كان صباحا مشرقا. تحررت فيه الشمس من الغيوم، كانا في سباق محموم يوم أمس. الغيوم تلاحق الشمس. تشرق الشمس قليلا فتغطيها الغيوم. فازت الغيوم اليوم فابتعدت مسرعة تاركة لنا الشمس. قفزت من سريري وأنا أشعر بالحياة تسري بقوة في عروقي.. أردت أن أغني. أن أحدث أيا كان.. قفزت الدرجات القليلة الفاصلة بين غرفة النوم والطابق الأرضي، ودخلت الحمام لأغتسل. أغنية.. أغنية.. أريد أن أغني.. آه يا حبيبي. آه يا حبيبي.. يا حبيبي تعال.. يا حبيبي تعال. طب.. كومة الرسائل تسقط من فتحة البريد..رسالة من مديرية ضريبة الدخل تحمل ختم مكتب خدمات صاحبة الجلالة.. رميتها جانبا. لا أريد أن أقرأ ان الآن.. لا أريد إفساد نهاري.. اعلان عن افتتاح سوبر ماركت جديد، يقول: التسوق في «سيف وي» بسيط مثل تعلم حروف أي.بي.سي.. الجريدة الاسبوعية المحلية.. علبة قهوة صغيرة.،مجانا، للتجربة، قائمة أسعار محل بيتزا جديد.
من النافذة رأيت ساعي البريد وهو يبتعد. ترك البوابة الخارجية مفتوحة،كعادته دائما، مما يجعلني اشعر وكأنني أسكن في الشارع. لم أغضب.. كنت ما أزال منغمرة بالفرح.. نظرت اليه بحنان تلاءم مع فرحتي.. كان يشبه البرتغاليين.. قصيرا مربوع القامة. في الخمسين من عمره.. متجهم دائما.. ثقيل الحركة. يزحف لا يسير. علاقتي به كانت محددة بإدخاله الرسائل من فتحة البريد وشكواه من القيشاني الذي رصفنا به باحة البيت الأمامية.
قال بصوت تساقط من خلال المسافة الفاصلة بين أسنانه الأمامية: «هذا أمر سيء.. سيء جدا.. الأرض تزحلق.. كيف أستطيع ايصال الرسائل اليكم ؟»
وجدته، ذات مرة، في حديقة الجيران الأمامية محاولا مد يده الى فتحة بريدنا، من فوق سور الحديقة. مددت يدي ني اللحظة المناسبة وأخذت الرسائل.. فنظر الي بلا مبالاة مؤلمة تشبه الكراهية. وعدته بحل المشكلة باسرع وقت ممكن، وحسب تعبيره «قبل أن يتزحلق ويكسر ظهره». أردت أن افرح معه إلا أنه لم يستسغ روح النكتة لدي.
تنفيذا لوعدي فرقت عددا من صناديق الكارتون ورتبتها بشكل ممشى ضيق يربط ما بين البوابة الخارجية وباب البيت. عندما ذاب الجليد، رميت قطع الكارتون في صندوق القمامة. ثم سقط الجليد ثانية. هذه المرة، وضعت قطعة سجادة قديمة، قصصتها بشكل طولي، فسار عليها ساعي البريد بخطوات متأنية وحذرة.
كنت، في محاولاتي، كمن يريد الحصول على الرضى والاستحسان وباذلة أقصى جهدي للكشف عما هو وراء قناعه المؤدب.
رأيته قبل أيام، وأنا واقفة بانتظار الباص، على مبعدة شارع واحد من بيتي. ابتسمت بصدق وأنا أنا اعتقد بأن هناك ما يجمع بيننا.
قلت: صباح الخير.
لم يجب. تحاشى النظر الي.. عبر الشارع الى الجهة الثانية وواصل سيره البطيء ومسعاه السيزيفي للتخلص من الرسائل. في موقف الباص نفسه التقيت بجيم.. لقائي بجيم كان خاصا جدا، لأنه كان يتم في يوم محدد هو السبت وفي ساعة محددة هي التاسعة صباحا والباص الذي ننتظره هو «سي 11» عرفت ان اسمه جيم لأنني سمعت أحدى الجارات وهي تقول له:
– انتبه عند عبورك الشارع يا جيم.
بالغ جيم يومها في الانتباه عند عبوره الشارع، ربما ليبرز اهتمامه باهتمامها به.
كنا، أعني أنا وهو، نقف في موقف باص سي 11، صباح كل يوم سبت في الساعة التاسعة لنأخذ باص الساعة التاسعة وسبع دقائق. أنا في طريقي الى المسبح وهو إلى السوبرماركت. قبل ثلاثة أسابيع، قررت أن الوقت قد حان لتبادل بضعة جمل مع جيم. كنت ارتدي بنطلونا رياضيا لونه وردي فاقع وبلوزة قطنية مخططة بالعرض.. الخطوط سوداء على أرضية رمادية، باستثناء مربع طبعت عليه كلمة واحدة بالانجليزية "الغضب" لم تكن البلوزة بلوزتي. كنت قد استعرتها من ابنتي لأرتدي مظهر الرياضية المرحة، اللامبالية.. امتلكتني السعادة وأنا اتمتع بلياقتي البدنية وتعلمي السباحة وأنا في الأربعين. جيم كان قد تجاوز الستين منذ زمن بعيد.. نحيفا.. قصيرا.. يدخن باستمرار.. رائحته رائحة علبة سجائر رطبة.
قلت: Good Morning
قال: Is it
في يوم السبت التالي. في وضعنا ذاته. تحت مظلة موقف الباص ذاتها، طورت اسلوب حديثي معه.
قلت: How are you
قال: Here Today, Gone Tomorrow
يوم السبت الثالث، فاجأني قبل أن أفتح فمي.
قال: هذا شارع سيىء جدا.. انه شارع خطر. هل شهدت حادثة المرور ليلة أمس ؟
وواصل قبل أن أجيب على سؤاله:
– رجل عجوز مات فورا.. سيارة الاسعاف وصلت متأخرة عشر دقائق عن موعدها، لقد تغير الزمن، تغير البلد. كل شيء تغير. ثم بحلق مذعورا بالكتابة والرسوم الملونة على موقف الباص «انظري.. انظري.. شوفي الحال. أيام زمان كانت الجدران نظيفة والباصات نظيفة ومواقف الباصات نظيفة. البلد كلها وسخة الآن..لماذا ؟ بسبب الغرباء.. غرباء في الشارع.. غرباء في الحي.. لندن كلها صارت مليئة بالغرباء. Bloody Foreigners، أينما التفت أرى غرباء.
(نظر الي بعينيه الحادتين نظرة من يقرا تقريرا لا علاقة له به، ويخشى أن أبدي اهتماما ولو قليلا ان يظهر حقده المطلق على كل غريب في المدينة).
قال: يوم أمس، انتظرت في المستشفى مدة تزيد على الثلاث ساعات.. انتظرت اولا في صالة الانتظار ثم قادوني لأجلس في الممر المؤدي الى الردهة.من كرسي الممر نقلوني الى كرسي آخر، قرب سرير محاط بستارة طويلة.. جلست على الكرسي وانتظرت.. انتظرت ان يطل علي أحد،، أن يسألني احد عن حالي. كنت أرى من خلف الستارة، أقدام الممرضات فقط، كن يتحركن بسرعة كبيرة. أقدام تتجه يمينا، اقدام تتجه يسارا.. أقدام تقف قرب الستارة ثم تمض بعد وهلة.. بعد ثلاث ساعات جاء الطبيب. قاست الممرضة ضغط الدم ثم أخذت عينة دم للتحليل. أخبر وني انهم لن يجروا العلاج الشعاعي اليوم. لديهم حالات مستعجلة اكثر.. المريض الذي نادوه قبلي وعالجوه كان أسود. تصوري حالتهم المستعجلة كانت مريضا أسود. ويقولون أن هذا بلدنا. انا مصاب بسرطان الجلد، وقد أموت قريبا وهم يقولون أن لديهم حالات مستعجلة أكثر.. وأية حالات ! مرضى سود! من الذي خدم البلد اكثر، انا الانجليزي المولود فيه أم المهاجر حديثا؟ من هو الأولى بالعلاج. أنا أم الأسود؟ هل تعرفين معمل الحليب في نهاية الشارع ؟ أغلقوه الآن. عملت فيه مدة ستة وعشرين عاما الى أن تقاعدت.. نقلوا المعمل الى خارج المدينة. قالوا: أرخص وأحسن.. فتقاعدت قبل وقتي ومرضت قبل وقتي.
-هالو جيم.
– آه هلو عزيزتي كيف حالك ؟
نظر الي العجوز بحنان كبير فلانت ملامح وجهه المتصلبة إزاء وجهي. جاء الباص.. ساعد جيم العجوز على الصعود قبله وهما يتحادثان بصوت عال. جلسا في المقعدين المتجاورين قريبا من الباب وجلست أنا قبالتهما. واصلا حديثهما بلا توقف. ضحك جيم بصوت عال لتعليقات العجوز وشاركته هي الضحك بفرح طفولي.
عند اقتراب الباص من الموقف القريب من السوبرماركت، وقف الاثنان قرب السائق وتبادلا معا التذمر من الحالة الجوية، قال الاثنان شكرا للسائق ونزلا ببطء وهما يتحاشيان النظر الي.
هيفاء زنكنه (كاتبة من العراق مقيمة في لندن)