توفى جبرا، فاستيقظت في نفسي أربعون سنة من الذكريات ، فقد وطنه الاول وانهار وطنه الثاني عليه ، فكيف لقلب ان يتحمل كل هذا القهر.. ليس غريبا انه مات ، لولا الكتابة لمات منذ زمن من منا نحن الذين نحبه يمكن ان يحمل العبء عنه ؟
هذه مقالة كنت قد كتبتها منذ اشهر قبل وفاة جبرا ابراهيم جبرا لتنشر فى كتاب أعد من قبل اصدقائه تكريما له .. وانني انشرها دون تعديل علها تحبر عن نفسها وعني.
هل هناك ما هو اكثر تكريما للكاتب من الدخول في نقاش معه ؟
هل يمكن الفصل بين الكاتب والكتابة ؟ واذا لم يكن من الممكن الفصل بينهما، هل يجوز الدمج فنعتبرهما واحدا واذا لم يكن . من المكن الفصل او المدمج ، فكيف ننظر للعلاقة بين الكاتب والكتابة كعملية ونتاج فى أن معا؟
ليس هدفى 1ن اجيب على هذه الاسئلة فى هذه المقالة وان كان يهمني ان ألقى ضوءا على طبيعة العلاقة بين الكاتب والكتابة من ، خلال تجربة جبرا ابراهيم جبرا فى المزج بين ، الواقي والوهم فى غالبية ما كتب قد لا يكون هناك بين التجارب الادبية العربية المعاصرة ما هو اكثر مدعاة لطرح مثل هذه الاسئلة من تجربة جبرا وخاصة فى نتاجه الروائي.
وكثيرا ما شغلتني هذه الاسئلة بالذات منذ تعرفت اليه في منتصف الخمسينيات حين كان يحضر مع عائلته من بغداد للاصطياف في لبنان ، بقدر ما اتعرف اليه واتعمق في قراءة انتاجه بقدر ما تتحول ، انطباعاتي الاولى الى قناعات بانه لايمكن الفصل بين جبرا الانسان وجبرا الكاتب او بينه وبين كتاباته .
من ناحية أخرى وفى آن معا، تعمقت : قناعاتي بانه لا يمكن الدمج بينهما كليا، بين الفصل والاندماج مسافة شاسعة ولكن هناك لقاء وثيقا ايضا مما اقصده هنا ان صوت جبرا فيما كتب يعلو على كل الاصوات «اقصد اصوات الشخصيات التي خلقها" دون ان يلغيها ولا غرابة فى الامر فان صوته متعدد الاصوات ، ولايثسكل التعدد نشازا بل انسجاما.
وربما اهم من هذا كله ان جبرا كان يسعى دائما لان يتجاوز نفسه فخبر تعولات مضنية وقد اراد ان يتجاوز نفسه لانه لم يكتف بمعرفة الحقيقة كما هى بل كان يسعي لان يملك حلما لنفسه بقدر ما هو حلم لهذا المجتمع العربي الشقى، وقد بدأنا على صعيد عام ندرك في الربع الاخير من القرن العشرين عمق الشقاء العربي وقد اخذ الحلم يتحول امام اعيننا الى اوهام . وما بدانا ندركه مؤخرا على صعيد عام ، كان بعض المبدعين من اصحاب المنهج النقدى والرؤى المستقبلية قد وعوه وكتبوا حوله منذ منتصف القرن على الاقل .
اثير موضوع المزج بين الواقع والوهم منذ اللقاء الاول بين جبرا وبيني في منتصف الخمسينيات اخبرني جبرا. وقد عنى لى ذلك الكثير في مطلع حياتي الادبية . انا كان قد قرأ قصة قصيرة لى نشرتها فى مجلة الاديب تلك السنة ، وكان اخوه قد نبهه اليها باعتبار ان هناك شبها بيننا من حيث المزج بين الواقع والحلم بحيث يصعب التمييز بينهما. بل وكثيرا ما كان يعصب ايضا التمييز بين الحلم والوهم ، وقد استمرت هذه النزعة كموضوعة واسلوب فنى في كتابتينا حتى الوقت الحاضر.
اشار جبرا لهذا فى رسالة كتبها لى بتاريخ 19/11/1957 بعد ان كتب مقدمة بعنوان «الحرية والطوفان» ، لمجموعتي القصصية الصمت والمطر التى كنت قد دفعتها للطبع عن دار مجلة شعر، قال "ويعجبني كما ترى من مقدمتي انك ترى تفاعل الوهم والواقع في حياتنا، وهذا كما تعلم من مواضيعي ايضا، اتذكر حديثنا في مقهى " الانكل سام "؟
فانت لذلك تاتي القارئ بكشف جديد ووعى لحياته لم يكن يتوقعه ". وقد ظهر تفاعل الحلم او الحلم . الوهم – والواقع خاصة في قصتي "رمال " التى كانت اول قصة نشرتها ولم اكن قد قرأت جبرا بعد، وفي قصة "الصمت والمطر" التى عنونت المجموعة بها والتي كتب لى جبرا عنها في الرسالة نفسها قائلا، "قصتك الصمت والمطر والعنوان "بسل وموح " . احسن ما فى المجموعة ، من اروع ما قرأت من قصص عربية وهي تشير الى خط التطور في فنك .
واكثر ما اعتز به شخصيا ما استخلصه جبرا في نهاية تلك المقدمة من "ان لحليم بركات صوته الخاص … انه صوت من رأى ورئى ، واحس بالمأساة ، اذن بدانا نحس بالمأساة حتي في اوج زمن التفاؤل بالمستقبل ؟ بل بدأنا نرى نزعة واضحة في السلوك العربي العام للعيش في متاهات الوهم نتيجة لصعوبة تحقيق ما نريد في الواقع .
وفيما يتعلق مباشرة بسالة التفاعل بين الوهم والواقع ، ذكر جبرا في مقدمته ، لمجموعتي القصصية الصمت والمطر ان هناك اربعة مقاييس استخلصها "من" احسن القصص الموضوعة حتى الآن " هي الاستكشاف الشخصية، نقد الحياة ، الشكل – فيما يتعلق بالاستكشاف الذي اعتبره دلالة الحركة والبحث ونفاذة الرؤية، قال ان الاستكشاف لا يجرى في الخارج الواقعي فقط، بل في الداخل ايضا في مطاوي النفس والدماغ . في متاهات الوهم.
وتتابعت المعزوفة بشكل مباشر وغير مباشر كما لو كانت "لايت موتيف " جميع مؤلفات جبرا، ورد في قصة عرق ان الشباب … يقبلون بالوهم فيجهلون اغتنام الحقائق ، وفي السفينة ان الطيبات كلها وهم – ارفع الوهم . تضمحل المتعة الأخيرة ، ولا يبقي الا الملح (ص 84)، وفي عن وليد مسعود، "كلنا غارقون في اوهامنا (ص 160) أو ام طريقة مريم بخلطها الدائم بين الوهم والواقع ، (ص 172 ) ثم عنون احدى مجموعاته النقدية "بـ" "اقنعة الحقيقة واقنعه الخيال".
وتعمق احساس جبرا بالتمازج بين الواقع والوهم في الرواية الاخيرة التي قرأتها له وهي رواية سراب عفان التى تختلط فيها الوقائع بالاحلام لدرجة لا نعرف فيها فيما اذا كانت سرابا مجرد سراب اما لا، في الوقت الذي يبدو الصعب التمييز بين نائل عمران وجبرا يقول نائل عمران فى هذه الرواية، "غير اننى لاكثر من ثلاثين سنة كنت اعى الحد الذي لابد ان يفصل ، في مكان ما من التجربة بين الواقع، والخيال، وبين المحتمل والمستحيل ، بين ما يمكن ان تجود به العلاقات الظاهرة بين الناس بكل تشعباتها وبين ما يمكن ان تجود به القريحة التى تعمل سحرها في هذه العلاقات (ص 217)".
وترى سراب عفان فيه تماما ما رأى في نفسه، فتصفه بانه يحلم وهو يقظ ناسجا معه الممكن واللاممكن، المحتمل والمستحيل ، على هواه ، وقد يعيش زمنا في داخل ما ينسج ( ص 22) وتتساءل ايضا بينها وبين نفسها، ولكن هل استطيع حقا ان اقول شيئا ممتعا عن الواقع اذا لم اتناوله بشىء من بحبوحة الخيال ؟ وهل استطيع الاستمرار في الخيال دون ادخال شئ من الوا قع فيه ؟ (ص 37) وحين تكتب تعترف ، انني ما عدت افرق بين ما هر حقيقي وما مجرد وهم (ص 39).
وفي كتابتها كما في حياتها تمثل «مونودراما» وتتلبس فيها على الاقل "ثلاثة ادوار" وتتكلم بثلاثة اصوات (ص 71).
شخصيات جبرا ما تعجز من التمييز بين الواقع والحلم وذك لسبب رئيسى فقد تمازج في واقعها الحلم واللاحلم فلا ينفصل الواحد عن الأخر هنا قد يتساءل القاريء عن سر مثل هذا التشديد على مقولة المزج بين الحلم ولمواقع، وقد يتوصل متسرعا الى انه ناتج عن التأثر بالثقافة الغربية ، وفي رأي انه يخطىء حين يتوصل الى هذا الاستنتاج أقول ليس السبب في هذا اننا درسنا فررويد وتأثرها بمقولة العلاقة بين الكتابة الابداعية والحلم ، كتبنا حول هذه المسألة لاننا دققنا في دراسة الواقع العربي فلاحظنا ميلا للاحباط بسبب فشلنا افرادا وجماعات ومجتمعا – في تحقيق اهدافنا ورغباتنا، ونحن نعرف من خلال تجاربنا الخاصة وملاحظاتنا "كما من خلال القراءة " ان الانسان كثيرا ما يحاول التغلب على الاحباط باللجوء الى تحقيق رغباته عن طريق احلام اليقظة والتوهم .
وقد اكتشف جبرا ابراهيم جبرا ان العربى معرض لكل انواع الضغوط والمنع والقمع حتى اصبح مسحوقا ومكبلا بواقعه لذلك يسعى للتحرر من واقعه من خلال الفانتازيا – قد نمت لمخيلته جوانح جبارة ، وقد اطلق لها العنان دون ان يتجاوز مكانه .
ترى تلك هي مأساة الحربي المعاصر؟
حليم بركات : روائي وعالم اجتماع واستاذ بجامعة جورج تاون بواشنطن
حليم بركات – واشنطن