أمل سالم*
1 -فريدة
الطفلة ذات الأربع سنوات، بضفيرتيها القصيرتين على جانبي رأسها، واللتين صنعتا حزًا أبيض اللون في منتصف الرأس، امتد من الجبهة حتى مؤخرة رأسها، وقد أطلقنا عليه مفرق الشعر، وبحقيبة يدها الوردية اللون كخدّيها، والتي حزّمت بها كتفها الأيمن، ودلتها على جانبها الأيسر، وقد تقاطع حزامها مع صدرها وبطنها،كانت واقفة ممسكة بيد أبيها المستند إلى باب قطار الأنفاق المغلق والمزدحم بالركاب، ثم فجأة أنهكها التعب، ازداد وجهها حمرةً، تعرّقت جبهتها، رمشت بعينيها للحظة، ثم طلبت من أبيها أن تجلس.
لم يجد الأب بدًّا سوى جلوس القرفصاء على قدميه، متحاشيًا أن تلمس ملابسه الأرض المتربة، ثم أجلسها على فخذه الأيمن، ومدّ ساقيها على فخذه الأيسر، واحتضنها.
أدارت وجهها الصغير حتى استقرّ صوب وجه أبيها، حدّقت بعينيها الطفوليتين السابحتين في موجات التعب في عينيها الحانيتين، سألته هامسةً: أنت مستِريَّح؟
2 – هسس
– جلستْ في عربة القطار المتجه للجنوب سيّدة في منتصف العمر، سمراء من أصول نوبية، فيما يبدو كان ذلك واضحًا إلى حدٍ بعيد من نقوش الحناء التي اصطبغ بها كفاها السمراوان. اتخذت النقوش اللون البنيّ الغامق، أكثر قتامة قليلًا من لون بشرتها إلى الحدّ الذي جعله جذابًا! وإلى جوارها أجلست ابنتها، طفلة في الثالثة من عمرها، بشرتها تشبه إلى حدّ كبيرٍ بشرة أمها، هذا بالإضافة إلى النقوش والرسومات التي ازدان بها كفُّها الصغير، كانت أوراق أشجار وورود وزهور وخطوط متعرّجة. خطفت روعة الزخارف نظر الشيخ الطاعن في السن، والجالس إلى جوار الطفلة، فأخذ يحدّق فيها بتفرّس، ويرقبها بدقة.
كنت طفلة صغيرة أنام في الحوش السماوي من بيتنا. الحوش السماوي، حيث وضع أبي لنا الأسرة الجريدية المفروشة بسجاجيد منسوجة من صوف الغنم. كنا ننام وننظر للسماء فنرى القمر في أيامه المختلفة: تارة هلالًا، وتارة بدرًا مكتملًا، وأخرى محاقًا على وشك أن يزول، والنجوم كلها تلمع فوق رؤوسنا. لم يكن ثمة أضواء كهربائية، لذا كانت السماء واضحة وجميلة، تتزين طوال الليل بأضواء الشهب، والتي كنت أتمنى كلما رأيتها أمنية، شهب كثيرة ..أمنيات أكثر.
ظلّ الشيخ الطاعن في السن ينظر إلى يد الصغيرة، يدقّق في رسوم يدها،يحدّق بعينيه، يرمش بهما وهو ينظر إلى يديها، ثم أخذ يتبسم، ويتنقل فمه من البسمة إلى الضحك إلى الصمت إلى البسمة مرة أخرى.
-إصحَ يا واد اصحِ يابت.
قمت فزعة، فقد كنت طفلة في سنّ طفلتي، وهي المرّة الأولى التي أسمع صوت أبي فزعًا إلى هذه الدرجة، لقد كان يصرخ. استيقظت أمي..صرخت، سمعت صرخات كل نساء قريتنا. هاج رجال، حيوانات دبدبت، الكلاب نبحت نباحًا متصلًا. كنت أسمع صوتًاغريبًا لم أتعود سماعه، دليت قدمي من على السرير الجريدي الذي كنت أنام عليه إلى جانب أختيَّ الكبيرتين.
فتح الشيخ الطاعنُ في السن كفّ يده اليمني، أغلقها، فتحها، أغلقها، فتحها، أغلقها، أدارت الصغيرة رأسها فيما يبدو أنها انتبهت لأصابع الشيخ وهي تفتح ثم تغلق.
لامست قدماي ماءً!
لم أعرف من الذي وضع الماء تحت سريرنا من إخوتي أو أولاد عمومتي، ربّما إنهم أولاد “خلولتي”؛ فقد كانوا أكثر شقاوة من الصبية جميعًا. قفزت من على السرير.
طبّق الرجل الطاعن في السنّ يده بقوة، ثم فتحها مرة واحدة وثبتها، بدأت الأم تستشعر متابعة الرجل لطفلتها.
غاصت رجلي في الماء، ارتفع إلى أن لامس ركبتي. صرختُ، واصل سعيه ارتفاعًا متخطيًا ركبتي، صرخ إخوتي، ارتفع الماء إلى وركي. صرخ كل الأطفال. الظلام الدامس حال دون رؤية ما يحدث.
بسط الطاعن في السنّ كفّه ومدّه نحو الصغيرة قليلًا، نظرت إلى أعلى نحو وجهه، نظر نحو أسفل بجانب عينيه إليها، نظرت الأم نحو وجه الرجل بنصف عين من جانب عينيها.
ازداد الماء فجأة، اندفع، دفعني نحو جدار، انهدم الجدار، صرخت بفزع. كان التيار يسحبني معه، لم أعد أرى بيتنا، إخوتي، أبي الذي كان يصرخ منذ قليل. الماء يرفعني ويخفضني، أصرخ، لا أحد يسمعني. خطر ببالي أنني لن أرى أمي مرة أخرى، بُلت على نفسي!
قرب الرجل الطاعن في السن كفّه مفتوحة صوب الصغيرة، ضحكت، بانت عن أسنانها الصغيرة البيضاء، رفعت يدها خلف رأسها وهي تفتح فمها عن ابتسامة وتنظر إلى أمها.
حاولت الوقوف في المياه التي كانت تزداد، انكفأت على وجهي، ملأ الماء فمي، كان ممزوجًا بالطمي، حاولت ثانية، طرحت على ظهري، دخل الماء في أنفي، شرقت، صار جسدي كله أحمر شارقا. من بين موجات الماء المتدفقة امتدّت كفّ كبيرة وقبضت على ذراعي الأيمن، وانتشلتني.
مدّ الطاعن في السن كفّه الكبيرة المفتوحة عن آخرها ووضعها أسفل كفّ الصغيرة وهو يبتسم، ثم أخذ في هزهزتها كمن يلاعبها.
امتقت وجه السيدة النوبية السمراء، وضعت يديها أسفل إبطي طفلتها، جذبتها نحوها من على الكرسي، وضعتها على حجرها، واحتضنتها بين ذراعيها، فيما كان القطار يطلق صفارة طويلة.
3 – سرير
بالأمس فقط، وبعد ما يزيد على نصف قرن قمت بفكّ ركبة السرير، والركبة هي: قطعتان من الخشب مستطيلتان تربطان بين صدر السرير وظهره، حيث إن الصدر هو الجانب الأقصر ويتموضع دائمًا في منتصف الحجرة، أما ظهر السرير فهو الجانب الأطول ويستند دائمًا جهة الحائط. أمي حائض، لم يكن لي تفسيرٌ معينٌ لمشهد بقعة الدم الأحمر القاني التي رأيتها ذات ليلة على السرير، لكني عندما كبرت وأدركت ما يحدث وجدت التفسير المقنع، والذي أنقذني من البحث عن موضع الجرح في جسدها ومنه نفذ الدم وكون بقعة تامة الاستدارة على فراشها، صغيرًا كنت أظنه وثيرًا، وعندما كبرت فرقت بسهولة بين الوثر والفظ الذي كان عليه.ألواحه الخشبية التسعة التي كانت عليه، والتي يطلق عليها “المولة” أقتم لونها، تيبست بالضبط كمفاصل أمي في سنيها الأخيرة.
تارة انتفخ بطن أمي وكانت تستند بظهرها على ظهر السرير بعد أن تضع عددا من المخدات خلف ظهرها، في البداية ظننت أن أمي تأكل كثيرًا هذه الأيام؛ مما يسبب انتفاخ بطنها بهذ الشكل، لكن الانتفاخ كان يزداد كل يوم، جلست ذات مرة إلى جوارها ووضعت يدي الصغيرة على بطنها، وسألتها:
-مالك؟!
-أشارت إلى بطنها، وأجابت:
-هذا “بيبي”، سيكون أخاك، انظر إنه يتحرك.
أيام ووجدت نسوة من الأهل والجيران يتجمعن وهي تتألم وهنّ يدعينَ لها، أخافني المنظر، سكنت في ركن قصي من البيت والتزمت الصمت.
ساعات طويلة مرت، فقد كان الأمر متعسرًا، ثم لاحت لي صرخة رضيع وزغرودات النسوة، هرولت إلى الحجرة كانت بقعة دم كبيرة أكثر اتساعًا من سابقتها على السرير.
انتفخ بطن أمي كثيرًا، أشار الطبيب عليهم بالبذل، وهو شفط الماء المتجمع في البطن من عملية الاستسقاء، فلقد تعب الكبد بعد أن هاجمه السرطان، وأخذت الكلى في التوقف عن العمل.
ساعات وأحضر معه ممرضة وعدة عمل، لم أشأ أن أتوقف لمشاهدتها، تجمعت نسوة من الأهل والجيران كانت تأوهات أسمعها ودعوات، تواريت في ركن قصي من المنزل أدخّن سيجارة وأغرق في دخانها، لقد حال بيني وبين رؤيتي لما يحدث داخل الحجرة، لكنه لم يحل بيني وبين أصوات ضجيج، وانسحب الطبيب وهو متأثرٌ، والممرضة وهي تدعو لها بالرحمة.
همهة أعقبها صراخ، أسرعت نحو الحجرة كان بقعة دم أكبر من سابقتيها تملأ السرير، لقد انفجر الكبد!