لا أتذكر بالضبط متى رأيتُ ذلك الجاكيت الذي وقعتُ في غرامه من النظرة الأولى… جاكيت قد يتوفر منه العشرات بل المئات في محلات بيع الملابس من حيث جودة القماش أو موديل التفصيل.. لكنه شيئاً مميزاً، إضافة معينة لذلك الجاكيت، هي التي أوقعتني في غرامه – وهذه الإضافة التي أكسبت في نظري سحراً لا يقاوم وإغراء لا حدود له هو وجود قطعتي جلد على كوعيّ الجاكيت.. كان لون الجاكيت أخضر فاتحا بعض الشيء مصنوعاً من الصوف الإنجليزي بكوعين بنيين غامقين.. وكانت تلك المرة الأولى التي أرى بها جاكيت بهذه اللمسة من الأناقة التي وجدتها ساحرة.
غير أنني لا أذكر بالضبط فيما إذا كنتُ رأيتُ ذلك الجاكيت وهو يرتديه رجل حقيقي من لحم ودم، أم أنني رأيتُ ذلك في احد الأفلام , لكنني لا أزال أذكر تقاطيع ذلك الرجل الإنجليزي الذي كان يرتديه – وجه مشّرب بالحمرة بشاربين نحيلين جزءاً كبيراً من وجهه.. وأيضاً أذكر أنه كان يرتدي بنطلوناً من النوع المسمى (بريتشز).. حدث ذلك منذ زمن بعيد جداً، الأمر الذي يرجح أنني رأيتُ ذلك الجاكيت ومن تحته ذلك الرجل في أحد الأفلام عندما بدأتُ بمشاهدتها في سينما ديانا في بيت لحم 1952… وأنا الآن أكاد أكون شبه متأكد أنني رأيته في أحد تلك الأفلام..
وينبغي الاعتراف الآن – ودون أي مبالغة، أنني أعتبر رؤيتي لذلك الجاكيت نقطة هامة في حياتي إذ أصبحُ منذ تلك اللحظة راغباً بالحصول على ذلك الجاكيت أو ما يشبهه بأي ثمن حيث اعتبرته رمزاً راقياً للأناقة الأرستقراطية ذات اللمسة الخاصة..
وفي نفس الوقت ولطول ما حلمتُ بذلك الجاكيت تساءلتُ ذات مرة عن السر الذي جعل خياط ذلك الجاكيت يضع قطعتي الجلد المفرودتين بعض الشيء على كوعي الجاكيت.. ففكرتُ كيف خطرت الفكرة في باله ولأي سبب – ذلك أنه لأمر استثنائي وخارج عن المألوف أن يفكر إنسان ما، خياط ما، بوضع قطعتي جلد مهذب على الكوعين..
ولما لم أستطع أن أخمن السبب أو فلسفة الخياطة أو الأناقة التي أوحتْ للخياط بذلك التدبير غير المتوقع فقد فكرتُ انه ربما كان الأمر أبسط من ذلك.. إذ ما المانع إذا افترضتُ أن أحد كوعَيّ الجاكيت تآكل بفعل الزمن أو أنه تمزق لسبب ما، لاجتهد أن يتم رقع الجاكيت بطريقة راقية بحيث لا يبدو الأمر وكأنه ترقيع وإنما هو فعل أناقة مدروسة وغير مسبوقة.. ولم أستبعد طبعاً أن يكون الرثاء نفسه هو صاحب الفكرة وليس الرجل الإنجليزي..
ولكن مثل هذه الأفكار لم تخفف من حماسي لاقتناء جاكيت مماثل إذ أنني ظللتُ أحلم بهذا الأمر رغم مرور سنوات طويلة فشلتُ خلالها في العثور على جاكيت بتلك المواصفات، ذلك أنني أدركتُ أن هذا النوع من الجاكيتات غير متوفر إطلاقاً في محلات بيع الملابس.. وذات مرة تجرأتُ وسألتُ أحد أصحاب هذه المحلات حيث عشرات الجاكيتات مرصوصة واحداً جانب الآخر في فاترينه يزيد طولها على عشرة أمتار، سألته إن كان صدف له وأن رأى جاكيتاً بكوعين من جلد.. فنظر إليّ الرجل بدهشة متسائلاً:
-تقصد مرقع بالجلد! ما هذا؟ ولماذا نقوم برقع الجاكيت طالما هو لا يزال جديدً لنج!
فأدركتُ أن هذا البائع ضعيف المخيلة، فهم أن قطعتيّ الجلد المدورتين بدراية على الكوعين ليست إلا رقعتين وليست إضافتين ساحرتين لأناقة الجاكيت – فلم أجب بشيء..
***
مرت سنوات إضافية أخرى ضربتُ خلالها في أرجاء الأرض حيث زرتُ دولاً أوروبية وشبه أوروبية عديدة وفي أكثر من مرة وصلتُ إلى موسكو فطشقند فبخارى وسمرقند… ورأيتُ سور برلين قبل أن يتم تحطيمه وإزالته حيث كنتُ بصحبة امرأة بدينة بعض الشيء كانت تقيم قريبة جداً من السور وتحاول بجهد كبير أن تخفي أصولها المصرية خوف رد الفعل العنصري الذي كانت تتوقعه من الالمان. وواصلتُ زيارة مدن أخرى – زيوريخ – فرانكفورت – براغ – باريس وجنوباً إلى مرسيليا، وكان ذلك أيام السياحة الثورية – غير أنني لم أعثر على الجاكيت الذي حلمتُ به منذ كنتُ في أوائل الصبا والشباب.. ولكن ومنذ أسابيع قليلة تشاء الأقدار السعيدة أن يحقق رغبتي أخيراً، فينما كنتُ أتفرج وأعاين كعادتي ما يتوفر في محلات البالة في سقف السيل من بضاعة جديدة.. دقائق قليلة أقضيها مستطلعاً بسرعة وأنا في طريقي إلى المقهى.. شاهدتُ الجاكيت الذي حلمتُ به طوال سنوات وسنوات معلقاً مع ثلاثين أو أربعين جاكيتاً في أحد المحلات.. تناولته بسرعة وعرفتُ أنه على مقاسي تماماً، غير أنه لم يكن أخضر اللون بكوعين من الجلد البني وإنما كان رمادياً فاتحاً بكوعين من الجلد الأصفر الفاتح الذي ينسجم لونياً مع الرمادي الفاتح.. وحتى تزداد بهجتي فإن الجاكيت لم يكن من الصوف وإنما من (الكوردروي) الخفيف، ومعنى ذلك أنه من الممكن أن أرتديه صيفاً وشتاء وفي كل الفصول دون أن أحس بأي اختناق أو برودة..
كنتُ سعيداً جداً ومنتشياً أنني عثرتُ على جاكيتي – الحلم بعد طول انتظار غير أنني لم أشأ أن أظهر احتفائي بشكل واضح حتى لا يطمع البائع المصريّ فيّ.
وقبل أن أبدأ في المفاصلة ارتديتُ الجاكيت أمام مرآة مغبرّة في المحل فوجدتُ أنه يكاد يكون مفصلاً لي لولا أن أكمامه طويلة بعض الشيء.. ولكنني كنتُ مدركاً أن هذا الطول يمكن إصلاحه عند الخياط بسهولة.. طلب البائع عشرة دنانير نزلت إلى السبعة في النهاية فأخذتُ الجاكيت وأنا شاعر بالسعادة والرضا والنشوة.
وفي اليوم الثاني ذهبتُ إلى الخياط الذي قال بأن أمّر عليه مساء لأخذ الجاكيت بعد أن أخذ المقاسات، وفي المساء تسلمته وجربته فوجدتُ أنه قد أصبح صالحاً للارتداء، غير أنني أردتُ أن أحتفي به أكثر فأخذته إلى أحد محلات الدراي كلين الذي سلمه إليّ وكأنني أتسلم عروساً..
لم يكن أحد في البيت في ذلك الوقت عندما عدتُ وارتديتُ الجاكيت أمام المرآة الطويلة فتأكدتُ أنه الجاكيت الذي حلمتُ بارتدائه طول عمري.. وعندها تنامى لدي إحساس بأن هذا الجاكيت سيشكل انطلاقة جديدة، وربما ولادة جديدة أعود بعدها للتأنق من جديد بعد أن أهملتُ مظهري خلال العشرين سنة الأخيرة حيث تنامى إلي مع مسلسل هزائمنا في كل مجال أنه لا جدوى من الأناقة.. بل أحسستُ في بعض اللحظات أن بذلي أي جهد لأكون أنيقاً هو ضرب معين من الخيانة – ذلك أنه لا يليق بنا أن نكون أنيقين بعد الذي صار والذي جرى.. وأن علينا بدل التأنق أن نضع ملابس الحداد.. فهذا هو بالضبط ما يليق بنا.
ولعل تقدمي في السن كان سبباً آخر لعدم الاهتمام بمظهري وأناقتي، إذ ارتبطت الأناقة بالنسبة لي بمحاولات اجتذاب النساء والتأثير عليهن كدافع أول للأناقة.. ولذلك وبسبب تقدمي في السن واستيلاء الأبيض بالكامل على رأسي، صرتُ عازفاً عن محاولة استمالة أية امرأة، يضاف إلى ذلك أنني أمضي معظم وقتي وخاصة في المساء في أحد المقاهي الشعبية حيث لا نساء وحيث يمكنك أن ترتدي أي شيء وأن تظل لحيتك غير حليقة لأيام دون أن يلاحظ أحد ذلك.. إذ أنك مهما بالغتَ في إهمال مظهرك فسوف تجد هناك من هو أشد إهمالاً منك.. ولكن ينبغي التوقف هنا لتوضيح أن عدم اهتمامي بمظهري لا يعني أنني كنتُ أبدو شرشوحاً مبهدلاً.. لا، فالأمور لم تصل معي إلى ذلك الحد، وإنما أردتُ أن أقول بأنني كنتُ ألبس ملابس عادية لا تتميز بأية خصوصية أو أناقة قياساً لما كانت عليه أناقتي في مطلع شبابي وكنتُ في عمان آنذاك عندما كنتُ أتعامل مع خياط ماهر في شارع بسمان ويأخذ أجوره بالتقسيط المريح… ثلاثة دنانير كل شهر.. أيامها كنتُ أرتدي جاكيتاً سكري اللون وبنطلوناً أسود وقميصاً أسود أيضاً بربطة عنق صفراء أو بيضاء، نوع من الأناقة كانت سائدة في تلك الأيام وربما استوحيناها من ملابس رجال عصابات المافيا التي كنا نراهم في الأفلام الأميركية ولا نخفي الإعجاب بهم.
كنتُ لا أزال نحيفاً – وعندما كنتُ ألبس عدة الأناقة مضافاً إليها أحياناً نظارة سوداء وبشعر مصفف ومشبع بزيت الشعر كنتُ أظن أنني أصبحتُ نموذجاً للشاب الأنيق..
المهم وبينما واصلتُ التحديق في مظهري بالجاكيت الجديد وأنا أحرك ظهري بنصف دائرة يساراً ويميناً لأعرف كيف أبدو من جميع الزوايا، أدركتُ أن الجاكيت وحده لن يكون كافياً لإحداث نقلة نوعية في أناقتي، وأن عليّ أن أدعمه بقميص مناسب وببنطلون مناسب أيضاً – وإذا أمكن بحذاء مناسب.
وهكذا ابتدأت ماكينة الأناقة بالعمل في أعماق دماغي حيث عرفتُ بسرعة أن القميص القرميدي الغامق سيكون مناسباً جداً للجاكيت بالإضافة إلى بنطلون أسود موجود لديّ بحالة جيدة… أما الحذاء فإنني لحسن الحظ كنتُ قد اشتريتُ حذاءاً صيفياً خفيفاً بلون مشمشي فاتح يناسب تماماً بقية الألوان سواء في الجاكيت أو القميص أو البنطلون..
وهكذا اكتملت عدة الأناقة بعد أن لبستُ الحذاء فوجدتُ أنني أصبحتُ غاية في الأناقة ذات المستوى الرفيع فأخذتُ بالمشي ذهاباً وإياباً في الغرفة وأنا أرمق المرآة الطويلة حتى أرى نفسي في صورتي الجديدة.. والشيء الغريب الذي لاحظته هو أنني أصبحتُ خفيفاً كأنني على وشك الطيران وقد زايلني جبل الهموم الذي يجثم عادة على صدري.. كما أحسستُ أن الزمن عاد بي ثلاثين سنة إلى الوراء وألفيتني شاباً لا مانع لديه أن يعود فيلفت نظر النساء.. من جديد، واندهشتُ أنه كيف يمكن لجاكيت اشتريته من سقف السيل أن يحدث هذه السلسلة من التغيرات الجذرية في نفسيتي وشخصيتي كأنني ولدتُ من جديد؟!
***
ها قد عدت! هكذا قلتُ لنفسي وأنا أتذكر ممثلاً أميركياً لعله بول نيومان وهو يهتف بنفس الجملة بعد أن عاد في نهاية الفيلم ليكون لاعب سنوكر محترفاً وليس مجرد موجها ومدربا كما كان في سنواته الأخيرة..
كنتُ بحاجة إذن إلى اختبار تأثير مظهري الجديد على الجميع وليس على النساء فقط، ومن حُسن الحظ والمقادير المواتية أنه كان مقرراً أن نجتمع إلى مشرف الصفحات الثقافية في إحدى الصحف الأسبوعية للتداول بشأن هذه الصفحات في الساعة السادسة مساء.
وهكذا توجهتُ إلى مبنى الصحيفة لأجد أنني كنتُ أول من يصل – وبانتظار الزملاء أخذتُ بالتحرك في مقر الجريدة حيث وصلتُ إلى الصالة الداخلية لأجد فتاة تعمل على الكمبيوتر – وعندما أحست بوجودي نظرت إلى ثم نهضت بصورة غريزية وهي تمد يدها للمصافحة حيث أحسستُ قدراً من الدفء والليونة والوعود الغامضة في تلك الكف.. فأدركتُ على الفور أن سحر الجاكيت قد بدأ مفعوله.. وخاصة أنني رأيتُ تلك الفتاة لأول مرة ولم يكن هناك سابق معرفة..
لم أحاول أي شيء مع الفتاة إذ أنني كنتُ راغباً في رصد تأثير الجاكيت وليس أكثر من ذلك، ولما تأكدتُ من ذلك ذكرتً لها اسمي وسألتً عن اسمها فأجابت وأنا أقول لها: تشرفنا. ثم مضيت.
***
في اليوم الثاني وحتى تكتمل سلسلة المصادفات السعيدة اتصل بي صديق يخبرني أن صديقنا الروائي الفلسطيني سيلقي مداخلة عن الرواية في فلسطين في مقر الرابطة – وهكذا تهيأتْ لي فرصة أخرى لاختبار سحر الجاكيت. ذهبتُ في الموعد المقرر وما أن وقع نظر صديقنا الروائي عليّ حتى هتف مندهشاً – شو هالأناقة.. من أين لك هذا؟ وبعدها أحسستُ أن عدداً من النساء يرمقنني بقدر من الإعجاب المتحفظ بعض الشيء.
وعندما فرغ الروائي من قراءة مداخلته انتقلنا إلى الشرفة المفتوحة لنشرب فنجاناً من القهوة وفيما نحن نتحدث ونشرب القهوة وندخن مال عليّ صديقي أبو الموس وهو يشير إلى الجاكيت بإعجاب وهمس وهو يغمز: هدية من بنتك!
أجبته على الفور – وكيف عرفت؟
فأجاب منشرحاً – وهل الأمر بحاجة إلى شطارة.
وكان يشير إلى زيارة ابنتي ذات النصف السويسري والتي جاءت لزيارتي بعد انقطاع دام أكثر من خمسة عشر سنة ولكن تلك قصة أخرى..
***
الربيع أيضاً لابد أنه ساهم في إحساسي الجديد بحيث أحسستُ أن قلبي بات مهيأ للحب من جديد..
الحب! لا.. ليس تماماً… ليس على الطريقة الشرقية حيث لا شيء سوى الألغام والعقد.. وربما أفكر بحب كالذي تحدث عنه كونديرا في إحدى رواياته – لون آخر من الحب يسميه الصداقة الشهوانية تحتل فيه الثقافة المكان الأول قبل الجنس والعواطف..
امرأة صديقة قبل كل شيء.. واسعة الأفق محبة للكتب والأفكار.. صديقة عشيقة بين حين وآخر.. علاقة ما صحية تبعث المسرات في القلب والعقل.. لكن أين سأجد مثل هذه المرأة في هذه الصحراء البلقع؟
رسمــي أبـو عــــلي شاعر وكاتب من فلسطين