يجابه قاريء "جدارية محمود درويش" عنوانا لا يستطيع ان يتجاوزه سواء أقرأه بالعربية ام في ترجمته الانجليزية، فهذا العنوان يتكيء على مصطلح فني ذي تاريخ طويل وسمات جمالية متنوعة وهو يجيء في المصادر المختصة (1) تحت عنوان: Wall Painting أو Mural Painting
الذي يعني الرسم على الحائط أو السقف لأغراض متعددة، قد تكون تسجيلية أو رمزية وقد تكون جمالية خالصة.
لقد نشأ فن الجداريات في أحضان الدين، وكانت الجداريات ترسم في المعابد والمقابر، لذا ظلت رسو ماتها دينية الطابع تجث رؤى الانسان للموت وللعالم الآخر حقبة طويلة من الوقت عندما انتقلت الى قصور الملوك لتسجل انجازاتهم وترسم انتصاراتهم أو لتجث أبعادا دنيوية أخرى تناقض تلك الآفاق الدينية، فتحفل المشاهد باللذة كمشاهد الصيد أو النساء العاريات أو غيرها من المشاهد التي ترسم أبعاد الحياة الانسانية وما تحفل به من صراعات.
واذا كانت طرق تنفيذ تلك الجداريات قد تعددت، فإن الجدارية في العموم، تظل تجسد مشروعا فنيا ضخما. يحتث له الفنان بوصفه مشروع العمر الذي يتجلى من خلال إعادة تشكيل عناصر متباينة في إطار فني معقد، تعكمر ما يشتعل في أعماقه لحظة تنفيذ ذلك العمل، واختيار رموزه وعناصره وألوانه واشاراته.
إن هذا لا يعني أن نص درويش الملحمي هذا يحاكي الجدارية، ولكنه يتقيا مبر الاختيار الواعي للعنوان، صناعة (2) قصيدة طويلة حافلة بعناصر الحياة وبالشخصيات وبالصراع بين ثنائيات لعل من أبرزها تلك الثنائية التي قام عليها فن الجداريات أساسا وهي ثنائية الموت والحياة أو الفناء والخلود. ولكن جدارية درويش لا تتشكل في ضوء جدارية بعينها، كما في قصيدة سعدي يوسف "قصيدة للجبهة: تحت جدارية فانق حسن" (3) الصادرة عام 1973 التي تبلورت فيما يثير العنوان، في ضوء علاقة فنية عميقة مع عمل فني محدد لرائد من رواد الفن الحديث في العراق.
تقوم قصيدة سعدي يوسف على حركتين متعاقبتين:
"تطير الحمامات في ساحة الطيران، البنادق تتبعها" ومن حركة الحمامة اليائسة التي تحاول عبثا الاختباء من طلقة البندقية، تتولد مجموعة من التفصيلات، ترسم صورة لواقع يرزح تحت الطغيان، ولكنه يؤس في تجليات الحلم لمدينة فاضلة، وهي قصيدة تتناغم مع الرؤية المركزية في أعمال فائق حسن (4) الفنية التي تتجلى في الخوف الذي يجسد عذاب الانسان وبؤسه، ليجيء الفن مضيئا لعتمة الواقع مبشرا بالانتقال من الأزمة الى تجاوزها، ليكون الستقبل أكثر تفاؤلا. غير أن هذا لا يعني أن الجدارية نص مقفل، ففيها الكثير من الاحالات والعلاقات والرموز التي استطاع متخيل درويش الشعري أن يعيد تشكيلها وصهرها لتتحول الى بنية قادرة على الغوص، في لحظة حرجة من لحظات الحياة، الى قرارة اللاشعورالفردي، لترسم الرغائب والأحلام لذات تقترف الى نفسها مثلما تعترف الى غيرها، وتسعي عبر:لك لتحرير ذاتها، وللتحرر من واقعها، ومن وطأة الزمن، لتحكي صيرورة الشاعر، لا عيرته هذه المرة.
-2-
تقع القصيدة في 96 صفحة (5)، تبدأ بلحظة وتنتهي في ختام القصيدة بتوكيدها، ويفصل بن هاتين اللحظتين مجموعة من الحركات تولد مجموعة من التحولا-، ولكن هذه الحركات غائرة في أعماق الجدارية، ومن الضروري إعادة تشكيل النص في ضوئها للكشف عن بنيته وسمات تلك البنية وتحولاتها. على سترى البناء الايقاعي يلاحظ أن ثمة تفعيلتين تنتميان الى الكامل والمتقارب تتناوبان وتتعاقبان في الجد راية على نحو منتظم، وهو تعاقب يثير الى اختلاف الايقاع الذي يؤدي الى اختلاف الدلالة وتحولها، كما أن هناك بيتا واحدا على البحر الخفيف يتكرر ثلاث مرات ويجيء في اطار التفعيلة الثانية، أعني في سياق ايقاعها، ويمكن القول أن الجدارية متميع ايقاعيا على النحو الآتي:
التفعيلة الصفحات
ـــــــــــــــــ
الكامل 9-28
المتقارب 29-32
الكامل 33-64
المتقارب 65-67
الكامل 68-85
المتقارب 86-91
الكامل 92-105
إن مجموع الصفحات التي متميع على تفعيلة المتقارب هي 13 صفحة أي أنها تحتل نسبة لا تزيد على 12% من مجموع القصيدة التي تحتل تفعيلة الكامل بقيتها.
وبين هاتين النغمتين تتولد مجموعة من الحركات الأساسية سواء كانت هذه الحركة لونية أم صوتية. تجسد في مجموعها بناء جدارية، تنطوي على رغبة في الكثف عن وعي يتحرر من ذاته، ويعيد تشكيلها في إطار مواجهة مع لحظة حاسمة كانت مرشحة للقضاء على الجسد، هذا الجسد الذي يجيء في الجدارية وسيلة لفتح آفاق جديدة للذات، وليس حجر عثرة يغلق هذه السبيل، التي ستقود الى صيرورة جديدة.
ينصب درويش الحركة الأولى في الجدارية، وهي الحركة الايقاعية الأقوى الى امرأة مجهولة لا تحدد القصيدة شيئا من سماتها، بل تحرص على تنكيرها:
هذا هو اسمك
قالت امرأة
وغابت في الممر اللولبي (6)
تتكرر جملة "هذا هو اسمك" ثلاث مرات، تلقى في المرتين الأولى والثانية على نحو حاسم وقصير وجاف، لتغيب المرأة بعدها، أما في الثالثة فتجيء متبوعة بعدد من الأوامر والنواهي تخص الاسم وتؤكد أهميته الكبرى في خضم التحولات القادمة. إن دور هذه المرأة يشبه من بعض الوجوه دور السارد العليم، الذي يعي ما سيحدث للشخصية من تحولات وما تخبئه لها الأحداث في خضم ما سيأتي، والملاحظ أن الأوامر والنواهي توزعت على النحو الآتي:
احفظ اسمك جيدا لا تختلف معه على حرف
كن صديقا لاسمك الأفقي لا تعبأ برايات القبائل
جربه مع الأحياء والموتى
دربه على النطق الصحيح
اكتبه على أحدى صخور الكهف
إن هذه الوصايا الخاصة بالاسم التي تبدأ بالتركيز على الذاكرة وتنتهي بالحرص على الكتابة، وتحرص بين ذلك على اقامة علاقة حميمة مه بعيدة عن الاختلاف، وعن الأبعاد التي تسهم في كسر آفاقه الفردية الخاصة لتذيبه في آفاق قبلية، تبين في مجموعها أن الاسم معادل للهوية وهو هنا بمثابة التعويذة التي تحتمي الذات بها عند تلامس الجسد، وتحولها الى آفاق أخرى لا يدل عليها سوى ذلك الاسم.
غير أن الجدارية التي تفتتي ايقاعها بصوت تلك المرأة التي انبثقت على نحو غامض في البدايات، لا تجعل ذلك الصوت هامشيا بل صيرته جذريا في ما هيأتي من تحولات، فهي امرأة قادرة على تحديد الاسم. ورسم البدايات، وهي قادرة علي أن تغيب لحظة تشاء، وتراوغ بذكاء كي تجعل النهايات القاسية مقبولة، صحيح أن هذا الصوت سيتلاشى ولكن حركته وأثره يظلان حاضرين في ثنايا الجدارية. وللتمييز بين طبيعة هذا الصوت وما ينطوي عليه من دلالة يمكن أن نتوقف عند صوت امرأة أخرى يجيء في مفتتو ايقاع تفعيلة المتقارب وهو صوت الممرضة الذي يشكل الحركة الثانية الدالة على مستوى الصوت.
تتكرر جملة "تقول ممرضتي" في الجدارية ثلاث مرات (7) ويجيء كلام الممرضة موزعا بين دورها المعروف في التعامل مع الجسد الانساني كي يستعيد عانيته وتوازنه وبين وصف لمعاناة ذلك الجسد المثقل بالأدوية والواقع تحت تأثير التخدير والضعف، ورمما ما تقوله أنا ذلك الجسد في لحظات اللاوعي التي تجيء في كثير من الدقائق منسجمة مع اللاوعي الجمعي ومجث ة لأزماته وإشكالاتها ومهاناته.
ينبثق من حديث المرأة وحديث الممرضة تحول، وهو تحول يبدو للوهلة الأولى متشابها، ولكنهما في المقيتة تحولان مختلفان على الستوى النوعي، فالفعل أرى في مفتتو الجدارية الذي يتولد اثر حديث المرأة، منبثق عن عالم الرؤية، متصل بعوالم الرؤيا، أما الفعل رأيت، بعد حديث الممرضة، فيتولد عنه عوالم الحلم والرؤيا ولكنه يبدوأكثراتصالا بعالم الشهادة.
لقد كانت جملة المرأة في مطلع الجدارية، اشارة الى أن رحلة توشك أن تنطلق، هي رحلة تقود الى عالم يثبه العالم الآخر، ولكنه لا يطابقه بالضرورة، فهذه الرحلة ليمت امتدادا لعالم المعارج في الآداب العربية والاسلامية، لأنها ما تكاد تصل الى عالم الفناء حتى ترتد لتبدأ رحلة موازية في عالم الصيرورة، وكأن الذات التي يقترب الموت منها تمسى لتبدأ رحلة جديدة في عالم الإرادة الانسانية.
تنطلق الرحلة صوب عالم الموت أوا لعالم الآخرهن غرفة ستشفى، ومن لحظة تقع على الجسرا لفاصل بين الحياة والموت وتحضر فيها الذات على نحو يثير الى غياب الجسد غير القادر على الارتحال، لذا تثير الجدارية الى أن الرحلة تشكلت في إطار تحولات تكسر الواقع، مثلما تكسر طبيعة العلاقة مع الزمن:
ويحملني جناح حمامة بيضاء صوب
طفولة أخرى. ولم أحلم بأني
كنت أحلم. كل شيء واقعي. كنت
أعلم أنني ألقى بنفسي جانبا
وأطير (8)
إن اختيار جناح الحمامة للصعود والتخلص من الجسد، والذهاب نحو حقبة أخرى تنتمي الى عالم البدايات يوازي هبوط النفس الانسانية على شكل حمامة عند ابن مينا، واذا كانت تلك النفس تهبط من عالم المثل عند ابن سينا (أي من المحل الأرفع) فإن الصعود في الجدارية يجسد هو الآخر حقبة من تاريغ الانسان تعرف بحقبة البراءة.
يتشاكل بياض الجناح مع أجواء ذلك المكان المغلق الذي المح اليه درويش عندما، أشار الى اختفاء المرأة في ممر بياضها، فوصف تجليات الانطلاق منه على النحوا لآتي:
وكل شيء أبيض
البحر المعلق فوق سقف غمامة
بيضاء، واللاشىء أبيض في
سماء المعلق البيضاء، كنت ولم
أكن. فأنا وحيد في نواحي هذه
الأبدية البيضاء، جئت قبيل ميعادي
فلم يظهر ملاك واحد ليقول لي:
"ماذا فعلت هناك في الدنيا؟"
ولم أسمع هتاف الطيبين ولا
أنين الخاطئين، أنا وحيد في البياض
أنا وحيد (9)
يقوم المشهد على ائتلاف بين اللون والصوت ويتولد عنه مشهد، مرتبط بتوقعات مستمدة من أبعاد معرفية ذات صلة بالعقائد الدينية. واذا كان البياض قد غدا لون المرض أو لون الاشارة الى المرض، كما يتجلى في قصيدتي "زنابق" للشاعرة الأمريكية سيلفيا بلاس (1932- 1963) وفي قصيدة "ضد من" لأمل دنقل (1940-1983) ليكون الصراع بين الأبيض وبين اللونين والأحمر كما في القصيدة الأولى والأسود كما في الثانية تجسيدا للصراع بين عالم الموت وما يمثله من فناء وتلاش (10)، وعالم الحياة وما يثير اليه من بقاء وكينونة، فإن اللون الأبيض في المشهد السابق لا يدخل في صراع مع ألوان أخرى، بقدرها يدخل في علاقة محولها، فالبحر والمساء اللذان يعليهما شعر درويش زرقة تجسد في كثير من الأحيان، حيوية الحياة وصراعاتها يخفيهما اللون الأبيض تماما. واذا كان هذا المحور يشير الى لحظة تؤكد طغيان الموت، وعبثية الدخول في صراع معه، فإن الصراع في الجدارية يأخذ في واقع الأمر منحى آخر لا يقوم علي تقابل الألوان بقدر ما يتكىء على تقابل الإرادات. محير أن الذات تدخل عالم الفناء ولكنها لا تذوب فيه ولا تقتسم لمنطقة بل تشعر لحظة دخوله أنها ينبغي أن تفارقه الى عالم الإرادة التي تجسد صيرورة الشاعر، لهذا لم يكن مصادفة أن يفتتن درويش هذا المشهد بقوله:
سوف أكون ما سأصير في
الفلك الأخير (11)
تتجلى هذه الصيرورة في جملة شعرية تتكرر خمس مرات:
سأصير يوما ما أريد (12).
التي تنتهي في المرة السادسة الى:
سنكون يوما ما نريد (13)
إن هذا التكرار وهذا التغيير يثيران الى مسألتين هامتين في بناء الجدارية، فا لتكرار يجيء بمثابة نغمة جاذبة في ايقاع كبير يبني أو يسهم في بناء لحن موسيقى متكامل، والتغيير ينقل اللحن في الخاتمة من عالم الى آخر، من عالم الصيرورة الى عالم الكينونة ومن الفردية الى الجماعية.
لقد كان من الطبيعي أن تعبق الكينونة الصيرورة، كما جاء في العبارة الشعرية الآنفة الذكر، لأن الثانية تقوم على التحول والأولى تفترض وجود ماهية محددة، ولكن تغيير درويش للمسألة يبين أن التحولات هي التي تحدد كينونة الذات غير المنفصلة عن اسمها بطبيعة الحال، وعن اطارها الجمعي لأن التناقض بين الإدارة الفردية والجمعية في الجدارية غير موجود، ولأن الصلة بين الفرد والجماعة تأتي بوصفها حتميات لا قدرة لأحد على الانفكاك من عرافا:
أنا من هناك. "هنا" يقفز
من خطاي الى مخيلتي (14)
إن ارتباط الصيرورة بالإرادة، يعلي من قيمة المعرفة لهذا يسبق الصيرورة جملة:
وأعرف ما أريد (15)
وهي جملة تذكر بديوان درويش "أرى ما أريد" ولكنها تنبىء في الجدارية عن ذات قادرة على الجمع بين البسيط والمركب والمجرد والملموس، عبر بناء حي قادر على التحول من واقع الى آخر، وعلى الانتشار من نمير عوائق، اضافة الى ما تنطوي عليه رؤيته المعرفية من قيم انسانية نبيلة تتجلى على النحو الآتي:
– سأصير يوما فكرة
– سأصير يوما طائرا
– سأصير يوما شاعرا
– سأصير يوما كرمة (16).
من الواضع أن الذات تتحرر في هذه الصيرورة الجديدة من ذاتها التاريخية، ومن الأبعاد المادية التي تحد آفاقها، لتتحول الى مجموعة من الآفاق الحرة، المتحررة من المحمي، فالذات ستتحول الى فكرة تنتشر كما يهطل المطر:
سأصير يوما فكرة، لا سيف يحملها
الى الأرض اليباب، ولا كتاب
كأنها مطر على جبل تصدع من
تفتح عشبة
لا القوة انتصرت
ولا العدل الشريد (17)
وستتحول الى طائر يشبه طائر الفينيق، يبعث حيا من رماده بعد أن يحترق جناحاه، ومتتحول الى شاعر جديد متحرر من مكانه، يشكل الماء لحظة البداية والنهاية عنده ومتتحول الى كرمة تفارق وجودها المادي وتتحرر منه بتحولها الى نبيذ يشربه الناس. ان هذه التحولات تنطوي في أعماقها على صورة حية نابضة للقلاقة بين الموت والبعث، تشكل القاسم المشترك بين عناصرها، وتسوغ في مجموعها نغمة تعلي من مشأن الإرادة الواعية بوصفها نقيضا للإذعان السلبي.
أما بعد أن تقول الممرضة، فتتولد مجموعة من الرؤى تتحقق في عالم الحلم. وهي رؤى تنتقل بين الأماكن المفلقة والمفتوحة على صعيد المكان وتجمع بين الشخصي والجمعي والمشري والفلسفي، ولكنها تكثف عن هواجس عالم يتشكل في اللاوعي بعيدا عن الأنساق الجاهزة، لهذا يختلف هذا العالم عن عالم الصيرورة اختلافا نوعيا، فهو مفتوح على امكان فشله ومجسد لأزمة مترابطة الأطراف تجمع الأبعاد المشار اليها، نمير أن الجدارية تضع تلك الأزمة موضع المساءلة من خلال وعي ساخر يرفض العادي، ويبني نهايات تلك الرؤى على مفارقة مراوغة ساخرة تكس نموذجية العلاقات، باستثناء الرؤية الأخيرة.
رأيت بلادا تعانقني
بأيد صباحية: كن
جديرا برائحة الخبز..كن
لائقا بزهور الرصيف
فمازال تنور أمك مشتعلا
والتحية ساخنة كالرغيف (18)
فهذه الرؤيا هي الرؤيا الوحيدة التي تقوم على اتساق عناصر الصوت واللمس والرائحة والرؤية وتمزج بين الأم والوطن وتوفق بين الورد والقمح (وهو هاجس قديم في شعر درويش: انا نحب الورد لكنا نحب القمر أكثر) وتمنح الذات عبر هذا العناق الأمومي الحار، دفقة حياة تجعلها قوية ومشتعلة وتبعد شبح الموت عن مصاحبها، كما تتجلى في الرؤى السابقة:
– رأيت طبيبي الفرنسي
– رأيت أبي عائدا..
– رأيت شبابا مقاربة..
– رأيت ريني شار..
– رأيت رفاقي الثلاثة
– رأيت المعري.. (19)
-3-
يتولد الفضاء الثالث في الجدارية من حركة لونية ترسم أرضية الجدارية، وتجيء خضراء نابضة بالحياة معبرة عن لحظة خصب قوية، وتثكل من خلال تكرارها تحولات النص الكبرى وتموجاته النابضة بحياة متجددة في خضم مواجهتها للموت:
تتكرر الاشارة الى هذا اللون خس مرات وألك على النحو الآتي:
1- فلنذهب الى أعلي الجداريات:
أرض قصيدتي خضراء عالية (ص 17)
2- خضراء قصيدتي خضراء عالية (ص 21)
3- خضراء أرض قصيدتي خضراء (ص 33)
4- خضراء أرض قصيدتي خضراء (ص 44)
5- خضراء أرض قصيدتي خضراء عالية (ص 68)
يمثل المقطع السابق نقطة انطلاق في تشكيل دورة الحياة في الجدارية، وعنصرا أماميا في بناء دلالاتها الكبرى، ويجيء تكراره مولدا لخمس حركات أساسية في النص. وهي حركات ترسم في مجملها منظور تلك اللحظة التي انتهت بانتصار الحياة على الموت، من غير أن تكون تلك اللحظة مزهوة بذلك الانتصار المؤقت، أو مملوءة بالخوف من مجيء اللحظة النقيض. وهو مقطع يمثل في سيب النص لحظة ضبط الايقاع وتغير اللحن. ومن الواضح أن التركيز على اللون الأخضر (المشار اليه تسع مرات) سيكون إشارة دالة على اللحظة التي فارقت فيها الذات عالم البياض، بكل ما يرمز اليه الى عالم الخضرة التي متعلل خالدة نمير قابلة للموت، وهو لون ذو دلالة على الحياة في شعر درويش قديما كما في قصيدته "نشيد الى الأخضر":
وجدد أيها الأخضر صوتي
إن في حنجرتي خارطة
الحلم وأسماء المسيح الحي
جدد أيها الأخضر موتي
إن في جثتي الأخرى فصولا وبلادا (20).
كما أن الاشارة الى العلو (الذي سيتكرر أربع مرات) والالحاح على نسبة القصيدة الى الشاعر (الذي سيتكرر خس مرات) تأتي في عياق يلو على تميز القصيدة وفر ادتها، اضافة الى حضور الوعي الفني الذي يسعى لتحرير الشاعر من أسر تلك اللحظة الحرجة ويبني قصديته من أجل تحرير ذاته.
يثير هذا التكرار الذي يقع في بنية تفعيلة الكامل الى أبعاد دلالية تتمثل فيما يلي:
1- الحركة الأولى: اشكالية علاقة الحب بين المرأة او الشاعر: لقد شكلت هذه الامثكالية هاجسا مهما في شعر درويش، وهي اشكالية تقوم على عدم الانسجام بين الشاعر والانسان فيه، وهما يواجهان لحظة الحب، ففي حين يبدو الشاعر منشغلا بآفاق تلك اللحظة من منظور جمالي خالص، يعاني الانسان من ذلك الانشغال الذي يؤدي الى القفز عن العلاقة أو محوها. ولعل قصيدة "آن للشاعر أن يقتل نفسه" تجسد مسألة التعارض هذه على نحو وافسر فهو يقول عن الشاعر:
من ثلاثين سنة
يكتب الشعر ولا يحيا ولا يعشق إلا صورة
يدخل السجن فلا يبصر إلا قمره
يدخل الحب فلا يقطف إلا ثمرة
قلت: ما المرأة فينا: قال لي: تفاحة للمغفرة
أين انسانيتي؟ صحت
فسد الباب كي يبصرني خارجه، يصرخ بي:
من فكرة في صورة في سلم الايقاع تأتي المرأة المنتظرة (21).
أما في "الجدارية" فتجسد هذه الاشكالية من خلال حوار صرير بين المرأة والشاعر، وهو حوار يقوم على التكافؤ والندية، ويكثف في مجمله عن رؤية لا تتشكل المرأة فيها بوصفها موضوعة للغزل، بقدر ما هي شريكة في العلاقة. تمهد الجدارية للحو ار بين المرأة والشاعر بعبارة شعرية تجيء مقدمة كاشفة لنوعية العلاقة، وتشكل مميانمتها التي تمتاز بالعمومية واليقين اشارة الى نوعية العلاقة وتجليا تها: في كل ريح تعبث امرأة بشاعرها(22)
لهذا كان من الطبيعي أن تبدأ العلاقة من لحظة النهاية، وهو ما يتسق مع طبيعة لحظة الحب بين الشاعر والمرأة في خطاب درويش الشعري عموما، فهذا الخطاب الذي يؤس لجمالية ترسم البدايات من منظور لحظة النهاية التي غالبا ما تكون تراجيدية، يخالف رؤية درويش الانسان الذي كان يقول في قصيدة واضحة الدلالة "لا أريد من الحب غير البداية" (23).
لا أريد من الحب غير البداية. طار الحمام
فوق سقف السماء الأخيرة. طار الحمام وطار
سوف يبقى كثير من الخمر، من بعدنا في الجرار
وقليل من الأرض، يكفي لكي نلتقي، ويحل السلام
يرسم الحوار الدائر بين الشاعر والمرأة طبيعة العلاقة، ويو فسر أنها تقع في دائرة النهاية، ويتجلى ذلك من خلال لحظة تبادل تنهي تلك العلاقة وتقوم غالبا على فعلي الأمر خذ وهات (24):
المرأة الشاعر
خذ الجهة التي أهديتني خذي القصيدة
هات أنوثتي خذي (أنا)ك
خذ غدي عني
هات الأمس
أتركنا معا
تكشف لحظة النهاية أو عملية التبادل على الأمس، أن العلاقة بين تلك المرأة والشاعر كانت طويلة وعميقة، مثلما تبين أن المرأة هي القادرة على تحديد لحظة النهاية ومصير العلاقة، في حين يبدو الشاعر أكثر ضعفا تجاه تلك اللحظة، فقد دخلت تلك المرأة الى عالم الشاعر، وحفرت لأناها موقعا في ذاته وابداعه حتي ليتساءل الشاعر:
فأينا منا "أنا" لأكون آخرها (25)
وهو تساؤل يكاد يلفي كينونته، ويجعله ستماهيا مع تلك المرأة وجزءا غير قابل للانفصال عنها، غير أن أجواء أخرى تمني العلاقة بين تلك المرأة والشاعر، آفاقا تجعل استمرارية العلاقة سذلة ممكنة، فهما ينتميان الى زمن واحد على صعيد الميلاد، مثلما ينتميان الى مكان متشابه، وهذا التشابه في الزمان والمكان كان يخلق ايقاعا متشابها، رغم أن العصر الجديد يصنع ايقاعا يفضي الى القطيعة.
وتنشر الذكرى خواطرها: ولدنا
في زمان السيف والمزمار بين
التين والصبار. كان الموت أبطأ
كان أوضح. كان هدنة عابرين
على مصب النهر. أما الآن
فالزر الالكتروني يعمل وحده. لا
قاتل يصفي الى قتلي ولا يتلو
وصيته شهيد (26).
ولكي تكتمل الآفاق الجمالية للقلاقة، يدخلها درويش في آفاق الأ مطورة، فهذه المرأة الحريصة على أنوثة بدأت تتلاشى، الهاربة من غدها الباحثة عن ماضيها، متصبر رمزا خالدا للخصب عندما تدخل فضاء تلك اللحظة الجمالية بكل ما تنطوي عليه من مطلق وخيال نمير قابلين للتلاشي:
وسمعت صوت الماء في الفخار يبكيهن
عدن الى السحابة، يرجع الزمن الرغيد (27)
غير أن جملة ادقال الصدى، التي تتكرر مرتين، تجسد صوتا يأتي من الخارج، بمعنى أنه لا ينبثق من داخل علاقة الب، وما تنطوي عليه من أسر، ليبين بسخرية آن الزمن الرغيد لا يتجلى إلا في فضاء الحكاية، أما في عالم الواقع فالسيطرة لمنطق القوة وثقا فتها، التي تصنع جمالياتها. وقيمها، في حين يصنع الضعف لنفسه منطقه الذي يسرغ به ضعفه ويدافع عن تراجعاته.
2- الحركة الثانية: اشكالية العلاقة عير الشاعروثصه ء اذا كانت اللحظة الأولى تقوم على تجسيد لحظة من لحظات انشطار الذات في علاقة الحب، فإن الحركة الثانية تنوم على تجسيد هذا الانشطار على سترى الكتابة الابداعية.
يجسد درويش هذه الاشكالية من خلال ثمعور حاد باغتراب الذات يتجسد في الجدارية على النحو الآتي:
غريب أنت في مهناك. يكفي أن تكون هناك وحدك كي تصير
قبيلة (28)
وفي مقطع آخر يقول:
وأنا الغريب بكل ما أوتيت من
لغتي (29)
أما في المقطع الثالث فيقول:
وكلما فتشت عن نفسي وجدت
الآخرين، وكلما فتشت عنهم لم
أجد فيهم سوى نفسي الغريبة
هل أنا الفرد الحشود (30)
ثم يقول في المقطع الرابع:
وأنا الغريب. تعبت من "درب الحليب"
الى الحبيب. تعبت من صفتي
يضيق الشكل. يتسع الكلام. أفيض
عن حاجات مفردتي (31)
من البين أن تحديد لحظة الاغتراب يبدأ بضمير المخاطب كما هو واضح في المقطع الأول، وهو تحديد يصدر على لعمان القصيدة التي يجيء تحديدها لهذا الاغتراب مرتبطا بالبث في معنى لا يمتطين كل أحد أن يصل اليه، ولكن هذا الاغتراب ينشل في المقاطع التالية الى التعبير عن نفعمه بضمير المتكلم، وتجيء جملة، "وأنا الغريبة" أو "نفسي الغريبة" لتحتضن المسألة من زاوية أكثر شمولا، ولتجسد المسألة في إطارها الأوسع. ولعلنا لو تتبعنا مظاهر هذا الاغتراب لوجدناه يشمل اللغوي والاجتماعي والوجداي، ففي حين يبدو الشاعر عميق الصلة باللغة، حريصا على أن يصدر شره عن وعي عميق بتجلياتها، فإن الاغتراب لا ينفك عنه ولا يفارقه، لأن الذات الفردية لديه مسكونة بالجماعة وهمومها وحياتها، ولأن هذه الذات تستشر الغربة في إطار هذه الجماعة التي لا تكاد تنظر الى خصوصيتها وتفردها، وعلى المستوى الأخر تبدو طريق الحب صعبة تثبه درب الحليب MILKWAY التي تعرف بدرب اللبانة، وهي تجيء هنا تجميدا لعلاقة صعبة، معقدة الدرب، يصعب تحقيقها في كثير من الأحيان، وتقود الى الضيق بالشاعرية وبالشعر معا، لأنهما يشكلان حجر عثرة في بناء حياة حقيقية بسيطة. ويجث درويش أبعاد هذه المسألة من خلال تنمية المقطع الأخير، المشار اليه آنفا، فإذا كان درويش يلمح في نهاية المقطع الى عبارة النفري الشهيرة "إذا اتسعت الرؤية ضاقت العبارة"، فإنه يعود الى الاشكالية نفسها من باب آخر. يتمثل في مقدار علاقته بالنص الشعري الذي يبدعه. وهو يبدأ في هذه الاشكالية من لحظة الشك التي تنتهي الى ضرب من اليقين الفني، من غير أن يقود هذا اليقين الى وثوقية عمياء.
وانظر نحو نفسي في المرايا:
هل أنا هو؟
هل أؤدي جيدا دوري من الفصل
الأخير؟ (31)
ثم يتابع:
وجلست خلف الباب أنظر:
هل أنا هو؟
هذه لغتي. وهذا الصوت وخز دمي
ولكن المؤلف آخر (33)
غير ان لحظة الانشطار هذه ما تلبث أن تتلاشى، فإذا كانت هذه اللحظة تظل تميز طبيعة الحب، وما تنطوي عليه من فصام فإنها تتلاشى في لحظة الابداع، ويغدو الانشطار توحدا قادرا على أن يجمع آفاق اللحظة وسطياتها كلها عبر ايقاع التوحد:
أنا من تقول له الحروف الغامضات:
أكتب تكن !
وأقرأ تجد
وإذا أردت القول فافعل، يتحد
ضداك في المعنى
وباطنك الشفيف هو القصيد (34)
فالكتابة تحقيق للكينونة، ونهاية لاغتراب الذات المبدعة. وقد بدأ درويش يل على أهمية فعل الكتابة في قصائده الأخيرة، ويبين دورها في تحرير الذات المبدعة من أغلا لها الكنيرة.
وقد كان درويش يثير في أحدى قصائده "لماذا تركت الحصان وحيدا" الى أهمية الكتابة ويتبين تك الأهمية في اطار التحول من الشفاهية الى الكتابة، وهو تحول حضاري على صعيد التاريخ العربي، مثلما أنه وطني على صعيد منح المكان هويته العربية وتميزه وصوته:
وفي الصحراء قال الغيب لي:
أكتب !
فقلت: على السراب كتابة أخرى
فقال: أكتب ليخضر السراب
فقلت: ينقصني الغياب
وقلت: لم أتعلم الكلمات بعد
فقال لي: أكتب لتعرفها
وتعرف أين كنت، وأين أنت
وكيف جئت، ومن تكون غدا
ضع اسمك في يدي واكتب
لتعرف من أنا، واذهب غماما
فكتبت: من يكتب حكايته يرث
أرض الكلام ويملك المعنى تماما (35).
أما في الجدارية فإن الكتابة متصلة بسالة الحفاظ على الكينونة، التي تعطي للذات وزنها وأهميتها وقدرتها على البتاه ومن المهم أن يتبين أن ذلك يتم في اطار لحظة المواجهة مع الموت. التي تعيد اكتشاف أكثر الاشكالات أهمية في حياة صاحبها، وتعيد تأملها وبناءها. مثلما لا تغفل عن العابر والهامشي الذي يكشف هو الآخر، عن قدرة الجدارية على صياغة الأمثلة الكبرى التي تواجهها ذات المبدع، ضمن بنائها الفني المتصاعد.
3- الحركة الثالثة: اشكالية العلاقتة بين الشاعر وحياته: في بداية هذه الحركة سعت الجدارية وهي تقترب من أكثر الاشارات خطورة. الى إرجاء مسألة الموت، ليكون هذا الإرجاء تعبيرا عن رغبتها في منح الذات وهجا في مواجهة الحياة وتأمل أعماقها.
ولكن الجدارية وهي تتناول هذه الامثكالية، تتحرك في ضوء منظورها العام، الذي يذب الأبعاد الفردية للمثكلة في إطارها الحضاري لذا تتحرك الجدارية في هذا الإطار الحضاري الذي يجعل الصور المثمحونة بالواقع تستدعي ممورا أخرى من أعماق اللاوعي الجمعي. عبر الحديث عن العمر الحضاري للشاعر، هذا العمر الذي يمني المبدع عفة الخلود عبر الانتماء الى تاريخ ذي هوية معروفة.
تقيم الجدارية على هذا الصعيد تقابلا بين الفراشة والصقر واذا كان درويش قد استخدم هذين الرمزين في اطار غنائي خالص في ديوانه "ورد أقل" الصادر عام 1986 في قصيدتين بعنوان: "بقاياك للصقر" (36) و "نؤرخ أيامنا بالفراش" (37) فإنه يعود الى توظيف الرمزين معا من منظور شعري جديد، يقوم على الاشارة الخاطفة، التي تكشف عن دورات حضارية متعاقبة، وهي اشارة ترسم احتمالات المعنى، وتختصر آفاقه المتحولة، اضافة الى أنا لا تشكل تناقصا، مع نصوص أخرى، بقدر ما تعيد الافادة من رموزا لخطاب الشعري نفسه في اطار يتسم بالتكثيف، والبعد عن التبسيط.
ولما كان التقابل بين هذين الرمزين يفضي الى قراءة لحظات الضعف والقوة في تاريغ الحضارة وعمرها، فقد كان من الطبيعي أن تفصح القصيدة عن جدل هاتين اللحظتين، الذي يحرك وجدان المتلقي، ويجعل آفاقه قادرة على تتبع أبعادهما.
لا شعب أصغر من قصيدته. ولكن السلاح
يوسع الكلمات للموتى وللاحياء فيها، والحروف تلمع
الصيف المعلق في حزام الفجر، والصحراء تنقص
بالأغاني أو تزيد (38)
ان الحدث عن هذه الاشكالية لا يصدر عن رؤية رومانسية للعلاقة بين الضعف الجميل والقوة الغاشمة، ولعل الجملة الأخيرة في المقطع الشعري السابق يبين طبيعة الرؤية السيطرة على مخيلة الجدارية عموما، وهي أن الفن وحده هو الذي يمنح المكان ألقه وخلوده وحياته، وهو الذي يؤدي عند غيابه والخسارة – الى موت الأشياء وضمورها. تنتقل الجدارية بعد ذلك الى مستوى آخر يتمثل في الاشكالية التي تتناول العلاقة بين الشاعر وعمره الفردي.
تتبلور هذه العلاقة من خلال مجموعة من الآليات الشعرية التي تحفل بها الجدارية، وتجيء في مجموعها لتجسد التناسق بين ايقاعات عديدة داخلها. تتبلور هذها لعلاقة من خلال الجملة الشرية الآتية: لا عمر يكفي كي أثما نهايتي لبدايتي (39).
وهي عبارة تجسد عجز العمر عن استيعاب مشروع المبدع، لذا كان طبيعيا أن يعقبها مجموعة من المشاهد التي تجسد هذا العجز، غير أن تك المشاهد تبتعد عن طرح الاشكالية بل تعمد لرسمها ضمن بناء فني متكرر في الجدارية، فثمة جمل شعرية مضيئة، تجيء بمثابة نقاط ارتكاز، تليها مشاهد تعيد رسم الاشكالية على نحو أكثرغموضا، حيث تتراجع الدلالات لتحل محلها مشاهد مثقلة بلغة مجازية ورؤى متشابكة. فعلى سبيل المثال تركز الجدارية وهي تصف الاشكالية المشار اليها على دور الرعوية في استلاب العمر:
أخذ الرعاة حكايتي وتوغلوا في العشب فوق مفاتن
الأنقاض.. وأورثوني سجة الذكرى على حجر الوداع
ولم يعودوا
وفي قوله:
رعوية أيامنا رعوية بين القبيلة والمدينة، لم أجد ليلا
خصوصيا لهودجك المكلل بالسراب ( 40)
وهذا المثال يوضح ما أشرنا اليه من غموض الدلالة وتحفيها، فهو يتكئ في الاشارة الى هذه الاشكالية المعقدة بين الشاعر وعمره، على اشكالية الرعوية والشعر الرعوي Pastoral Poetry يخص العلاقة بين الشعر والعالم، وعن قدرة هذا اللون من الشعر على كشف العلاقات المتغيرة بين ما هو مختلف. واذا كانت العلاقة بين الشاعر والحب ملتبسة، وتقود الى انفصام بين الشاعر والانسان. فإن الرعوية تجيء هنا لتؤكد مرة أخرى الانفصام بين الحياة وصاحبها، فالرعوية (41) تجعل العالم "شعريا" عن طريق تحريرها يرتبط به أصلا، أي أنها تحرره من تلك الروتينية اليومية للحياة الريفية، وبذا ينفصل الدال (عالم الرعاة) عما يدل عليه تقليديا (العالم الريفي) لكي يؤكد قدرة الشعر التخيلية، وانفصال الحياة بالتالي عن مصاحبها.
ويجيء هذا الانفصال بين الشاعر والحياة من خلال حوار تديره امرأة، تدعو الشاعر الى الانغماس الحقيقي بالحياة، والامساك بأعماقها والوصول الى مكامن الجمال فيها، وعندما تسأله ان كان قد قال لها شيئا يغير من طبيعة حياتها يجيب:
– لم أقل. كانت حياتي خارجي، (42).
لهذا تتكرر جملة: آنا من يحدث نفعمه.. أربع مرات (43)، ويجيء تكرارها بمثابة ايضاح للخط الفاصل بين عالمين، ولكن هذا الانفصال، يتلاشى. ويقوم الشاعر بدمجهما معا، من غير أن يتم الحديث كما في الشعر الرعوي عن عالم تاريخي وآخر مثالي، بل من خلال تفاعل حي يوحد بين المتناقضات في إطار الشعر:
أنت حقيقتي وأنا سؤالك
لم نرث شيئا سوى اسمينا وأنت حديقتي وأنا ظلالك
عند مفترق النشيد الملحمي. (44).
الحركة الرابعة: بناء الجدارية
لا تقتصر هذه الحركة على مقطع شعري واحد يبدأ باللازمة الشمار اليها: خضراء أرض قصيدتي خضراء، بل تشل الحركتين الأخيرتين (ص 41، ص 68) لأنهما تشكلان معا أكثر اللحظات استعدادا لاستيعاب أمثلة الجدارية الوجودية والانطولوجية، وتشييد نص في رحابها، لا يقتصر على مجاز واحد أو سؤال متكرر، في مواجهة اللحظة الحاسة مع الموت، بقدر ما ميسي لبناء ميثولوجيا خاصة به، تجعل من الجدارية نصا بعيد الغور، متعدد الايحاءات.
يتحدث درويش عن قصديته في نمير موضع من الجدارية، ويجيء حديثه عنها، من خلال اشارات متفرقة، ولكن هذين المقطعين يتجاوزان الاشارات السريعة الى رسم المكونات المتشابكة للنص، وما يعتمل داخل نسيجه من صراعات وأحلام وآفاق.
في بداية الحركة الأولى (وهي الحركة الرابعة على سبيل الترتيب المشار اليه) يتحدث درويش عن العلاقة بينه وبين قصيدته، التي تجسد الكتابة عن زمن مضى لتغدو سلاحا للتعبير عن زمن يستعصي على الموت:
يحملها الغنائيون من زمن الى زمن كما هي في خصوبتها، (45).
تتجلى هذه العلاقة بين الشاعر وقصديته من خلال شبه جملة "لي منها" تتكرر سبع مرات، وهي شبه جملة تسعي الى رسم التوازن بين الشاعر وقصيدته التي يمتلكها أثناء الكتابة، وبين هذه القصيدة عندما تتحول الى نص آخر محكوم بآفاق أخرى، وهذه العلاقة تعبر في مجموع حالاتها عن ديمومة تك التحولات، وتجعلها بمثابة وعي النص لاشكالية العالم الابداعي:
ولى منها: تأمل نرجس في ماء صورته
ولى منها وضوح الظل في المترادفات
ودقة المعنى
ولي منها: التشابه في كلام الأنبياء
على سطوح الليل
لي منها حمار الحكمة المنسي فوق التل
يسخرمن خرافتها وواقعها
ولى منها: احتقان الرمز بالأضداد
لا التجسيد يرجعها من الذكرى
ولا التجريد يرفعها الى الاشراقة الكبرى
ولى منها: "أنا" الأخرى…
ولى منها: صدى لغتي على الجدران
لكشط ملحها البحري
حين يخونني قلب لدود (46).
إن هذه العلاقة تبين أن القصيدة في تصور درويش، تنبثق من خلال عناصر متباينة، وهي قادرة على أن تستوعب تلك العناصر التي تشكل بنيتها الثقافية القادرة على الجمع بين التجسيد والتجريد، وبين الذات والموضوع وبين النقائض المختلفة، عبر اتساق وتناغم يوحد تلك العناصر المتنافرة، ويجعل من القصيدة كيانا قائما، قد تكون مكوناته ورموزه وعناصره محدودة ولكنها تنفتح على آفاق لانهائية. في بداية الحركة الثانية (الخاصة في الترتيب المشار اليه) يفتتح درويش حديثا على النحو الآتي:
خضراء أرض قصيدتي خضراء، عالية
على مهل أدونها، على مهل، على
وزن النوارس في كتاب الماء.
أكتبها وأورثها لمن يتساءلون: لمن تغني
حين تنتشر الملوحة في الندى
خضراء أكتبها على نثر السنابل
في كتاب الحقل، قوسها امتلاء شاحب
فيها، وفي كلما صادقت أو
آخيت سنبلة تعلمت البقاء من
الفناء وضده "أنا حبة القمح
التي ماتت لكي تخضر ثانية، وفي
موتي حياة ما…(47)
يحدد درويش وهو يبني قصديته طريقة كتابتها، ويجيء تكرار "على مهل" اشارة الى نوعية زمن الكتابة الذي تتشكل فيه بنية القصيدة الايقاعية، وما تنطوي عليه تلك البنية من دلالات. ليتشكل من المزج بين هاتين البنيتين بنية متلاحمة، وتجىء جملة "وزن النوارس في كتاب الماء" تجسيدا لفعالية جمالية قائمة بذاتها، وليست محاكاة لايقاع خارجي، فاذا انضاف اليها جملة "خضراء أكتبها على نثر السنابل في كتاب الحقل" صارت القصيدة قادرة على أن تجمع بين إيقاعي البحر ونوارسه والحقل وسنابله (وهي رموز يربط بينها جميعا البعث والحياة المتجددة). ولعله ليس من قبيل الاستطراد أن يقال ان جملة:
"وكلما صادقت أو آخيت سنبلة تعلمت البقاء
من الفناء وضد"
تكاد تكون النقيض تماما لعبارة شعرية أخرى جاءت في قصيدة "أحمد الزعتر"
كلما آخيت عاصمة رمتني بالحقيبة
فالتجأت الى رصيف الحلم والأشعار (48)
وهذا التناقض قائم على الفارق بين مؤاخاة السنبلة ومؤاخاة العاصمة، وهو في كل الأحوال يبين طبيعة النص الشعري الدرويشي الذي يتكيء على لغة الرؤيا المركبة التي تؤسس دلالاتها ورموزها بعيدا عن الدلالات المعجمية والبلاغية المستقرة، وتستمد حركتها من ثراء لغتها التصويرية. غير أن ذلك الجمع بين ايقاعي الماء والحقل لا يوصل بطبيعة الحال الى موقف مثالي، يتمثل في الكتابة من بعد أحادي، بل ان هذا الجمع يشير الى رؤية مركبة تكشف عن تصدع العالم وغياب المنطق فيه (فالملوحة تنتشر في الندى)، ولكن هذه الرؤية لا تؤس في ذات الوقت، لصيغة نهائية ثابتة لتجسيد رؤيتها للعالم، فالقصيدة هي حركة التشكل الدائم، وهي فعل التحول والحياة أمام تجليات الوجود فهي حبة القمح التي تموت من أجل أن تولد من جديد. لهذا تحدد الجدارية علاقتها بتراث الماضي الشعري على نحو لا يقوم على رفض أو احتقار له، فهو قد يؤسس الشاعر أو يتعبه، ولكن هذه المؤانسة وهذا التعب الذي يؤكد لحظة الاتصال، ويرفض القطيعة الشعورية والمعرفية مع الماضي، لا يكفيان لتأسيس مشروع شعري حديث قادر على تجسيد ايقاع العصر المملوء بالتناقضات والتوتر والغموض. ويمكن لنا أن نتوقف عند المقطعين التاليين:
ويؤنسني تذكر ما نسيت من
البلاغة: "لم الد ولدا ليحمل موت
والده"
وآثرت الزواج الحر بين المفردات (49)
ثم في المقطع الثاني:
لم تكن لغتي تودع نثرها الرعوي
الا في الرحيل الى الشمال. كلابنا
هدأت. وماعزنا توشح بالضباب
على التلال. وشج سهم طائش وجه
اليقين، تعبت من لغتي تقول ولا
تقول علي ظهور الخيل ماذا يصنع
الماضي بأيام امرىء القيس الموزع
بين قافية وقيصر..(50)
من الواضح أن المقطعين يشيران الى المعري (من خلال الحديث عن بيته الشهير دون ذكر اسمه) وامري، القيس. والمقطعان لا يفعلان ذلك الا لتشكيل مناخ شبه أسطوري ستنتهي اليه القصيدة مباشرة بعد المقطع الشاي، لتبدأ العلاقة من محدودية التجربة ولتنتهي بأفق شعري حديث يقوم على رحابة الخيال وعمق التجربة.
واذا كانت الاشارة للمعري مرتبطة بموقفه الشهير الذي يرفض فيه الزواج:
هذا جناه أعبي علي: – وما جنيت على أحد
لتقوم بدلا منها علاقة زواج فنية قائمة على علاقة حرة مع اللفة، تحرر المفردات من سياقاتها البلاغية والمعجمية الثابتة، وتؤس دلالات متحركة في سياق قصيدة نامية تجسد رغبة الذات في التحرر من غربتها والسعي لبناء عالم أكثر جمالا وعدلا، فإن الاشارة الى امريء القيس قديمة في خطاب درويش الشعري. ولاشك آن اشارة الجدارية له تجيء تأسيسا على ذلك الخطاب الشعري الذي بدأ امرؤ القيس يتشكل فيه بوصفه رمزا ذا بعدين مختلفين:
أما البعد الأول فيتجلى في شخصية امري، القيس وفي ذهابه الى القيصر، ليكون هذا الذهاب دلالة على انكسار الواقع التاريخي العربي، ودخوله في ظلال الآخر، وأما البعد الثاني فيتمثل في أستاذية امريء القيس الشعرية، وقد عبرت الجدارية عن ذلك بقدر واضح من التكثيف عندما جعلت امرأ القيس يتوزع بين قافية وقيصر. ولكن القصيدة تخرج بعد ذلك الى حقل جمالي آخر عندما تذكر عندة أو انانا رمز الحب والخصب واللذة. ومن الضروري أن ننبه الى أن القصيدة الدرويشية عموما قد أخذت بالاحتفاء بانانا، وهو احتفاء لا يأخذ طابعا تفسيريا، بقدر ما يؤشر على بنية قصيدة تتمثل هذه الأسطورة ولا تتكيء على علاقاتها الخارجية على نحو استعراضي، يهتم بتفصيلاتها دون القدرة على اقتناص جوهرها
كلما يممت وجهي شطر آلهتى،
هنالك في بلاد الأرجوان
أضاءني قمر تطوقه، عناة، عناة سيدة
الكناية في الحكاية. لم تكن تبكي على
أحد. ولكن من مفاتنها بكت:
هل كل هذا السحر لي وحدي
أما من شاعر عندي
يقاسمني فراغ التفت في مجدي؟
ويقطف من سياج أنوثتي
ما فاض من وردي؟
أما من شاعر يغوي
حليب الليل في نهدي
أنا الأولى
أنا الأخرى
وحدي زاد عن حدي
وبعدي تركض الغزلان في الكلمات
لا قبلي ولا بعدي (51)
لهذا تأتي عناة في الجدارية تشكيلا أسطوريا لحياة تسعي اليها الجدارية ولا تقطيع بلوغها، اضافة الي كونها على المستوى الفني. نقطة تحول وعنصر اخصاب جمالي، يشكل مناخا. شعريا يحفل بالعناصر التاريخية والشعرية والغنائية والدرامية، ويعبر في مجموعة عن ثنائية الحياة والموت، فالمعري وامرؤ القيس وعندة (بهذا الترتيب الذي لا يقيم وزنا للبعد التاريخي) مأزومون، وهم في أزهتهم، يضيئون أزمة الشاعر، ويكشفون أبعادها، وما تنطوي عليه من مرارة وجودية، ومحاولة الخروج منها ببناء نص يتسع لعناصر تشكيلية متعددة تتحرك فيه الدلالات في خضم الغموض والتوتر وانشطار الذات.
-4-
إذا كانت الجدارية وما فيها من حركات وشخصيات ورموز، تمثل بناء فنيا متناسبا يقوم على التركيب والتكثيف من غير ان يؤثر ذلك في بناء الصورة الكلية ويحيلها الى ركام مضطرب ينتهي بالابهام، فلأن الجدارية تتشكل في آفاق لحظة عصيبة تكثف الجدارية عنها في أثناء حديث الممرضة:
تقول ممرضتي: كنت تهذي
كثيرا وتصرخ: يا قلب !
يا قلب ! خذني
الى دورة الماء… (52)
يثير النص بوضوح الى اللحظة التي أجريت للشاعرفيها عملية القلب المعقدة في احد مستشفيات باريس، مع العلم بأن ما سيتشكل انطلاقا من هذا المقطع وغيره من المقاطع، هو ذلك الترميز الذي يتخطى آفاق تلك اللحظة العصيبة.
لقد انتجت تجربة درويش الأولى مع قلبه المتعب في منتصف الثمانينات نصوصا غنائية يضمها ديوانه "هي أغنية. هي أغنية" الصادر عام 1986 ويمكن أن نشير هنا الى قصيدتيه "حجرة العناية الفائقة" و "انا العاشق السيئ الحظ" (53)، أما في الجدارية فيتجاوز درويش تلك التجربة ويفارق ايقاع تلك القصائد القصيرة الخاطفة، ليبني قصيدة ذات نزعة تصويرية، تمتزج فيها اللغة الشعرية المتألقة، بشعرية السرد في مقاربته للواقع وشعرية التشكيل الفني ونزوعه للهروب من الانفعال الطاغي وبناء مشاهد محكمة ذات تقنية تفيد من الرسم والموسيقى وفن العمارة.
ومن خلال المقارنة بين "حجرة العناية الفائقة" والحجرة التي تتشكل فيها الجدارية يمكن تبيان الفرق بين تصوير تلك اللحظة العصيبة الذي يقوم في ذلك النص على جدل غنائي مشتعل بين الذات والذاكرة والحبيبة والألم الممض وتراجع الحياة وقدوم الموت المفاجيء، وبين الجدارية التي تحاول أن تصوربقدرمن الحياد، المشاهد، دون أن تفقد تماما تعبيريتها. يقول درويش في "حجرة العناية الفائقة".
شعرت بمليون ناي. يمزق صدري
تصببت ثلجا وشاهدت قبري على راحتي. تبعثرت فوق السرير
تقيأت. وغبت قليلا عن الوعي. مت وصحت قبيل الوفاة القصيرة
: إني أحبك (54).
أما في الجدارية فثمة ذات الث عر المثخنة بالألم، ولكن النص يشير الى محاولة بناء ذات أخرى لها كينونة مختلفة، قادرة على أن تتسربل بأوجه متعددة، وتتجول في أزمنة وأمكنة مختلفة لتقيم حوارا مع الموت لا يميت الشعر، في نهاية الأمر، بل يحييه ويبعث الروح فيه.
من أنت، يا أنا؟ في الطريق
اثنان نحن، وفي القيامة واحد
خذني الى ضوء التلاشي كي أرى
صيرورتي في صورتي الأخرى فمن
سأكون بعدك، يا أنا، جسدي
ورائي أم أمامك؟ من أنا يا
أنت؟ (55)
يمكن النفاذ الى رؤية الجدارية من خلال اشتباكها مع الموت الذي يتشكل في النص عبر امتزاج لحظتين:
في الأولى تشتبك الجدارية مع فكرة الموت، وتقيم في أثناء هذا الاشتباك عالما يتكيء على ميثولوجيا بلاد ما بين النهرين، ووادي النيل وبلاد الشام وما تحفل به هذه الميثولوجيا من فانتازيا، اضافة الى اشارات ستمدة من نصوص دينية، تأتي في اطار الصراع مع فكرة الموت، حيث تشكل الحياة ورموز الخصب، بالمفهوم الحضاري الشامل للكلمة. نقيضا لتلك الفكرة ومقابلا لها. وهذا الاشتباك يصنع مجموعة من الصور، ترسم في مجموعها الصورة الكلية لهذا الاشتباك، وتستخدم المشاهد أساليب دراسية، كالحوار الخارجي، والحوار الداخلي والسرد والتكرار، الذي يطور المواقف الفكرية والنقية، ويصورها من زوايا مختلفة.
ولعل الالتفات الى معجم الجدارية يوضح طبيعة الاشتباك مع فكرة الموت، ويساعد بعض الشيء في تحليل مستوياتها اللغوية. فالحقول الدلالية التي تنتظم معجم الجدارية تنقسم الى ما يلي:
1- كلمات تتصل بالتصورات الدينية وهي:
السماء، ملاك.، الشهيد، الصلوات، النبي، الحج، الشيطان، السماوي، الرسالة، الرسول، كلام الله، خبز الكفاف، التقمص، الحلول، الخلود، تعاليم المسير، أيوب العهد القديم، قانة الجليل، المؤذن، المؤبن، الطوفان، السفينة، التين والزيتون، سررة الرحمن في القرآن، الروح، سبع سنابل.
2- كلمات تتصل بالأسطورة (وتشكيل الجدارية في القديم). الجرة المكسورة، الفخار، مسلات المدى، الرعاة، الهودج، الأساطير القديمة، السحر، الآلهات، قرون الوعل، تاج الأرز عناة، البئر، المعبد المهجور، مسلة المصري، مقبرة الفراعنة، النقوش، حجارة المعبد، الجيش الآشوري، الأسطورة، جلجامش، انكيدو، الثور الهائج، الوحش، البوق المقدس، الرسوم، جدار الكهف، أوزريس.
3- كلمات تتصل بالفلسفة:
المطلق، الزمان، العدم، الوجود، اللازمان، فكرة، القوة، العدل، الحقيقة، الغياب، اللانهائي، الجماليات، العناصر، الجمال، الجميل، ذات، الصفات، التجسيد، الاشواقة، الصيرورة، التجريد، التجسيد، الوجوديون، المنزلة بين المنزلتين، الحكمة، الغربة، ريني شار، هيدجر.
4- كلمات تتصل بالأدب:
شاعر، المجاز، القديم، الجديد، الشكل، المرأيا، الفصل، المسرحية، ما بعد الحداثة، المؤلف، سياق النص، الممثل، الشهود، الحروف، الكتابة، القراءة، المعنى، القصيد، الاشارة، العبارة، الواقعي، الخيالي، الضمائر، الشعر، النقاد، الأغاني، الحكاية، السجع، المعلقة، طرفة بن العبد، امرؤ القيس، الغموض، الايقاع، النشيد الملحمي، دقة المعنى، الرمز، الطلل، الرعوية، التشبيه، العواطف.
5- كلمات تتصل بالجسد:
الدم، الوريد، الولادة، جسدي، الشهوة، الاحتضان، الاعتصار، وحدة الجسدين، الغرائز، ملابس الفتيات، الشرايين، فرشاة الأسنان، الصابون، ماكينة الحلاقة، الكولونيا، الثياب، جهاز التنفس، المرض، الطيني، البشري، النهد، دورة الجسدين، ذراعان، الساقان، الركبتان، القلب، الرئة، البكارة، ذراعي اليمني، جسدي المؤقت التناسل.
6- كلمات تتصل بالجغرافيا:
مصب النهر، الساحل السوري، بابل، الصحراء، طريق دمشق بلاد الرافدين، مقبرة الفراعنة، ماء البحيرة، بلاد الأرجوان، أورشليم، الأطلال، عكا، [هيروشيما، أمريكا]. إن تحليل معجم الجدارية الشعري من منظور التفاعل النصي يعيد مجددا مسألة انفتاح الجدارية على مرجعيات متعددة وانساق مختلفة وتقاطعات حضارية وأمكنة حيوية تنتمي الى جغرافيا محددة أو فضاءات مبهمة دالة، ويسعى النص عبر عمليات متعددة الى انتاج دلالات الجدارية التي تمزج الشعري بالفلسفي بالديني، لتشكيل بناء فني قادر على تصوير حضور الذات وغيابها من خلال جدل لا ينتهي.
كما أن قراءة هذا المعجم الذي يطفى فيه التجريد على التجسيد، والفكري على المادي، وعالم الغيب على عالم الشهادة، المتلقي الى مستوى بلاغي جديد تماما، وتتنامى عبر جمل شعرية ذات معمار ايقاعي ساحر قادر على أن يجمع بين الغنائية الهامسة تارة والانشاد المفاجيء ثانية والبوح الحميم تارة ثالثة – إن قراءة هذا المعجم تبين أن الاشتباك مع فكرة الموت، كان يحتمي برموز الحياة ويعيد فضاء اتها الى الواقع، لتكون هذه العودة نقطة التحرر للذات من فكرة الموت:
ولم نزل نحيا كأن الموت يخطئنا
فنحن القادرين على التذكر قادرون
على التحرر، سائرون على خطر
جلجامش الخضراء من زمن الى زمن… (56)
لهذا تستعين الجدارية بقناة وبأنكيدو، في محاولة لكي يسترد الشاعر ذاته من جديد. في اشتباكه مع فكرة الموت، وان كانت هذه الاستعانة تصل الى اليأس:
وحدي أفتش شارد الخطوات عن
أبديتي. لابد لي من حل هذا
اللفن، أنكيدو، سأحمل عنك
عمرك ما استطعت وما استطاعت قوتي
وإرادتي أن تحملاك فمن
أنا وحدي؟ هباء كامل التكوين
من حولي ولكن سأسند ظلك
العاري على شجر النخيل. فأين ظلك؟
أين ظلك بعدما انكسرت جذوعك؟
قمة الانسان
هاوية (57).
وفي وهدة هذا اليأس يبزغ الجسد في لحظة حرجة كي يمتزج بتلك الاشكالية الكبرى. وإن كان غير قادر على أن يستقطب آفاقها جميعا. فالجسد المريض في الغرفة المفلقة يحظى بعناية الطب كي يستعيد عانيته، ويصارع فكرة الموت وشبحه، لا بقوته الذاتية وحده، بل مستعينا بقوى أخرى تقف في وجه هذا الشبح. والجسد المعافى، المملوء بالحياة والذي تسعي الجدارية لاستعادته قادر على إرجاء الاشتباك مع فكرة الموت، عبر انغماسه بلحظات الحياة الجميلة، ولكنه غير قادر على نفي هذا الاشتباك وفضه تماما:
كل شيء زائل. فاحذر
غدا وعش الحياة الآن في امرأة
تحبك. عش لجسمك لا لوهمك (58)
أما في اللحظة الثانية فتشتبك الجدارية مع الموت.. وإذا كان الاشتباك الأول مع فكرة الموت ظل يقود الى تحولات في عالم الأ مطورة، وفي عالم الواقع والميتافيزيقا. مثلما ظل يقود الى ايقاعات شعرية متباينة تجمع بين الرثائي والملحمي والسردي، وتنتهي بالقفز عن فكرة الموت الى ايقاع الحياة، فإن مواجهة الموت كانت تثير الى لحظة تنفلق فيها الدائرة ويكتمل. المشهد، وتصل الجدارية فيها الى ذروة المواجهة الدر امية في اللقاء بين الحياة والموت.
تقوم هذه اللحظة على خطاب مبامثر للحوت، يوازيه حديث للذات أو حديث معها، يتبلور في ضوء الخطاب مع الموت، ليسوغ الخطاب النقيض المجسد لإرادة الحياة. يتكرر الخطاب المبامثر للحوت ثلاث عشرة مرة، ويأخذ صيفا مختلفة لعل من أهمها: "أيها الموت انتظرني" و "يا موت انتظر" و "يا موت"، أما الجملة الموازية فهي جملة "أريد أن أحيا" التي تتكرر خس مرات. تشكل الجملتان المرتكزين الايقاعيين لهذه المواجهة ويتولد من تشابكهما بناء متصاعد يمزج بين الصوتين المتباينين وما فيهما من دلالات متعارضة.
يسعى الخطاب المباشر للحوت الى تجريده مما يصاحبه من تضخيم للحمي المأساوي، ولعل طريقة خطاب الجدارية للحوت تشير الى علاقة ملتبسة معه تسعي الى تحريره من صورته المفزعة، وتعطيه بعدا انسانيا، تختفي معه ملامح الصراع الشرسة التي يعبرعنها شعر الرثاء في كثير من الأحيان. إن فهم الأبعاد التي تضفي على الموت طابعا انسانيا، يقتضي معرفة الأسباب التي تقدمها الجدارية لحمل الموت على الانتظار، وهي أسباب توحي بوجود علاقة الصداقة هذه واختفاء علاقة الرهبة والخوف، وهذه الأسباب تجمع بين الشعري (الرغبة في اكمال قراءة ديوان طرفة بن العبد) والزمني (انتظار فصل الربيع لاكتمال ترتيبات الجنازة) لأن الربيع شهد ميلاد الشاعر، ولأن الشاعر يكون فيه أصفى ذهنا وأقدر على مواجهة تلك اللحظة، والشخصي (لاعداد حقيبته وما تحتويه من فرشاة أسنان، صابون، كولونيا، ماكينة الحلاقة، الثياب المناصبة). وقد أفصحت الجدارية في ختام اللحظات التي دعت فيها الموت للانتظار عن طبيعة هذه العلاقة غير العدائية:
فلتكن العلاقة بيننا
ودية وصريحة: لك أنت
مالك من حياتي حين أملأها
ولي منك التأمل في الكواكب
لم يمت أحد تماما. تلك أرواح
تغير شكلها ومقامها (59)
لهذا تدعو الجدارية الموت الى الوضوح في التعامل مع البشر، والى تغيير أساليبه، لأن الموت لا يفضي بالضرورة الى تدمير حياة الانسان، بل يقوده الى تحول لا يوقف الحياة، ويمنحها بعدا جديدا.
لقد سعت الجدارية وهي تواجه الموت الى الانتقال بلغتها الى بناء يمتح من الأسطورة والتصوف ولكنه ينأي عن لغة التجريد العقلي، ويحاول تجسيد المواجهة في إطار درامي على صعيد الحوار والحدث وكسر نموذجية صورة الموت. نمير أن العلاقة أو المواجهة مع الموت تأخذ طابعا صراعيا عند اقتراب الموت من القصيدة، لأن اقتراب الموت من الفن يؤدي الى اشتباك لا مجال فيه لتحولات أخرى، بل ينبغي أن يقود الى أمرين واضحين: الانتصار أو الانهزام. يجيء دفاع الجدارية عن القصيدة، رمزا لدفاعها عن الفن، لغة وأدوات وتشكيلا، ويهذ تكتمل رؤية الجدارية في هذا الدفاع من خلال لحظة تمزج بين لغة الملاحم التي تشرح في العادة ظواهر كونية خارقة في لحظتي صعودها وانكسارها، وبين لغة الفلسفة ذات الطابع الإشراقي:
الديك وقت لاختبار
قصيدتي. لا ليس هذا الشأن
شأنك. أنت مسؤول عن الطيني
في البشري، لا عن فعله أو قوله-
هزمتك يا موت الفنون جميعها
هزمتك يا موت الاغاني في بلاد
الرافدين مسلة المصري، مقبرة الفراعنة
النقوش على حجارة معبد هزمتك
وانتصرت وأفلت من كمائنك
الخلود
فاصنع بنا، واصنع بنفسك ما تريد (60)
اذا كانت المجابهة مع الموت تعلن وصول الرؤية في الجدارية لمستقر لها، فإنها على مستوى التشكيل لا تنتهي، لأنها تصل الى نهاية منفتحة على آفاق ثرية، غنية بالتحولات، تتوالد فيها مجموعة من العلاقات تتنقل بين الماضي والحاضر والستقبل، وتنتظم أطيافا متباينة من الكلام.
تتضمن لحظات الختام هذه لحظتين أساسيتين واحدة مكانية وأخرى زمانية، على المستوى المكاني تبدأ الذات حركة تتداخل فيها الحواس وتتجاذب معطياتها أبعاد الحلم والواقع، لتنتهي الحركة في شارع متعرج يفضي الى ميناء عكا، أما على المستوى الزمني فتنبثق اللحظة الزمنية من حركة مشابهة تماما لانبثاق الحركة المكانية، وهي لحظة تقوم على التداعي، لتؤلف بين مجموعة من العناصر غير قابلة للتلاشي بفعل حركة الزمن، لتعود هذه اللحظة مجددا الى نقطة البداية في الجدارية التي ابتدأت بالاسم وضرورة المحافظة عليه. ومن الواضح أن المزج بين الحركتين ينطوي على مجابهة من نوع آخر للحوت، فحضور عكا، وحضور تلك العناصر التي لا تتشابه إلا في مستوى حب الشاعر لها وحرصه على امتلاكها، يقود الى مزاوجة ذكية وعميقة بين بقاء الفرد وحضوره، وعلاقته بذاكر ته الجمعية، وان كان هذا الحضور يجيء في اطار نبرة رثائية حزينة.
تقوم اللحظة المكانية في الجدارية على الانتقال من المكان التاريخي الى المكان المتشكل في أعماق الذاكرة القادرة، كما يقول غامقون باشلار، على تكثيف الأزمنة، ليتحول هذا الشارع المتعرج الذي يفضي الى ميناء عكا، الى فضاء للرؤيا، تتعاقب عليه أزمنة يظل هو الثابت الوحيد بين متغيرات تلك الأز مان. تتحرك الذات، وهي تتحرك على المسترى المكان، بين زمنين يقع الأول في الماضي ويقع الشاي في اللحظة الراهنة. ويجيء الشاعر بمثابة السارد الرائي الذي يحكي اللحظة ويشارك في منعها ويتخذ لنفسه مسارا يتجه الى الماضي في رحلة حلمية ترى الراهن بعناصره الواقعية، وتتأمل الماضي وتستعيده وتقيم بينهما حوارا حيويا في اطار حلمي حزين.
يجيء المشهد نموذجا للمخاض الذي يسكن الجدارية، هذا المخاض الذي يتمثل في استعادة الذات التي انقسمت وتشظت أثناء مواجهتها للموت قوتها وكينونتها عبر الدفاع عن القصيدة، والاحتماء بها في الوقت نفسه.
تبدأ اللحظة المكانية باستعادة لحظة زمنية آفلة في إطار نومتا لوجي، يمثل الفارق بين اللحظة نفسها وتحولاتها في ضوء لحظة حنين مكثفة. ويقبع في ثنايا تلك اللحظة الزمنية البعيدة ثبه هارب، يمثل طفولة الشاعر أو مثبابه الأول يسعى الشاعر للاتحاد معه:
أريد أن ألقي تحيات الصباح علي
حيث تركتني ولدا سعيدا [لم أكن
ولدا سعيد الحظ يومئذ
ولكن المسافة مثل حدادين ممتازين
تصنع من حديد تافه قمرا] (61)
تقود هذه الاستعادة، في الوقت نفسه، الى تشكيل جماليات المكان في ضوء ذاكرة بصرية تستعيد ملامحه، ويختفي في حواراتها – ظاهريا – الصراع المباشر مع الموت، ليحل محله صراع آخر، لا يقل ضراوة عن الصراع مع الموت ويتمثل في الصراع على تشكيل هذا المكان، الذي كان عربيا، وانتهى الى ملامح أخرى شكلها طارئون على المكان، محتلون له، سلبوه كثيرا من ملامحه، وسماته الأولى، واذا كان درويش قد انشغل بهذا الشبه وبخاصة في "أرى شبحي قادما من بعيد" في "لماذا تركت الحصان وحيدا؟" (62) وكان يسعى منذ تلك اللحظة الى استعادة لحظة آفلة وتصويرها ليتحرر منها، فإنه يعود الى هذا الشبر في لحظة أخرى مغايرة على صعيد التشكيل. فاذا كانت اللحظة قابلة للامتعادة في الديران المشار اليه، على ميبل التذكر البصري، فإن اللحظة التي تتشكل في إطار حواري هنا تبدو غير قابلة للالتحام مع اللحظة الحاضرة التي تستعيدها.
فبعد أن ترسم الجدارية ملامح المكان وتعيده الى أبعاده العربية على نحو تشكيلي تتضافر فيه مجموعة من العناصر الرامزة الى قسمات المكان العربي:
ههنا كنا وكانت نخلتان تحملان
البحر بعض رسائل الشعراء
لم نكبر كثيرا، يا أنا، فالمنظر
البحري والسور المدافع عن خسارتنا
ورائحة البخور تقول مازلنا هنا
حتى لو انفصل الزمان عن المكان (63)
بعد ذلك تعود الى ذلك الشبر مجددا، الذي تقوم العلاقة معه على جدل الاتصال والانفصال.
– أتعرفني؟
بكى الولد الذي ضيعته:
"لم نفترق. لكننا لن نلتقي أبدا"
وأغلق موجتين صغيرتين على ذراعيه
وحلق عاليا.. ( 64)
واذا كانت جماليات تشكيل المكان تتكيء في المقطوعة قبل السابقة على (النخلة، البحر، سور عكا، رائحة البخور) وهي مزيبى من الرموز العربية والفلسطينية التي تعطي لعكا قسماتها العربية فان الاتصال بها، لا يتشكل في ضوء تلك المعطيات، بل يتنامى في ضوء استعادة الشاعر لأبعاد تجربته فيها، لتجمع هذه اللحظة بين ذاكرة جمعية وآفاق فردية، كانت متجذرة في المكان. يتم ذلك عن طريق حوار تجريه الجدارية بين الشاعر وبين ابن سجانه في عكا، لتسير بذلك الى استمرارية الصراع وعمقه:
قلت للسجان عند الشاطيء الغربي:
– هل أنت ابن سجاني القديم؟
– نعم !
– فأين أبوك؟
قال: أبي توفي من سنين
أصيب بالاحباط من سأم الحراسة
ثم أورثني مهمته ومهنته وأوصاني
بأن أحمي المدينة من نشيدك
قلت: منذ متى تراقبني وتسجن
في نفسك؟
قال: منذ كتبت أولى أغنياتك
قلت: لم تك قد ولدت
فقال: لي زمن ولي أزلية
وأريد أن أحيا على ايقاع أمريكا
وحائط أورشليم (65)
من الواضح ترابط المشهدين، فمن ضفاف المكان، ينبثق مشهد استدعاء مشبر الذات، ومن هذا المشهد، تنبثق لحظة حوارية مع. الآخر الذي يحتل المكان. وليس من قبيل المصادفة أن يتم الحوار مع السجان، وأن تختلف أحلام هذا السجان نوعيا عن أحلام ذلك "الجندي الذي يحلم بالزنابق البيضاء" فالسجان الابن يكمل دور أبيه، والشاعر يكمل دوره في مواجهة هذه القوة الشرسة الذي بدأه منذ من مبكرة. واذا كان الانفصال بينه وبين مقبحه نظر التحولات السن والتجربة والرؤية طبيعيا، فإن السجان لا يتطيع أن يرى مثل هذا الانفصال، فهو يعيش أمير رؤيته العدائية الموروثة للآخر الفلسطيني، غير القادرة على أن تتحرر من سجنها. لهذا تنفصل الجدارية عن هذه الأجواء جميعا، فتترك شبر الماضي يتقمص مشكل الطير الذي يتقصي على الأسر، مومئا الى القصص الرمزي التي مبق لدرويش أن استلهمه في "الهدهد" والذي يثير هنا الى حضورا لمبدع في الشبيه، الذي يجث أبعادا فكرية وحياتية معقدة، فالشبر يحلق كما سبق للهدهد أن فعل وخاطبه درويش بقوله:
حلق لتنضح المسافة بين ما كنا وما سيكون حاضرنا الأخير
ننأى، فندنو من حقيقتنا ومن أسرار غربتنا وهاجسنا العبور(66).
تنفصل الجدارية عن أجواء تلك الاشكالية لتعود الى عكا، التي اختارتها من بين مدن فلسطين، لترسمها ضمن مستويين مختلفين، يؤكدان أجواء الثنائيات المتناقضة فعكا وهي المدينة (الأقدم، والأجمل) تصبر "علبة حجرية" لتختفي من أجوائها معالم الجمال.
لقد سبق لدرويش أن استخدم في وصفه لبيروت عبارة: "فراشة حجرية" فجمع بين رمزين أحدهما ثابت الدلالة سبيا في خطاب درويش المشعري، يثيرني الغالب، الى الجمال الهش، الوديع، والثاني متغير الدلالة يجمع بين ايحاءات متعارضة ولكنه يجيء في وصف المدينتين متعمقا، ويدل على جمود الحياة وتحجرها وتلاشي ما فيها من جمال وحياة وروح. واذا كان الفارق في التصوير لصاح بيروت، فلأن عكا الحاضرة تتشكل في ضوء ملامح السجن والسجان، فكان لابد أن تتحول عكا الى سجن كبير:
عكا /أقدم المدن الجميلة
أجمل المدن القديمة /علبة
حجرية يتحرك الأحياء والأصوات فيها
في صلصالها كخلية النحل السجين
ويضربون عن الزهور ويسألون
البحر عن باب الطواريء
كلما اشتد الحصار (67)
واذا كان المشهد المكاني يصل بذلك الى ذررته، فإن هذا الوصول يجيء ليفتح للحظة الزمانية آفاق تشكلها، وهي لحظة لا تنفتر على ماض ذهب، بقدر ما تتشكل في ضوء حاضر قابل للزوال، تمسى الجدارية لامتلاكه من خلال تجيده.
تتكررني اللحظة الزمنية جملة: هذا.. لي ويجيء هذا التكرار لإثراء المناخ الذي توحي به تلك اللحظة في سيها لامتلاك الحاضر. وللكشف عن بناء الجدارية الذي ينضبط فيه الثكل وتنساب فيه التجربة في آفاق مرتوية بالقلق المعرفي.
تتكرر جملة: هذا.. لي ما يقرب من عشرين مرة، وتشل كثيرا من العناصر المهمة التي تنتمي الى طبيعة فلطين ومناخها، أو تعود الى ماضي الشاعر وتجاربه فيها، أو تنبثق من تكوينه الجسدي أو تنتمي الى أطره المعرفية سواء أكانت اشارات دينية أم رموزا أدبية أو فلكلورية. تتولد هذه الجملة المكررة من مشهد مسبق أن شكل نقطة الافتتاح للحظة الحاضرة عندما بدأت الذات تنتثر عن شبحها وهو يجيء على النحو الآتي:
ومثلما سار المسير على البحيرة
سرت في رؤياي، لكني نزلت عن
الصليب لأنني أخشى العلو ولا
أبشر بالقيامة، لم أغير غير ايقاعي
لأسمع صوت قلبي واضحا
للملحميين النسور ولي أنا طوق الحمامة (68)
إن الاتكاء على معجزة السيد المسيح يوم مشى على بحيرة طبرية، يبين أن عكا قد تجاوزت جغرافيتها لتغدو فضاء رحبا متصلا تتفاعل فيه أبعاد التاريخ والحضارة التي ترفض سعي الآخر الغاصب لتغيير ملامحه. كما أن العودة الى طوق الحمامة، والتخلي عن جناح النسر، يمهد للحظة الهبوط التي تجيء مناقضة للحظة الصعود في بداية الجدارية، على جناح حمامة بيضاء تجاه طفولة جديدة، بعد أن حددت تلك المرأة اسم تلك الذات قبل أن تشرع بالصعود.
تشكل العودة الى الاسم نقطة مهمة من تناط تشكيل الجدارية في التقاط اللحظة ذاتها واعادة بنائها والمعودة بها من العادي والمألوف لتصبغ عليها طوابع غير عادية تدخلها هنا في باب السحري وتفكك الاسم من خلال تشكيل لغوي فاتن، ثري، يثير الى سحرية الحرف وخواصه الغامضة.
واسمي وان أخطأت لفظ اسمي
بخمسة أحرف أفقية التكوين لي:
ميم / المتيم والميتم والمتتم ما مضى
حاء / الحديقة والحبيبة، حيرتان وحسرتان
ميم /المغامر والمعد المستعد لموته
الموعود منفيا، مريض المشتهى
واو/ الوداع، الوردة الوسطى
ولاء /للولادة أينما وجدت ووعد الوالدين
دال / الدليل، الدرب، دمعة
دارة درست ودوري يدللني ويدميني
وهذا الاسم لي
ولأصدقائي أينما كانوا، ولي
جسدي المؤقت حاضرا أم غائبا
متران من هذا التراب سيكفيان الآن
لي متر و75 سنتيمترا
والباقي لزهر فوضوي اللون
يشربني على مهل (69).
لقد جاء تفكيك الامم الأول للشاعر بعد أن وصلت الجدارية الى عكا، لتصنع منها فضاء كونيا، يتولد من مشهد يحكي معجزة للسيد المسيح الذي يرتبط في كثيرهن ايقاع حياته بمدن فلسطين، ويمتزج في خطاب درويش الشعري برموز الخصب (أوزريمى تموز…) والبعث.
ترى ما الايماءات التي تنفتح على آفاقها حروف ذلك الاسم؟
* ثمة ايماءات الى عاشق منكسر، حائر، حزين قريب من تخوم الموت، تقف مسافة نمير قابلة للتخطي والتجاور بينه وبين حلمه.
* هناك ايماءات الى شاعر يبث عن زمن ضائع، ومكان ممعن في الترحال، مسكون بلحظة طللية، تمحو المسافة الفاعلة بين الذات والموضوع.
* هناك ايماءات الى امرأة تجمع بين المساوي والأرضي والأنوثة المتثمحة بدلالات رمزية.
تنتهي حركة الجدارية بالحدث عن موت الجسد، لهذا تصف التبر، وقد كانت تحدثت من قبل عن تدا بير الجنازة:
فيا موت ! انتظرني ريثما أنهي
تدابير الجنازة في الربيع الهش
حيث ولدت، حيث سأمنع الخطباء
عن تكرار ما قالوا عن البلد الحزين
وعن صمود التين والزيتون في وجه
الزمان وجيشه. سأقول صبوني
بحرف النون, حيث تعب روحي
ووقع الناي في أزلي، ولا
تضعوا على قبري البنفسج، فهو
زهر المحبطين يذكر الموتى بموت
الحب قبل أوانه، وضعوا على
التابوت سبع سنابل خضراء ان
وجدت والا فاتركوا النعمان ان
وجدت والا فاتركوا ورد
الكنائس للكنائس والعرائس / (70)
ان الحديث عن الموت يجيء في الجدارية مشتبكا برموز الحياة. فالجدارية تصنع موتا مختلفا, وتؤسس لجمالية جديدة في مواجهته. فاذا كان الموت يستطيع افناء الجسد، فان الكتابة تغدو جسدا غير قابل للفناء, وهي قادرة على ان توسع فضاءها لتنفتح على آفاق متباينة. ففي المشهد السابق تمتزج فضاءات النص الدرويشي السابق (منع الخطباء يشاكل منع هواة الرثاء من الاقتراب من الشهداء) وفضاءات النص القرآني (سورة الرحمن، التين والزيتون، سبع سنابل) وآفاق الحياة الشعبية (الناي، شقائق النعمان، بالبنفسج).
والجدارية بذلك تكشف شيئا من تجلياتها التشكيلية, حيث يقوم النص على تركيب دلالي يعيد فيه تشكيل التاريخ والواقع والنصوص في اطار مواجهة مع الموت تمنح المشهد الشعري العربي الحديث حياة قوية.
الهوامش:
1- حول الجدارية انظر:
محمد كمال صدقي، معجم المصطلحات الاثرية. جامعة الملك سعود، 1988 مادة: رسم جدا Wall Drawing ومادة Fresco في الصفحتين 153، 405، وانظر عبدالرحيم غالب. موسوعة العمارة الاسلامية. بيروت، جروس برس، 1988، مادة جدرانيات (ص 811)، وثروت عكاشة، المعجم الموسوعي للمصطلحات الثقافية. مكتبة لبنان، الشركة المصرية العالمية للنشر، 1990 مادة (التصوير الجداري في الاسلام) ص 311 وانظر:
The Encyclopedia Americana, volume 19,.p.623.
2- حول العلاقة بني الرسم والشعر انظر:
Franklin R. Rogers, Painting and poetry. From, Metaphor and the language of literature, 1985.
وانظر كذلك دراسة عبدالغفار مكاوي: قصيدة وصورة (الشعر والتصوير عبر العصور) سلسلة عالم المعرفة 119 (1987).
3- سعدي يوسف، تحت جدارية فائق حسن، بيروت، دار الفارابي 1974، ص 61-65.
4- حول رؤية فائق حسن الفنية انظر:
عادل كامل، الفن التشكيلي المعاصر في العراق، بغداد، دار الشؤون الثقافية، 1986، ص 387-394.
5- كتبت القصيدة عام 1999 ونشرت بدار رياض الريس، بيروت 2000.
6- الجدارية، ص 9 وانظر الحركات المشابهة في ص 15 التي تتكرر فيها العبارة وما بعدها من أوامره ونواه.
7- المصدر نفسه ص 29، 66، 17.
8- المصدر نفسه ص 9.
9- المصدر نفسه، ص 9-10.
10- حول دلالة اللون وطبيعة الصراع مع المرض عند بلات ودنقل انظر.
خليل الشيخ: تجربة المرض بين سليفيا بلات وأمل دنقل. مثل من دراسات التوازي. في: دوائر المقارنة. دراسات نقدية في العلاقة بين الذات والآخر. بيروت. المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2000، ص 177- 216 ومن الضروري أن يتم التنبيه هنا الى أن هذه الاشارة لا تعني بالضرورة تأثر درويش بقصيدة "لضد من" لأمل دنقل، لأن قصيدة مديح الظل العالي التي تولدت أثناء حصار بيروت ونشرت عام 1983 وهي عقبة مجايلة "لضد من" تستخدم اللون الأبيض ضمن التقنية الفنية المشار اليها في الجدارية. فسيطرة اللون الأبيض تجيء في اطار دلالي متسق عند درويش، يشير الى تراجع الحياة وسيطرة الموت:
دع كل ما ينهار منهارا
ولا تقرأ عليهم أي شيء من كتابك
والبحر أبيض
والسماء
قصيدتي بيضاء
والتمساح أبيض
والهواء
وفكرتي بيضاء
كلب البحر أبيض
كل شيء أبيض
بيضاء دهشتنا
بيضاء ليلتنا
وخطوتنا
وهذا الكون أبيض
أصدقائي والملائكة الصغار وصورة الأعداء
أبيض كل شيء صورة بيضاء، هذا البحر مل البحر، أبيض.
انظر: ديوان محمود درويش، المجلد الثاني، ص 72- 73.
11- الجدارية، ص 9- 10.
12- المصدر نفسه، ص 12 (تتكرر مرتين) ص 13، 14، 15.
13 – المصدر نفسه، ص 16.
14- المصدر نفسه ص 14.
15- المصدر نفسه ص 15-16.
16- المصدر نفسه ص 12، ص 13، ص 14.
17 – المصدر نفسه، ص 12.
18- المصدر نفسه ص 32.
19- المصدر نفسه ص 29 – 32.
20- ديوان أعراس، انظر بيروت درويش، المجلد الأول، ص 653 – 654.
21- ديوان هي أغنية، هي أغنية، وانظر ديوان درويش المجلد الثاني ص 286.
22- الجدارية، ص 17.
23- ديوان أحد عشر كوكبا، ديوان درويش 2(ص 493).
24- الجدارية، ص 17 – 18.
25- المصدر نفسه، ص 18.
26- المصدر نفسه ص 18- 19.
27- المصدر نفسه ص 20.
28- المصدر نفسه ص 22.
29- المصدر نفسه ص 22.
30- المصدر نفسه ص 23.
31- المصدر نفسه ص 23.
32- المصدر نفسه ص 24.
33- المصدر نفسه ص 24-25.
34- المصدر نفسه ص 25.
35- لماذا تركت الحصان وحيدا؟ ص 12 ا.
36- ديوان ورد وأقل، ديوان درويش 20 (ص 358).
37- المصدر نفسه ص 372.
38- الجدارية، ص 33.
39- المصدر نفسه، ص 33.
40- المصدر نفسه ص 35.
41- انظر: فولفغانغ ايزر، التخييلي والخيالي من منظور الانثروبولوجية الأدبية، ترجمة حميد الحمداني، الجلالي الكدية، الدار البيضاء، 1998، ص 41.
42- الجدارية، ص 35.
43- المصدر نفسه ص 35، 36، 37،38.
44- المصدر نفسه ص 39.
45- المصدر نفسه ص 41.
46- المصدر نفسه ص 41- 42.
47- المصدر نفسه س 68.
48- أعراس، والقصيدة أحمد الزعتر. ديوان درويش 1(ص 616).
49- الجدارية. ص 69.
50- المصدر نفسه ص 71- 72.
51- المصدر نفسه ص 72- 73.
52- المصدر نفسه ص 65.
53- القصيدتان من ديوان هي أغنية، هي أغنية انظرديوان درويش، 2(ص 275، ص 261).
54- المصدر نفسه ص 257.
55- الجدارية، ص 44.
56- المصدر نفسه ص 80.
57- المصدر نفسه ص 80-81.
58- المصدر نفسه ص 84.
59- المصدر نفسه ص 51-52.
60- المصدر نفسه ص 54.
61- المصدر نفسه ص 92.
62- لماذا تركت الحصان وحيدا؟ ص 15.
63- الجدارية، ص 93.
64- المصدر نفسه ص 94.
65- المصدر نفسه ص 96.
66- ديوان أرى ما أريد، والقصيدة هي الهدهد، ديوان درويش، 2(ص 454).
67- الجدارية، ص 98- 99.
68- المصدر نفسه ص 92- ص 100.
69- المصدر نفسه ص 102- 103.
70- المصدر نفسه ص 49- 50.
خليل الشيخ (ناقد واكاديمي من الاردن)