كيف لي ان اعرف وانا في الحافلة المتجهة الى عمان اواخر تموز 1994 ان هذه الرحلة ستكون آخر رحلات جبرا ابراهيم جبرا؟ على مدى اربح عشرة ساعة استغرقها الطريق البري كان جبرا متعبا لايني يردد انا لن يسافر ثانية ، ما دام اسفر بالطائرة غير ممكن بسبب الحصار واضاف انه سيعتذر عن دعوته لمرجان اصلية بالمغرب ، وكذلك عن دعوات مماثلة فى تونس والقاهرة .
كنا -الصديق فاضل ثامر وأنا – نجاذبه الحديث ، وقلقنا يزداد كان وجهه يتخذ سمتا شمعيا، وعيناه تزدادان ذبولا واعياء.
ولكننا حين وصلنا الى عمان ، واستراح في الفندق عادت الى جبرا حيويته.
كنت استمع اليه في حلقة "جرش" الدراسية محاضرا ومناقشا بحماس وجدية مسترسلا متدفقا وكانا شخص آخر.
لقد بدت علي جبرا علامات الوهن والمرض منذ فقد زوجته في الصيف الماضي كان واقفا يتلقى عزاء الاصدقاء ، وقد بدا عليه الهرم والتعب ولم تمهله النوبات القلبية المتكررة حتى فاجأنا بغيابه الابدي صباح يوم الاثنين 12 /12 / 1994.. نصف ساعة فقط كانت فترة نزعه الاخير، حتى ان ابنه البكر «سدير» لم يستطع الوصول اليه ، كان قد غادرنا في رحلة تاسعة الى حيث اصدقاء سبقوه : جواد سليم ، والسياب (الذي من عجب وصدفة قدر غريبة ان يكون قد مر على موتا فى الشهر نفسه ثلاثون عاما).
** *
كثيرون لم يستوعبوا الخبر… ولم اول الامر … كان جبرا يتحامل على نفسه ويلبي دعوات كثيرة ، فقبل ايام قليلة ظهر في حفل افتتاح معرض شامل للرسم اقمة الانطباعيون العراقيون كان يبتسم ويتحدث ويعلق بحيوية وذكاء ويستعيد ذكرياته مع ابرز رسامى العراق من اصدقائه قبلها كان يتحدث في لقاء مفتوح عن فن الرسام المعروف شاكر حسن آل سعيد لمناسبة معرضه الاستعادى الشامل … لكننا لاحظنا فيما قال مؤخرا وما كتب انا يستنفر ذاكرة . كل شيء عنده محال الى الذاكرة والذكرى.. لكنه احس بالنهاية فراح يستجمع قواه ليقول ويسترجع ويتأمل .
هكذا وجدناه عاكفا على نشر سيرته الذاتية : شارع الاميرات وقبلها «البئر الاولى"
وما شارع الاميرات الا الشارع الوارف الذي يقع في احد فروعا بيت جبرا في حي المنصور بقلب بغداد، من منا كان يرى اسراب العشاق -كما قال لنا ذات مرة يتهادون فى هذا الشارع الشاعري. ثم راح يتخيلهم ازواجا يسرى عليهم قانون القدر والضرورة.
* * *
حين تزور جبرا في بيته ، تحس بكينونته التذكارية ايضا.
وهذا ما عبر عنه اصدقائي العرب من زوار بغداد، حين كنت اصحبهم لزيارة جبرا في بيته . كنت امازحه بالقول : لقد غدا بيتك معلما يزوره السياح ! كآثار بغداد واماكنها التاريخية وكنت اعني ما اقول فمنذ ان يفتح لك جبرا الباب الداخلي للبيت ، وتسير فى ممر ضيق يؤدى الى صالة واسعة مفتوحة على غرفة أخرى الى اليسار حتى تحس انك في متحف .
اللوحات الزيتية والمنحوتات جزء من ذاكرة الرسمين العراقى والعربي.
لوحات رسمها افضل فناني قرننا جواد سليم وشاكر حسن آل سعيد وفائق حسن وحافظ الدروبي وعطا صبري ومنحوتات وتماثيل لمحمد غني وخالد الجادر واسماعيل فتاح وخالد الرحال .
ثم على يمينك حيث سرت رفوف الكتب كلها اهداءات بخطوط اصحابها: السياب والبياتى واحسان عباس وسهيل ادريس… وصور لابرز اصدقائه "ومعهم " كعبدالرحمن منيف والخال والصايغ …
والهمم من ذلك اعمال جبرا نفسه . فثمة رسوم في فترات مختلفة ورفوف خاصة بمؤلفاته كان يمازحنا بالقول انها وحدها تحتاج الى مكتبة خاصة وليس في الامر مبالغة فلقد تعددت اهتمامات جبرا، فكان مثقفا موسوعيا يفتقد عصرنا الى امثاله …
فهو يرسم ويكتب عن الرسم
– وهو شاعر… وقاص .. وروائى… وكاتب سيناريو وهو مترجم ودارس وناقد يكتب بالانجليزية الى جانب لغته الام .
وهو يكتب عن الثقافة والشعر والأدب والحضارة والفلسفة …
واذ يعمل تجد له اسما في التعليم والصحافة الثقافية … وفى المنظمات والاتحادات الثقافية … مؤسسا وعاملا: في اتحاد الادباء والكتاب ، ورابطة نقاد الادب ، ورابطة نقاد الفن العالمية.
-ومسهم نشيط في موجات الحداثة : واكب حركة الريادة فى الشعر الحر في سنواتها الأولى -وف حركة الحداثة الثانية التي بدات بصدور مجلة "الشعر" التي كان جبرا من ابرز اركانها.
– وكان فاعلا في الحياة الثقافية : تجده فى الندوات آت والحلقات الدراسية وفي معارض الرسم وعروض المسرح وامسيات الشعر والنقد… في لجان التحكيم… والهيئات الاستثمارية .. والمشروعات الثقافية الكبرى… لقد كان جبرا فريقا من الكتاب فى رجل واحد، و لم يكن ليمنعه اي شئ عن الوفاء بالتزام او المساهمة فى نشاط..
لذا نقول انه مثقف شامل ، ليس لانه جمع اجناسا ادبية وفنية عدة في شخصه بل لانا حاول من خلال ذلك ان يكون له "موقف" فى عصر تهمش فيه المثقف ، وتراجع دور الكتاب والادباء.
لكن العجيب في حالة جبرا ابراهيم جبرا انه حافظ بموازنة دقيقة بين حضوره الثقافي ورعايته للحداثة والابداع ، وبين جماهيرته كتابته فهو مقروء بشكل واسع من قبل اوساط القراء والمهتمين من اجيال واعمار وبيئات وثقافات متباينة ، ولا يحظى – إلا قليل من الكتاب بمثل بصل المتابعة والقراءة التي تحظى بها كتبه…
* * *
لقد كان ذا دور تأسيسى دائما :
حين جاء الى بغداد بعد تقسيم فلسطين عام 1948 لم يكن وجوده طارئا بل سرعان ما اشاع حوله جوا ثقافيا مؤثرا تبلور عبر صلته بالادباء والفنانين والشعراء لاسيما بدر شاكر السياب الذي تشهد مراسلاته معه، على اهمية ما قدمه له من مساعدة، سواء فى القراءة او النشر.
وكذلك صلته بجواد سليم الذي اسس معه .. وعدد من الرسامين … " جماعة بغداد للفن الحديث " عام ا 195 .
وحين اختار العراق وطنا ومستقرا بعد النكبة ، فانه كان متفاعلا ومشعا باتجاه الثقافة العربية .
وهذا واضح فى دوره التأسيسي لجماعة مجلة ( شعر) رغم اختلافه مع طراز القصيدة النثرية التي كتبها ادونيس وانسي الحاج وابو شقرا وسراهم.. فقد كان جبرا يعد -نفسه وبعض الشعراء التموزيين كما يسميهم – من شعراء «الشعر الحره" بمفهومه الانكلوسكسوني وهو وهو الشعر المتحرر من الوزن والقافية ، ولكن القائم على الترابط المنطقي والدلالى بين جمله وابياته .. كان "تموز في المدينة " هو اول دواوينه 1959 و(لوعة الشمس ) 1979 هو أخرها ولم يتغير منظوره الشعري خلال ذلك.
فيما كانت رواياته تعمق نهجه الاستبطاني فهو يدرس شخصياته بدقة ويعريها دون رحمة ويقدمها دون تجميل او تصنع هكذا فعل فى " صراخ في ليل طويل " أولى رواياته 1955 وفي اشهر رواياته من بعد: صيادون فى شارع ضيق /السفينة / البعث عن وليد مسعود الغرف الاخرى / يوميات سراب عفان …
لقد قدم جبرا بشرا وامكنة واحداثا لايمكن ان تخطئهم الذاكرة ولايهملم تاريخ القراءة ، فأخذ مكانته اللائقة في سجل الريادة الفنية والاتجاهات الجمالية الجديدة فى كتابة الرواية العربية الحديثة .
وفى نقده ، لم يكن جبرا، لينطق من منهج نقدي مسمى، رغم دراسته الاكاديمية المعمقة . ومعرفته بالادب الاجنبي وتياراته … انه يحتكم الى حسه الفني والجمال ، تفرده خطي الحداثة التي يرى فيها مستقبل الادب العربي وانسان هذا الوطن .
هكذا كتب (الحمرية والطوفان ) 1960. و(الرحلة الثامنة ) 1960، و(النار والجوهر) و(ينابيع الرؤيا) و(الفن والحلم والفعل ) وغيرها..
* * *
– لقد عاش جبرا حياة ثقافية حافلة لم تكن له سواها حياة .. هكذا تجده يكتب فى الفن التشكيلي «الفن العراقي المعاصر» و"جذور الفن العراقى " و"جواد سليم ونصب الحرية " .
– وفى الترجمة لا يتعامل مع ما ينقل الى العربية إلا عبر اعجاب ودراسة معمقة، فهو يهتم اصلا بشكسبير والدراسات الشكسبيرية فترجم عددا كبيرا من السونيتات ، وسبع مسرحيات مهمة لشكسبير، ونقل من المكتبة النقدية عن شكسبير عدة كتب مهمة- منها "شكسبير معاصرنا" و" ما الذى يحدث فى هاملت " و"شكسبير والأنسان المستوحد"… وله اجتهادات واضحة قى تفسير شخصيات مسرحياته ..
– واختار جانبا أخر يكمل اهتماماته الفنية والأدبية ذلك هو التاريخ الفني والحضاري فترجم جزءا مهما من الغصن الذهبي لفريزر عن " ادونيس أو تموز" و" أفاق الفن " لالكسندر اليوت (وقد صرح لى شخصا بعد ان ابلغته إعجابي بلغة الكاتب الشعرية وهو يتجول فى مدينة الفن ، بأنه يحب هذا الكتاب كثيرا للسبب نفسه ) كما ترجم دراسات عدة "برج بابل" و" الاسطورة والرمز" وفى العمارة والفن الحديث . . ولايمكن ان ننسى ترجمته لـ " الصخب والعنف " لفولكز التي كانت تحديدا لصعوبة هذا العمل وتعقيد اسلوبه . . وغالبا ما كان يقرن ترجماته بمقدمات مهمة ذات قيمة وثائقية كمقدمته لكتاب مترجم عن الشاعر ديلان توماس حكى جبرا فيها عن معرفته ومعاصرته لتوماس ايام دراسته .
– لقد كان حقا كفا قال له السياب فى احدى رسائله " اوسع نشاطا من ان تحده الترجمة عن كتابة الشر او القصة او النقد".
***
لقد رحل جبرا عن اربعة وسبعين عاما "ولد في بيت لحم بفلسطين عام 1930 " وترك ما يربو على الأربعة والستين كتابا، يقول جبرا فى أخر مقابلة موسعة اجراها معه الزميل ماجد السامرائي لمناسبة محور خاص عن جبرا فى مجلة "الجديد فى عالم الكتب"
"لعلنى دون ان ادري منذ اول ما انطلقت فى الكتابة، كنت مهما كتبت ، انما اشرح واعلق على تلك القصة الرمزية التى هى حياتى" .
كما يتحدث عن " الحداثة " التى اوقف جهده فى حقلها،ومن اجلها فيقول " الحداثة العربية التى نشدتها، وعشت بها، لم تكن يوما هدفا لمسعى، تبلغه فتستريح ، الحداثة تطلع مستمر، وأهميته فى استمراره الذى لا ينتهى إلا حين يطبق الظلام على الكون وا لانسان ".
وعن منهجه النقدى يقول فى مذكراته " اقنعة الحقيقة، وأقنعة الخيال ". " النقد عندي عملية استغوار وكشف وأنا بالطبع لا استطيع استغوار ما لاغور له ، كما لا يهمني ان اكشف ارضا يطرقها كل غاد ورائح . . " ولكن ابدأ بالاستغوار والكشف ، يجب على
بعد الاطلاع الاول السريع على الارض التى انا عليها ان اعود فأمسحها من جديد بدقة، لاننى افترض ان الشكل الفنى قائم عل هيكل محجوب له هندسته وتعقيده وكوامنه التى تنطلق منها دينامية الشكل …
والناقد -كما اراه يجب ان يتناول العمل الفني كشىء بحد ذاته ، له كيانه الخاص المحدود اى انه يجب ألا يخلط بينه وبين صاحبه. النقد يجب ان يعالج النص نفسه ، ويستخرج الكوامن من النص ، لا من اى مصدر أخر" . ويقول عن عالم رواياته
"عالمى هو المدينة، المدينة العربية الجديدة، بكل ما فيها من متناقضات وتيارات وأمال ومخاوف المدينة اليوم ليست مجرد "قصبة" فيها دار للحكومة: المدينة بوتقة هائلة لم تنصهر فيها العناصر انصهارا تاما بعد.. المدينة مازالت تسحرني وتستحثنى على الكتابة وتصوير الشخصيات الناهشة المنهوشة فيها كما تسحر البدوى القادم اليها من الصحراء لاول مرة ولكنى قد ابكى عليها، كما بكى المسيح على القدس ، لاننى اريد لها الخصب والصحة لا الجدب والمرض " .
ويكتب رسالة الى شاعر ناشىء فيقول له فيها مذكرا بقول الشاعر " شلى " بأن الشعراء كهنة الوحى الذى لايدرك ومرايا الظلال الهائلة التى يلقيها المستقبل على الحاضر – وانهم مشرعو العالم غير المعترف بهم يقول جبرا " لا لن تكون شاعرا إلا اذا صدرت الفاظك من اعماق جسدك وكتبت عما احست به يداك ، وذاقته شفتاك ، ورأته عيناك .
عليك ان تستقى الالفاظ من عضلاتك من انسجة لحمك ، من احشائك ، وتنسى عشرات العبارات التقليدية التى حشوت بها حافظتك ، لانها قد عفنت وأنظر الى الحياة من جديد انك فى عالم غير عالم الامس ، اولا ينبغى ان تتجدد اللغة بتجدد الحياة " .
وفى دراسة مهمة لجبرا عن شخصية "هاملت " بين العبث وضرورة الفعل يخلص الى ان "هاملت الغامض المعقد المكنون ، العديد النواحى، المدرك العبث ، اذ يدنو من قضائه المحتوم يكشف لنا رويدا رويدا عن اتساع زاخر فى النفس ومغلقات من الحياة التى تحيط بنا.
واذا ما شارف النهاية، تفجر فى قلوبنا فيض الحب دمعا لهذا الذى يبدو كأنما راح فداء لنا وكأنه قد احبنا كما احب اوفيليا وكما احب صديقه هوراشيو" .
كذلك كان جبرا… واحساسنا وهو ينزلق الى هوة العدم بجسده . . بينما يظل لكلماته حضورها الرائع البهى.
حاتم الصكر: ناقد من العراق
حاتم الصكر -العراق