في رواية حسيبة – الجزء الأول من ثلاثية التحولات للروائي السوري خيري الذهبي تحل اللعنة على حسيبة بطلة الرواية، لأنها خرقت ناموس المدينة الاجتماعي السري ولذلك يكون عليها أن تواجه قدرها المأساوي ومصيرها المحتوم. وأن تتحمل نتائج ما فعلت عندما ارتدت ثياب الرجال وعاشت معهم في الجبل أثناء الثورة، وتتكرر مأساوية هذا القدر من خلال لعنة الحب التي تصيب أصحابها في مدينة محكومة بصرامة الواقع، وسلطة قيمه الاجتماعية السائدة، مما يعبر عن فداحة الشرط الوجودي والاجتماعي للانسان المحكوم بقدره الظالم، ويجعل قصص الحب تحمل هذا المضمون التراجيدي الحزين والقاسي بصورة دائمة تجعلنا نبحث عن إجابات واضحة لما تطرحه علينا هذه المصائر من أسئلة تخص مضمون الرؤية التي تجعل الكاتب يوحد هذه الحالات وهذه المصائر في خط درامي واحد، تجر هن الحب لعنة حقيقية » تجعل حياة من تصيبه سلسلة من التحولات الغريبة والمثيرة التي تنتهي في الغالب نهايات مأساوية فاجعة تعبر عن قدرية هذا المصير في مدينة محكومة بقانونها الخاص.
لاشك أن هذه التحولات التي تواجهها مصائر هذه الشخصيات تعمق الخط الدرامي لأحداث الرواية وتسهم في تصاعد حالة التوتر التي تخلقها من خلال الانتقال المفاجيء والمثير في حياة هذه الشخصيات، وإذا كان هذا الخط الدرامي المتوتر يحقق جوانب فنية تعمل على تنامي وتطور أحداث ووقائع القط الروائي، وتحولات شخصياته فإنها تكشف في نفس الوقت عن مضمون الرؤيا التي يقدمها الكاتب لعالم الواقع الذي يكتب عنه على ضوء خصوصية القيم والعلاقات الاجتماعية المرتبطة بخصوصية المكان تاريخيا وذلك من خلال حضور صوت الراوي الذي هو صوت المؤلف عندما يعلق أو يتحدث عن مصائر شخصياته المستلبة والمهزومة في واقع حكمته سلطة الجغرافيا والتاريخ، وسلطة الانسان المحبط الذي فقد مس المغامرة، وروح الاندفاع والكشف عندما استراح الى ظلال هذه الواحة الممتدة على أطراف الصحراء – دمشق – الأمر الذي يكشف عن مضمون هذه التجربة الوجودية، وتأثيرها المباشر على حياة ومصائر هذه الشخصيات خاصة وأن المكان في ثلاثية التحولات يظل هو البطل الحقيقي للرواية الذي يحمل قيما الدلالية والايديولوجية باعتباره يمثل بؤرة سردية هامة، تتبادل التأثير مع شخصياتها، إن لم نقل إنها هي التي تصنع حياتهم، وتحدد مضمونها في الغالب بفعل التأثير الذي تمارسه عليها "لأن المكان الروائي هو الفضاء المعاش من طرف الانسان أولا وأخيرا" (1) ص 89 وذلك بعد أن "دخلت العلاقة بين الشخصية والمكان مرحلة جديدة، أصبح فيها المكان شرطا للوجود ذاته، وعاملا من العوامل بين الشخصية وتحديد استجاباتها" (2) ص 26 يعتمد الروائي خيري الذهبي في سرد هذه الحكاية على ضمير الغائب حيث يقوم الراوي الذي هو المؤلف العارف أكثر من شخصياته بتفسير وشرح أسباب هذه الحالات من الاحباط التي يعاني منها رجال هذه المدينة والتي تنعكس على علاقات الحب بين المرأة والرجل، وسلوك الرجل حيال المرأة إضافة الى دور ذلك في تكوين وصياغة منظومة القيم والأعراف الاجتماعية التي تفرض سطوتها على حياتهم، وتحرمهم من الحب والعاطفة، بعد أن تكاملت منظومة القيم المختلفة لتجعل من المرأة سلعة يكون عليها دائما أن تواجه قدرها القاسي الذي "اجتمعت فيه كل قنوات أولئك الرجال الذين حرموا من المغامرات الكبرى فتحولت ارادتهم للنضال إرث أجدادهم الفاتحين والمغامرين والتجار الى قسوة مع النساء فاختفت تلك الفروسية التي عرفوا بها في علاقتهم مع النساء وانتفت كل تلك القصص عن الحب الكبير، فالحب الكبير يحتاج الى رجال مغامرين كبار،. أما هؤلاء الذين ألفوا الواحة، والتقتير والانتظار، وحرموا المغامرة فما كانوا يستطيعون ذلك الحب الكبير، فاختفى لتحل محله القسوة،القسوة فقط. القسوة التي ينتقم بها الرجل المحبط من المخلوق الوحيد الأضعف منه في العالم المرأة فحولوها الى شيء الى متعة يتمتعون بها نضرة ثم ما أسرع ما يرمونها عند أول خصام"(3) ص 69. لكن هذه الرؤية التي يقدمها الكاتب لمضمون هذه العلاقة في رواية حسيبة عند حديثه عن تجربة خالدية إحدى الشخصيات النسوية في هذه الرواية، يحل بدلا منها رؤية وجودية تسم تجربة الحب عند المرأة، وعند الرجل، لتجعل مصائر ضحاياها مرتبطا بشرائطها الوجودية مما يجعلها تعبر عن قسوة وفجيعة هذا الشرط الذي يجعل الحب يتحول معه الى لعنة حقيقية تحل بأصحابها، وتدمر وجودهم بشكل مأساوي فاجع ومرير، ومع ذلك فإن رواية "هشام أو الدوران في المكان" التي هي الجزء الأخير من ثلاثية الكاتب، تعيد قسوة هذا الشرط وفداحته الى أسباب أسطورية تتصل بأسطورة عشتار، ولعنتها الأولى التي حلت على الرجل مما يكشف عن البعد الأسطوري لهذه الرؤية، والتي تختلف في مضمونها ودلالاتها مع الرؤية الاجتماعية التاريخية التي يحاول أن يفسر بها شرط المرأة في علاقتها مع الرجل. وواضح أن هذه الرؤية تتخذ من الثقافة الذكورية بمستوياتها الأسطورية والدينية مرجعية لها.
إن تجربة المرأة الوجودية،تكثف وتختزل تجربة الآخر- الرجل على المستوى السوسيولوجي والتاريخي في مدينة محكومة بصرامة قوانينها الاجتماعية السرية، لذلك يكون على المرأة التي تتمرد على هذه القوانين وتقوم بخرقها أن تدفع ثمن ذلك، خاصة وأن هذه القوانين هي قوانين سلطة الذكور من هنا فإن حسيبة التي تخرج مع والدها الى الجبل لتعيش مع الرجال من الثوار وتلبس لباسهم، تنال عقابها القاسي على فعلتها عندما تحرم من الأولاد الذكور على الرغم من كل الوسائل التي تقوم بها، وفي المشهد الذي يستخدم فيه شيخ الحارة صبيا لكي يتصل مع الجن، ويعرف أسباب موت أبنائها من الذكور، يعلن الصبي "بأنهم حاقدون عليها لذكورة كامنة فيها، وكانت تلك هي المرة التي لم تفهم تماما ماذا يريدون وأكمل الصبي : "خرقت النواميس وتحديت الشرائع، وخرجت الى الجبل خالطت الذكور، ولبست ثيابهم، وحملت سلاحهم، وشاركتهم طعامهم، لذا فالذكورة تحرمين امرأة تلد امرأة، وأنثى تنجب أنثى" (4) ص 93.
تقيم هذه الرؤيا تناصها مع الرؤيا الدينية التي تقدمها التوراة في قصة الخلق، كما أن اللغة هي الأخرى تتناص مع اللغة في تلك القصة عندما يطرد الله أدم وحواء من جنته، ويحكم عليهما بالموت والشقاء في الأرض عقابا أبديا على ما ارتكباه بعد أكلهما من ثمرة الشجرة المحرمة. وحسيبة في هذه الرواية تدفع ثمن خرقها لقانون المدينة السري القائم على الفصل الشديد بين المرأة والرجل في مدينة محكومة بسلطة هذه القوانين الشديدة، على الرغم من أن حسيبة تخرج الى الجبل لتقيم هناك وتعيش مع والدها، وليس بناء على خيارها الخاص، خاصة أن حسيبة عندما تنزل من الجبل لتقيم في بيت قريبها حمدان الذي ستتزوج منه فيما بعد تسعي الى التعرف على قوانين هذه المدينة السرية وحفظها من خلال الدروس التي تقلقاها من المرأة الأكبر، حي تكون مهمة المرأة أن تنقل هذه الخبرة والمعرفة الى من هن أصغر منها، لكي يكون مستعدات للدخول في حياة هذه المدينة الاجتماعية بسلام مما يكشف عن دور المرأة في تدجين المرأة واعدادها بشكل جيد للقيام بدورها الاجتماعي في هذه المدينة المحكومة بسلطة الرجال، لكن التزام حسيبة، وخضوعها لهذه القوانين لا يغفر لها خطيئتها الأولى في المدينة "التي تعلمت فيها حسيبة كيف تحب رجلها وكيف تجعل رجلها يحبها وكيف أنها بهذا تحترم المدينة وقوانينها السرية، كيف تقدم القرابين لشيخ البحرة، وشيخ البير، وشيخ الليل جميعا" (5) ص92. إن الرجل في المجتمعات الأبوية هو قدر المرأة الذي تحاول بكل ما تملك أن تتمسك به، لكن المفارقة الغريبة في حياتها أن عليها أن تقبل بهذا القدر وتستسلم لمشيئته وارادته والا تحاول الخروج عليه سواء بالتمرد أو الاسترضاء لأن مشيئة الرجل هي التي تحكم مصيرها، وما عليها إلا الرضوخ لهذه المشيئة الأمر الذي يجعل "علاقاتهن بالرجل خليطا من حلم وحزن، من أمل وجرح، يضربهن الرجل فلا يتألمن فهذا حقه. يهينهن فلا يجرحن، فهذا خير من فقده، يطلقهن فيسعين لاسترجاعه. بالأطفال الباكين يسعين، بالانتظار يسعين، بالسحر والمشائخ يسعين وحين تحاول الواحدة منهن مرة استرجاع قدرها تحاول القبض عليه بأصابعها تفاجأ بالمجتمع كله يقف ضدها" (6) ص 69، ومما يعمق مأساة المرأة وبؤس شرطها الانساني اضافة الى سلطة المجتمع الأبوي كثرة الحروب والأوبئة والمجاعات التي تدفع بعشرات النساء من البلاد الأخرى نحو مدن الواحات بحثا عن الأمان والخلاص والطعام مما يزيد في أعداد النساء ويخلق منافسة قوية بينهن للفوز بالرجل، وعمل كل شيء من أجل امتلاكا وعدم خسارته أبدا. إن مجتمع المدينة المحكوم بقوانينه الخاصة، وعلاقاته السائدة، ما هو الا نتاج واقع تاريخي اجتماعي طبعه بهذا الطابع الغريب من القسوة، وجعل نهايات الشخصيات التي تحاول أن تخرق هذه القوانين، وتتمرد على شرطها، تحمل هذا المضمون التراجيدي الحزين المعبر عن عمق الاحباط، وغياب الاحساس بالعاطفة في مجتمع لم يعد يقبل أو يعترف بها لأنها تمثل خروجا على رتابة الواقع والاستسلام لبلاد ته وبؤسه مما يفسر هذا الطابع المازوشي الحزين لحالات العشق التي تتحول الى لعنة قدرية تنتهي بتحطيم حياة أصحابها، وللتعبير عن الايقاع الخاص والتكثيف الموحي بدلالات الحالة وحضورها في الوجدان الشعبي يستخدم خيري الذهبي اللغة الشعبية في وصف علاقة الحب التي تجرد الانسان من أية قدرة على السيطرة على ذاته وتجعله أسير اندفاعه المجنون الذي لا يمكن السيطرة عليه من قبل المجتمع إلا بالقوة. ويكرر الذهبي هذه المقولة أكثر من مرة في ثلاثيته عند وصف المرأة نفسها لهذه العلاقة، بصورة توحي بالمصير المحزن والبائس الذي ينتهي اليه الرجل والمرأة من خلال هذه العلاقة التي لا يدركان معناها في مجتمع جردها من قيمتها الانسانية والعاطفية الكبيرة. تخاطب خالدية حسيبة التي اكتشفت خيبة أملها المريرة مع فياض الشيزري، حيث تعبر خالدية في الوصف القاسي للحب عن عمق احساسها الموجع والحزين به بعد ما عانته من الحب. الأمر الذي يجعل حديثه الى حسيبة حديثه عن تجربة ذاتية وعامة معا، ترتبط بمنطق هذه المدينة الغريبة "قالت: آه يا حسيبة، آه الحب، الحب كلبين علقانين ببعض بيركضوا في الحارات، علقانين ما بيخلصوهم إلا ضرب العصي وسطل المي، مساكين. بس بعدما بيخلصهم من بعض بيعرفوا قديش كانوا حمير وقديش الحب بيشرشح وبيضيع القيمة" (7) ص 70.
لكن خالدية التي تتحدث عن الحب بهذه اللغة الموجعة، وهذه الرؤية المأساوية، هي من تخرج على قانون المدينة وشرطها الاجتماعي مدفوعة بحاجتها الانسانية العاطفية الى الآخر – الرجل الذي يظل يخذلها باستمرار تاركا إياها لمصيرها المأساوي الحزين،. ويتعمق هذا الاندفاع في حياة خالدية معززا بوعيها الاجتماعي البسيه الذي ترى من خلاله المفارقة القائمة بين وضعها كأنثى محرومة من كل شيء ووضع الرجل الذي يفعل ما يشاء دون أن يدينه أحد، مما يجعلها تتساءل بأسى ومرارة لماذا يكون حبها لعبده الرسام خطأ تعاقب عليه، في حين يتزوج الرجل مرات ومرات دون أن يدينه أو يتهمه أحد. وتتعمق مأساة خالدية أكثر عندما يحاول زوجها الثري السابق الانتقام من عبده لأنه لا يسمح لرجل يعمل أجيرا أن يتزوج منها لأنها كانت في السابق زوجته حيث يشكل ذلك إهانة لشرفه، يسعى للانتقام له، وبالقدر الذي يكشف فيه هذا الموقف عن طبيعة القيم والأخلاق التي تحكم الواقع فإنها تعبر عن فجيعة المرأة وقدرها الظالم الذي تواجهه وتظل تدفع ثمنه من حياتها، وسعادتها وكرامتها وانسانيتها بسبب طبيعة التراتب الاجتماعي القائم على أساس جنساني وطبقي معا.
من لعنة الأنوثة الى لعنة عشقها
إذا كانت لعنة الأنثى تلاحق المرأة في عشقها وحياتها المحكومة بشرطها الاجتماعي في رواية حسيبة، حيث تغدو وهي السمة المميزة لمصائر وحيوات شخصياتها الأنثوية ذات النهايات الفاجعة والمأساوية، فإن ثمة تحولا آخر في رواية هشام أو الدوران في المكان، تنتقل فيه لعنة الحب من المرأة، الى الرجل الذي يعشقها، لتغدو لعنة – عشتار- هي القدر القاسي والمأساوي الذي يصيب من يعشقها من الرجال، وهكذا نجد أن لعنة حب لينا تحل على شوقي وكذلك لعنة عشق وداد تحل على الشيخ بهجت فتدمر حياتهما، وتدفع الى انتحار الأول، وتحول حياة الثاني الى سلسلة من الفجائع والآلام القاسية، دون أن يرق قلب المرأة، بل يظل رفضها لعشق الآخر وعدم استعدادها لمبادلته نفس المشاعر هو الموقف الذي يزيدهن اندفاع الآخر وتهالكه على عشقها، واستجداء ودها وقبولها على الرغم مما تعاني منه هاتان المرأتان على صعيد علاقتهما بالرجل في حين تعيش لينا في غربة حقيقية عن زوجها نتيجة رفضها الداخلي له، فإن وداد التي يموت حلمها مع موت خليل لا تستطيع أن تجد الحب الذي يعوضها عن حب خليل، فتظل تعاني من الحرمان والخواء العاطفي، وملاحقة الرجال لها بسبب جمالها ووحدتها اللذين يغريانهم بالبحث عن فرصتهم الخاصة لديها،ولم تكن لعنة عشقها التي تحل على الشيخ بهجت إلا واحدة من تلك اللعنات التي تصيب رجالها العاشقين، وتحول حياتهم الى سلسلة من الفواجع والآلام المبرحة. إن لعنة – عشتار – الأول التي تصيب الرجل هي لعنة عشق شوقي للينا زوجة سمير المحامي المعروف الذي يعمل شوقي في مكتبه كمحام متدرب، ويحاول شوقي أن يستغل كل الوسائل الممكنة للنفاذ الى قلب لينا، وجعلها تبادله الحب، إلا أن كل المحاولات تبوء بالفشل بسبب رفضها الدائم لهذا العشق، وعدم استجابتها له، وعندما يقتحم شوقي للمرة الأخيرة بيت لينا، ويتوسل اليها أن تستجيب لعاطفته، يصطدم بحيادية مشاعرها تجاهه، فيعود الى بيته يائسا محطما ليضع حدا أخيرا لعذاباته بانتحاره الغريب الذي تتناقله المدينة بسرعة وذهول. وتتكرر هذه اللعنة من جديد مع بهجت هذه الشخصية الغريبة العملاقة "ذات العين البيضاء" والفم الأدرد، عديم الرقبة أشبه بجبل بلا ساقين"، الذي يعمل أجير فران ونشهد صعود وضعه الاجتماعي المفاجيء السريع عندما يمرض الشيخ يوسف ولا يكون هناك بديل إلا بهجت الذي يبدأ نجمه بالصعود حتى يصبح أحد الشيوخ المعروفين بغلاظتهم وقسوتهم، مما يشكل تحولا كبيرا وسريعا ينقله من وضع الانسان المهمل والبائس الى مرتبة الشيخ المهاب. وكما كان هذا التحول سريعا ومفاجئا، فإن لعنة عشق وداد، تدمر كل شيء في حياته بصورة مفاجئة وسريعة هي الأخرى، بشكل تعبر عن دراسية الأقدار التي تتلاعب بحياته وتدفع بها صعودا وهبوطا بشكل غريب ومفاجيء.
والحقيقة أن شخصية بهجت تذكرنا كثيرا بشخصية أحدب نوتردام لفيكتور هوجو، فهذه الشخصية الغريبة التي يعبر بشكلها الدميم والخشن عن القسوة، تكشف في أعماقها عن عاطفة كبيرة، وحب مدهش للجمال، وهو ما يتناقض مع شكلها الخارجي الذي يكون سبب تعاستها ورفض وداد الدائم لعشقه المجنون لها، مما يعبر عن قسوة شرطه الوجودي والانساني، وعن المفارقة في تكوين هذه الشخصية التي ما إن ترى وجه وداد للمرة الأول وهي ترفع المنديل عن وجهها وتثرثر مع هشام بعد عودته الى بيته القديم حتى "يشهد شيء في القلب، في الكبد، في المعدة في الصلب، في ثنيات الأصابع، في تلويات الروح الممتزجة بالجسد" (9) ص 113.
إن هذه الصدفة العجيبة التي تزلزل كيان بهجت، وتقوده الى مصيره المأساوي الفاجع هي قدره الآخر، ولعنة عشق عشتار التي ستنهار حياته معها، وتتحول الى لعبة في يد هذا القدر الغريب، واذا كانت لعنة هذا الحب ستلاحق بهجت كما لاحقت شوقي ومن ثم صلاح في هذه الرواية، فإن على المرأة بسبب مأساوية شرطها الانساني أن تكرر في حياتها نفس المصائر البائسة والحزينة "وكان على وداد الجميلة أن تبدأ رحلة قاسية، تكرر فيها رحلة حسيبة ومريم الوحيدتين" (10) ص 82، مما يكشف عن الخيبة القاسية التي متبسم وجود المرأة ؤ هذه المدينة التي فقدت روح المغامرة والفروسية، واستسلمت للبلادة والسكينة بصورة جعلت مصائر هذه الشخصيات الأنثوية الدرامية المتوترة والحزينة تكشف عن الفجوة الدائمة بين الواقع والحلم وبين الرغبة والحرمان حتى يصبح ذلك هو المضمون المأساوي المميز لتجربة المرأة الوجودية. من جهتها تتميز شخصية الشيخ بهجت ببنيتها المتحولة والغريبة، هذه البنية التي تتناقض قسوتها ومظهرها الخارجي، مع اندفاعها العاطفي واستسلامها لهذه العاطفة على الرغم من المآسي المتلاحقة التي تحل بها جراء هذا الحب المجنون الذي يقابل بالرفض وعدم الاستجابة بصورة دائمة من قبل وداد، حتى نجده يتخلى عن وظيفته وعمله ويعتكف في داره "ليصبح طقسه اليوم الجلوس وراء الخص الخشبي" (11) ص 143 لكي يرى وداد من حيث لا ترده ويعلم بغياب مريم ليقتحم الباب عليها "يتوسل ويرجو ويبكي"، وعندما تصيب المجاعة المدينة، يبيع بهجت مدخراته كلها ويشتري اللحم والأرز والسكر لها، ثم يخوض معركة ضارية مع صعب الحداد يفقد فيها لسانه فينضاف عيب جديد الى عيوب شخصيته، يزيد من بؤس شرطه الوجودي والانساني.
ويتحول هذا الرجل القاسي الخشن الى عاشق رقيق يرمي بباقات الزهر يوميا الى أرض دار وداد حتى ينزلق في احدى المرات عن السلم ويسقط مغمى عليه، فيصاب بالغرغرينا في ساقه التي يقوم الطبيب بقطعها إلا أن كل هذه المآسي المتلاحقة والقاسية لا تحول دون استمرار تعلقه الشديد بحب وداد، والبحث عنها حتى تتزوج، وتغادر الحارة حتى يكتشف مكانها الجديد. إن هذا القدر الذي يحطم حياة بهجت، ويجعلها تدور حول فلك وداد، لن يستطيع الخلاص منه حيث يتحول الى لعنة تلاحقه باستمرار مما يكرر مأساوية هذا القدر في حياة صلاح أيضا، ويجعل عشق المرأة يتحول الى لعنة حقيقية يعبر عنها الراوي نقلا عن حديث صلاح الى ناديا التي ستتكرر مأساة حياتها أيضا من خلال عجزها عن التجاوب مع مشاعر عشاقها، وعواطفهم المجنونة حيالها، الأمر الذي يجعل صلاح يحاول أن يوجز هذه الحالة – المصيبة – "في أن من يصاب بلعنة عشق عشتار هي في أنه لن يكتشف أبدا أن ربه من مرمر.بل سيعتقد دائما وأبدا أنه المخطيء فهو الذي لم يستطع جعل المرمر ينطق ويدفأ ويتحرك وحين يعلق في هذه المتاهة، يكون قد حكم على نفسا بالدمار الأبدي لأنه سيظل يحاول، وسيظل يخفق، وسيظل يفقد شقته 0 بقدرته حتى يصبح كاهنا حقيقيا لعشتار
خصيا حقيقيا" (12) ص 159.
إن هذه الرؤيا الأسطورية لعشق الرجل للمرأة، تعبر في مضمونها الوجودي والنفسي عن ارهاب المرأة والخوف منها باعتبارها تمثل رمزية العدم، والخصاء الذي تحاول من خلاله أن تنتقم من ذكورية الرجل ممثلة برمز فحولته لكي يفقد عنصر التمايز، ويتحول الى عابد لها بعد ذلك، وهنا نتساءل ولكن ماذا عن عشق المرأة المجنون للرجل، وكيف يمكن أن نفسره، وعلى أي أساس كما هو الحال مثلا في عشق لينا لهشام ووداد لخليل؟ إن إضفاء هذا الطابع الأسطوري والغرائبي على عشق الرجل للمرأة، وما يمثله من ضياع في متاهة المرأة التي تطل تمثل لغزا مخيفا بالنسبة للرجل يكشف في دلالاته ومعناه وتوتره عن الخوف من المرأة الذي يفسر دراسية المصير المأساوي لهذا العشق في حياة الرجل وما يولده من صراع محتدم في داخله يؤدي به الى الهلاك، والاستسلام لمشيئتها، وقدره القاسي. لقد كان رفض وداد المستمر لبهجت نابعا من دعامة وقبح شكله، خاصة وأن صورة خليل الشاب المغامر والعصري ظل حاضرا في نفسها ووجدانها، وكانت ترى مفارقة كبيرة بين الصورتين مما جعل رفضها يعبر في مضمونه عن رفض استبدال صورة خليل بصورة الشيخ بهجت الأمر الذي يجعل كارثة بهجت ترتبه بشرطه الوجودي الخاص وليس بهذا المضمون الأسطوري المثير الذي يجعل من عشق الرجل للمرأة لعنة تتبدى بهذه الصورة المخيفة والقاسية جدا. وعلى الرغم من هذه الرؤيا تقدم الرواية من خلال مصائر وحكاية شخصياتها المختلفة صورا متداخلة، توحد المرأة والرجل في العذاب والحرمان، والبحث عن حب يظل دون اكتمال، أو تحقق حتى على مستوى شخصية وداد التي يتحول حب بهجت لها الى لعنة قاسية تدمر حياته (وفجأة أحست بالحزن، الحزن على العمر الذي قضته لم تعرف من الرجال إلا عبدالله وقسوته وانكساراته، وموته المضحك، لم تعرف الأرق، ولم تعرف السهر ولم تعرف التقلب ل السرير، ولم تعرف قاريء شعر على بابها ولا حامل ورد، كهذا الذي جاء به هذا العاشق بالأمل وسمعت خالدية تقول : الحب كلبين علقانين….) (13) ص 200 حيث يستعيد الراوي على لسان خالدية هذا الوصف الشعبي للحب كما تحدثنا عنه سابقا.
إن دراسية هذه المصائر تنبع من حالة الاختلاف والتباين التي تمثلها هذه الشخصيات في أبعادها النفسية والوجودية بصورة تسهم في خلق التوتر، وعدم التحقق والاشباع العاطفي والروحي في هذه العلاقة إضافة الى قدرية هذه المصائر المحكومة بشرطها الخاص وقوانين الواقع حيث تتقاطع المصائر وتتداخل ل حالاتها ومضامينها ودلالاتها لكي تعبر عن دراسية الواقع والتجربة، وبما ينسجم مع الرؤيا الى الواقع، والخط الدرامي للأحداث في هذه الرواية وبعلاقة هذه الشخصيات بعضها بالبعض الآخر بصورة تعمق الاحساس بالفجيعة والاحباط والخذلان في هذا الواقع القاسي، كما تكشف الشخصيات في تحولاتها، وفي التباين بين اسمها ومضمونها العاطفي، وصفاتها عن الجانب المركب في هذه الشخصيات، وعن الطابع الدرامي المثير فيها كما هو الحال بالنسبة لبهجت، هذه الشخصية القاسية أدت المظهر المنفر والغريب والتي ليس ثمة علاقة بين هذه الشخصية واسمها، ومن ثم بين هذه الشخصية وما تظهره في عشقها من شفافية وشاعرية تجلت في باقات الورد التي ظل يلقيها على بيت وداد، وف ترديد القصائد على بابها في حين أن اسم وداد لا يدل على تلك القسوة والصد الذي ظلت تواجه به اندفاع بهجت العاطفي المجنون نحوها. ويصح هذا المثال على لينا "ذات العينين الفولاذيتين" التي تنشأ دراسية حياتها من خلال مصائر عشاقها الذين دمرت حياتهم أو من خلال مصيرها المأساوي الذي انتهت اليه بعد خسارتها لغسان وصلاح وبقائها وحيدة حتى مجيء هشام الذي يشكل حالة التعويض التي تنقذها من عذابها وغربتها ومحاصرة شبحي غسان وصلاح لها في بيتها وحياتها كما أن اسمها لا يوحي بصفاتها لتظل مسافة التوتر والتناقض قائمة على مستويات هذه الشخصيات المختلفة. ويرتبط هذا الجانب الدرامي لمصائر ولمضمون هذه الشخصيات بتطور السياق الدرامي للرواية وأحداثها وبمحاولة المزج بين الرمزي والواقعي في السرد الروائي وبين العلاقة بين هذه الشخصيات وشرائطها الوجودية والاجتماعية والنفسية مما يجعل قدرية مصائرها وتحولاتها الدرامية تتصل بقدرية هذا الواقع الذي هو مزيج من الأسطورة والحلم والوقائع والتاريخ، والبحث عن الآخر الذي يصرعه القدر فجأة، أو يظل لا يأتي أو لا نجده كاملا في أحدهم فلا يملأ القلب والروح، أو أننا نجده ولكنه لا يعترف بعشقنا، حتى يقود مصائرنا الى الهلاك أو للجنون. وهنا تكمن دراسية هذه الشخصيات، وتوترها الذي تخلفه من خلال تحولاتها ومصائرها وهي دراسية الواقع المحبط والحزين.
المراجع:
1- بنية الشكل الروائي. حسن بحراوي – المركز الثقافي العربي. بيروت 1990.
2- قضايا المكان الروائي – صلاح صالح – دار شرقيات. القاهرة – 1997.
3- حسيبة (ا) التحولات – خيري الذهبي. منشورات مشرق – مغرب. دمشق 1996. ط 2.
4- حسيبة (1) التحولات – خيري الذهبي… المرجع السابق.
5- حسيبة (1) التحولات – خيري الذهبي… المرجع السابق.
6- حسيبة (1) التحولات – خيري الذهبي… المرجع السابق.
7- حسيبة (1) التحولات – خيري الذهبي… المرجع السابق.
8- هشام (3) التحولات – خيري الذهبي. دار مشرق – مغرب. دمشق 1998 – ط 1.
9- هشام (3) التحولات – خيري الذهبي. دار مشرق – مغرب. دمشق.
10- هشام (3) التحولات – خيري الذهبي… المرجع السابق.
11- هشام (3) التحولات – خيري الذهبي… المرجع السابق.
12- هشام (3) التحولات – خيري الذهبي… المرجع السابق.
13- هشام (3) التحولات – خيري الذهبي… المرجع السابق.
مفيد نجم (كاتب من سوريا)