عليهم وأسكر ).. إلى أن غابوا عن نظري وقد سكن كل شيء تدريجياً.
ماذا تقول ؟.. ماذا حصل بعد ذلك ؟سوف أُخبرك، ولكن دعني آخذ نفسا عميقا أولاً.
..هاأنذا أتنفس .. أسمع سأخبرك ..نععم .نع .م .. إني تذكرت الآن.. لقد زارني بعد ذلك رجلان لهما لحى بيضاء طوال تبلغ أسفل سرتهم .. يشبهان بعضهما في الصوت والصورة.. يتكلمان لغة واحدة وبصوت واحد! ويتحركان حركة واحدة عندما ينطقان وكأن أحدا ما يحركهما بجهاز من بعيد فهما أشبه برجل آلي .. كان كبر شارب أحدهم هو الفرق الوحيد بينهما.. لقد طلبا مني الوقوف ثم أمسكاني من الأطراف وشداني بحزم وقوة كل في اتجاه مختلف،تصلب لها ظهري ألما وعرقا وأنا أرتعد من شدة الخوف.
قالوا لي : لقد جئت برجليك إلى هذا المكان ولابد من حسابك ..نعم.. نعم .. لقد لكمني أحدهم على أنفي حتى سال الدم،ثم طلب مني أن أقلد صوت الحمار.. وصوت الكلب .. لقد ضحكا علي كثيرا وأنا أمشي على أربع مثل التيس بعدما طلبا مني تقليد ذلك .
ماذا تقول؟هل كانوا يتكلمون اللغة العربية ؟ لا أدري إن كانوا كذلك .. المهم كنت أفهم ما يقولون وحسب.. إنهم يشبهون أُناسا أعرفهم من بعيد .. إني أتذكر أحدهم الآن.. إنه يشبه جارنا مسعود.. إمام مسجد حارتنا الذي كان يكتب الرسائل كل يوم ويبعثها عبر البريد لأماكن يرفض البوح بها .
طلبوا مني أن أخبرهم عن حال الدنيا وحيث أعيش في الخارج..نعم ..نعم ..قلت لهم ..أنا الذي آمنت في يوم من الأيام بأن جروح الآخرين هي جروحي، وقد كنت أسبح داخلي لكي أمنع صدى التيار من أن يؤذي المحيطين حولي،تركوني وقد خلفوا لي لذة الطيران إلى المجهول .
إنهم يروني وانأ استرق بقايا طعامهم من مخلفات القمامة كي أكافح بها وجع الحياة ..أجمع بقايا علب الكبريت كي أشعل بها دفء الأيام الباردة..لقد خاصمتني القطط كثيرا وأنا أجمع بقايا رؤوس الأسماك من بين يدي الأطفال الصغار الذين تعج بهم (كبرة) السمك ..لكي أطهيه على هذا القدر الذي لم يعرف طعم الغسل منذ أن نُصّب على هذا الموقد ..بينما هم يختارون رضعان الخراف يضعونها على موائدهم ..يتلذذون بها وقت نشوتهم، ثم يجوبون بسياراتهم الفارهة عباب الشوارع الجميلة متفاخرين بذلك .. لقد عرفني سماسرة الخردة لأنني جندت نفسي كي أجمع لهم علب الصفيح المرمي في علب القمامة كي أسد بها رمق الحاجة .
سامحني يا رب .. لأني كنت أتحايل على هؤلاء السماسرة بوضع حبيبات الحصى داخل علب الصفيح كي تَرجحُ أكثر في الميزان بعد أن أدعص العلبة كي لا تنكشف اللعبة .. كان ذلك من أجل زيادة وزنها وقيمتها.
الغريب في الأمر أنهم كانوا يرددون كثيرا بصوت واحد أن البشر متساوون في الحقوق والواجبات .
انتظر لا تتكلم..انظر! يا إلهي ؟! إن القِدر يرغب في الكلام !..لا تقاطعنا، دعنا نسمع ماذا يريد أن يقول ؟
يقول.. لماذا نذكر سيرته دائما ؟ إنه يشتكي لماذا لم أطبخ فيه لحما طازجا منذ أكثر من عام..إنه يتذكر تلك الوجبة الدسمة عندما لم أستطع مقاومة روائح الشواء المنبعثة من مزرعتهم وسرقت فخذا من خروفهم ليلة احتفالهم وطبخته عليه وقد ظنوا أن ذلك كان من فعل القطط.
أنت تضحك أليس كذلك ؟دعني أنا أيضا أضحك ..إني أضحك .. ههه .. هههههه .. هههه لا عليك دعنا من القِدر وسأعود لتكملة الحُلم .
لقد أخبرتهم أني لم أذق طعم ( الكبتشينو )طوال حياتي ولم أقلّب رغوته في المقاهي الفاخرة أنت تضحك من ذلك! ماذا تقول، ألا تعرف الكبتشينو ..إنه بديل القهوة السيلانية عند المتمدنين من علية القوم .هل تصدق أن الفقراء هم أكثر من يشربونها بشراهة عند نهاية الشهر .
ماذا تقول؟ لماذا نهاية الشهر! لن أخبرك بذلك . عنادا ً فيك .. ماذا تقول ؟ أنا أختلق الأعاذير لنفسي فقط.. لا تقل لي ذلك وإلا زعلت منك .
لا عليك ..دعني أعود إلى نفس الحديث ..أخبرتهم عن حال صديقي سالم قبل أن يرقد هناك في آخر المقبرة ..دعني أبكي قليلا..إنني أبكي الآن وأنا أتذكر سالماً ..سالم المهووس بإصلاح الأجهزة الكهربائية .. كم كان بارعا في ذلك .. لكنه لم يستطع أن يواصل وانطفأت موهبته لأنه لم يجد من يأخذ بيده .كان يمكن أن يصنع أشياء قد لا يتخيلها العقل .
قال عنه المدير إنه فاشل وتسبب في طرده من المدرسة..أتريد أن تعرف السبب..لأنه بكل بساطة لم يوافق على إدخال الخيط في خرم الإبرة ..رغم محاولات المدير جره لذلك أكثر من مرة.
لكم كانت الحياة معك جميلة يا سالم!ماذا تقول ؟ هل كان صديقي ؟ نعم إنه صديق .. بل صديق طفولتي وكنت معجبا بحيويته ونشاطه.
انتظر .. انتظر.. إني أحس الأرض تهتز وترتجف !.. يا إلهي ما الذي يحصل! انظر في الجانب الآخر! أرى ذاك القبر ينفتح !يا الله إنه يخرج رأسه ..أنا خائف، إنه يقف منتصبا ويمد يديه نحونا !.. أنا خائف جدا.. دعني أبل على نفسي .. نعم لقد بلت .. ها أنذا أشعر براحة نفسية .. إني أهدأ الآن .. يا إلهي إنه يسير بخطى متثاقلة .. وكأنه رجل آلي ..إنه يقترب منا كثيرا.. لماذا تقول لي لا تخف ! أنا لست خائفا..ماذا تقول؟ أتريدني أن أستمع لهذا المخلوق؟عجيب!.. أتقول إنه صديقي سالم !.. و يود محادثتي! لكني أعرف أن الأشباح لا تخرج إلا في منتصف الليل ..لقد اقترب كثيراً .. إنه يتبسم .. الحمد لله إنه فعل ذلك .. إني أتشجع الآن .. كي أصافحه.. أهلا.. أهلا .. صديقي سالم أهلا.. دعني أحضنك أولا، نعم لقد اشتقت إليك كثيراً جدا .. ألا تتذكر عندما كنا صغاراً نرتع ونمرح معاً..نأخذ بعضاً من ذلك التراب المسمى المدر نعجنه بالماء وننفخ فيه جسداً على هيئة حصان أو جمل لنلعب به ونلهو لا أكثر .
هل تتذكر كم مرة قالوا لنا عندما يمرون بنا أن ذلك لا يجوز وحرام .. لأنه سيطلب منا إحياؤهم يوم القيامة وسندخل النار بسبب ذلك !..لكنك لم تعر قولهم أي اهتمام،كنت ترد عليهم بصمت.. أستغفر الله وهل سيطلب الخالق من المخلوق ذلك؟ .. لا عليك يا صديقي ..دعني أودعك لأني ذاهب إلى تلك القلعة..
.. ها أنذا أقف الآن في أعلى مكان مرتفع، إني أنظر الآن إلى الجموع الجالسة في صفوف متقاربة مع بعضها البعض وكأنهم في طابور عسكري ينتظرون الأوامر من قائدهم .
إني أشاهدهم وأميزهم الآن من بين خلق الله ..إني أعرفهم واحدا واحدا، إنهم مازالوا يضعون تلك النظارات السوداء على أعينهم رغم أنهم يقفون الآن ضمن صفوف المحتشدين .
يا إلهي ! .. نظاراتهم تزداد سوادا أكثر فأكثر! ولحاهم أطول من ذي قبل.. إنهم .. أكثر عن المرات السابقة.. أنا أعرفهم تماما لا يأتون هنا إلا لغرض في نفوسهم.
لكن قل لي بربك لماذا ملابسهم ناصعة البياض.. وهل يخفي بياض ثيابهم ما فيِ أجسادهم.. إني أرتعش الآن من نظراتهم المتلاحقة نحوي، إنهم يعلمون بوجودي .. انظر إنهم يرفعون أيديهم للسماء ويتمنون بفارغ الصبر قدوم اليوم الذي يرتاحون فيه مني.. سأبول عليهم..
إني أبول الآن انظر!.. إن البول يسيل من بين ركبتي ..إنه يتدفق مثل ماء الصنبور ..بل يزداد غزارة ..إنه يتجمع في تلك الحفرة القريبة منا.. بل يتجاوزها ..إنه يزداد تجمعا أكثر فأكثر.. أرى المكان يمتلئ.. إنه يتدفق مثل ماء الفلج.. إنه ينزل إلى الطابق الثاني .. يا للعجب لقد تحول إلى واد جارف.. أراه يملأ الغرف ويلطم الممرات.. لقد تجاوز السلم الأول إلى الطابق الأرضي..يا إلهي.. لقد أصبح كالبحر العظيم..إني أرى الجدران تتصدع وكأن لمع برق قد أصابها..هيا.. هيا.. دعنا نخرج من هذا المكان..أين اختفيت .. لماذا تهرب في هذه اللحظات.. إني أراه يثور كالبركان..سوف أصعد للأعلى عبر ذلك السلم . إني أقف لآن على درجة السلم الأولى .. أشعر وكأنها تحادثني ..تود أن تقول شيئا غير عادي.
إنها تتذكر كم مرة مروا من هنا وصعدوا لكنهم لم يصلوا إلى مكان.. ِاسكتي أيتها الحقيرة فأنت لا يحق لك الكلام .. لأنه ممنوع الكلام مع أمثالكِ .. لقد تجاوزتكِ أنت وبقيت أخواتكِ .. انظروا جميعا إني أقف في الأعلى .. انظر لقد جرفهم الماء جميعا و غرقوا .
لقد تخلصت منهم .. أنظر أني أفرد جناحي سعادة بذلك.. إني أطير وسأظل أطير .
يعقوب الخنبشي
قاص من عُمان