كاظم جهاد
شاعر وناقد وأكاديمي عراقي
تميّز الرّاحل العزيز الكاتب والمؤرّخ والمستعرب الفرنسيّ أندريه ميكيل (2022-1929) André Miquel بمسيرة إبداعية وفكرية مديدة تمخّضت عن ما يقرب من ثمانين عملًا ضمّت إلى جانب إبداعاته الشخصية من قصص وروايات وأشعار عددًا كبيرًا من الترجمات شملت منتخبات من الشعر العربي القديم وكتاب “كليلة ودمنة” لابن المقفّع وحكايات “ألف ليلة وليلة” والأشعار المنسوبة لمجنون ليلى. وخلا ترجمته لكتاب “كليلة ودمنة”، التي لم يخصّها إلّا بتقديم نقديّ وجيز، دأب ميكيل على مرافقة ترجماته بدراسات ضخمة وأبحاث متوالية. كما استلهم حكاية مجنون ليلى التي لا تتعدّى في كتاب “الأغاني” للأصفهاني عشرين صفحة، فوضع انطلاقًا منها رواية كاملة لها ترجمة عربية أنجزها أبو بكر العيادي وراجعها وذيّلها بدراسةٍ كاتب هذه السطور، صدرت عن مشروع “كلمة” للترجمة في أبو ظبي (2021).
في كتابي عن المؤّرخ الرّاحل الذي صدر في 2020 بعنوان “أندريه ميكيل- البوصلة والقيثار”، ضمن سلسلة “مائة كتاب وكتاب” المخصّصة للعلماء والمبدعين من بناة الجسور الفكرية بين الثقافتين العربية والفرنسية في العصر الحديث، التي تعاون على نشرها معهد العالم العربيّ بباريس ومؤسّسة الملك فيصل الخيريّة في الرياض، وأشرف على طبعها وتوزيعها المركز الثقافيّ للكتاب في الدّار البيضاء، خصّصتُ فصلًا وجيزًا عرضتُ فيه تصورات أندريه ميكيل وتحليلاته لعوالم “ألف ليلة وليلة” وكتابتها. وهنا أودّ التوقّف عند تفكيره، الذي لم أطرقه في الكتاب المذكور، عن بواعث فتنة السّرد أو جاذبية الحكايات في هذا العمل الكبير.
الرّقم السّحريّ
أحاط ميكيل “اللّيالي” باهتمام كبير امتدّ على سنوات عديدة ترجم فيه أوّلًا، بمفرده، بعض الحكايات في أكثر من كتاب، ثمّ وضع بالتعاون مع زميله جمال الدّين بن شيخ ترجمة شاملة للحكايات انطلاقًا من نسخة القاهرة العائدة إلى 1835، ونسخة كلكتا (1839-1842)، أغناها المترجمان بحكايات إضافيّة آتية من مصادر أخرى، فكانت هذه الترجمة هي الأوسع والأحدث في تاريخ “اللّيالي” العربية في الثقافة الفرنسية.
صدرت هذه الترجمة أوّلًا في أربعة أجزاء في سلسلة فوليو/غاليمار Folio/Gallimard الشّهيرة لروايات الجيب (1991)، ثمّ غطت ثلاثة مجلّدات ضخمة في صيغة مصحوبة بحواشٍ نقديّة واسعة، في سلسلة لا بليياد La Pléiade التابعة لدار النشر ذاتها، والمخصّصة لأمّهات التراث الإنسانيّ والإبداع الأدبيّ (2005-2006). وقد وضع ميكيل بمفرده حواشي المجلّد الثالث على أثر رحيل زميله بن شيخ.
سأعتمد في الصفحات التالية على دراستين لميكيل، حملت الأولى عنوان “ألف ليلة تليها ليلة أخرى” « Mille nuits, plus une »، ونُشرت في مجلّة “نقد” Critique الفرنسية (العدد 394، مارس 1980)، والثانية نُشرت بعنوان “ألف ليلة وليلة في الأدب والمجتمع العربيّين” «Les Mille et Une Nuits dans la littérature et la société arabes»، وقد ترجمها عن الإنجليزية جان باتيست بارا Jean-Baptiste Para في العدد المخصّص لحكايات “ألف ليلة وليلة” من مجلّة “أوروبّا” Europe الفرنسية (العدد المزدوج 1089-1090، يناير- فبراير 2020)، وقد أشرف على وضعه وتحريره كاتب هذه السّطور.
في الدّراسة الأولى يدعونا ميكيل أوّلًا إلى التفكير في طبيعة هذا العمل الضّخم، هذا التّراكم الهائل من الحكايات التي تواصلَ تأليفها الجماعيّ الغُفل من القرن العاشر الميلاديّ (إن لم يكن بدأ قبله) حتّى بدايات القرن السّادس عشر. لتقريبنا من حقيقة هذا العمل الحكائيّ يدعونا ميكيل إلى تخيّل ورشة عمل ضخمة أو محترف كبير يعكف فيه مختصّون في الحكي لا يُحصى عددهم ويتوزّعون على فروع ومُحتَرَفات تابعة عديدة، مصريّة وسوريّة وعراقيّة، يشتغلون بلا هوادة وعلى امتداد قرون على مُنتَجات سرديّة آتية من أصول محلّيّة أو أجنبيّة، حيّة أو مندثرة، بابليّة مثلًا أو إغريقيّة أو فارسية أو هندية، إلى جانب المادّة العربية شبه المهيمنة في المجموع. إنّها على وجه الإجمال كوكبة واسعة من العاملين تضمّ ساردين أو «حكواتيّين» وشعراء وورّاقين أو نسّاخين، وربّما علماء أيضًا، لهم جميعًا ندين بهذا العمل الرّائع الذي هو في نظر ميكيل، شأنه شأن سائر كبار الملاحم والأعمال، كتاب متعة مطلقة ومعرفة شاملة في آنٍ معًا.
لكنّ وفرة الحكايات هذه وضخامة السّرد لا تلخّصان وحدهما فرادة هذا الصّرح الأدبيّ. فالسّؤال الأساس الذي يطرح نفسه هو هذا المتعلّق بالتّرتيب الممكن لهذا التّراكم السّرديّ الهائل. إنّ تقديم الحكايات للقراءة تباعًا وفي تسلسل حياديّ كان سيبدو سهلًا ومحدود الأثر في الأوان ذاته.
وتتمثّل إحدى اللّفتات العبقريّة الكامنة وراء ابتكار الحكايات وترتيبها في توزيعها للسّرد على مئات اللّيالي، ممّا تمخّض عن مَظهرين لافتين آخَرين، مظهر العدد من جهة، ومظهر الزّمن المُعطى للسّرد من جهة أخرى، ما يمكن أن ندعوه زمنيّة الحكاية. فقد قُسّمت الحكايات بحيث تغطّي ألف ليلة، ثمّ أُضيفت إليها ليلة أخرى لتبلغ هذا الرّقم السّحريّ البالغ الأهمّية كما يبدو للمخيال العربيّ، ألف ليلة وليلة، الذي يفرض الوِتْر بدل الشَّفع. كما لا يَخفى ما في هذا العدد المُعطى أخيرًا للحكايات من انفتاحٍ واسع يوحي بأنّنا هنا أمام حكايات لا عدّ لها ولا حصر.
وهذا بدوره لا يكفي بمفرده لتفسير قوّة العمل والفتنة الدائمة التي يمارسها علينا. فهذه الحكايات، حتّى لا تشتّت انتباه القارئ بوفرتها أو تتسبّب له بالملال، كان ينبغي أن يوحّدها خيط ناظم وإجراء سرديّ يسمح بتوالدها بلا انتهاء. وهو ما نعثر عليه منذ بداية العمل في ما يسمّى حكايته الإطاريّة. نلاحظ أوّلًا، بخصوص زمنيّة الحكاية، أنّ اختيار سردها ليلًا يتلاءم مع تقليد عالميّ شائع يُحيل الحكاية بما فيها من تخييل ولعب ومتعة إلى السّهر واللّيل، مقابل النّهار الذي هو حصّة اليقظة والأعمال. لكنّ ما يبدو فريدًا في حالة «اللّيالي» هو أنّ كلّ حكاية تتوزّع على ليالٍ عديدة، ومن أجل ذلك خُصِّصَت ساعة واحدة لسرد كلّ حكاية، هي الأولى من ساعات الفجر. في هذه السّاعة توقظ دنيازاد أختها شهرزاد لتبدأ حكايتها أمام زوجها الملك، قبل أن يتفرّغ هذا إلى نهار عمله وينصرف إلى مسؤوليّاته. وحتّى تشفي شهريارَ من غضبه على بنات جنسها، وبالتالي عليها هي نفسها، جعلتْ تبتر الحكاية، في انتظار استئنافها في اللّيلة التالية، ومن انتظارٍ إلى انتظارٍ نشأت تواصليّة للحكي ومضت الحكايات تتوالد بعضها من بعض. خلق ذلك انتظارًا وطقسًا وعادةً، وخصوصًا دفعَ مبدأ التّشويق إلى أقصاه. وهكذا ولدت الحكاية المتسلسلة feuilleton قبل أن تولد التّسمية في العصر الحديث مع ولادة الصّحف السيّارة.
أسرار التّشويق البارع
يكمن سرّ جاذبية هذه الحكايات إذَن في طريقة شهرزاد في معالجة السّرد. هذا العمل الغُفل وضعه كما أسلفنا ساردون عديدون تخيّلوا الحكايات وعملوا على ترويجها في فترات ومناطق عديدة، وعندما نقول “طريقة شهرزاد السرديّة” فنحن، بطبيعة الحال، نقصد الصّورة التي بها يأتينا السّرد على لسان شهرزاد على امتداد الحكايات.
حتّى تُحْسن شهرزاد الاضطلاع بدورها المعقّد والمُربِك الموصوف أعلاه، كان عليها أن تعرب عن حذق فنيّ وفي الأوان نفسه عن معرفة عميقة بأسرار النفس الإنسانية برزت عبر تقطيعها للحكايات واختيارها اللّحظة المناسبة لإيقاف حكايتها لاستعادتها من بَعد. وجازّة بعض الحكايات التي لا تتعدّى في بعض اللّيالي صفحة واحدة وتمتدّ في بعضها الآخر إلى صفحات عديدة مسألة شكلية في نظر ميكيل ولا ينبغي أن نعيرها كبيرَ اهتمام. المهمّ هو التأثير الذي يمارسه تقطيع الحكايات وزمنيّتها الخاصّة على متلقيها الأوّل، الملك شهريار. كان يكفي أن يقع خلل بسيط، كأن تتسبّب إحدى الحكايات بإملال المتلقي، حتّى تكون النتيجة المتوقّعة هي تعكير الإصغاء وإيقاف الحكاية مع كلّ النتائج المترتّبة على ذلك.
يذكّر ميكيل بأنّ هذا الخلل في التحكّم بلحظة التّشويق أو درجتها في ذهن المتلقّين يمكن أن يحدث كلّ يوم، في كلّ عرضٍ مسرحيّ أو في كلّ حكاية يقدّمها حكواتيّ محترف. لا تكون نتيجة ذلك في العادة أكثر من تنبيه المتلقّي إلى ركاكة الأداء، أو إلى ضعف الحكواتيّ أو الممثّل، أو عدم تحكّمهما بأدائهما. أمّا بالنّسبة إلى شهرزاد فالأمر مختلفٌ تمامًا. فهي ليست في عرضٍ مسرحيّ أو فعلٍ سرديّ عاديّين، بل هي في نشاطٍ ذهنيّ وحكائيّ يتراكب فيه العرض والواقع، والتسلية المحضة وإمكان النجاة أو انتفاؤها.
من هنا كتب ميكيل أنّ شهرزاد قد عاشت في هذا العمل «مغامرة مُطلقة يشكّل الحكي والعشق والخوف نوابضها المتشابكة القويّة». ولذا فإنّ دورها يبتعد في رأيه عن أداء الحكواتيّ أو الممثّل كلّيًّا ليمتزج بأداء المحامي الذي يدافع عن قضيّة وفي الأوان ذاته يتحكّم بكلامه وإيماءاته ليضمن لهما أكبر تأثيرٍ ممكن. وتظلّ المسألة بالنّسبة إلى شهرزاد أفدح من فعل المحامي نفسه لأنّها هنا المحامية عن بنات جنسها وفي الأوان ذاته هي امرأةٌ مشمولة مثلهنّ، وبالقدر ذاته، بتهديد الموت الذي يمكن أن ينجم عن أيّ فشلٍ مُحتَمَل لحكايتها.
لكنّ متعة السّرد هذه، والعناية البالغة التي على شهرزاد أن تبذلها كلّ ليلة حتّى لا يبطل سِحر الحكايات، ينبغي ألّا تُخفيا علينا بُعدًا آخَر لعلّه البُعد الأكبر في هذه المغامرة الفنيّة. فنحن نتلقّى الحكايات ونستمدّ منها متعتنا، متعة لا تعيشها شهرزاد أثناء الحكي لأنّها منهمكة بترتيبات السّرد التي أشرنا إليها وإلى مصادر خطورتها العديدة. اللّذة الحقيقيّة تحقّقها شهرزاد عندما تنتصر في خاتمة «اللّيالي» وتقدّم لنا أبناءها الثّلاثة بوصفهم الثّمار التي نشأت بالتّوازي مع مغامرة الحكي هذه التي تضع في النهاية حدًّا لغضب شهريار وعنفه الذي شكّل منطلق الحكايات. وهذه أيضًا متعة متقاسمة. فانتصار الحكاية يُمتِعنا نحن أيضًا، بالقدر ذاته الذي به يشكّل علامة النّجاة للسّاردة ومثيلاتها. هكذا يكون بُعد الحبّ والرّجاء هذا، وكذلك فعل الأمومة، قد غّذيا الحكاية ووجّهاها حثيثًا نحو نهايتها السّاطعة دون أن يشعر القارئ المستغرق في متعة السّرد بالأمر.
ويحلّل ميكيل عوامل أخرى تقف وراء جاذبيّة الحكاية، وهي تكمن في عربيّتها المبسّطة، التي تنوس بين الفصحى والعاميّة، والتي تدعى اليوم “العربية الوسيطة”، وقد صارت شائعة في الكثير من الأعمال الروائية والقصصية. وبالرغم من بساطتها، تحمل هذه الكتابة بعض الحيل البلاغية ووجوه “البديع”، كالسّجع والتكرار الفنيّ والموازنة المنتشرة فيها باقتصاد وبلا إثقال.
وهناك أيضًا حضور الأبيات الشّعرية التي تتخلّل جميع الحكايات، فتمنحها فسحة للتنفّس إن جاز القول، كما تساعد في تنميق اللّغة واجتذاب انتباه القارئ أو السّامع، وكذلك في تعميق المحتوى “الدراميّ” للحكايات.
موسوعيّة السّرد
يتساءل المؤرّخ في دراسته الثانية عن الدّوافع التي جعلت العرب يحرصون على الحفاظ على هذا الموروث الحكائيّ بالرّغم ممّا تعرض له من هجومات صادرة عن المتحيّزين للفصاحة العالية للّغة من بين العلماء والأدباء سواء بسواء. حفظَ العرب هذا الموروث لأنّه هو نفسه ساهم في الحفاظ على نماذج ثمينة من مبتكرات المخيال العربي. ومع أنّ بذور بعض هذه الحكايات آتٍ من مناطق أخرى عديدة كالهند وبلاد فارس فما كان يمكن لهذه الحكايات في نظر ميكيل أن تصدر إلّا عن مجتمع مؤسَّس ومتجانس، ذلكم هو المجتمع العربيّ- الإسلاميّ في العصر الوسيط. ولذا جاءت أغلب الحكايات وهي تحمل “بلاغاً” ثقافيًّا وأخلاقيًّا يوصل لنا دروسًا وتعاليم تأتينا بصورة مشوّقة من خلال تخييل شديد الإغراء. رحلات السندباد البحريّ مثلًا، التي أُضيفت إلى متن اللّيالي في عهد متأخّر، تشكّل في نظر مؤرّخنا دليلًا للتجّار ورواية تعليميّة وكتابًا وعظيًّا وإرشاديًّا في آنٍ معًا. إذ إنّها تصوّر لنا اكتمال مصيرِ فردٍ أنموذجيّ وتجاربه المعروضة من مغامرة إلى أخرى، ومن عالم غريب إلى سواه. وكما في أغلب الحكايات، فإنّ البُعدين الغرائبيّ والواقعيّ، أو الخيال والواقع، يتضافران لتقديم حكاية عجيبة ولكنّها تمسّ حياة الإنسان في الصّميم. مثال آخر يطرحه ميكيل يتمثّل في حكاية الجارية تودُّد، التي تخوض أمام الخليفة مناظرة تواجه فيها أكبر علماء عصرها وتتفوّق عليهم. شيئًا فشيئًا تتحوّل الحكاية إلى مسرد تفصيليّ لمعارفها الدينيّة والعلميّة، بما يقدم لنا لوحة فكريّة شاملة عن ثقافة ذلك العهد.
هكذا تقف حكايات “ألف ليلة وليلة” مصدرًا لمتعة السّرد وفي الأوان ذاته شاهدًا على لحظات تاريخيّة ومجابهات وصراعات، وكذلك، وخصوصًا، بوصفها خلاصة موسوعيّة لمنظومة فكريّة وأخلاقيّة شاملة.
وفي هذا كلّه، وبالرّغم من طبيعة لغتها الخاصّة وبساطتها الخدّاعة، لا تخرج “اللّيالي” عن الرّسالة التي وجّهت الأدب العربي القديم كلّه، أدب لا ينفصل فيه الإمتاع عن المعرفة، ولا الهزل عن الجدّ، ولا جماليّات الأسلوب وسِماته اللّاعبة عن أبعاده المعرفية والذوقيّة.